تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 22 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح الثاني والعشرون

عظة 141 الإعداد للفصح (لو22: 7-16)

تقرأ يوم الخميس في أسبوع السر[1]

(لو22: 7-16) : ” وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ. فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً:«اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ». فَقَالاَ لَهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟». فَقَالَ لَهُمَا:«إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا». فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، فَأَعَدَّا الْفِصْحَ.وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ، وَقَالَ لَهُمْ:«شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ». “.

إن الناموس بظلاله سبق فأشار منذ القديم إلى سر المسيح؛ والمسيح نفسه يشهد عن هذا عندما قال لليهود: “لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني” (يو 5: 46)، ففي كل موضع (في الناموس) تُوضح الظلال والمثالات لنا المسيح مذبوحا لأجلنا “كالحمل” الذي بلا عيب حقا، كما توضحه مقدسا إيانا بواسطة دمه المعطى الحياة..، وبالإضافة إلى ذلك فإننا نجد كلمات الأنبياء القديسين في توافق تام مع كلمات موسى الحكيم جدا، كما يقول بولس ” لكن لما جاء ملء “الزمان” (غل 4: 4) ، الزمان الذي كان فيه كلمة الله الوحيد على وشك أن يخلى ذاته وأن يحتمل الولادة بالجسد من امرأة ويخضع للناموس، بحسب القياس المناسب للطبيعة البشرية، وبعد ذلك قدم نفسه ذبيحة لأجلنا، مثل الحمل الذي بلا عيب حقا، في اليوم الرابع عشر من الشهر الأول. وهذا العيد كان يُدعى “الفصح” (بصخة Pascha) وهي كلمة باللغة العبرية وتعنى العبور، لأنهم هكذا يفسرونها ويقولون إن هذا هو معناها.

إذن يجب أن نشرح ما هو هذا الشيء الذي نعبر منه وما هو البلد الذي نسير نحوه، وبأي طريقة تحقق مسيرتنا، فإنه كما أن إسرائيل قد أنقذ من طغيان المصريين وفك عنقه من نير العبودية وصار حُرا، وإذ هرب من عنف الطاغية، فإنه عبر بأقدام جافة – بطريقة عجيبة يعجز اللسان عن وصفها – وسط البحر، وارتحل تجاه الأرض الموعود بها؛ هكذا نحن أيضا الذين قبلنا الخلاص الذي في المسيح، يجب علينا ألا نرضى بالبقاء بعد في أخطائنا السابقة، وألا نستمر في طرقنا الشريرة بل بشجاعة نَعبُر بحر اضطراب هذا العالم الباطل، وعواصفه. وهكذا فإننا نعبر من محبة الجسد إلى التعفف؛ من جهلنا السابق إلى معرفة الله الحقيقية من الشر إلى الفضيلة؛ ونعبر بالرجاء من لوم الخطية إلى أمجاد البر؛ ومن الموت إلى عدم الفساد. لذلك فإن العيد الذي حمل فيه عمانوئيل صليب الخلاص لأجلنا يُسمى الفصح.

 لكن لننظر إلى الذي هو الحق والذي لا يزال يُكرم بالرموز التي كانت تشير إليه، وهو لا يزال يسمح للظلال بأن تكون صادقة، إذ يقول النص: ولما جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح، فأرسل للمدينة تلميذين مختارين من الرسل القديسين وهما بطرس ويوحنا قائلاً: ” سوف يستقبلكما انسان حامل جرة ماء، اتبعاه إلى البيت حيث يدخل، وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أين الغرفة التي أكل فيها الفصح مع تلاميذي؟”. لكن ربما يقول أحدهم، لماذا لم يذكر لهما بوضوح اسم الرجل الذي أرسلهما إليه؟ لأنه لم يقل: عندما تمضون إلى فلان أو فلان – وهناك أعدا الفصح في بيته، لكن فقط أعطاهما علامة إنسان حامل جرة ماء”. فبماذا نجيب على هذا الكلام؟ انظروا! فإن يهوذا الخائن كان قد سبق فوعد اليهود أن يُسلِّمه لهم، وكان مستمراً في صحبته (للمسيح) يرقب فرصة ليسلمه، وبينما كان لا يزال يعلن الحب الواجب من التلميذ لمعلمه فإنه قد سمح للشيطان أن يدخل قلبه، وكان يتمخض بجريمة القتل ضد المسيح مخلصنا جميعا. لذلك أعطى المسيح علامة (للتلميذين) لكي يمنعه من معرفة من هو ذاك الشخص، فيسرع يهوذا ليخبر أولئك الذين استأجروه. لذلك قال : ” يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء”.

 أو ربما يتكلم المسيح هكذا ليشير بهذا إلى سر مهم، لأنه حيث تدخل المياه – أي المعمودية المقدسة . فهناك يسكن المسيح، كيف أو بأية طريقة؟ ذلك لأنها تُحرِّرنا من كل نجاسة، ونغسل بواسطتها من أدناس الخطية، ولكي نصير أيضا هيكلاً مقدسا الله وشركاء في طبيعته الإلهية بشركة الروح القدس. لذلك فلكي يستريح المسيح ويقيم فينا فلنقبل المياه الخلاصية معترفين أيضا بالإيمان الذي يُبرِّر الأثيم. ولكي يرفعنا عاليًا لكي ما نحسب عِلِّيَّة، لأن أولئك الذين يسكن فيهم المسيح بالإيمان لهم ذهن مرتفع عاليًا، يبغض الزحف على التراب ويرفض الالتصاق بالأرض، وفى كل شيء يطلب ما هو سام في الفضيلة، لأنه مكتوب : ” لأن أعزاء الله قد ارتفعوا عاليا (فوق الأرض)” (مز 46: 9 س)، لأن ليس لهم هنا مدينة باقية لكنهم بطلبون العتيدة (انظر عب 13: 14)، وبينما هم يسيرون على الأرض، فإنهم يفكرون في تلك الأمور التي فوق، وسيرتهم (مدينتهم) هي في السماء (انظر في 3: 20).

يمكننا أيضا أن نلاحظ أمرًا صحيحا وعجيبًا، يحدث دائما بيننا؛ وأعنى به أنَّ من يُقدِّرون حياتهم الجسدانية كثيرًا، عادة يكونون منتفخين وقلوبهم مملوءة من الكبرياء الملعونة والمكروهة من الله ؛ لكن مع ذلك ربما يؤتى بهم إلى الانكسار فيما بعد) وهم لا يزالون على الأرض ؛ بينما أولئك المساكين بالروح ينالون الرفعة بواسطة الكرامة والمجد اللذين يأتيان من الله. كما يكتب تلميذ المسيح قائلاً: “ليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه، وأما الغنى فباتضاعه لأنه كزهر العشب يزول” (يع 1: 9 و10) . لذلك لا يخطئ من يقول إن نفس كل قديس “عليَّة”.

بعد ذلك لما أعد التلاميذ الفصح، أكل المسيح معهم، ولكونه طويل الأناة مع الخائن، فإنه تفضل بقبوله على المائدة (معه) بدافع شفقته المملوءة حبا وغير المتناهية؛ لأن يهوذا كان قد صار خائنًا إذ أنَّ الشيطان كان ساكنا فيه. وقال المسيح أيضًا لرسله القديسين ” شهوة اشتهيت أن أكل هذا الفصح معكم”. لنفحص المغزى العميق لهذا التعبير، ولنفتش عن المعنى المختفي فيه، وما الذي كان يقصده المخلّص.

لذلك حيث إنني سبق أن قلتُ إنَّ التلميذ الطماع كان يطلب فرصة ليسلمه، ولكي لا يسلمه لقاتليه قبل عيد الفصح، فإن المخلّص لم يعلن لا عن البيت ولا عن الشخص الذي سيحتفل عنده بالعيد، ولكي يشرح لهم سبب عدم رغبته في أن يصرح له علانية باسم من سيذهب عنده، قال لهم : ” شهوة اشتهيت أن أكل هذا الفصح معكم”؛ وكأنه يقول: إنني اجتهدت بكل حذر لكي أتمكن من الإفلات من خبث الخائن لكيلا أحتمل آلامي قبل وقتها.

” ولكني لا أكل منه بعد حتى يكمل في ملكوت الله “. وبهذا الكلام أيضا ينطق المسيح بحقيقة عميقة وسرية، لكن هو نفسه يكشف معناها لنا لأن من عادته أن يُطلق اسم ملكوت السموات” على ” التبرير بالإيمان”، وعلى التطهير الذي يتم بالمعمودية المقدسة وشركة الروح القدس وعلى تقديم العبادة الروحية التي صارت الآن ممكنة بالدخول في وصايا الإنجيل لكن هذه الأشياء هي الوسائط التي تجعلنا شركاء في المواعيد وفى الملك مع المسيح؛ لذلك يقول: لن اقترب من مثل هذا الفصح بعد ذلك، أي ذلك الفصح الذي يتكون من أكل رمزي ـ لأن حملاً من القطيع ذُبح ليكون مثالاً للحمل الحقيقي (ويكمل) “حتى يكمل في ملكوت الله، أي إلى حين مجيء الوقت الذي فيه يُكرز بملكوت السموات، لأن هذا يتحقق فينا نحن الذين نكرم العبادة التي هي أعلا من الناموس والتي هي الفصح الحقيقي، فالذي يُقدّس الذين هم في المسيح ليس خروفًا من القطيع، بل بالحري المسيح نفسه هو الذي يقدسهم)، الذي جُعِلَ ذبيحة مقدسة” لأجلنا، “بتقديم قرابين” غير دموية، وتقديم الشكر” السري الذي فيه ننال “البركة” وتُعطى الحياة بالحياة[2]. لأنه هو صار لنا الخبز الحي الذي نزل من السماء والذي يُعطي الحياة للعالم (انظر يو 6: 33 و50)، الذي به ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمین.

عظة 142 عشاء الرب
(تأسيس سر الإفخارستيا)
(لو22: 17-22)

ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْسًا وَشَكَرَ وَقَالَ:«خُذُوا هذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ». وَأَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «هذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي». وَكَذلِكَ الْكَأْسَ أَيْضًا بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً:«هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ. وَلكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ. وَابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ!».

إنه أمر يملأنا بكل بركة أن نصير شركاء المسيح بالذهن وبالحواس معا، لأنه يحل فينا، أولاً، بالروح القدس، فنصير نحن مسكنه، بحسب ما قاله في القديم أحد الأنبياء القديسين: “لأني ساسكن فيهم وأقودهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا ” (حز 37: 27 س).

لكنه هو أيضا يحلُّ داخلنا بطريقة أخرى بواسطة مشاركتنا في قربان التقدمات غير الدموية التي نحتفل بها في الكنائس؛ إذ قد تسلمنا منه النموذج الخلاصي للطقس مثلما يرينا بوضوح الإنجيلي المبارك في النص الذي قرأناه منذ قليل، فهو يخبرنا أنه : ” تناول كاسا وشكر :وقال خذوا هذه اقتسموها بينكم”. وبتقديمه الشكر الذي يُقصد به التحدث مع الله الآب في صيغة صلاة، فإنه يعنى بالنسبة لنا أنه – إن جاز القول – يشارك ويساهم مع الآب في مسرته الصالحة في منحه لنا البركة المحيية التي أسبغت علينا حينئذ، لأن كل نعمة وكل موهبة تامة تأتى إلينا من الآب بالابن في الروح القدس. وإذن فهذا العمل كان نموذجا لنا لكي نستخدمه في الصلاة التي ينبغي أن تُقدَّم، كلما بدأنا أن نضع أمامه نعمة التقدمة السرية المحيية ” ، وتبعا لذلك فإننا اعتدنا أن نفعل هذا، لأننا إذ نُقدِّم أولاً تشكراتنا ، مُقدِّمين تسابيحنا الله الآب ومعه الابن والروح القدس، فإننا نقترب هكذا من الموائد المقدسة مؤمنين أن ننال حياة وبركة؛ روحيًّا وجسديا ، لأننا نستقبل في داخلنا كلمة الآب الذي صار إنسانًا لأجلنا، والذي هو الحياة ومعطي الحياة.

لذلك فلنسأل على قدر استطاعتنا ما هو الرأي الذي نعتقد به عن هذا السر؟ لأنه واجب علينا أن نكون “مستعدين لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا ” كما يقول الحكيم بطرس (1بط 3: 15) . لأن ” إله الكل خلق كل الأشياء للخلود وبدايات العالم كانت حياة، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى مانتا العالم” (حكمة 2: 24) ، فقد كانت تلك الحيَّة المتمردة هي التي قادت الإنسان الأول إلى تعدى الوصيَّة وإلى العصيان والتي بواسطتها سقط تحت اللعنة الإلهية وفي شبكة الموت، فقد قيل له: ” لأنك تراب وإلى التراب تعود” (تك 3: 19). فهل كان من الصواب أنَّ ذلك الذي خُلق للحياة والخلود، يصير ومحكومًا عليه بالموت بدون أية إمكانية للهروب؟ هل ينبغي أن يكون حسد إبليس أكثر حصانة وثباتاً من إرادة الله؟ ليس الأمر هكذا؛ بل إن حسد إبليس قد أخفق تماما؛ ورحمة الخالق قد فاقت النتائج الشريرة لخبثه، فقد أعطى الله معونة لأولئك الذين على الأرض. فماذا إذن كانت الطريقة التي ساعدهم بها؟ إنها طريقة عظيمة بالحق ورائعة وجديرة بالله نعم ، جديرة لأقصى درجة بالعقل الأعلى (بالله)، لأن الله الآب هو حياة بطبيعته؛ ولكونه هو وحده حياة، فقد جعل الابن الذي هو نفسه أيضا حياة أن يضيء ويشرق، لأنه لا يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك ذاك الذي هو الكلمة الذي صدر جوهريا من الحياة، لأنه يلزم – أقول يلزم – أن يكون هو نفسه أيضا حياة، لكونه هو ذاك الذي نبع من الحياة نبع من ذاك الذي ولده. 

لذلك فإن الله الآب يعطى الحياة لكل الأشياء بالابن في الروح القدس؛ وكل ما يوجد ويتنفس في السماء وعلى الأرض، إنما يأخذ وجوده وحياته من الله الآب بالابن في الروح القدس. لذلك، لا طبيعة الملائكة ولا أي شيء آخر مهما كان، مما هو مخلوق، ولا أي شيء جاء من عدم الوجود إلى الوجود، يمتلك حياة (في ذاته كثمرة لطبيعته الخاصة؛ بينما على العكس، فالحياة تنشأ – كما قلت – من الجوهر الذي يفوق الكل، وهو أمر خاص به وحده أن تكون له القدرة على إعطاء حياة، وذلك بسبب أنه هو بالطبيعة الحياة.

الكلمة الكلمة لأنه لا – إذن، فكيف يمكن للإنسان على الأرض، الذي هو ملتحف بالموت أن يعود إلى عدم الفساد (عدم الانحلال أجيب بأنه يلزم لهذا الجسد المائت أن يصير شريكا للقوة المحيية التي تأتى من الله. لكن قوة الله الآب المحيية هي الوحيد الجنس، وهو الذي أرسله لنا (الآب) كمخلّص ومحرر. أما كيف أرسله لنا، فهذا ما يخبرنا به بوضوح يوحنا الإنجيلي المبارك عندما يقول: ” والكلمة صار جسدًا وحل فينا ” (يو 1: 14) . لكنه صار جسدًا دون أن يخضع لأي تغير أو تحول إلى ما لم يكونه، ودون أن يتوقف عن أن يكون هو يعرف ما معنى أن يعاني ظل تغيير، بل بالحري بكونه ولد بالجسد من امرأة وأخذ لنفسه ذلك الجسد منها لكيما إذ قد غرس نفسه فينا باتحاد لا يقبل الانفصال، يمكنه أن يرفعنا فوق سلطان الموت والانحلال كليهما معا. وبولس هو الشاهد لنا، حيث يقول عنه وعنا: ” فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما، لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويُعتق أولئك الذين خوفا من الموت كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية، لأنه حقا ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل إبراهيم، من ثم كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء” أي يُشبهنا (عب 2: 14 -17). لأنه صار مثلنا، وكسى ذاته بجسدنا لكيما بإقامته إياه (الجسد) من الموت، يُعد – من الآن فصاعدًا – طريقا يمكن به للجسد الذي وضع (أذل) حتى الموت، أن يعود من جديد إلى عدم الفساد .(الانحلال). لأننا متحدون به مثلما كنا أيضا متحدين بآدم عندما جلب على نفسه عقوبة الموت. وبولس يشهد لهذا، إذ كتب هكذا في أحد المرات: ” فإنه إذ الموت بإنسان بإنسان أيضا قيامة الأموات” (1کو 15: 21) ويقول أيضا : ” لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع (1كو 15: 22). لذلك فإن الكلمة، إذ وحد مع ذاته ذلك الجسد الذي كان خاضعا للموت، فلكونه الله والحياة، فقد طرد منه الفساد (الانحلال)، وجعله أيضا يصير هو مصدر الحياة؛ لأنه هكذا ينبغي أن يكون جسد (ذاك الذي هو الحياة.

هو ولا تكونوا غير مصدقين لما قلته بل بالحري اقبلوا الكلمة بإيمان بعد أن جمعت براهين من أمثلة قليلة. عندما تطرحون قطعة خبز في خمر أو زيت أو أي سائل آخر، فستجدون أنها صارت تحمل خاصية ذلك السائل الخاص، وعندما يوضع الحديد في النار، فإنه يصير ممثلنا بكل فاعليتها؛ وبينما هو بالطبيعة حديد، لكنه يعمل بقوة النار. وهكذا كلمة الله المحيى، إذ قد وحد نفسه بجسده الخاص بطريقة معروفة لديه (فقط)، فقد منحه قوة إعطاء الحياة. وهو نفسه يؤكد لنا هذا بقوله: “الحق” أقول لكم من يؤمن بيف فله حياة أبدية، أنا خبز الحياة ” (يو 6: 47, 48 ) وأيضا: “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه. كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب، فمن يأكلني فهو يحيا بي” (يو 6: 51 -56، 57). لذلك عندما نأكل الجسد المقدس الذي للمسيح مخلصنا جميعا، ونشرب دمه الثمين، تكون لنا حياة فينا، بكوننا جعلنا واحدًا معه كائنين فيه ومقتنين له أيضا فينا. 

لا تدعو أحدًا من أولئك الذين اعتادوا عدم التصديق أن يقول: ” إذن، حيث إن كلمة الله لكونه بالطبيعة الحياة، وهو يقيم أيضا فينا، فهل جسد كل واحد منا سيمنح أيضا القوة لإعطاء الحياة؟ من يقول ذلك فليعلم بالأحرى أنه شيء مختلف تمامًا، بين أن يكون الابن فينا بمشاركة نسبية، وبين أن يصير هو نفسه جسدًا؛ أي أن يجعل ذلك الجسد الذي أخذ من العذراء القديسة خاصا له أي يجعله جسده الخاص. لأنه لا يُقال عنه إنه صار متجسدًا، أو صار جسدا، بوجوده فينا، بل بالحري فإن هذا حدث مرة واحدة عندما صار إنسانا دون أن يتوقف عن أن يكون إلها. لذلك فإن جسد الكلمة كان هو ذاك الذي اتخذه لنفسه من العذراء القديسة وجعله واحدًا معه؛ أما كيف أو بأية طريقة حدث هذا، فهو أمر آخر لا يمكننا أن نخبر به لأنه أمر غير قابل للشرح ويفوق تماما قدرات العقل، وكيفية هذا الاتحاد هي معروفة له هو وحده فقط.

لذلك، كان يليق به أن يكون فينا إلهيًّا بالروح القدس، وكذلك أيضا – إن جاز القول يمتزج بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الثمين، اللذين نقتنيهما أيضا كإفخارستيا مُعطية للحياة في هيئة الخبز والخمر، إذ، لئلا نرتعب برؤيتنا جسدًا ودمًا (بصورة حسيَّة) فعليّة موضوعين على الموائد المقدسة في كنائسنا، فإن الله إذ وضع (أنزل) ذاته إلى مستوى ضعفاتنا، فإنه يسكب في الأشياء الموضوعة أمامنا قوة الحياة، ويُحولها إلى فاعلية جسده، لكيما نأخذها لشركة معطية للحياة، وكي يوجد فينا جسد ذاك الذي هو) الحياة، كبذرة تنتج حياة ولا تشك في أن هذا حقيقي، حيث إنه هو نفسه قال بوضوح ” هذا هو جسدي، هذا هو دمي، بل بالحري اقبل كلمة المخلص بإيمان، لأنه هو لكونه الحق، فلا يمكنه أن يكذب. وهكذا سوف تكرمه، لأنه كما يقول يوحنا الحكيم جدًّا: ” من قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله” (يو 3: 33 ،34 ) . لأن كلام الله هو طبعا صادق ولا يمكن أبدًا أن يكون كاذبا ؛ لأنه وإن كنا لا نفهم بأية طريقة يعمل الله مثل هذه الأعمال، لكن هو نفسه يعرف طريقة (عمل) أعماله. لأنه عندما لم يفهم نيقوديموس كلمات الرب المختصة بالمعمودية المقدسة وقال بجهل: ” كيف يمكن أن يكون هذا؟ ” (يو 3: 9)، فإنه سمع المسيح يجيب قائلاً: ” الحق أقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا، إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟” (یو 3: 11 ، 12)، لأنه كيف يمكن لإنسان أن يعرف تلك الأشياء التي تعلو على قدرات إدراكنا وعقلنا؟ لذلك، فلنكرم سرنا الإلهي هذا بالإيمان.

 أما يهوذا الخائن، الذي كان يأكل معه، فقد توبخ بتلك الكلمات التي قالها المسيح: ” ولكن هوذا يد الذي يسلِّمني هي معي على المائدة”. لأنه ربما تخيل في حماقته العظيمة، أو ربما بالأحرى لكونه امتلأ بكبرياء إبليس، أنه يمكنه أن يخدع المسيح، مع أنه الإله. لكن كما قلت إنه أدين لكونه بالإجمال شريرا ومبغضا الله وخائنا؛ هذا فقد سمح له الرب وتنازل ودعاه إلى المائدة، وقد حسب أهلاً ومع للطف الإلهي حتى النهاية؛ لكن بهذا صارت عقوبته أكثر شدة. لأن المسيح قال عنه في موضع ما بصوت المرنم : “لو كان عنو يُعيرني لاحتملت، ولو كان الذي يكرهني يتكلم على بكبرياء لاختباتُ منه، بل أنت إنسان عديلي، أليفي وصديقي، الذي معه كانت تحلو لنا العشرة، إلى بيت الرب كنا نذهب باتفاق (مز 54: 12 -14 س). لذلك، فبحسب كلمات المخلص ويل له! لأن المسيح – في الحقيقة بذل نفسه عوضا عنا، بحسب مشيئة الله الآب الصالحة لكيما يخلصنا من كل شيء. أما الإنسان الذي خان مخلّص ومنقذ الكل وسلَّمه إلى أيدي القتلة، فسيكون نصيبه الدينونة، التي هي العقاب المناسب لإبليس. لأن ذنبه ليس ضد واحد مثلنا بل ضد رب الكل ؛ الذي به ومعه يليق الله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 143 من هو الأعظم ؟ (لو22: 24-30):

وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضًا مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ. فَقَالَ لَهُمْ:«مُلُوكُ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هكَذَا، بَلِ الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ، وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ. لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ: أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدُمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدُمُ. أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتًا، لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ».

ينادينا أحد الرسل الأطهار قائلاً: ” اسهروا واصحوا” (انظر 1تس 5: 6)؛ لأن شبكة الخطية منتشرة منصوبة في كل مكان والشيطان يجعلنا فريسة له بطرق متنوعة، مقيّدًا إيانا بأهواء عديدة، وهكذا يؤدي بنا إلى ذهن مرفوض. لذلك فأولئك الذين لا يرتضون عن طيب خاطر أن يخضعوا لسلطانه، ينبغي أن يستيقظوا، لأنهم بهذا سينالون النصرة بمعونة المسيح، الذي يهتم بنفوسهم ويُخلصهم من كل هوى، لكيما يُمكنهم بذهن سليم ونشيط أن يركضوا في الطريق المملوء ربحا والجدير بالمديح الخاص بنمط الحياة الذي يسره. والدروس الموضوعة أمامنا تعلن لنا مرة أخرى، كم عظيمة هي رحمته من نحونا لأن التلاميذ استسلموا لإحدى الضعفات البشرية وكانوا يتشاجرون مع بعضهم البعض، من منهم يكون الأعظم وأعلا من الباقين؛ فربما أنَّ الذين كانوا يشغلون المركز الثاني بينهم، كانوا لا يريدون أن يفسحوا مجالاً لأصحاب المركز الأول . لكن حتى هذا حدث بينهم وتم تسجيله لمنفعتنا، إذ أنَّ ما حدث للرسل الأطهار يمكن أن يكون سببًا للتواضع فيما بيننا. لأن المسيح يزجر في الحال هذا الداء، ومثل طبيب قوي قطع الهوى الذي نشأ بينهم بوصية حاسمة وخارقة إلى العمق.

والآن، فإن هذا الطموح الباطل والأحمق قد ظهر فيهم بسبب محبة المجد الباطل غير النافعة النابعة من الكبرياء، لأن مجرد رغبة المرء في أن يتفوق على الآخرين، وأن يُصارع لأجل هذه الغاية، يجعل الإنسان عرضة للوم بعدل، وإن كانت من ناحية أخرى لا تخلو تمامًا مما يستحق المديح لأن كون الإنسان يسمو في الفضيلة، فهذا أمر جدير بكل اعتبار ، لكن يلزم لأولئك الذين يبلغونه أن يكونوا ذوي عقل متضع، وأن يكون لهم شعور التواضع هذا لكي يُستبعد كل تفكير في التفوق وذلك بسبب المحبة للإخوة، وهذا هو ما يريدنا المبارك بولس أن نكون عليه، إذ يكتب هكذا قائلاً: ” مُقدِّمين بعضكم بعضا في الكرامة” (رو 12: 10) لأن هذا الشعور هو لائق تماما بالقديسين، ويجعلهم متألقين بالمجد، ويجعل تقوانا من نحو الله جديرة بكرامة أكثر : فهي تُمزق شبكة خبث الشيطان وتكسر فخاخه المتنوعة وتنقذنا من شراك الفساد. وفي النهاية تكملنا على مثال المسيح مخلصنا جميعا. اسمع كيف يضع الرب أمامنا نفسه كنموذج للفكر المتضع وكإرادة غير منشغلة بالمجد الباطل، فيقول لنا: تعلموا مني لأني وديع ومتواضع “القلب (مت 11: 29) وهنا، في الفقرة التي قرئت علينا للتو يقول : ” لأن من هو الأكبر، الذي يتكئ على المائدة أم الذي يخدم ؟ أليس الذي يتكى؟ ولكن أنا في وسطكم كالذي يخدم. فعندما يتحدث المسيح هكذا ، فمن يمكنه أن يكون عنيدًا هكذا وغير مطيع حتى لا يهتم بأن يطرد عنه كل رغبة في المجد الباطل، ويُبعد عن فكره محبة الكرامة الفارغة؟ لأن ذاك الذي تخدمه المخلوقات العاقلة والكائنات المقدسة، والذي يُسبِّحه السارافيم وتتجه إليه خدمات (صلوات) الكون كله ، والذي هو مساو الله الآب في عرشه وملكوته، إذ أخذ مكان العبد، فإنه غسل أرجل الرسل القديسين. وعلاوة على ذلك، فهو بطريقة أخرى يأخذ وظيفة العبد، بسبب التدبير في الجسد. ويشهد لهذا بولس المبارك عندما يكتب قائلاً: ” وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان حتى يُثبت مواعيد الآباء، وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة (رو 15: 8 ،9) . إذن فالذي تقدَّم له الخدمة صار خادما، ورب المجد افتقر لأجلنا تاركًا لنا مثالاً”، كما هو مكتوب (1بط  2: 21).

لذلك ليتنا نتحاشى محبة المجد الباطل، ونخلّص أنفسنا من اللوم المرتبط بشهوة الرئاسة، لأننا بتصرفنا هكذا نصير مشابهين له هو، الذي أخلى ذاته لأجلنا، بينما التشامخ وعجرفة العقل يجعلاننا نشبه تماما رؤساء الأمم الذين يميلون للغطرسة دائما، وهذه السمة محببة لديهم بل ربما مناسبة لهم.

ويقول ” لأنهم يُدعون محسنين .. أي إنَّ مرؤوسيهم يتملّقونهم ويدعونهم محسنين. ولكونهم خارج نطاق النواميس المقدسة، وغير خاضعين لمشيئة الرب، لذلك فهم ضحايا لهذه الأمراض. لكن الأمر لا ينبغي أن يكون هكذا معنا، بل بالحري ليكن مجدنا هو في التواضع، وفخرنا هو في عدم محبة المجد (الباطل)، ولتكن شهوتنا هي في تلك الأشياء التي تسر الله وترضيه، واضعين في أذهاننا ما يقوله لنا الحكيم: ” بقدر ما تتعظم، أخفض ذاتك بالأكثر ، فتنال حظوة عند الرب” (ابن سيراخ 3: 19) لأنه يرذل المستكبرين، ويعتبر المتعجرفين كأعداء له، أما الودعاء ومتواضعو القلب فيكلّلهم بالكرامات.

لذلك يدفع المخلّص عن رسله القديسين داء المجد الباطل، لكنهم (التلاميذ) ربما يفكرون بينهم وبين أنفسهم – ويقولون: “ماذا ستكون مكافأة الأمانة، إذن؟ أو ما المنفعة التي ينالها الذين تعبوا في تلمذتهم ،له عندما تداهمهم التجارب من حين لآخر؟ لذلك فلكي يُثبتهم في رجاء البركات المذخّرة ويطرد من أذهانهم كل تكاسل في المساعي الفاضلة، بل أن يختاروا بالأحرى أن يتبعوه بجد وحماس، ويُسروا بالأتعاب لأجله، ويعتبروا هذا العمل سبب ربح، وسبيلاً للفرح ووسيلة للمجد الأبدي لأجل) كل هذه يقول لهم بالضرورة: “أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي؛ وأنا أجعل لكم، كما جعل لي أبي ملكوتا ، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر”. أرجو أن تلاحظوا أنه لم يتخل بعد عن حدود البشرية، بل الآن يحدد نفسه داخل هذه الحدود البشرية)، لأنه لم يكن بعد قد احتمل الصليب الثمين؛ لأنه يتكلم كواحد منا ولكنه بعد القيامة من الأموات كشف مجده، إذ أنه قال لهم: ” دُفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (مت 28: 18). لذلك – كما قلت ــ فهو يتكلم بطريقة بشرية، لكونه لم يرتفع بعد فوق قياس تواضعه لهذا السبب فهو يقول: ” كما جعل لي أبى عهدًا لمملكة هكذا أنا أيضا سوف أجعل معكم عهدًا لتأكلوا وتشربوا دائما على مائدتي في ملكوتي. فهل سيكون الحال أنه بعد القيامة من الأموات، عندما يحين الوقت الذي فيه سنكون مع المسيح، ينعم علينا بمشابهة جسده الممجد، هل معنى هذا أنه حتى بعد أن نكون قد لبسنا عدم الفساد، أقول هل سنكون في حاجة آنذاك – من جديد – لطعام وموائد؟ أليس من الحماقة التامة أن نقول أو نرغب في أن نتخيل شيئًا من هذا القبيل؟ لأنه عندما نكون قد خلعنا الفساد، فما هو القوت الجسدي الذي سنكون في احتياج إليه؟ فإن كان الأمر هكذا، فما هو معنى العبارة: “لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي”؟ أجيب إنه مرة أخرى يعلن لنا الأمور الروحية من خلال أمور الحياة العادية. فأولئك الذين يستمتعون بأعظم الكرامات مع الملوك الأرضيين يشتركون في الوليمة معهم ويأكلون في صحبتهم، وهذا أمر يعتبرونه قمة المجد، وكذلك يوجد آخرون يعتبرهم أصحاب السلطان أنهم جديرون بالكرامة، ومع ذلك لا يسمحون لهم أن يأكلوا معهم على نفس المائدة. ولذلك، فلكي يُبيِّن (الرب) أنهم سينعمون معه بأعلى الكرامات، فإنه يستخدم مثالاً مأخوذا من الحياة العادية، فيقول لهم: وأنا أجعل معكم عهدًا عهد) ملكوت) لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط  إسرائيل.

كيف وبأية طريقة (يفعل ذلك؟ إنه يقصد أنَّ التلاميذ الذين هم من الجنس الإسرائيلي، حصلوا على أقصى الأمجاد مع المسيح ـ مخلص الكل، لأنهم بالإيمان والثبات أمسكوا بالهبة الذين نسعى نحن أيضا للاقتداء سيقبلنا المخلص ورب الكل في ملكوته، الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب، مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين. لأنه هكذا بهم،

عظة 144 يسوع ينبئ بإنكار بطرس له (لو 31:22-34)

 «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». فَقَالَ لَهُ:«يَارَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ!». فَقَالَ:«أَقُولُ لَكَ يَابُطْرُسُ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي». .

يدعو النبي إشعياء أولئك الذين يُحبُّون حياة التقوى في المسيح أن يتوجهوا إلى إعلانات الإنجيل بقوله : ” هلموا إلى المياه أيها العطاش” (إش 55: 1). هذه المياه ليست هي مياه الأرض الماديَّة، بل هي بالأحرى مياه إلهية وروحية منسكبة علينا من المسيح نفسه لأنه هو نهر السلام، وسيل المسرة الغزير ونبع الحياة. وهكذا سمعناه هو نفسه يقول بوضوح: ” إن عطش أحد فليُقبل إلى ويشرب” (يو 7: 37). تعالوا إذن لكي نُمتّع أنفسنا هنا أيضا بالأنهار الإلهية التي تتدفق منه. فماذا يقول لبطرس ؟ سمعان سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يُغربلكم كالحنطة، ، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك “.

وأظن الآن أنه من الضروري والنافع لنا أن نعرف ما المناسبة التي جعلت مخلصنا يتجه بكلماته إلى هذا الموضوع كان التلاميذ المباركون يتجادلون فيما بينهم من منهم يكون أكبر ، أما مخلّص الكل الذي حصلوا منه على كل ما هو مفيد وضروري لخيرهم، فقد أنقذهم من شر الطموح، بأن نزع عنهم العراك على أشياء مثل هذه، كما حتَّهم على الهروب من شهوة التعالي على الغير لأنها شرك للشيطان لأنه قال : ” الكبير فيكم ليكن كالأصغر والمتقدم كالخادم”. ثم علمهم أيضا أن وقت التكريم ليس في هذا الزمان الحاضر بل سيكون عند مجيء ملكوته، لأنهم هناك سوف ينالون مكافأة إخلاصهم، ويكونون شركاء مجده الأبدي، ويلبسون إكليل كرامة فائقة جدًّا، ويأكلون على مائدته، ويجلسون أيضا على اثني عشر كرسيًّا يدينون أسباط إسرائيل الاثنا عشر.

 ولكن أنظر ها هو يقدم لهم مساعدة ثالثة كما قرأنا في الدروس التي أمامنا. إنه يعلمنا أنه يجب علينا أن نفكر باتضاع عن أنفسنا، فنحن في الواقع لا شيء من كلتا الناحيتين من ناحية طبيعة الإنسان وأيضا من ناحية ميل ذهننا للسقوط في الخطية. فنحن نتقوى ونكون على ما نحن عليه ( في القداسة) بواسطته هو فقط ومنه هو فقط. لذلك، إن كنا قد أخذنا خلاصنا منه، ومنه أيضا أخذنا ما يجعلنا ذوي شأن في الفضيلة والتقوى فلأي سبب تكون عندنا أفكار كبرياء؟ لأن كل ما عندنا إنما هو منه، ونحن لا نملك شيئًا من أنفسنا، وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟ ” ( 1كو 4: 7). هكذا تكلم الحكيم جدًّا بولس، ويقول المبارك داود أيضا: ” بالله نصنع بيأس” (مز ١٢:٥٩س) وفى مرة أخرى يقول: ” إلهنا هو ملجانا أنت وقوتنا” (مز 45: 1 س). وأيضا يقول إرميا النبي في موضع ما : ” يا رب، قوتي وعوني وملجاي في أيام الشدة” (إر 16: 19 س). ويمكن أن نبرز هنا المبارك بولس أيضا الذي يقول بكل وضوح: أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (فى 4: 13) ، بل المسيح نفسه أيضا يقول لنا في موضع ما ” بدوني لا تقدرون ان تفعلوا شيئًا ” (يو 15: 5).

ليتنا إذن لا نفتخر بأنفسنا بل بالحري نفتخر بعطاياه وإن كان كل واحد منا يفكر بهذه الطريقة، فلن تجد شهوة التعالي على الآخرين أي مكان لها فينا، وهكذا نكون كلنا شركاء في نفس النعمة الواحدة، وأيضا كلنا لنا نفس رب الجنود كخالق، وأيضا كمعطي للقدرة على فعل الصلاح.

لذلك، ولكي يكسر ميلنا إلى التشامخ، ولكي يكبح المشاعر الطامحة، فإنه يبين أنه حتى من يبدو عظيمًا فهو لا شيء ويتسم بالعجز والضعف. لذلك ترك بقية التلاميذ الآخرين واتجه إلى الذي هو متقدّم بينهم والمقام قائدًا لرفقائه، وقال له: “إن الشيطان طلبكم عدة مرات لكي يُغربلكم كالحنطة”؛ أي أن يمتحنكم ويُجرِّبكم ويُعرضكم لضربات لا تحتمل. لأنه من عادة الشيطان أن يهاجم الممتازين جدًّا من الناس، ومثل بربري عنيف ومتغطرس، فإنه يتحدى أولئك الذين لهم شهرة عظيمة في طُرق التقوى لينازلهم في معركة فردية. وبهذه الطريقة تحدى أيوب، ولكنه انهزم من صبره وسقط المتشامخ إذ قُهِرَ بواسطة احتمال ذاك البطل المنتصر. ولكن الفريسة التي يريد اصطيادها هي الطبيعة البشرية لأنها طبيعة عاجزة، ومن السهل قهرها. وهو قاس وعديم وهو في أعماقه لا يهدأ أبدا لأن الكتاب المقدس يقول عنه: “قلبه قاس كالحجر وهو ويقف مثل سندان الحداد الصلب (أى 41: 15 س). ولكن القديسين وطئوه تحت أقدامهم بقوة المسيح؛ لأنه قال: ” ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء (لو 10: 19)، لذلك يقول المسيح: ” الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي الشفقة لا يفنى إيمانك”.

 لاحظ أنه يُنزل (يُوضع) نفسه إلينا، ويتكلم بحسب حدود الحالة الإنسانية، ومع ذلك فهو الله بالطبيعة، رغم أنه صار جسدًا، ومع أنه هو قوة الآب، الذي به تقوم كل الأشياء وتُحفظ، والذي منه ننال القدرة على الاستمرار في الصلاح، إلا أنه مع ذلك يقول إنه يقدم طلبات كإنسان، لأنه كان من الضروري، نعم، من الضروري لذلك الذي . من أجل التدبير – صار مثلنا، أن يستخدم أيضا كلماتنا حينما تستدعى المناسبة بحسب ما يتطلبه التدبير نفسه. إنه يقول: ” ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك”، والآن إذن هو يبيِّن بهذا، أنه لو كان بطرس قد سلّم للشيطان ليجربه، لكان قد برهن على عدم أمانته تماما؛ حيث إنه حتى حين لم يُسلَّم للشيطان، فإنه (أي بطرس) أثبت أنه ضعيف بسبب العجز البشري، لأنه لم يحتمل الخوف من الموت،  لأنه أنكر المسيح بسبب كلمة فتاة صغيرة في دار رئيس الكهنة عندما قالت له: ” وأنت أيضا واحدًا من تلاميذه” (انظر يو 18: 7).

وبعد أن حذره المخلص عما كانت ستكون النتيجة لو أنه سُلّم لتجربة الشيطان؛ فإنه في نفس الوقت يُقدِّم له كلمة عزاء بقوله: ” وأنت متى رجعت ثبت إخوتك “، أي كن سندًا وموجها ومعلّمًا لأولئك الذين يأتون إلى للإيمان. وتعجب بالأكثر من هذا، أعني من المهارة الرائعة لهذه العبارة، ومن العظمة التي لا تُجارَى للطف الإلهي ! فلئلا تُؤدّي سقطة التلميذ الوشيكة إلى اليأس، كما لو كان سيُطرد من أمجاد الرسولية ويفقد مكافأة تلمذته السابقة للمسيح، أنه أثبت عدم مقدرته أن يحتمل الخوف من الموت وهكذا أنكره؛ فإن المسيح في الحال يملأه بالرجاء الصالح، ويمنحه يقينًا أكيدًا أنه سوف يُحسب أهلاً للبركات الموعود بها ، ويحصد ثمار الثبات، لأنه يقول له: ” وأنت متى رجعت ثبت إخوتك”. يا للشفقة العظيمة التي لا مثيل لها! إن التلميذ وهو لم يكن قد أصيب بعد بداء عدم الإيمان قد نال دواء الغفران؛ وقبل أن يرتكب الخطية نال الصفح، وقبل أن يسقط فإن اليد المخلصة امتدت إليه، وقبل أن يتداعي فإنه حفظ، فإن الرب قال له : ” متى رجعت ثبت إخوتك”. ومثل هذا الكلام هو كلام ذلك الذي أي) الرب يصفح عنه ويعيده مرة أخرى إلى الصلاحيات الرسولية.

أما بطرس، ففي حماس غيرته، قدَّم اعترافه بثبات وباحتماله إلى المنتهى قائلاً إنه سوف يجابه بشجاعة أوجاع الموت، وسوف لا يحسب حسابًا للقيود. إلا أنه بهذا قد جانب الصواب لأنه حينما أخبره المخلّص بأنه سيضعف، ما كان يجب عليه أن يعارضه بصوت عال ؛ لأن الحق المسيح) لا يمكن أن يكذب؛ بل بالحري كان يجب على بطرس أن يطلب منه القوة حتى إما أنه لا يتعرض لهذا (السقوط) أو يُنقذ في الحال من الأذى. ولكن كما سبق أن قلت، إذ كان بطرس حاراً في الروح، وملتهبًا في حبه للمسيح، وفي غيرته غير المقيَّدة من جهة عمل تلك الواجبات التي تليق بتلميذ في ملازمته لمعلّمه، فإنه يعلن أنه سوف يحتمل إلى النهاية.

 إلا أنه وبخ لأنه تكلم بجهل ضد ما كان معروفا سابقا، وأيضا بسبب تسرعه غير المتزن في الاعتراض على كلمات المخلص. ولهذا السبب يقول له الرب: ” الحق أقول لك: لا يصيح الديك هذه الليلة حتى تنكرني ثلاث مرات”. وهذا تبرهن أنه صحيح. لذلك، ليتنا لا نفكر بتعال عن أنفسنا، حتى ولو رأينا أنفسنا متميّزين جدا بسبب فضائلنا؛ بل بالأحرى فلنقدم تسابيح تشكراتنا اتنا للمسيح الذي يفتدينا، وهو نفسه أيضا الذي يمنحنا الرغبة في أن نكون قادرين على فعل الصلاح، هذا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة 145 إعداد التلاميذ لمواجهة الصعاب (لو 22: 35-38)

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقَالُوا: «لاَ». فَقَالَ لَهُمْ:«لكِنِ الآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ». فَقَالُوا: «يَارَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ لَهُمْ:«يَكْفِي!».

غرس موسى المبارك خوف الله في بنى إسرائيل بقوله لهم: “مخوف هو الوقوع في يدي الله الحي، لأن الهنا نار أكلة (انظر تث 4: 24 ، عب 10: 31)، كما قال نبي آخر عنه: “إن غضبه يأكل الرؤساء، والصخور تذوب منه” (ناحوم 1: 6 س)، وبالأكثر يقول عنه داود المبارك في موضع ما من المزامير: “أنت مخوف، فمن يقف قدامك حال غضبك” (مز 75: 7 س). لأنه ما هي قوة الإنسان، أو كيف يمكن لأية قوة مخلوقة مهما كانت أن تقف مقابل قوة الله الإله القدير التي لا تقهر؟ ولكن غضبه لا ينزل إطلاقًا على الرجل البار، لأن الله لا يمكن أن يظلم، إنما غضبه بالأحرى على أولئك الذين خطاياهم عديدة وغير محتملة، وشرورهم تفوق الحدود .

وكَمَثَل لما قلناه، فلنأخذ ما حدث مع جموع اليهود بعد أن قام المسيح من الأموات وصعد إلى السماء. إن الله الآب أرسل لهم ابنه يدعوهم إلى خدمة أسمى من الناموس، وإلى معرفة كل صلاح، وهو أرسله ليحررهم من كل إثم، ويخلصهم من وصمة الخطية، وليأتي بهم إلى تبني البنين، وإلى المجد، وإلى الكرامة، وإلى شركة الروح القدس، وإلى الحياة التي لا تفنى، إلى مجد لا ينتهي، وإلى ملكوت السموات. ومع أنه كان من واجبهم أن يسرعوا بلهفة إلى هذه النعمة ويكرموا بتسابيح الشكر لمن أتى ليساعدهم، وأن يقبلوا بفرح النعمة التي بالإيمان إلا أنهم في الواقع لم يفعلوا شيئًا من هذا، بل فعلوا العكس تماما، لأنهم قاموا ضده، واعتبروه كلا شيء بعدم طاعتهم، وحتى آياته الإلهية كانوا يغارون منها، وبعد أن عملوا وقالوا كل شيء رديء عليه، فإنهم صلبوه في النهاية. وهكذا صار نصيبهم أن يقاسوا تلك الأمور التي صرح بها جماعة الأنبياء القديسين من قبل، فإن واحدًا منهم يقول: سيطرحهم الله بعيدا لأنهم لم يسمعوا له، فيكونون تائهين بين “الأمم (هو 9: 7 س)، وأيضا : ” لأن أورشليم مرفوضة ويهوذا قد سقطت وألسنتهم تنطق بالإثم، وهم لا يطيعون الرب، لذلك فإن مجدهم ينخفض وخزي وجوههم يقف ضدهم” (إش 3: 8 و9 س). وفي موضع آخر يخاطبهم الله الذي فوق الكل هكذا: ” والآن من أجل عملكم هذه الأعمال يقول الرب وقد كلمتكم مُبكرًا ومكلما فلم تسمعوا ودعوتكم فلم تجيبوا، اصنعوا بالبيت الذي دُعي باسمي عليه الذي أنتم متكلون عليه وبالموضع الذي أعطيتكم وآبائكم إياه كما صنعت بشيلوه وأطر حكم من أمامي كما طرحت كل أخوتكم كل نسل افرايم ” (إر 7: 13 -15). لأنهم سلّموا – كما قلت – إلى خراب، وتشتتوا في الأرض كلها، والتهمت النيران هيكلهم، وسبى جميع اليهود.

كان هذا هو الحال الذي سبق المسيح وأعلنه للتلاميذ، أما عن المناسبة التي جعلته يتكلم عن هذا الموضوع هو تحذيره المُسبق لبطرس العجيب أنه سوف ينكره ثلاث مرات، وبالتحديد في وقت القبض عليه، عندما أحضره جنود بيلاطس وخدام اليهود إلى رؤساء الكهنة للمحاكمة، فهناك أنكره بطرس، وعند ذكر القبض عليه وإحضاره أمام قيافا كان من الطبيعي أن يتبع هذا الإشارة إلى ما كان سيحدث بعد ذلك أي إلى آلامه على الصليب، عندئذ أشار وتنبأ عن الحرب التي كانت ستندلع على اليهود، والتي انتشرت مثل نهر بعنف لا يُحتمل على كل أرضهم. وبخصوص هذا يقول : ” حين أرسلتكم بلا كيس ولا مذود ولا أحذية، هل أعوزكم شيء؟ فقالوا “لا” لأن المخلص أرسل رسله القديسين وأوصاهم أن يكرزوا لسكان كل قرية ومدينة بإنجيل ملكوت السموات، وأن يشفوا كل ضعف وكل مرض في الشعب، ومنعهم من أن يشغلوا أنفسهم بالأمور التي تخص الجسد، بل بالأحرى ألا يحملوا كيسا ولا أي شيء يعوقهم، بل أن يضعوا كل اتكالهم فيما يخص طعامهم، عليه. وهذا ما فعلوه، فجعلوا أنفسهم مثالاً للسلوك الرسولي الممدوح. ويقول ولكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك ” (لو 22: 36) . أخبرني إذن، هل كان هذا بسبب أن الرب غير كلامه فابتكر أفكارًا أكثر نفعا لهم؟ وهل كان من الأفضل في الظروف الأولى أن يكون لهم كيس ومزود ؟ وإن كان لا، فما الداعي إلى هذا التغيير المفاجئ؟ وما هو احتياج الرسل القديسين للكيس وللمزود ؟ أية إجابة نعطيها عن ذلك؟ إن القول كما يبدو ظاهريا يشير للتلاميذ، ولكنه في الواقع ينطبق على اليهود، فهؤلاء هم الذين كان المسيح يوجه إليهم الخطاب، لأنه لم يقل إنه ينبغي على الرسل القديسين أن يأخذوا كيسا ومزودًا، ولكن من له کیس مزود فليأخذه، ويعنى بذلك أنَّ مَن له ممتلكات خاصة في إقليم اليهودية، فعليه أن يجمع كل شيء ويهرب حتى يمكنه بأي طريقة أن ينجي نفسه. أما من ليس له الوسائط لتجهيز نفسه للرحيل، بسبب شدة فقره، فيلزمه أن يبقى في الأرض. فيقول إن مثل هذا فليبع ثوبه ويشتر سيفا”، لأن السؤال لهؤلاء الذين سوف يبقون في الأرض لن يكون، إن كانوا يمتلكون شيئًا أم لا، بل بالحري يكون السؤال هو هل يمكنهم الإبقاء على حياتهم، لأن الحرب سوف تحل بهم بعنف لا يُحتمل، حتى لا يستطيع أحد أن يقف ضدها.

وبعد ذلك يخبرهم عن سبب المصيبة ويخبرهم عن ضيقة عظيمة جدا لا نجاة منها سوف تحل بهم قائلاً إنه بحسب الكتب: “سوف يُحصى مع الأثمة”. وهو يقصد هنا بوضوح تعليقه على الصليب مع اللصين اللذين صلبا معه. وهكذا سوف يحتمل عقاب الأئمة، وعندما يبلغ التدبير هذا الحد، سوف يكون الانقضاء. لأنه بالفعل احتمل آلامه المخلصة لأجلنا، وهكذا ـ وإلى هذا الحد قد كمل شر اليهود المتجاسر، وهذا هو اكتمال غضبهم الشديد الجامح. ولكن بعد الآلام على الصليب صارت جميع الأيدي بلا قوة، لأن: “العدو لا يرغمه، وابن الإثم لا يمكنه أن يؤنيه فيما “بعد” (مز 88: 22 س). وذلك لأنه قام وداس الموت، وصعد إلى السموات وجلس عن يمين الله الآب، وسوف يأتي بعد ذلك ليس في حالة وضيعة كما جاء سابقا، ولا بقياس الطبيعة البشرية، إنما في مجد الآب، مع الملائكة القديسين كحراسًا له يحفون به؛ وسوف يجلس أيضا على عرش مجده، ليدين المسكونة بالعدل كما هو مكتوب (انظر إش٤:١١). وكما يقول النبي : ” سينظرون إلى الذي طعنوه ” (زك ١٠:١٢). فالذي سَخَرَتْ منه هذه المخلوقات البائسة عندما رأوه معلقا على الصليب الثمين، سوف ينظروه وهو مكلل بالمجد الإلهي، وبسبب شرهم نحوه، سوف يسقطون في هاوية الهلاك. إن قوله : ” ما هو من جهتي له انقضاء”، أي ما يتصل بمعاناتي للموت في الجسد، وبعد هذا سوف تحدث تلك الأشياء التي تنبأ عنها الأنبياء القديسون في القديم عن أولئك الذين قتلوه.

وبخصوص التنبؤ عن هذه الأشياء، فالمخلّص كان يتكلم عما كان وشيكا أن يحدث لبلاد اليهود لكن التلاميذ الإلهيين لم يفهموا المعنى العميق لما قيل، بل ظنوا بالحري أنه يقصد أنَّ السيوف ضرورية بسبب الهجوم الوشيك أن يعمله التلميذ الذي خانه وأولئك الذين اجتمعوا للقبض عليه، لذلك قالوا: ” يا رب هوذا هنا سيفان … وماذا كانت إجابة السيد؟ يكفي. لاحظ كيف أنه سخر من قولهم، إذ كان يعرف جيدًا أن التلاميذ إذ لم يفهموا معنى ما قيل، فإنهم ظنوا أنه يوجد احتياج للسيوف بسبب الهجوم الوشيك أن يحدث عليه هو نفسه. أما هو، وقد ثبت نظره على تلك الأمور المزمع أن تقع وشيكا على اليهود بسبب سلوكهم الشرير تجاهه، فإن المخلص كما قلت – سخر من قولهم وقال: يكفي”. نعم بالحق، هل يكفي سيفان لاحتمال وطأة الحرب العظيمة والوشيكة أن تحدث لهم، هذه التي لم تكن تنفع فيها آلاف السيوف؟ إن كبرياء اليهود جعلهم يقاومون مقاومة عنيفة ضد قوات أغسطس قيصر، ولكنهم لم ينتفعوا شيئًا، لأنهم قد حوصروا بقوة فتّاكة، وقاسوا كل بؤس، كما يقول إشعياء النبي: ” ما قضى به الإله القدوس من يبطله؟ ويده عندما تُرفع من يردها (إش 14: 27 س). لذلك ليتنا نحترس لئلا نثير غضب الله، لأنه أمر مخيف هو الوقوع في يديه. أما الذين يؤمنون بالمسيح فهو رحيم بهم أي أولئك الذين يسبحونه، والذين يدعونه فاديًا لهم ومخلّصا، وهم الذين يخدمونه خدمة روحية بكل سلوك فاضل. لأننا إن تصرفنا وتكلمنا هكذا، فإن المسيح سيجعلنا ،خاصته الذي به ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور، آمين.

عظة 146 يسوع يصلي ويحزن ويكتئب في جبل الزيتون (لو22: 39-42 ،45،46)

وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلاَمِيذُهُ. وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ:«صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ»…ثُمَّ قَامَ مِنَ الصَّلاَةِ وَجَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ، فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا مِنَ الْحُزْنِ. فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ».

يطلب ربنا يسوع المسيح من الذين يحبونه أن يكونوا باحثين مدققين بخصوص كل ما كتب عنه، لأنه يقول : ” يشبه ملكوت السموات كنزا مخفى في حقل” (مت 13: 44)، لأن سر المسيح مودع – إن جاز القول على عمق عظيم، وهو ليس واضحا للكثيرين، أما الذى يرفع الغطاء عنه بواسطة المعرفة الدقيقة فهو يجد الغنى المخبأ هناك. وهذا يشبه المرأة الحكيمة، أعنى مريم التي قال عنها المسيح إنها : ” اختارت النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها ” (لو 10: 42) لأن هذه الأمور الأرضية والمؤقتة تذبل مع الجسد، أما الأمور الإلهية والعقلية والتي تنفع حياة النفس، فهى ثابتة تماما، ولا يمكن أن تتزعزع. لذلك هيا بنا نتطلع إلى معنى الدروس الموضوعة أمامنا.

كان المخلّص يقيم نهاررًا في أورشليم يُعلِّم الإسرائيليين ويكشف لهم طريق ملكوت السموات ولكن عندما كان يأتى المساء كان يستمر مع التلاميذ . القديسين على جبل الزيتون عند بقعة تسمى جسيماني، فهكذا يخبرنا متى البشير بخصوصه.

ولما جاء إلى هناك – كما يخبرنا أيضا متى نفسه – فإنه أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا وابتدأ يحزن ويكتئب ، فقال لهم: “نفسي حزينة جدا حتى الموت، ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت 26: 37 -39). أرجوكم أن تنظروا هنا إلى عمق التدبير في الجسد، وإلى سمو تلك الحكمة التي لا يمكن لكلمات أن تخبر بها ، ثبتوا عليها عين العقل الثاقبة، وإن لم تستطيعوا رؤية جمال السر، فأنتم أيضا ستقولون: ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” (رو 11: 33). يقول الكتاب إنه ابتدأ يحزن ويكتئب لأى سبب أيها الرب؟ هل أنت أيضا ترتعب من الموت؟ هل أنت أيضا يستولى عليك الخوف وتتراجع عن الألم؟ وأيضا ألست أنت الذي علمت الرسل القديسين ألا يبالوا بأهوال الموت بقولك : ” لا تخافوا” من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها (مت 10: 28) . وأكثر من هذا، إن قال أحد إنَّ نعمة الثبات الروحي هي عطيتك للمختارين، فلا يكون قد حاد عن الصواب؛ لأن كل قوة هي من عندك وكذلك أيضا كل ثقة وكل شجاعة في كل مواجهة ضارية. أنت الحياة بالطبيعة، أنت علة الحياة، ونحن نتطلع إليك كمخلّص ومنقذ ومحطم للفساد، منك يقتبل الجميع حياتهم ووجودهم أنت خلقت كل ما يتنفس. الملائكة لك ومنك وبك، وهكذا أيضا جميع الخليقة العاقلة يتحدث إليك الطوباوي داود بخصوصنا: ” تُرسل روحك فيُخلَقُون، وتُجدِّد وجه الأرض” (مز٣٠:١٠٣س). كيف إذن تحزن وتكتئب وتتأسى حتى الموت؟ فمن الواضح أنك تعلم أنك أنت هو الله بالطبيعة، وتعلم كل ما هو مزمع أن يحدث، وأنك باحتمالك الموت في الجسد سوف تُحرِّر سكان الأرض كلها من الموت، وسوف تهزأ بالشيطان، وسوف تقيم نصبًا للنصرة على كل قوة شريرة ومقاومة، وأنك سوف تكون معروفا لكل شخص وتعبد كإله وكخالق للجميع. أنت تعرف أنك سوف تبيد الهاوية، وأنك سوف تُخلّص الذين هناك من الرباطات التي كابدوها لأجيال عديدة، وأنك سوف تجذب إلى نفسك كل من هم تحت السماء. هذه الأمور أنت أعلنتها بنفسك لنا منذ القديم بواسطة الأنبياء القديسين ونحن قد سمعناك تقول بوضوح عندما كنت مثلنا ” الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجا” (يو 12: 31)، وأيضا : ” وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع (يو 12: 32) ، وأيضا : “الحق” أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير ” (يو 12: 24).

فلأي سبب إذن تحزن وتكتئب؟ إنه يقول: نعم، ليس بدون مناسبة أن أوجد هكذا في هذا الكرب، لأنني أعرف حقا أنه بقبولي أن أقاسي الألم على الصليب، فإننى سوف أخلّص كل الذين تحت السماء من كل شر، وأكون سببًا لبركات لا تُحصى لجميع سكان الأرض. أنا لا أجهل أني سأحل وثاقات الموت وسأبطل اضمحلال الأجساد وسأهزم طغيان الشرير وأهب غفران الخطايا. ولكن ما يحزنني هو بخصوص البكر إسرائيل؛ لأنه من الآن فصاعدًا، لن يعود يُحسب حتى ولا بين الخدام إن نصيب الرب وحبل میراثی سوف يصير نصيبا لبنات آوی كما هو مكتوب (مز 62: 10 س) المحبوب سوف يُكره بشدَّة، الذى له المواعيد سوف يُجرد تماما من جميع مواهبي، والكرم المختار مع عنبه الجيد سوف يصير من الآن فصاعدًا أرضا جرداء، مكانا مقفرا بلا ماء لأني سوف آمر السحب بالا تمطر عليه (إش 5: 6 س)، وسوف أنزع سياجه فيصير للنهب، وأهدم جدرانه فيصير للدوس (إش 5: 5 س). أخبرني إذن ألا يشعر صاحب الكرم بالكرب، بسبب ذلك عندما يصير كرمه خربا وقفرًا؟ أي نوع من الرعاة يكون هذا من القسوة والشدة فلا يتأثر عندما يتلف قطيعه؟ كيف لا يتألم لأجله؟ إن هذه الأشياء مجتمعة هي سبب حزني، لأجل هذه الأمور أنا حزين لأنني أنا هو الله اللطيف الرحيم الذي يحب الصفح والإنقاذ، والذي ليست لى مسرة بموت الخاطئ مثلما يرجع عن طريقه الشرير فيحيا (حز 18: 23 س). فبالصواب، حقا بالصواب جدًّا، إذ أنني صالح ورحوم، فإنني لا أكون فقط فرحًا بما هو مُسر، بل وأشعر أيضا بالأسى لكل ما هو محزن.

أما بخصوص شفقته على أورشليم، فهو يدرك جيدا ما هو مزمع أن يحدث لها، وأنها سوف تكابد كل شقاء بسبب جرائمها ضده وهذا يمكنك أن تعرفه من الآتى: فالبشير يقول إنه فيما كان ذاهبًا من اليهودية إلى أورشليم، فإنه: “نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنك لو علمت أنت أيضا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك، ولكن الآن قد أخفي عن عينيك ” (لو 19: 41 ،42) فكما بكى على لعازر إشفاقا على كل الجنس البشري الذي صار فريسة للفساد والموت، هكذا نقول إنه حزن وهو يرى أورشليم وقد تورطت في تعاسات شديدة جدا، وهي معرضة لكوارث مفجعة لا خلاص منها.

ولكي نعرف ماذا كانت رغبته بخصوص إسرائيل[3] ، قال لتلاميذه إنه في حزن وكرب شديدين، لأنه كان من المستحيل عليهم أن يعرفوا ما هو مخباً داخله إن لم يكشف مشاعره بواسطة الكلام.

وأظن أنه من الضروري أن أضيف لما قيل أن أوجاع الحزن والكآبة، لا يمكن إرجاعها إلى طبيعة الكلمة الإلهية التي هي غير قابلة للألم، لأنه من المستحيل أن تتألم، إذ أنّ هذه الطبيعة تعلو على كل ألم ، ولكننا نقول إن الكلمة المتجسد شاء أن يُخضع نفسه إلى قياس الطبع البشري، بأن فرض على نفسه أن يقاسي ما يخصه (أي الطبع البشري)، وحيث إنه قيل إنه جاع مع أنه الحياة وسبب الحياة والخبز الحي، وقيل إنه تعب من رحلة طويلة مع أنه رب القوات، هكذا قيل أيضا إنه حزن وبدا أنه قادر أن يتألم، لأنه لم يكن من المناسب أنَّ هذا الذي أخضع نفسه للإخلاء ألا يشترك في معاناة الأمور البشرية. فكلمة الله الآب إذن هو خال تماما من كل ألم، ولكن بحكمة ولأجل التدبير، فإنه أخضع ذاته للضعف البشري حتى لا يظهر أنه يرفض ما يتطلبه التدبير (تدبير التجسد). حقا، إنه قد استسلم تماما للطاعة للعوائد البشرية والنواميس مع أنه ـ كما قلتُ ـ لا يُوجد أي شيء من هذه الأمور في طبيعته الخاصة.

ومع ذلك فيوجد كثير يُضاف على ما قيل، ولكن نكتفي في عظتنا بهذا الحد في الوقت الحاضر، ونستبقى ما هو أكثر إلى لقاء آخر إن شاء المسيح مخلصنا كلنا أن يجمعنا هنا مرة أخرى، هذا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان الله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة 147 صلاة يسوع في البستان

ها أنا آتي إليكم لأوفي ما سبق أن وعدتكم به، ولكي أضيف خاتمة مناسبة لحديثي عن المسيح. لأنه في كل الظروف من الخطر أن يكون الإنسان كاذبا؛ ولكن حينما يرتكب الإنسان هذا الخطأ في الأمور الهامة لبنياننا، فحينئذ نخشى أن نجلب على أنفسنا دينونة من فوق ونصير أيضا سببًا لسخرية عامة.

قلنا في اجتماعنا الأخير إن المسيح مخلّص الجميع كان مع التلاميذ القديسين على جبل الزيتون، بينما كانت الحية المتعدّدة الرؤوس، أي الشيطان، يُعدُّ للمسيح فخ الموت، وكان رؤساء مجمع اليهود والتلميذ الذي خانه، لم يتركوا وسيلة لم يلجأوا إليها ليمسكوا بشخصه، وقد جمعوا أولئك الذين سيقبضون عليه، وهم زمرة من جنود بيلاطس، وجمع من خدام اليهود الأشرار. لذلك بينما كانت المحاولة على وشك أن تتم كان هو في حزن، وكان يحث تلاميذه أن يتصرفوا بما يناسب هذا الظرف (العصيب) بقوله لهم: ” اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة . وحتى لا يكون تعليمه بالكلام فقط، صار هو نفسه مثالاً لما ينبغي أن يفعلوه هُم، فقد انفصل عنهم قليلاً، نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلى قائلاً: ” يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس”. قد يتساءل أحد الآن : ” لماذا لم يُصلِّ مع التلاميذ القديسين ولكن انفصل عنهم وصلى بمفرده؟” كان هذا لكي يُعلِّمنا نمط هذا النوع من الصلاة التي تُسرّ الله، فحينما نصلي ليس من الصواب أن نستعرض أنفسنا على مرأى من الآخرين، ولا أن نسعى أن ينظرنا كثيرون، لئلا تغرق أنفسنا في وحل محاولة استرضاء الناس، فنجعل كل تعب صلواتنا بلا أية منفعة. والكتبة والفريسيون كانوا مذنبين بهذا الخطأ، فقد وبخهم ربنا مرة بسبب محبتهم للصلاة في زوايا الشوارع، وبسبب الصلوات الطويلة التي كانوا يعملونها في المجامع لكي يراهم الناس أما بالنسبة للذين يريدون أن يعيشوا باستقامة وهم شغوفون أن يمتلئوا بمحبة الله، فإنه يضع قانون الصلوات في هذه الكلمات: ” وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك” (مت 6: 6). لذلك فنحن نجده في كل موضع يُصلِّي على انفراد، حتى تتعلّم أنت أيضا أنه يجب علينا أن نتحادث مع الله بذهن هادئ وقلب ساكن خال من كل قلق، لأن الحكيم بولس يكتب: “فأريد أن يُصلي الرجال… رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال” (1تى 2: 8).

لذلك، فإنه كان يصلّي بينما كانوا أولئك القادمين للقبض عليه على وشك الوصول، أي إنسان ذو فهم لن يقول إن الرب قدَّم هذه التوسلات كأنه في احتياج إلى قوة أو عون من آخر لأنه هو نفسه قوة واقتدار الآب الكلى القدرة، ولكنه تصرف هكذا لكي نتعلم نحن منه أن نتخلى عن كل إهمال عندما تداهمنا التجربة وتضغط علينا الاضطهادات، ويحتال علينا الغادرون ويحيكون لنا فخاخهم، ويعدون لنا شبكة الموت. هذه هي نفس وسيلة خلاصنا أن نسهر ونجثو على ركبنا، ونقدم تضرعات متواصلة، ونسأل المعونة التي تأتي من فوق، لئلا نضعف، فنعاني من تحطّم مر مرعب جدا لسفينة حياتنا.

إن الشجاعة الروحية تليق حقًّا بالقديسين، ولكن أولئك الذين يقاومون عنف التجارب – يجب أن يكون لهم ذهن راسخ لا يتراجع، لأنه من الجهل التام أن نثق ثقة زائدة في أنفسنا أثناء الصراعات، والذي يُفكر هكذا هو مُصاب بالتفاخر والتباهي، لذلك ينبغي – وأنا أكرر ـ أن نقرن الشجاعة والصبر بتواضع الفكر، وإن تعرضنا لأية تجربة فإن ذهننا يكون مستعداً بثبات لمقاومتها، ومع ذلك فلنسأل الله أن يعطينا القدرة على الاحتمال بشجاعة، لأننا أمرنا أن نقول في صلواتنا: ” ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير”.

لاحظوا إذن النموذج المقدم لكم في شخص المسيح مخلصنا كلنا لكي تسلكوا مثله، وهيا بنا نلاحظ طريقة صلاته. إنه يقول: ” إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس”. أتنظرون كيف أنَّ المسيح يجعل صلاته في مواجهة التجربة بتوقير يناسب الإنسان؟ فهو يقول: ” إن شئت أن تجيز وتذكروا هنا أيضا ما كتبه المغبوط بولس بخصوصه: ” الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يُخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه، مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به، وإذ كُمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي” (عب 5: 97). فهو كواحد منا، يُسلِّم لإرادة أبيه أن يجري كل ما هو مزمع أن يحدث. لذلك فإذا حدث لنا في أي وقت وتعرضنا لصعوبات غير متوقعة، وكان لازما لنا أن نحتمل أي صراع فكري، فلنتوسل إلى الله لا أن ينتهي (الصراع) بصب مشيئتنا، بل بالحري فلنطلب أن يفعل ما يعرف هو أنه مناسب ولازم لمنفعة نفوسنا. ” لأننا لا نعرف ما نصلي لأجله كما ينبغي ” (رو 8: 26)، بل هو مستودع جميع الخيرات وهو يعطي كل ما هو مناسب لأولئك الذين يحبونه.

إن ما قلته الآن أثق أنه يكون نافعاً لكم جميعا، ولكن إن كان يجب أن نستنبط شرحا آخر لهذه الصلاة، فإننا نقول أيضا إنها تُوبِّخ شرَّ اليهود. وسنشرح الآن كيف تُوبِّخهم، لقد سمعتم اللمسيح يقول: ” يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. فهل كانت آلامه إذن عملاً لا إرادي؟ وهل كان ضروريا له أن يتألم، أم كان عنف أولئك الذين تأمروا ضده أقوى من إرادته الخاصة؟ نقول لكم ليس الأمر هكذا. إن آلامه لم تكن عملاً غير إرادي، مع أنها من جهة أخرى كانت محزنة لأنها كانت تتضمن رفضا لمجمع اليهود وملاشاته. لم تكن إرادته أن يكون إسرائيل هو قاتل ربه لأنه بعمله هذا فإنه يُعرض نفسه لدينونة متناهية الشدة، ويصير مشجوبًا ومرفوضاً من أن يكون له نصيب في عطاياه وفي الرجاء المعد للقديسين، في حين أنه كان يوما ما هو شعبه الخاص، وشعبه الوحيد، ومختاره، والوريث المتبنى. إن موسى يقول عنهم : هوذا للرب إلهك السموات والأرض، أنت اختارك الرب من جميع الشعوب لتكون شعبه الخاص (تث 10: 14 ،15 س). لذلك فمن الصواب أن ندرك بوضوح أنه من أجل رحمته على إسرائيل كان ممكنا أن يجيز عنه (عن المسيح ضرورة الآلام، ولكن بما أنه لم يكن ممكنا (للمسيح) أن لا يحتمل الآلام، فإنه خضع لها أيضا لأن الله الآب هكذا أراد أن تحدث هذه الآلام له.

ولكن تعالوا نفحص هذا الأمر أكثر . هل قرار الله الآب وإرادة الابن نفسه تدعوه الضرورة قبول الآلام؟ وإن كان الأمر هكذا ، وإن كان ما قد قلته صحيحًا، أما كان من الضروري أن يكون شخص ما هو الخائن، وأن ينحدر الإسرائيليون إلى هُوة التجاسر حتى أنهم يرفضون المسيح، ويُسلِّموه للخزي والعار بطرق متعددة ويحكموا عليه بالموت مصلوبا؟”. ولكن إن كان هذا هكذا، فكيف نجده يقول: “ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يُولد ؟ ” (مت 26: 24). وما هو السبب العادل الذي يُؤدّي إلى هلاك إسرائيل والحكم عليه بويلات الحرب؟ لأنه كيف يمكن أن يتعارض هذا . مع قرار الله وأهدافه التي لا تقاوم؟ إن الله ليس بظالم، ولكنه يزن أمور أعمالنا بحكم مقدَّس، فكيف إذن يعامل ما هو غير إرادي على أنه إرادي؟ لأن الله يشفق على سكان الأرض البائسين الممسوكين في فخاخ الخطية والقابلين للموت والفساد، والخاضعين تحت يد طاغية، والمأسورين من سرب من الشياطين. لقد أرسل الله ابنه من السماء ليكون مخلصا ومنقذا، وهر الذي صار أيضا مثلنا في الشكل. ولكن مع أنه عرف مسبقا ما سوف تألم به، وأن عار آلامه ليس هو ثمر إرادته الخاصة، إلا أنه قبل أن يتحملها لكي يخلّص (سكان) الأرض، والله الآب أراد هذا معه أيضا بسبب شفقته ومحبته لجنس البشر ، لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16). لذلك فبخصوص العار (الذي لاقاه) بسبب آلامه، فإنه لم يكن يريد أن يتألم، ولكن إذ لم يكن من الممكن له ألا يتألم بسبب قسوة اليهود وعدم طاعتهم وعنفهم غير الملجم، فإنه احتمل الصليب مستهينا بالخزي (عب 12: 2) وأطاع الآب حتى الموت موت الصليب (في 2: 8) ، ولكنه يقول : إن الله رفعه وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع المسيح كل ركبة ممن في السماء وممن على الأرض وممن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب لمجد الله الآب. آمين”.

عظة 148 القبض على يسوع – خيانة يهوذا (لو22: 47-53)

” وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، وَالَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ، يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟» فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ حَوْلَهُ مَايَكُونُ، قَالُوا:«يَارَبُّ، أَنَضْرِبُ بِالسَّيْفِ؟» وَضَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى. فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ:«دَعُوا إِلَى هذَا!» وَلَمَسَ أُذْنَهُ وَأَبْرَأَهَا. ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ:«كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَلكِنَّ هذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ».“.

هناك أهواء متعددة ومُرَّة تحارب نفس الإنسان، وهي إذ تهاجمها بعنف لا يُحتمل، فإنها تهبط بها إلى أعمال غير لائقة، ولكن أردأ من الكل هي محبة المال التي هي أصل كل الشرور، والتي في شباكها – التي لا سبيل للخلاص منها – وقع ذلك التلميذ الخائن، الذي قبل أن يكون خادماً لخداع الشيطان، وأن يصير أداة في يد رؤساء مجمع اليهود الأشرار في تعديهم على المسيح

هذا هو ما يُظهره لنا مرة أخرى بوضوح معنى الدروس الإنجيلية، لأن المخلّص سبق ونبه الرسل القديسين أنه سوف يُقبض عليه ويكابد آلامه على الصليب بيد الأئمة كما أنه أوصاهم بأنه عندما تضغط التجربة، عليهم ألأ يضجروا وألا يناموا في وقت غير مناسب، بل بالأحرى أن يسهروا وأن يثابروا في الصلوات، وبينما كان لا يزال يكلمهم بهذه الأمور، إذا جمع والذي يُدعى يهوذا واحد من الاثني عشر يتقدمهم. هل ترون كيف يحزن الإنجيلي الطوباوي أو بالحري يخور ويضعف؟ لأنه كان يود الا يسمح لنفسه أن يُبقي في ذاكرته ذلك التلميذ الذي باع نفسه للشيطان هكذا بسهولة، حتى أنه يرفض أن يذكر اسم ذلك الأثيم، لأنه يقول : ” الذي يُدعى يهوذا” ولكن لماذا؟ أما يَعلَم أنَّ هذا الرجل كان معدودًا مع المختارين ومحسوبًا ضمن جماعة الرسل القديسين؟ ولكن كما قلت لكم للتو، إنه كان يكره حتى اسمه، لذلك كتب التعبير : الذي يُدعى يهوذا “.

كما أنه يضيف إلى ذلك أنه أحد الاثني عشر، وهذا أيضا أمر له أهمية عظيمة ليُظهر بوضوح تام شناعة جريمة الخائن. لقد كان معادلاً في الكرامة للباقين، وكان مُزيَّنا بكل الكرامات الرسولية، ولكن هذا المختار والمحبوب والذي تلطَّف الرب وأدخله إلى المائدة المقدسة وإلى أعلى الكرامات، صار الواسطة والوسيلة لقتلة المسيح. أي نوح يكفيه، أي فيض من الدموع يلزم على كل واحد أن يذرفه من عينيه عندما يُفكّر من أي سعادة سقط هذا البائس إلى مثل هذا الشقاء التام لأجل فلس لا قيمة له توقف عن أن يكون مع المسيح، وفقد رجاؤه في الله وفقد الكرامة والأكاليل والحياة، والمجد المعد لأتباع المسيح الحقيقيين، وفقد أحقيته في أن يملك معه.

قد يكون من الجدير بالذكر أن نرى ما هي حيلته. لقد أعطى لأولئك القتلة علامة قائلاً: ” الذي أقبله هو “. لقد نسي تماما مجد المسيح، وفي غبائه المطبق ربما تصور أنه سوف يظل مستترا عندما يعطي المسيح قبلة، التي هي علامة المحبة – بينما كان قلبه ممتلئاً من المرارة والخداع الشرير. وحينما كان مع الرسل الآخرين في صحبة المسيح مخلصنا جميعًا في رحلاته، سمعه مرارا وهو يخبر مسبقا عما سوف يحدث، ولأنه هو الله بالطبيعة، فقد عرف كل شيء، وقد أوضح له خيانته بجلاء إذ قال لرسله الأطهار: ” الحق أقول لكم: إن واحد منكم يسلمني” (مت 26: 21). فكيف يمكن إذا لمقاصد يهوذا ونواياه أن تظل غير معروفة؟ لا، إن الحيَّة كانت هناك داخله وتحارب ضد الله، وكان هو مسكناً للشيطان لأن واحدًا من البشيرين القديسين يقول بخصوصه، إنه بينما كان المخلّص متكئاً على المائدة مع باقي التلاميذ، فإنه أعطاه لقمة بعد أن غمسها في الصحفة : ” فبعد اللقمة دخله الشيطان ” (يو 13: 27). إنه اقترب من المسيح وكأنه أداة للخداع والخيانة والغدر، فإنه تظاهر بعاطفة غير عادية، لذلك فالمسيح أدائه بكل قوة وعن حق بقوله: ” يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن مخلصنا الإنسان؟” ويقول متى البشير إن الخائن عندما اقترب من المسيح جميعا، فإنه قبله، وأضاف: “السلام يا سيدي (مت 26: 49). كيف تقول ” السلام” للذي صار عن طريقك فريسة للموت، كيف يمكن أن تتم هذه الكلمة فعلاً. فنحن نرى أن بسبب أنَّ ذلك أي الشيطان كان داخله، فإنه استخدم الكذب حتى في قوله: “السلام”. وبسبب هذه الأعمال يقول النبي في موضع ما: “لسانهم سهم نافذ، كلام فمهم ،خداع، يُكلِّم صاحبه بسلام وفي قلبه عداوة” – (إر 9: 8 س).

وعلاوة على ذلك يجب أن نتذكر ما كتبه يوحنا الإلهي بخصوص هذا الحدث، لأنه يقص أن جند اليهود اقتربوا ليقبضوا على يسوع، فخرج ليقابلهم وقال لهم: من تطلبون؟ فلما أجابوه يسوع الناصري، فإنه أسلم نفسه إلى أيدي أولئك القتلة قائلاً : ” أنا هو ” (انظر يو 18: 3 -8). ولكن يقول الكتاب: “فلما قال لهم اني أنا هو رجعوا إلى الوراء”. إذن ما هو الهدف من هذا؟ ولأي سبب سلَّم المخلص نفسه إليهم بينما هم سقطوا عندما سمعوه يقول إني أنا هو؟ كان هذا لكي يتعلموا أن آلامه لم تحدث له بدون إرادته الخاصة، ولم يكونوا يستطيعون أن يمسكوه لو لم يكن راضيًا أن يأخذوه. فهم لم يمسكوا المسيح بفعل قوتهم الخاصة، وبذلك أحضروه إلى الحكام الأشرار، بل هو الذي سلّم نفسه لكي يتألم عارفا تماما أن آلامه على الصليب هي لأجل خلاص العالم كله.

والتلاميذ المطوبون، بسبب غيرتهم الشديدة أخرجوا سيوفهم ليدفعوا الهجوم، ولكن المسيح لم يسمح لهم بهذا بل وبخ بطرس قائلاً:” اجعل سيفك في غمده، لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون” (مت 26: 51). هنا يعطينا المسيح أيضا نموذجا للطريقة التي يجب أن نضبط بها حبنا له، وللحد الذي ينبغي أن تبلغ إليه غيرتنا الحارة للتقوى. فهو لا يريدنا أن نستخدم سيوف نقاوم بها أعدائنا بل بالحري نستخدم المحبة والحكمة، وبهذه الطريقة ينبغي أن ننتصر على الذين يقاوموننا. وبالمثل فإن بولس يُعلِّمنا قائلاً: “هادمين ظنونا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” ( 2كو 10: 5)، لأن الحرب لأجل الحق هي حرب روحية، والدرع الكامل الذي يليق بالقديسين هو درع عقلي ومملوء من المحبة الله، ” لأنه يجب أن نلبس درع البر وخوذة الخلاص، حاملين فوق الكل ترس الإيمان وسيف الروح الذي هو كلمة “الله” (انظر أف 6: 14 -17). وهكذا فإن المخلص يهدئ من انفعال الرسل القديسين الشديد، وحتى يمنع أن يكون عملهم هذا مثلاً (يُحتذى به)، فهو يُعلن أنَّ رؤساء ديانته لا يحتاجون إلى سيوف مهما كان الأمر. ثم أنه شفى بقدرته الإلهية هذا الذي أتت عليه الضربة معطيا لأولئك الذين أتوا ليمسكوه هذه العلامة الإلهية أيضا لأجل إدانتهم ولكي يُوضح أنه لا يستطيع أحد أن يُسيطر على قوته وإرادته يقول : ” كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني؟ إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا على الأيادي”. هل المسيح يلوم بهذا رؤساء اليهود لأنهم لم يمسكوه قبل الآن؟ ليس هذا هو المعنى الذي يقصده، ولكن يقصد أن يقول : بينما كان من السهل عليكم أن تأخذوني، إذ كنت معكم كل يوم أُعلِّم في الهيكل، فإنكم لم تقبضوا على. لماذا؟ لأنني لم أكن قد أردت بعد أتألم ولكنّي بالحري كنتُ أنتظر الوقت المناسب لألامي، وهذا الوقت قد حان الآن، فلا تجهلوا أنَّ هذه ساعتكم وسلطان الظلمة، أي أنها هي فترة وجيزة ومُنحت لكم فيها سلطان علي، ولكن كيف أعطيت لكم؟ نعم أعطيت لكم بإرادة الآب المتفقة مع إرادتي، لأنني أردت لأجل خلاص وحياة العالم أن أخضع نفسي للآلام، لذلك فلكم ساعة واحدة ضدي، إنها قصيرة جدا ولوقت محدد، وهي الفترة فيما بين الصليب الثمين والقيامة من الأموات وهذا أيضا هو السلطان الذي أعطي للظلمة، ولكن الظلمة هي اسم الشيطان لأنه هو الليل والظلام الدامس، وعنه يقول أيضا المبارك بولس: ” الله هذا الدهر قد أعمي أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح” (2كو 4: 4) . فالسلطان إذن قد أعطي للشيطان واليهود ليقوموا ضد المسيح، ولكنهم حفروا لأنفسهم هوة الهلاك، لأنه بواسطة آلامه خلص جميع من هم تحت السماء، وقام في اليوم الثالث بعد أن وطأ تحت قدميه مملكة الموت، أما هم فقد جلبوا علي رؤوسهم الدينونة المحتمة في صحبة ذلك التلميذ الخائن. لذلك دعهم يسمعون الروح القدس وهو ينطق بصوت المرنم “لماذا ارتجت الشعوب وتفكرت الأمم بالباطل؟ قامت ملوك الأرض والرؤساء وتأمروا علي الرب وعلي مسيحه ، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ” الساكن في السموات يضحك بهم، والرب يستهزئ بهم” (مز 2: 1 -4 س). إِنَّ هؤلاء القوم التعساء قد ورطوا أنفسهم في جريمة قتل أما نحن فنمجد ونُسبِّح ربنا يسوع المسيح كمخلّص ومنقذ لنا، هذا الذي به ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين. ربهم،

عظة 149 إنكار بطرس (لو22: 54-62)

فَأَخَذُوهُ وَسَاقُوهُ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ. وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَارًا فِي وَسْطِ الدَّارِ وَجَلَسُوا مَعًا، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِسًا عِنْدَ النَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ:«وَهذَا كَانَ مَعَهُ!». فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً:«لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ!» وَبَعْدَ قَلِيل رَآهُ آخَرُ وَقَالَ:«وَأَنْتَ مِنْهُمْ!» فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَنَا!» وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً:«بِالْحَقِّ إِنَّ هذَا أَيْضًا كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا!». فَقَالَ بُطْرُسُ:«يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ!». وَفِي الْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ الدِّيكُ. فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَهُ:«إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا.

من أجل أن نكون حذرين في أي عمل مقدَّس ،نباشره، فإن ربنا يسوع المسيح يوصينا أن نقدم باستمرار تضرعات وتوسلات وأن يكون جزء من صلواتنا أن نطلب: ” لا تدخلنا في تجربة “، وذلك لأن عنف التجارب يكون في الغالب كافيًا أن يهز حتى الذهن الثابت تماما، وأن يذل إلى درجة الترنح ، وأن يُعرض إلى أهوال لا حد لها حتى الإنسان الشجاع والقوى القلب. كان هذا هو نصيب التلميذ المختار أن يذوقه، وأنا أقصد به هنا القديس بطرس، لأنه قد ثبت ضعفه وأنكر المسيح . مخلصنا كلنا، وهذا الإنكار لم يرتكبه مرة واحدة فقط بل ثلاث مرات وبقسم، لأن القديس متى يقول: ” فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف أني لا أعرف الرجل” (مت 26: 74). هناك البعض يريدون أن يقنعونا أن ما حلف به التلميذ قصد أنه لم يكن يعرف المسيح كمجرد إنسان فقط، ولكن حجتهم تسقط، رغم أن هدفهم من هذا هو أن يلتمسوا عذرا محبةً . منهم للتلميذ لأنه إن كان قد أقسم كما يقولون إنه لا يعرف أن يسوع كان إنسانًا، فماذا يكون هذا سوى إنكار لسر التدبير الإلهي الخاص بتجسده ؟ لأنه يعرف أنَّ كلمة الله الابن الوحيد صار مثلنا، أي أنه صار إنسانًا، وهو قد اعترف جهارًا قائلاً: “أنت هو المسيح ابن الله الحي” (مت 16: 16)، وهو لم يقصد بقوله هذا أن يؤكد أنه لكونه مثلنا فهو ابن الله، ولكن ليؤكد أنَّ الذي يراه واقفا (وسط) التلاميذ في حدود الطبيعة البشرية هو الكلمة الذي يفوق كل شيء مخلوق، وهو الذي خرج من جوهر الله الآب. أقول – ومع ذلك – فإنه لم يتحاش الاعتراف والإقرار به أنه هو ابن الله الحي، لذلك فإنه يصير من المنافي للعقل أن نفترض أنه رغم كونه يعرف سر التدبير الإلهي للتجسد، فإنه لا يعرف أن المسيح إنسان. ولكن ما هي الحقيقة إذن؟ 

كان بطرس في الواقع ضعيفًا. لأنه لا يمكن أن يكون عبثًا أن يقول المسيح محذرا : ” قبل أن يصيح الديك سوف تنكرني ثلاث مرات”، كما أنه ليس صوابا أن نقول إن الإنكار حدث كي يتحقق كلام المسيح، ولكن هدفه هو أن يحذِّر التلميذ نظرا لأن ما هو مزمع أن يحدث لا يخفى عن معرفته . ولكن هذه البلية وقعت للتلميذ بسبب جبن الطبيعة البشرية، فإنه بسبب أنَّ المسيح لم يكن قد قام بعد من الأموات، ولم يكن الموت قد أبيد بعد ولا أزيل الفساد، فإن مجابهة الموت كانت لا تزال أمرًا يفوق احتمال البشر. وكما قلت إن هذا الفعل التعس قد حدث بسبب . الجبن البشرى، وأن التلميذ أدين من ضميره الشخصي، فهذا قد تبرهن ببكائه بعد ذلك مباشرة، وبدموعه التي انهمرت من عينيه، كما لو كانت بسبب خطية ثقيلة كعلامة لتوبته، لأن الكتاب يقول إنه بعد أن نظر إليه يسوع، وتذكّر بطرس ما كان قد قاله له: ” فإنه خرج إلى علة خارج وبكى بكاءً مُرَّا.

إنه يناسبنا بعد ذلك أن نلاحظ بأي طريقة قد غفرت خطيته، وكيف طرح عنه ذنبه، لأن هذه الحادثة تبيّن أنَّ لها منفعة ليست بقليلة لنا. إنه لم يؤجل توبته، ولا كان مهملاً لها، وكما كان سقوطه في الخطيئة سريعا جدًّا، هكذا كانت دموعه سريعة بسببها؛ كما أنه لم يبك فقط ولكن بكى بمرارة، ومثل شخص قد سقط، فإنه نهض بشجاعة مرة أخرى، لأنه كان يعرف أنَّ الله الرحيم يقول في موضع ما بفم واحد من الأنبياء: ” من يسقط ألا يقوم؟ ومن يرتدّ ألا يرجع (إر 8: 4 س). لذلك ففي عودته لم يفقد الهدف، لأنه استمر على نفس الوضع الذي كان عليه سابقا، أي تلميذا حقيقيًّا؛ لأنه عندما حذره المسيح أنه سوف ينكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك، فإنه أيضا نال رجاء الغفران، لأن كلمات المسيح له كانت وأنت متى رجعت ثبت إخوتك” إنَّ مثل هذه الكلمات تخص شخصا يجهزه مرة ثانية ويعيده إلى الصلاحيات الرسولية، لأنه استأمنه ثانية إذ أسند إليه مهمة تثبيت الإخوة، الشيء الذي عمله أيضا.

ونقول أيضا، إنه رغم أننا عرفنا عن سقطات القديسين من الكتب المقدسة، فهذا ليس لكي نسقط في فخاخ مماثلة بسبب إهمالنا للثبات الواجب، بل لكي إذا حدث أننا ضعفنا وفشلنا في عمل ما هو ضروري للخلاص، فلا ينبغي أن نيأس من أن نكون قادرين مرة أخرى على الصعود إلى حالة الثبات، وهكذا نستعيد صحتنا بعد مرض لم يكن متوقعًا إن الله الرحوم قد منح لسكان الأرض التوبة كدواء للخلاص، ولا أعلم كيف أن أناسًا يحاولون أن يستعفوا منها قائلين إننا أنقياء، وفي جنونهم العظيم لا يفهمون أن إضمار هم مثل هذه الفكرة عن أنفسهم هو أمر مملوء من كل نجاسة، لأنه مكتوب: ليس إنسانا خاليا من الدنس” (أم 20: 9 س)، وبجانب هذا نقول: إن هذا يُغضب الله أن نتخيل أننا خالين من كل نجاسة، لأننا نجده يقول لأحد هؤلاء الذين يحيون حياة دنسة: ” ها أنذا احاكمك لأنك قلت لم أخطئ، وأنت قد ازدريت جدا بتكرارك لطرقك ” (إر 2: 35 ، 36 س)، لأن تكرار السلوك في الخطية هو بالنسبة لنا أننا عندما نُباغت بالخطايا (ونقع فيها نرفض التصديق أننا مذنبون بالنجاسة التي تنشأ منها.

إنهم يقولون: ” نعم إن رب الكل يصفح عن خطايا أولئك الذين لم يعتمدوا بعد، ولكن ليس الأمر هكذا بالنسبة لأولئك الذين دخلوا إلى نعمته ” ماذا نقول عن هذا ؟ إن كانوا يقدمون قوانين بحسب أوهامهم، فإن كلماتهم لا تعنينا كثيرًا، أما إن كانوا يستشهدون بالكتب الإلهية المُوحَى بها ، فمتى ذُكر فيها أنَّ إله الكل غير رحيم؟ لَيْتَهُم يسمعونه وهو يصيح عاليًا: حدّث بأثامك السابقة لكي تتبرّر” (إش 43: 26 س)، وليتهم يتذكرون الطوباوي داود الذي يقول في المزامير : ” هل ينسى الله رأفة أو هل هو يجمع مراحمه في غضبه؟” (مز 76: 9 س) وأيضا : ” قلتُ أعترف للرب بذنبي وأنتَ غفرت آثام قلبي” (مز 31: 5 س)، وبجانب هذا، يلزم ألا ينسوا أنه قبل أن يُقبض على المسيح، وقبل الإنكار ، كان بطرس مشتركاً في جسد المسيح ودمه الثمين، لأن الرب: “أخذ الخبز وبارك وكسر وأعطاهم قائلاً: خذوا هذا هو جسدي، وبنفس الطريقة أيضا أخذ الكأس قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد ” (راجع مت 26: 26 -28 ). لاحظوا إذن بوضوح أنه بعد أن صار شريكا في العشاء السري، فإنه وقع في الخطية، ونال غفراناً عند توبته. دعهم إذن لا يجدون نقصا في لطف الله، لا يفكرون بازدراء في محبته للجنس البشرى، ولكن تذكروا هذا الذي يقول بوضوح: “شرّ الشرير لا يضره في يوم رجوعه عن شره” (حز 33: 12 س). فما دام الله يقدم لنا الهداية في أي يوم يريد الإنسان فيه أن يتوب، فلماذا لا يكللون بالأحرى بمدائح الحمد هذا الذي يساعدهم بدلاً من أن يعارضوه بتمرد وبغباوة؟ إنهم بفعلهم هذا يجلبون الدينونة على رؤوسهم، ويُحضرون إلى أنفسهم غضبا محتومًا. لأن الله الرحوم لا يتوقف عن أن يكون رحوماً، حيث إن صوت النبي يقول: ” إنه يُسر دعهم بالرأفة” (می 7: 18).

فليتنا إذن نجاهد بكل قدرتنا كي لا نقع في خطية، وليت حبا راسخا مخلصا للمسيح يثبت فينا بلا تغيير ونقول بكلمات المغبوط بولس: ” من سيفصلني عن محبة المسيح ؟ أشدَّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟” (رو ٣٥:٨). ولكن إن هاجمتنا التجربة بعنف وثبت أننا ضعفاء، فدعنا نبكي بمرارة ونسأل الغفران من الله، لأنه يشفي أولئك النادمين المنسحقين ويقيم الساقطين، ويمد يده المخلصة لأولئك الذين أخطأوا، لأنه هو مخلّص الكل، الذي به ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 150 المحاكمة في مجلس اليهود (لو22: 63-71):

وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِلِينَ:«تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟» وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ. وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ قَائِلِينَ:«إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ، فَقُلْ لَنَا!». فَقَالَ لَهُمْ:«إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ، وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي. مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ». فَقَالَ الْجَمِيعُ:«أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ». فَقَالُوا:«مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ».“.

فليقل النبي إرميا هنا أيضا عن جنس إسرائيل: ” يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارا وليلاً لأجل هذا الشعب؟” (إر 9: 1 س). أي نواح يمكن أن يكفي لأجل أولئك الذين سقطوا في هوة الهلاك بسبب تصرفهم الشرير ضد المسيح، وبسبب جرمهم العظيم جدًّا، حتى أنهم لم يحزنوه فقط بالكلمات وبسخريتهم عليه بصرخات ممتلئة تجديفًا، بل إنهم أمسكوه بأيديهم الآثمة وأعدوا له فخ الموت؟ وهكذا عاملوه بغطرسة، وبشرهم جعلوه تسلية لهم، بل إنهم أيضا تجرَّأوا أن يضربوه، لأننا هكذا قد سمعنا اليوم البشير القديس يقول: والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه، قائلين: تنبأ من هو الذي ضربك؟.. ” أما هو فإذ شُتم لم يكن يشتم عوضا، وإذ تألم لم يكن يُهدِّد بل كان يُسلم لمن يقضي بعدل (1بط 2: 23). حسنا، لذلك يجب أن ننطق بما قاله واحد من الأنبياء عن بعض الناس: “السموات دهشت من هذا، وارتعدت جدا يقول الرب” (إر 2: 2 س)، ذلك لأن سيد الأرض والسماوات خالق الكل وصانعهم ملك الملوك ورب الأرباب الفائق العظمة والمجد والجلال، المؤسس كل الأشياء، الذي فيه يقوم الكل ويثبت، لأن فيه تقوم كل الأشياء (كو 1: 17) ، ذلك الذي هو حياة كل الأرواح المقدسة في السماء، صار يُزدرى به ويُحتقر كواحد مثلنا، وهو بصبر يحتمل الضربات، ويخضع لسخرية الأشرار، ويعطينا نفسه مثالاً كاملاً لطول الأناة، أو بالأحرى يُظهر لطفه الإلهي الذي لا يقارن في عظمته.

وربما قد احتمل المسيح ذلك لكي يوبخ ضعف أذهاننا، ولكي يبين أنَّ أمور الناس تقع بعيدًا جدًّا عن الكمالات الإلهية بمقدار ضعف وصغر طبيعتنا بالنسبة لطبيعته، لأننا نحن الأرضيون، ونحن مُجرد فساد ورماد، نهاجم في الحال أولئك الذين يضايقوننا، إذ لنا قلب ممتلئ بالعنف كوحوش ضارية. أما ذلك الذي له طبيعة ومجد يفوقان حدود إدراكنا وقوة تعبيرنا، فقد احتمل بصبر أولئك الجنود الذين لم يسخروا به فقط بل وأيضا جلدوه، لأن (البشير) يقول: وبعدما عصبوا عينيه وضربوه بعد ذلك، فإنهم سألوه قائلين: تنبأ من هو الذي ضربك؟” لقد سخروا منه كما لو كان شخصاً جاهلاً هذا الذي هو مانح كل معرفة، والذي يرى الخفيات التي فينا، لأنه يقول في موضع ما بواسطة واحد من الأنبياء القديسين: ” من الذي يخفى مشورة عني، ومن الذي يغلق على كلمات في قلبه ويظن أنه يخبئها عني (أى 38: 2 س). فالذي يفحص القلب والكلى والذي يمنح كل نبوة، كيف لا يقدر أن يعرف من الذي ضربه؟ لكن كما قال الرب نفسه الظلمة قد أعمت عيونهم وعميت أذهانهم (انظر يو 12: 40)، لذلك يمكن أن يُقال عنهم أيضا : ” ويل للسكارى وليس من خمر (إش 29: 9 س)، لأن جفنتهم من جفنة سدوم ومن كروم عمورة” (تث  32: 32 س).

 وبعدما اجتمع مجمعهم الشرير في الفجر، فإن الذي هو رب موسى ومرسل الأنبياء، بعدما استهزأوا به عن غير وجه حق، أحضروه في الوسط وسألوه إن كان هو المسيح؟ يا أيها الفريسي عديم الفهم، إن كنت تسأل لأنك لا تعلم، فكان يجب عليك ألا تحزنه إلى أن تعرف الحقيقة – لئلا تكون بذلك قد أحزنت الله ولكن إن كنت تتظاهر بالجهل بينما تعلم الحقيقة أنه هو المسيح، فكان يجب عليك أن تسمع ما يقوله الكتاب المقدس: ” الله لا يُشمخ عليه ” (غل 6: 7).

ولكن أخبرني لماذا تسأله وتريد أن تعلم منه إن كان هو المسيح؟ إنه من السهل للغاية أن تحصل على معرفة عنه من الناموس والأنبياء. فتش في كتب موسى فسوف تراه موصوفًا بطرق متنوعة. إنه ذُبح كحمل وقَهَرَ المُهلك بدمه، وسبق ورمز إليه أيضا بأشكال أخرى كثيرة. افحص أيضا كتابات الأنبياء، سوف تسمعهم يعلنون عن معجزاته الإلهية العجيبة. إنهم يقولون: حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم سوف تسمع، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل ولسان الخرس يصبح مستقيما” (إش 35: 5 س) ، ” وأيضا الموتى يقومون والذين في القبور يستيقظون لأن طلك يشفيهم” (إش 26: 19 س). لذلك إن كنتم أنتم أنفسكم ترون أن تحقيق النبوات يتم بوضوح ،بخصوصه، فلماذا لا تعترفون به بالحري بسبب معجزاته الإلهية التي تشهد له، وبسبب أعماله فائقة الوصف؟ وهذا أيضا ما قاله المسيح نفسه لكم : “الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي إنَّ الآب قد أرسلني” (يو 5: 36)، وأيضا : ” لو لم أكن قد عملتُ بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي (يو 15: 24 ). لذلك فإن رؤساء اليهود والشعب الذي تحت رعايتهم كانوا في الحقيقة غير مؤمنين وبدون فهم بكل معنى الكلمة.

كما أظن أيضا أنه يلزمنا أن نفحص الكلمات التي استخدمها المسيح، لأنها كانت توبيخا لعدم محبة الله، وهو ما كان الكتبة والفريسيون مذنبين به. لذلك فإنهم عندما سألوه إن كان حقًّا المسيح، وأرادوا أن يعرفوا هذا الأمر بعينه، فإنه أجابهم قائلاً: إن قلت لكم لا تُصدّقون، وإن سألتُ لا تجيبونني. تعالوا إذن ودعوني أشرح لكم ، كأناس يُسرون بأن يتعلموا ، ماذا كانت المناسبة التي سمعوا فيها ولم يؤمنوا، وما هي المناسبة التي صمتوا فيها عندما سُئلوا. عندما صعد المسيح إلى أورشليم وجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرا وغنمًا وحماما والصيارف جلوسا، يقول الكتاب إنه صنع سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل وقال: ” ارفعوا هذه من ههنا لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة” (يو 2: 13 -16)، وبسبب أنه دعا الله أباه، فإن أولئك الذين كانوا يُقدِّمون الذبائح في الهيكل تذمروا وهاجموه قائلين: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ فأجاب يسوع وقال لهم: ” وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضا بأي سلطان أفعل هذا معمودية يوحنا من أين كانت من السماء أم من الناس؟ ” ويقول الكتاب إنهم “فكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء يقول فلماذا لم تؤمنوا به، وإن قلنا من الناس نخاف من الشعب لأن يوحنا كان عند الجميع مثل نبي، فأجابوا وقالوا: لا نعلم. فقال لهم المسيح ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا” (انظر مت 21: 23 -27). 

وسألهم في مناسبة أخرى ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له ابن داود، فقال لهم الرب بعد ذلك: فكيف يدعوه داود بالروح ربا قائلاً: قال الرب لربى اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطنا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه؟ وفى هذه المناسبة أيضا فإنهم سكتوا (انظر 22: 41 -46). وهكذا ترون أن المسيح يتكلم بالصواب عندما يقول: ” وإن سألتكم لا تجيبونني”.

كما أنكم سوف ترون أيضا أنَّ الإعلان الآخر هو صحيح أيضا مثل الأول، وهو ما يلي: ” إن قلتُ لكم لا تصدّقون”، لأن المغبوط يوحنا البشير يكتب أنه كان عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء، ” وكان يسوع يتمشى في رواق سلیمان، فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلق أنفسنا، إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا، فأجابهم يسوع: إني قلتُ لكم ولستم تؤمنون، الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون” (يو 10: 22 – 26).

ولكي يجعل دينونتهم أكثر قساوة، أقصد فيما يتعلق برفضهم الإيمان به، فإنه يضع مجده أمامهم بوضوح ويقول : ” منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قوة الله”. وكأنه يقول : عندما كنت في الشكل مثلكم، مع أنني بالطبيعة والحق ابن الله الآب فأنتم لم تقدموا لي أي اعتبار، ولكن أما كان ينبغي الا تغيب عن انتباهكم هذه الطريقة الممتازة للتدبير في الجسد إذ أنكم متعلمون من الناموس ومتربون على كتابات .موسى. بل ألم تكن تنبؤات الأنبياء القديسين معروفة لديكم؟! ولكن حيث إنكم جعلتم أنفسكم بهذا المقدار من عدم المعرفة وامتلأتم من الجهل المطبق، ولم تتعرفوا على السر الخاص بي، فإنني أخبركم بالضرورة أنه سوف تُمنح لكم فرصة قصيرة جدًا لكبريائكم وخبثكم ضدي، أي إلى وقت صلبي. لأنه بعد هذا مباشرة سوف ألتحف بالكرامة وأصعد إلى المجد الذي كان لي منذ البدء، بل وحتى وأنا متجسد فأنا مشترك مع الله الآب في عرشه، وأملك كل سلطان على الكل، رغم أني لبستُ شبهكم. وحينما كان المسيح يتكلم هكذا، فإن جماعة الفريسيين التهبوا بغضب لا يُضبط، وأمسكوا بالعبارة كحجة على التجديف واتهموا الحق نفسه وقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهادة لأننا نحن سمعنا كلماته ماذا سمعتموه يقول أيها الرجال يا عديمي الفهم والأردياء، لقد أردتم أن تعرفوا إن كان هو المسيح، وهو عرفكم إنه هو بالطبيعة وبالحق ابن الله الآب ويشترك معه في عرش الألوهة، لذلك كما اعترفتم أنكم لا تحتاجون بعد إلى شهادة لأنكم سمعتموه يتكلم؛ فكان يجب أن تعلموا جيدًا أنه هو المسيح؛ ولكان هذا سوف يدلكم على الطريق إلى الإيمان، وتكونون من بين أولئك الذين يعرفون الحق. أما هم فلكونهم جعلوا طريق الخلاص ، سببًا لهلاك أنفسهم فإنهم لم يفهموا، بل بحماقة وعدم فهم قتلوه، واحتفظوا بهدف واحد مزدرين بالشريعة كلها، وتغاضوا  تماما عن الأوامر الإلهية، لأنه مكتوب: “البريء والبار لا تقتلوه” (خر 23: 7 س)، ولكنهم – كما قلتُ لكم – لم يراعوا على الإطلاق أيا من الأوامر المقدسة، ولكنهم اندفعوا إلى أسفل كما ينزلون إلى منحدر شديد ليسقطوا في أشراك الهلاك.

كان هذا هو سلوكهم، وأما نحن فنقدم تسابيحنا الله الكلمة الذي صار إنسانا لأجل خلاصنا الذي به ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

  1. يوصي القديس كيرلس الكبير أن تقرأ هذه العظة يوم الخميس في أسبوع السر، ويقصد الأسبوع الذي تم فيه سر الخلاص بالصليب والقيامة.
  2. هذه الفقرة الهامة هي باللغة اليونانية كما يلى :
    ἁγίως ἱερουργούμενος διὰ τῆς μυστικῆς εὐλογίας. καθ’ ἣν εὐλογούμεθα καὶ ζωοποιούμεθα.
    إن الكلمة ἱερουγεω يخدم في خدمة مقدسة، هذه الكلمة هى كلمة رسولية واردة في رومية 15: 16 وتُرجمت في طبعة دار الكتاب المقدس “مباشرًا لإنجيل الله ككاهن ” وترجمتها الدقيقة ” خادما في الخدمة الكهنوتية لإنجيل الله .. وكذلك الكلمة  البركة ” كانت تطلق في العصور الأولى بصفة ثابتة على الإفخارستيا المقدسة بالاستناد إلى كورنثوس الأولى ١٦:١٠  كأس البركة. إن استخدام هذه الكلمات يظهر العلاقة الوثيقة التكاملية بين الحياة الليتورجية للمسيحيين الأول وبين فهمهم للكتب المقدسة. (هذه الملاحظات لمترجم النص الإنجليزي لتفسير إنجيل لوقا Payne Smith سنة 1859).
  3. تضيف هنا مخطوطة Mai اليونانية شرحا لعبارة ” لخوف المسيح من الموت ” على أنه خوف متعمد: أولاً: لتثبت إنه إنسان حقيقي، حيث إن الخوف هو جزء من صفات الطبيعة البشرية، وثانيا : إن فيه وهو ممثلنا الشخصي، يجب أن تقهر أوجاع الطبيعة البشرية الدنيئة عن طريق قوة الكلمة، وهكذا أصبح ربنا المثال الكامل للسلوك المسيحي.

زر الذهاب إلى الأعلى