الصليب ذبيحة واحدة كافية وكاملة
“وأما هذا (أي المسيح) فبعد ما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله… لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين” (عب 10: 12، 14)
ذبيحة واحدة كافية :
إذا أمعنا النظر في ذبائح العهد القديم المتعددة والمختلفة، نجد أنَّ كلها كانت تمهد الفكر البشري لذبيحة المسيح الفادي وترمز إليها، أي كانت ظلاً لحقيقة ذبيحة الصليب. لأن رغم كثرة ذبائح العهد القديم، إلا أنها كانت عاجزة عن تقديم الخـلاص الحقيقي للإنسان بلا تأثير عملي من ناحية إراحة الضمير المثقل بالخطايا، ولا تعطي سلاماً دائماً للنفس المضطربة، ولا تطهر القلب من آثار الخطايا المميتة: “لأنه لا يمكن أن دم ثيران وعجول يرفع خطايا” (عب 10: 4).
وقد كان أنين الخاطيء وتكرار تقديمه للذبائح يعبران عن اشتياق فعلي وحاجة قلبه الشديدة إلى ذبيحة واحدة حقيقية تخلصه من الخطايا التي تكدر صفوه باستمرار وتنغص عليه حياته.. أما ذبيحة الصليب فقد تمت لتكون أكثر فاعلية – بما لا يُقاس – من دم الذبائح الحيوانية القديمة. فقد جاء المسيح “كحمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29)، مقدماً ذاته ذبيحة مخلصة موجودة تحت طلب الإنسان في كل زمان ومكان.
وبحكم واحدية المسيح الفريدة ورفعة قدره كابن الله فذبيحته هي ذبيحة واحدة ليست في حاجة إلى التكرار، وهي تتفوق في مفعولها على كل الذبائح السابقة مجتمعة: فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (عب 10: 10).
بهذه الذبيحة الواحدة، قدم المسيح حياته على الصليب، باذلاً نفسه لأجل خلاص كـــل الخطاة من الموت الأبدي، حتى يكون دمه كفارة لكل العالم، بمعنى أن فاعلية هذه الذبيحة ليست هبة مقصورة على فئة من الناس دون غيرها، بل هي كافية للجميع، كافية للكفارة وغفران الخطايا لكل من يؤمن بها ويتوب عن خطاياه “وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو 2: 2). وبهذا الدم المسفوك أراد الله أن يخلص الناس من قيود الإثم وعبودية الخطية وسمها القاتل، وبذلك لم يعد هناك ضرورة أو لزوم للذبائح التي كانت تقدم سابقاً، إذ بواسطة ذبيحة الصليب تغفّر الخطايا ويتبرر الخاطيء: هكذا المسيح بعدما قدم مرة (واحدة) لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه (عب 9: 28).
إن قيمة الصليب كذبيحة إلهية تظهر في كفايته وقدرة عمله الفعال في التطهير والتبرير والغفران، فهو يستطيع في كل وقت أن يخلق واقعاً جديداً مغايراً للواقع القديم، لأن الذبيحة المقدمة عليه كافية أن تهب الإنسان قدرة على التغيير، ليترك طريقه القديم ويرتاح من عذاب الضمير : “دم المسيح… يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي” (عب 9: 14).
وعلى ذلك يتضح أن ذبيحة الفداء بالصليب، لم يكن عملاً وليد المصادفة، بل هو خُطَّة إلهية مدبَّرة ومقصودة قصداً عن حكمة ربانية أزلية، الذي شاء في محبته أن يعد هذا الفداء لخلاص البشر، ليصير هذا الفداء نعمة سارية في عمق الطبيعة البشرية، تهب الإنسان كل حين قوة غفران وبر مجاني، ويظل تأثير الصليب حيا باقياً على مر الزمان، يستجيب لحاجة القلب وتعطشه لغفران الله وبره، ويوفر للخاطيء أعظم فرصة للخلاص: عالمين أنكم أفتديتم بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم” (1بط 1: 18 و 19)
ذبيحة كاملة :
الرب يسوع، بعدما قدم نفسه ذبيحة لأجل خطايانا جلس إلى الأبد عن يمين الله، أي دخل إلى مجده، وكان هذا دليلاً على كفاية عمله وكمال ذبيحته.
فهو بموته على الصليب قد أكمل العمل الذي جاء خصيصاً لأجله إلى العالم. لذا، فهو قد أعلن من فوق صليبه قائلاً: قد أكمل”، معلناً بذلك أنه أكمل ذبيحــة الخلاص لفداء البشرية، وبقوة دم الصليب تحطمت سطوة الخطية التي استعبدت الإنسان وقهرته وأذلته وكثرته وأفسدت حياته.
فهذه هي الذبيحة الكاملة التي تلبي المطلب الجوهري والحاجة الضرورية الملحة لخلاص الخاطيء المشتاق إلى التصالح مع الله والرجوع إلى أحضانه الأبوية، لأنهـا تنقض الجدار القائم الذي يفصل الإنسان ويحجزه عن الله: إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم (2كو 5: 19).
والذبيحة كاملة، أي مقتدرة في كمال تطهيرها للحياة الباطنية للإنسان بما فيها من فكر وإرادة وعاطفة وعقل وضمير.. فهي لا ترفع الخطية وتطهر منها فقط، بل أيضاً تستطيع أن تقدس المفديين وتجعلهم مكملين إلى الأبد : لأنه” بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين” (عب 10: 14).
وإن كان مفعول ذبيحة الصليب غير مرئي، أي خفي لا تراه أبصار الناس، لكنه يُلْمَس ويُحس داخلياً. فهو فعل غير منظور لكنه يدخل النفس كقوة مطهرة ومغيرة للإنسان في صميم كيانه.. وتحت راية الصليب يذوق الخاطيء طعم الغفران ويحظى بالسلام الداخلي والاطمئنان، حيث لا تعود النفس موضوعة تحت عبودية الخطايا، رازحة تحت نير الضمير المثقل بالشرور .. وبذلك تكون ذبيحة الصليب ليست بعيدة عن الواقع اليومي للإنسان المعرض للخطايا، فهي قادرة أن تزيح العبء الثقيل عن القلب، وتنقذ الخاطيء التائب من. حالة السقوط والضياع.. وتبعث في الخاطيء قوة الرجاء في الغفران والتطهير، فتحفز الإنسان وتقويه لينهض من جديد ويقف على قدميه كإنسان مغفور الإثم مُبَرَّر بدم ذبيحة الصليب.. المهم أن ينصت الخاطيء لصوت الفادي، وينتبه لندائه، ويتجاوب معه، ويأتي إليه متضعاً طالبا خلاصه وقوته في حياته.
طوق النجاة:
التمسك بذبيحة الصليب هو تمسك بطوق النجاة الذي ينجي من الغرق في بحر الهلاك. فهذه الذبيحة تفتح الباب لحضور غفران الله وخلاصه ،وبره، وهذا الحضور الناجم عن ذبيحة الصليب يكشف عن وجود قوة الله الكامنة فيه وعن تأثيره في حياة الخاطيء لأن” كلمة الصليب عندنا نحن المخلصين هي قوة الله (1كو 1: 18).
فهذا هو الطريق الذي رسمه الله للبشر وأعدَّه ليحصلوا على الخلاص، ويحظوا بالغفران، وينالوا بر الله، وينجوا من خطر الهلاك الأبدي. ولكن هذا الخلاص الذي تم بذبيحة الصليب يكون ذا فاعلية في النفس البشرية عندما يقبله الإنسان بالإيمان، ويتوب، ويعيش الحياة الجديدة مع المسيح، لأن فاعلية الصليب لا تستمر خارج حدود العلاقة الأمينة الوثيقة بين النفس والمسيح الفادي. وبمعنى أوضح نقول : إن الإيمان مع التوبة والعلاقة الجادة الحية مع الرب، يتولد عنها ثقة وجسارة واطمئنان من نحو غفران الخطايا والقبول أمام الله، أي تجعل الإنسان يعيش سلام القلب وراحة الضمير ، ويترسخ لديه الشعور بأنه ابن محبوب الله مغفور الإثم، ويجعل الحياة الروحية ثابتة راسخة غير متقلبة شامخة فوق أمواج الدنيا الصاخبة، ويتزايد إحساسه بقيمة الصليب كذبيحة إلهية فاعلة ومقتدرة لتطهيره ونجاته من الدينونة الأبدية وإعداده للميراث الأبدي، وبهذه الخبرة الروحية يستطيع أن يتعرف على الآفاق الرحبة لسر الصليب كذبيحة واحدة كافية وكاملة لجميع الناس في كل الأجيال.
أما مجرد الإيمان العقلي بذبيحة الصليب دون توبة حقيقية أو شركة حية مع الرب، فهو يكون إيماناً شكلياً لا يصمد أمام تيارات العالم الجارفة وأدناسه.
ومما سبق يتضح لنا، أنه بعيداً عن ذبيحة الصليب، يظل الخاطيء مقيّداً بقيود الشر، ونفسه مسحوقة سحقاً تحت وطأة العبودية للخطية، شاعراً أنه مهزوم من الداخل، فاقداً حريته الداخلية، حيث تظل موجات الخطية طاغية عليه رغم إرادته راضياً كان أو کارها، كما أن الشعور بالذنب يظل يطارد الضمير ويلاحقه ولا يتركه يستريح، وبروح المذلة والمهانة يحني الإنسان عنقه لنير العدو الثقيل، وكأنه أسير معذب، خاضع لسيد متسلط لا رحمة عنده ولا ضمير.