كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

رؤية الله

‏᾿Αποκάλυψις Οπτασία

+ «لأنه تشدد كأنه يرى من لا يُرى.» (عب 11: 27)
+ «فإني آنى إلى مناظر الرب وإعلاناته …» (2کو 12: 1)
+ «ناظرین مجد الرب بوجه مكشوف … » (2کو 3: 18)
+ «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله .» (أع 7: 56)

الرؤيا هنا ليست رؤية العين الجسدية لشيء منظور ، ولكنها رؤية المعرفة، حيث الرؤيا تكون بكل طاقات المعرفة وأعماقها بالعقل والقلب والنفس والروح وكل المشاعر. وحيث المعرفة هي التعرف على شخص الله بكل ما يتعلق بالمعرفة من إدراك وحب وثقة وصلة.

فالإنسان مدعو لرؤية الله، بمعنى أن يتعرف عليه بأقصى ما يمكن من إمكانياته و بأقصى ما يمكن أن تحتمله المعرفة البشرية من حب واتصال .

ولكن يلزم أن نوضح من البداية أن رؤية الله لا تعني الإحاطة بالله ، فرؤية الله من حيث التعرف عليه ممكنة، ولكن من حيث الإحاطة به فهي غير ممكنة قطعاً . فالله في ذاته مدرك كامل يُدرك ولكن لا يُدرك كماله !

لذلك فالإنسان مدعو لرؤية الله ، أي للتعرف عليه على قدر إمكانية واتساع مدركات نفسه وعقله وروحه، وليس على قدر اتساع الله ، لأن الله غير متناه في اتساع كمالاته.

ولكن ليس معنى هذا أن الله يُدرك جزئياً ، فالله ليس فيه جزء وكل، بل هو واحد بسيط وكل كامل، وبساطته غير محدودة غير متناهية.

ولكن ضعف إدراك الإنسان وانقسام معرفته، بسبب التعدي وغشاوة ظلمة الخطيئة التي أضعفت جداً من وضوح الرؤيا الداخلية للحق ، جعل الإنسان لا يرى الله كما هو في بساطته الكاملة. فالإنسان يستعلن الله و يتعرف عليه بقدر طهارته وحبه وطاعته واتضاعه، وكلما نمى الإنسان في هذه الصفات اتسع مجال رؤيته الله وظهر الله له أكثر كمالاً .

أي أن رؤية الله تتعلق دائماً بإمكانية الإنسان الداخلية التي تؤهله لكشف الله بنسبة متوازنة من القداسة : «القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب.» (عب 12: 14)

إذن فطالما نحن غير كاملين في القداسة، فلن نرى الله على حقيقته « كما هو» ، بمعنى أن الذي لم يكمل في طهارته وطاعته وحبه واتضاعه فإنه يظل عاجزاً عن رؤية الله في بساطته الكاملة، فيراه قاسياً أحياناً ويراه رحيماً أحياناً أخرى، تارةً يطمئن إلى محبته الشديدة وتارةً أخرى يجزع من عدله مرة يدرك عمق حكمته وعنايته الفائقة بالخليقة ومرة يشك في هذه العناية و يدينها.

وهكذا يظل الإنسان من جهته عاجزاً عن تكوين رؤية كاملة الله « كما هو» إلى أن يبلغ القداسة التي تؤهله للرؤيا الكاملة، والقديس يوحنا الرسول يخبرنا في رسالته الأولى أننا لن نبلغ هذه القداسة الكاملة إلا بظهور الرب نفسه : «ولكن تعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو. » (1يو 3: 2)

ولكن نعود ونقول إن ظهور الله ليس معناه رؤية شكله أو صورته بالعين الجسدية، ولكن رؤية صفاته وأعماله وفهم حكمته ومعرفة محبته الفائقة المعرفة ! هذه الرؤية لا يمكن أن تتضح لنا الآن تماماً في هذه الحياة بسبب فساد طبيعتنا . ولكن هذا الفساد ليس كلياً، لذلك يتبقى لنا دائماً فرصة جزئية لمعرفة الله ، هذا بالإضافة إلى وجود إمكانية جزئية أخرى في صميم كياننا جعلت للتغلب على فساد طبيعتنا وهي التي تسمح لنا بالنمو في معرفة الله .

وهاتان الفرصتان، فرصة بقاء طبيعتنا تحمل شيئاً من عدم الفساد، وفرصة وجود إمكانية متبقية في صميم كياننا يمكن أن نغلب بها عوامل الفساد، هاتان الفرصتان هما اللتان تفتحان أمامنا مجال الإيمان بالله الذي وإن لم تروه تحبونه. ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.» (1بط 1: 8)

إذن، فالإيمان في حقيقته نوع من الرؤيا ولكنها غير واضحة، أو هو رؤ يا جزئية لأنها رؤية غير مفهومة تم ـة تماماً : بسبب انقسام معرفتنا « لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ… فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز.» ( 1كو 13: 9 و 12)

وهذا أمر حقيقي و واقعي، فالإنسان الآن مهما بلغ إيمانه يظل يسأل لماذا عمل الله هكذا ولماذا لم يعمل هكذا، وتبدو أمور كثيرة أمامه غير مفهومة وغير معروفة تشوبها ظلمة عقلية، ولكن بالإيمان يتخطى عدم المعرفة ، وبالإيمان يتجاوز الإنقسام في المعرفة، وبالإيمان يتخطى الظلمة العقلية. لذلك، فبالرغم من أن الإيمان رؤيا الله ناقصة وغير مفهومة تماماً، إلا أن جزاءها يساوي الرؤية الواضحة تماماً، وهي بالفعل تمهد لها ، فبالإيمان ننال منذ الآن قوة القيامة التي فيها سنرى الله وجهاً لوجه :
– « فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه، الآن أعرف بعض المعرفة
لكن حينئذ سأعرف كما عرفت أي سأعرف الله كما يعرفني الله) أما الآن فيثبتُ الإيمان …» (1کو13: 12 و 13)

هذا ولكن هنا يتبادر سؤال : هل من هذا يُفهم أنه يستحيل على الإنسان أن يرى الله رؤية واضحة أي أن يعرفه معرفة كاملة في الدهر؟

ولكي نجيب على هذا السؤال، يلزمنا أن نفحصه فحصاً روحياً منطقياً، فنقول إن رؤية الله رؤية واضحة تعتمد كما قلنا اعتماداً أساسياً وكلياً على قداسة الإنسان. فإذا بلغ الإنسان قداسة كاملة، بمعنى أنه إذا تخلص من فساد طبيعته تخلصاً كاملاً حينئذ سوف يرى الله حتماً رؤية واضحة كما هو. وبذلك يتحول السؤال إلى سؤال آخر هو: وهل يمكن للإنسان الآن في هذا الدهر أن يبلغ إلى حالة قداسة كاملة أي يلبس تجديداً كاملاً لطبيعته؟

وللإجابة على هذا السؤال يلزمنا أن نعلم علم اليقين أن هذا هو جوهر المسيحية بالدرجة الأولى، فالمسيح جاء وبذل جسده وسفك دمه، وأعطانا أن نتحد به بسر الإيمان وعمل الروح القدس، حتى نبلغ بواسطته إلى القداسة الكاملة التي تؤهلنا، ليس فقط لرؤية الله، بل وللإتحاد به والحياة معه أيضاً … قد اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع و بروح إلهنا.» (1كو 7: 11)

إذن، فبسر الإيمان بالمسيح وعمل الروح القدس المنسكب على طبيعتنا ننال تقديساً نؤهل به لرؤية الله أي معرفته معرفة صميمية، معرفة اتحاد وشركة : « لكي تتعزى قلوبهم مقترنة في المحبة لكل غنى يقين الفهم لمعرفة سر الله الآب والمسيح .» (كو 2: 2)

ولكن لأن التقديس والاغتسال والتبرير التي هي عوامل الرؤيا الأساسية، قد ارتبطت كلها بالإيمان والإيمان بطبيعته ينقص ويزيد وينمو ويتوقف بسبب ارتباطه بطبيعة الإنسان المتغيرة والقابلة للنمو والتغير، صارت رؤية الله ( معرفته) قابلة بالتالي إلى التغير والنمو.

فالإنسان بقدر نموه في الإيمان بالله و بقدر ثقته فيه واعتماده عليه وحبه له ينمو في رؤيته الله !

فهل يمكن أن ينمو الإيمان إلى درجة كاملة يبلغ بها الإنسان إلى حالة القداسة الكاملة، فيرى الله رؤية واضحة في هذا الدهر؟

هذا الأمر من الوجهة النظرية ممكن لأنه حق و واجب : «إن آمنت ترین مجد الله » (يو 11: 40) . ولكن من الوجهة العملية مستحيل بسبب تدخل حواس الإنسان وعقله المبنية على الإنقسام والشك والفحص التي تتدخل في الرؤيا فتفسد المعرفة وتقلل من وضوحها، وقد تلغيها بالشك يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام ( في القبر) .» (يو 11: 39)

إذن، فطبيعة الإنسان مهما تجددت في هذا الدهر يظل فيها شيء من عنصر الفساد ممثلاً في الحواس الجسدية والعقل، وكلاهما يمنع الرؤية الواضحة الله، ولن يزيل هذا العنصر الفاسد المتبقي إلا القبر، ثم القيامة. لذلك، فمن جهة الإنسان وطبيعته وإمكانياته يستحيل عليه أن يرى الله في هذا الدهر رؤية واضحة.

ولكن هل من جهة الله يستحيل عليه أن يُظهر ذاته للإنسان ؟؟
والجواب المنطقي بحسب اليقين اللاهوتى هو أن الله لا يستحيل عليه شيء !!

إذن، فالله قادر أن يُظهر ذاته للإنسان، وقد أكمل ذلك بصورة فائقة في سر التجسد الإلهي الذي وهب للإنسان بمقتضاه سر رؤية الله وذلك بتوسط المسيح الذي يتكفل بإزالة كل العوائق الفاسدة من طبيعة الإنسان عند لحظة ظهوره، وذلك بإبطال كل النشاط السلبي من الحواس والعقل وتطهيره تطهيراً كاملاً بقوة تقديسية فائقة تجعل الإنسان بمثابة خليقة جديدة متجلية في مجال قداسة الله ، وحينئذ يرى الإنسان المتجلي الله رؤية واضحة كما هو: « ألستُ أنا حراً ؟… أما رأيتُ يسوع المسيح ؟ » (1كو 9: 1)

وبذلك يصبح هنا في هذا الدهر طريق جديد للرؤيا الواضحة، ليس بالإيمان البشري وإنما بالإستعلان الإلهي. حيث إظهار الله لنفسه بحسب مسرة مشيئته المطلقة يكون هو الوسيلة الوحيدة لرفع كل عوائق الرؤيا الواضحة والتي يبلغ فيها الإنسان تقديساً كاملاً بالرؤية نفسها. غير أنها رؤية مؤقتة لا يبقى تأثيرها مستمراً تمييزاً عن الرؤيا الواضحة التي ستكون في الحياة الأخرى التي تكمل بالإتحاد الدائم.

هذا المبدأ اللاهوتى العملي بخصوص ظهور الرب وتقديسه للإنسان نراه واضحاً غاية الوضوح في تعليم القديس أنطونيوس في قوله:

204- وإذ كان يصنع العجائب والأشفية كان يأمرهم أن لا يُعلموا أحداً، وكان هذا تواضعاً منه لأجلنا، ولم يكن تركه للإفتخار خوفاً من الإفتخار كلا لأنه كان قادراً أن يُظهر قوة لاهوته في أي وقت أراد، بل كان ذلك منه ليعلمنا ، حتى إذا نظرنا الرب نظل نحفظ مسكنتنا وضعفنا ونتواضع. لأنه ظاهر أنه لا يمكن لأحد أن يتضع اتضاعاً حقيقياً من قلبه إلا من قد نظرت نفسه الرب.

ومذكور عن الآباء الأطهار الذين جاهدوا أنهم تواضعوا بالأكثر لما نظروا الرب، فأيوب رأى الرب في السحابة وتكلم ، فانفتحت عينا قلبه ونظر الرب، فعد نفسه تراباً ورماداً وندم على كل ما قاله سابقاً.

وإشعياء النبي بينما كان يبكت الشعب على خطاياهم، لما رأى الرب أظهر تواضعه في الحال وقال : «ويل لي لأني إنسان خاطىء ونجس الشفتين».

وتلاميذ الرب الذين كانوا يأكلون ويشربون مع الرب لم يخافوا عند مفاوضته، ولكن لما تجلى على جبل تابور أمامهم تغير شكله فسقطوا على وجوههم وعرفوا مسكنتهم وضعفهم.

ونحن عندنا شهادات كثيرة تثبت أن سبب كثرة تواضع القديسين هو ما نظروه من مجد الرب. فالاتضاع الحقيقي يكون للنفس في هذا العالم عند نظرها من البعد المجد المزمع أن تناله.

أنبا أنطونيوس (الرسالة السادسة عشر)

205 – ولما نظر بولس الرسول الرب يسوع حصل له الكمال. وهو أولاً انعتق من الشر ثم لم يتعبد لشيء من الشهوات إذ صار ناسكاً، وفي الآخر تحرر بسبب نظره الرب يسوع المسيح. فعندما نظره، للوقت تبع أقواله بلا تأخير وصار في غاية الكمال والإتضاع. وهكذا كل الذين يتمسكون بأقوال الرب، فإنهم يعرفون الحق والحق يصيرهم أحراراً و يعتق نفوسهم من كل شر كما صار لبولس الرسول الذي صار حراً لما ظهر له مخلصنا ، لذلك يقول عن نفسه : أفلست أنا حراً ؟ أما رأيتُ الرب ؟

أنبا أنطونيوس (الرسالة السابعة عشر)

والآن أصبح من الممكن هنا أن نوضح الفارق الكبير بين مفهوم رؤية الرب ومفهوم ظهور الرب. فرؤية الرب تفيد ما يستجليه الإنسان من الصفات الإلهية على حسب إمكانياته وقداسته . وهذا المعنى يستحيل على الإنسان الوصول إلى رؤية كاملة عن الله.

أما ظهور الرب فيعني إعلان الرب لنفسه أي تجليه للإنسان على حسب كثرة محبته ورحمته ومسرة ،مشيئته، وفي هذا الإعلان يكشف الله أعماق نفسه للإنسان، و يتكفل هو بتقديس الإنسان ومنحه كل القوة التي بها يطلع على مجد الله : « الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله.» ( 1كو 2: 10)

وبهذا التفريق الأساسي بين الرؤية الناتجة عن السعي والتقديس، والرؤية الناتجة عن ظهور الرب مجاناً ، يتضح لنا شرح الفارق بين الآيات التي وردت في العهد القديم وفي العهد الجديد على السواء لتؤكد مرة عدم إمكانية رؤية الرب، ومرة أخرى إمكانية رؤيته.

فأولاً : نجد الله يقول لموسى: «إن الإنسان لا يراني و يعيش» (خر 33: 20)، والروح يقول : «الله لم يره أحد قط » ( يو 1: 18) . وبولس الرسول يقول: «أوصيك … أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح الذي سيبينه في أوقاته، المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى منه ، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه الذي له الكرامة والقدرة الأبدية آمين . » (1تي 6: 14-16)

وثانياً : نجد في نفس الوقت الآيات التي تثبت أن الله أظهر ذاته بالفعل لموسى وإشعياء وأيوب وغيرهم في العهد القديم. أما في العهد الجديد فقد «رآه كل بشر» (إش 40: 5 ؛ لو 3: 6 ) على حد النبوة ، «فالحياة الأبدية أظهرت » ( 1يو 1: 2) كقول القديس يوحنا ، والمسيح يقول: «من رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9) ، ووعد أيضاً بقوله : «من أحبني أحبه وأظهر له ذاتى» (يو 14: 21) ، والقديس بولس الرسول يقول إن : « الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله.» ( 1كو 2: 10)

ومن هذا يتضح أن الأمر الذي كان مستحيلاً على الإنسان بالجهد أو الإستحقاق وهو رؤية الرب، صار ممكناً بظهور الرب كفعل محبة وعمل نعمة مجاني ؛ ولا يزال هذا قائماً حتى الآن، فمحاولة رؤية الرب أمر مستحيل على الإنسان إلا بالقدر الضئيل الذي يتناسب مع طهارة الإنسان وحبه وطاعته ،لوصاياه، أما ظهور الرب فيُعطى للإنسان بدون قيد ولا شرط ولا جهد ولا استحقاق، إذ يمنح الرب القدرة والقداسة للإنسان التي يرى بها الله كما هو أي كما يشاء الله أن يعلن نفسه.

وهذه الحقيقة واضحة غاية الوضوح في قول الرب نفسه « كل شيء قد دفع إليَّ من أبي وليس أحد يعرف من هو الإبن إلا الآب ولا من هو الآب إلا الإبن ومن أراد الإبن أن يعلن له» ( لو 10: 22) حيث كلمة «يعين» هنا بمعنى «يظهر بالرؤيا » .

ومن قول الرب هذا، يتضح أن إعلان أو رؤية الآب والابن أي معرفة الصفات الجوهرية الله معرفة جوهرية أمر يتعلق حتماً وبالضرورة القصوى بمشيئة يسوع المسيح و بتوسطه ، حيث الإعلان هنا هو الرؤيا التي تؤدي إلى المعرفة الواضحة بالظهور والإستعلان الحقيقي التي بها يدرك الإنسان الحق الذي في الله ، فيبلغ منتهى السعادة إذ يصبح في صميم حياة الشركة مع الله.

ولأهمية موضوع الرؤيا يحسن بنا أن نعود إلى آباء الكنيسة اللاهوتيين الأوائل لنتتبع أفكارهم واختباراتهم وتعبيراتهم عن حياة الرؤية في المسيحية باعتبارها التعبير المباشر عن الخبرة الإيمانية وفعالية التجسد، وقد اخترنا ثلاثة لاهوتيين ممن تمسكوا بالإنجيل والتقليد الآبائي تمسكاً لا انحراف فيه :

(1) ثيوفيلس الأنطاكي:

كتب هذا الأب القديس رسالة إلى أحد الوثنيين حوالي عام 178 م يوضح له فيها معنى رؤية الله ، رداً على تحديه إن كان يستطيع أن يريه الله الذي هو إله المسيحيين :

206- قبل أن أريك إلهنا أرني أنت إنسانك وأعطني البرهان على أن عيني نفسك تستطيع أن ترى وأذن قلبك تستطيع أن تسمع، لأنه لا يستطيع أحد أن يرى الله إلا من كانت عيون نفسه مفتوحة . أما الذين انطمست عيونهم بحواجز وسدود الخطيئة فإنهم لا يرون الله . فهل يمكن وصف الله للذين لا يستطيعون أن يروه؟ 

فهيئة الله لا توصف بالكلام ولا يمكن شرحها لأنها غير منظورة بطبيعتها للعين الجسدية … فإذا خلعت طبيعتك التي فسدت وإذا لبست عدم الفساد، فحينئذ ترى الله على قدر استحقاقك، لأن الله سيحيي جسدك ويجعله مع نفسك عديم الموت، وعندما تصبح عادم الموت حينئذ ترى الله الذي له عدم الموت ، هذا إن كنت تؤمن به الآن. 

وقول ثيوفيلس الأنطاكي هنا إمتداد لقول القديس بولس الرسول عن الله : « الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى . منه ، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه» (1تى 6: 16). وهو يفصح بهذا عن الرؤية الأخروية التي سوف يُؤهل الإنسان لها عندما يلبس عدم الفساد أو عدم الموت، صائراً بذلك على مستوى طبيعة الله « الذي وحده له  عدم الموت». ويلاحظ هنا صفة عدم الموت التي هي صفة الله وحده، التي سيلبسها الإنسان مجرد لبس، في حين أنها هي من طبيعة الله وجوهره.

أي أن الرؤية الحقيقية الله لا يمكن أن تتم إلا إذا بلغ الإنسان إلى درجة عدم الفساد، أي عدم الموت ليس من جهة النفس فقط بل ومن جهة الجسد أيضاً بالقيامة. لأن الرؤية لا تكمل بالنسبة للإنسان إلا ككل، أي بالنفس والجسد معاً، حيث لا يكون هناك تنازع أو تناقض بين العقل الصافي والحواس الجسدية .

ولكن يعود ثيوفيلس الأنطاكي و يوضح إمكانية التعرف على الله والإمساك بجلال مجده الآن في هذه الحياة كتمهيد للرؤية الكاملة الأخروية ، فيقول :

207 – إن كل شيء قد خُلق من لا شيء، حتى أن جلال مجد الله أمكن إدراكه والإمساك به بواسطة العقل من خلال أعماله – في الخليقة … كالنفس البشرية التي تحيي الجسد والتي بالرغم من كونها غير منظورة صارت مدركة في حركات الجسد وأعماله ! هكذا الله الذي خلق كل شيء «بالكلمة والحكمة أصبح يمكن إدراكه من خلال تدبير عنايته ومن أعماله. 

وقول ثيوفيلس الأنطاكي هنا هو إمتداد لقول القديس بولس الرسول : «إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم، لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر. » (رو 1: 19  و 20)

ثم يمتد ثيئوفيلس الأنطاكي لكي يكون صورة حية ذهنية عن الله من أعماله في الخليقة، كتطبيق عملي لقول القديس بولس الرسول ، فيقول :

208- ولو أن هيئة الله لا توصف بالكلام ولا يمكن شرحها لأنها غير منظورة بطبيعتها للعين الجسدية غير أننا حينما نقول إنه «نور»، فأنا أعبر عن انبعاثه.
وحينما نقول إنه «كلمة» ، فأنا أعبر عن وجوده الذاتي كأصل لكل وجود آخر.
وحينما نقول إنه « العقل» ، فأنا أعبر عن قوة الروح ومعرفة الحق والحكمة المديرة.
وحينما نقول إنه «روح» ، فأنا أعبر عن أنفاسه المحيية .
وحينما نقول إنه « الحكمة»، فأنا أعبر عن بنوته الذاتية .
وحينما نقول إنه «قوة » ، فأنا أعبر عن استطاعته بالفعل والقوة معاً.
وحينما نقول إنه «العناية»، فأنا أعبر عن صلاحه أي (إحاطته العامة والخاصة وتوجيهه الفعال
ورسم غاية لكل شيء).
وحينما نقول إنه « الملكوت» ، فأنا أعبر عن مجده وجلاله .
وحينما نقول إنه الرب (السيد)»، فأنا أعبر عن طبيعته كحاكم وهذا تعبيراً عن عدله.
وحينما نقول إنه « الآب» ، فأنا أعبر عن طبيعته كعلة عامة لكل شيء.
وحينما نقول إنه «نار» فأنا أعبر عن غضبه .
وهكذا فإن الله الذي خلق كل شيء بالكلمة والحكمة يمكن أن يُدرك من خلال تدبير عنايته ومن أعماله.

ثيئوفيلس الأنطاكي

وبهذا يقدم لنا ثينوفيلس الأنطاكي محتويات الرؤية الحاضرة المناسبة لحياة هذا الدهر، كاشفاً عن صفات الله التي يتحتم علينا التعرف عليها من خلال أعماله في الخليقة كتمهيد حتمي للرؤية الأخروية المناسبة لحياة «عدم الموت».

فهي ولو أنها رؤية غير مباشرة الآن إلا أنها تكشف عن صفات الله الجوهرية كآب وإبن وروح قدس.

و بإختصار، فإن القديس ثيئوفيلس الأنطاكي يثبت قطعاً من صميم الإنجيل أن الله ولو أنه غير مدرك الآن في ذاته مباشرة، إلا أنه يمكن أن يُدرك من أفعاله بتكافؤ الإيمان و بتدرج قد يصل إلى الإدراك المباشر، وكذلك الآب فبالرغم من أنه محتجب تماماً عن كل عقل وعين إلا أنه ظاهر في ابنه و بروحه القدوس كقول الإنجيل: « الله لم يره أحد قط ، الإبن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر (أو هو أوضحه وشرحه)» (يو 1: 18) . وكقول المسيح : « الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9). بمعنى أن أعمال المسيح وصفاته تكشف عن حقيقة الآب وطبيعته بصفته أنه هو أبوه الذي أرسله.

(2) القديس إير ينيئوس :

وكذلك القديس إيرينيئوس يمدنا بتعاليم رسولية كتبها حوالي عام 190 م يشرح فيها معنى رؤية الله . فهو يبتدىء تعاليمه بتوضيح إستعلان الله المتدرج بالظهورات التي أكملها الله في «الكلمة» منذ البدء، حيث يعتبر « الكلمة » أي اللوغوس « إستعلاناً حقيقياً للآب الذي لا يمكن أن يُرى طبيعياً».

209ـ فبينما جلال مجده ظل مخفياً تماماً وغير مدرك إلا أنه أعلن عن نفسه بواسطة أعمال محبته بواسطة الكلمة الذي به خلق كل شيء.

فالإبن هو الذي بإظهاره لنفسه أعطانا معرفة الآب، لأن معرفة الآب تكون هي نفسها بإعلان الإبن .

210- فإن كان الآب هو ما لا يُدرك من طبيعة الإبن فالإبن هو ما يُدرك من طبيعة الآب! 

211- الكلمة أي اللوغوس استعلن عندما تجسد وصار إنساناً. فبينما كان الإنسان قبل التجسد يمكن أن يُقال عنه إنه خُلق على صورة الله، إلا أنه لم يكن ممكناً توضيح ذلك وإثباته ، لأن الله الوحيد الذي خلق الإنسان على صورته كان لا يزال مختفياً ، هذا بالإضافة إلى أن الشبه الحقيقي ـ (الذي كان يحمله الإنسان في صورته) – سرعان ما فقده. فاللوغوس بتجسده وتأنسه أعاد هذه الصورة والشبه لأنه هو نفسه صار واحداً من الذين خلقهم على صورته ، فأوضح بجلاء عظيم هذا الشبه، عندما جعل الإنسان بواسطة اللوغوس المنظور المتجسد مشابهاً تماماً للآب غير المنظور. 

212ـ وهكذا ارتفعت الإنسانية من خلال تدبير الابن والروح القدس إلى حياة الله.

ثم يبتدىء القديس إيرينيئوس يوضح أن استعلان الله بعد ذلك أصبح من مسئولية الإنسان بتقدمه الروحي المتدرج، محققاً في نفسه بالروح القدس هذا الشبه الذي منحه له الله. هذا النمو والتدرج في الروح هو في الحقيقة ، يفوق قدرة الإنسان الجسدية والنفسانية والروحانية معاً، لذلك . منح الله الإنسان روحه الخاص القدوس ليهب له القدرة على النمو، فيرفعه إلى مستوى حياة الله بمقتضى الصورة والشَبَه المتأصلين فيه واللذين انطمسا بسبب ضعف الإنسان وخطيته.

وهكذا منح الله للإنسان بواسطة ابنه وبواسطة روحه القدوس، أن ينمو ويتقدم بالروح حتى يبلغ إلى حياة الشركة والإتحاد مع الآب:

213- وإذ قد نلنا الآن موعد الروح القدس نصرخ يا أبا الآب، وهذا هو الشبه الذي يعبر عما سيكون بالقيامة عندما نراه وجهاً لوجه، حينما تلتحم الأعضاء وتصير جمعاً محتشداً يسبحون تسبحة الغلبة والخلاص كرامة للذي أقامهم من الأموات وأعطاهم حياة معه إلى الأبد.

وهكذا، فإن رؤية الله عند القديس إير ينيئوس هي دائماً إستعلان من لدن الله ، يكمله الله حسب مشيئته هو. فالله، في نظر إير ينيئوس، ليس موضوعاً يمكن فحصه ومعرفته ، ولكنه ذات لا يمكن التعرف عليها إلا إذا أعلن هو عن ذاته وأفصح عنها . وهو إنما يكشف عن نفسه باختياره بسبب محبته فقط  وكنوع من التنازل.

لذلك حينما يقول الله إنه لا يمكن أن يُرى » ، فإن هذا القول حق : تماماً كقوله : أظهر ذاتى لأن المستحيل لدى الإنسان بالجهد والتصاعد، هو ممكن لدى الله بالحب والتنازل. لذلك يقول إنه مستعد أن يُظهر ذاته لمن يحبه و يتضع بالحق. وفي هذا يقول القديس إيرينيئوس :

214ـ الإنسان بنفسه لا يستطيع أن يرى الله ، ولكن لأن الله يريد أن يُظهر ذاته ، لذلك فإنه برى عند الذين يختارهم في الوقت الذي يريده و بالقدر الذي يشاء. 

وكأنما القديس إيرينيئوس يريد أن يقول إن الله ولو أنه لا يُرى بالطبيعة إلا أنه يُرى بالنعمة.

وعلى مدى تعاليم القديس إيرينيئوس، يتحقق عنده ثلاثة أنواع من الرؤية :

الرؤية الأولى : وهي بواسطة إلهام الروح القدس، ويسميها رؤية نبوية، فيها يُستعلّن شبه مجد الله.

الرؤية الثانية : وهي بواسطة يسوع المسبح، ويسميها رؤية بنوية، وهي للمختارين.

 الرؤية الثالثة: رؤية الآب، وهي رؤية الوجه للوجه لحياة الملكوت.

والرؤية النبوية بالروح القدس تمهد للرؤية البنوية في المسيح، والرؤية البنوية في المسيح تحضر الإنسان إلى رؤية كاملة للآب والآب يهب الإنسان عدم الموت.

والإنسان في كل هذه يتحقق من أنه يرى الله بالفعل؛ لأن هذه الرؤى الثلاث متداخلة جداً، وكلٌّ منها يحتوي الآخر خلفه.

ومن هذا التعليم نرى أن القديس إيرينيئوس يتحقق من أن رؤية الآب في الملكوت تهب بحد ذاتها شركة في الحياة الأبدية، لأنها تمنح الإنسان عدم الموت !

وهنا توضيح مبدع للصلة القائمة بين الرؤية الكاملة و بين عدم الموت !

وفي هذا ينكشف معنى أن الإنسان لا يستطيع أن يرى وجه الله ويعيش (خر20:33).

أي لا بد أن الإنسان الخاطىء يموت أولاً ليتحول الفاسد إلى عدم فساد، حتى يستطيع أن يرى وجه الله و يعيش إلى الأبد.

فوجه الله الذي كان لا يمكن أن يراه الإنسان بدون موت يصير في الدهر الآتى وبالقيامة من الأموات منبع حياة أبدية. وفي هذا يقول القديس إير ينيئوس :

215- لأن الناس حينئذ سيرون الله لكي يعيشوا ، إذ يصيرون بواسطة الرؤية غير مائتين ومتقدمين دائماً أبداً في الطريق نحو الله.

216- إنه يستحيل أن نحيا بدون حياة والحياة تنبثق من الله ، فلكي نعيش يلزم أن نتصل بالله ، والإتصال بالله إنما يتم بمعرفته أي رؤيته ويتقبل صلاحه. 

لذلك يعود القديس إير ينيئوس و يعرج على هذه الحياة الحاضرة ويعتبرها شركة جزئية مع الله ، أي رؤية جزئية اتضحت جداً بتجسد ابن الله وصارت رؤية متبادلة. فالله أعلن أو أظهر نفسه بتجسد «الكلمة» أي المسيح، والكلمة أي المسيح بدوره أعلن الإنسان وأظهره وقدمه الله !  هذه هي الرؤية الصميمية المتبادلة بين الإنسان والله التي تمت جوهرياً بالتجسد وفي التجسد، والتي لما منحت للبشرية بواسطة المسيح من خلال جسده من يأكلني يحيا بي» (يو 6: 57) ، انفتح أمامنا مجال الرؤية المحيبة رؤية الشركة الفعلية مع الآب بالابن و بالروح القدس.

217ـ وهكذا أصبح أي إنسان حي (حياة أبدية) هو استعلان لمجد الله ، وأصبحت الحياة ( الأبدية) في الإنسان هي رؤية الله. فإذا كان من نتيجة استعلان الله في الخليقة – كعلة ـ مَنْحُ الحياة ( الزمنية لكل خليقة على الأرض هكذا بالأكثر جداً يكون استعلان الآب بواسطة الكلمة ( اللوغوس) فإنه يوصل الحياة الأبدية لكل من يستعلن الله الآب و يراه. 

وحجر الزاوية الذي يستند عليه القديس إير ينيئوس للرؤية الكاملة، هو تجلي المسيح على جبل تابور. فهو يعتبر أن مشيئة المسيح في إعلان مجده بالرؤية الواضحة على جبل التجلي، هي في الحقيقة تعبر عن مشيئة الله في اشتراك الإنسان في نور الله غير المنظور الذي سيمنح للإنسان بصورة دائمة بعد ذلك ، ليجعله غير قابل للموت وبالتالي حياً إلى الأبد، وفي ذلك يقول :

218ـ أن يرى الإنسان النور، هو أن يكون قائماً في النور ومشتركاً في بهائه ، هكذا كل من يرى الله فإنه يصبح قائماً فيه ومشتركاً في حياته الممجدة . لذلك فكل من يرى الله يشترك في حياته.

والقديس إير ينيئوس يعتبر الرؤية معرفة الله ممتدة إلى ما لا نهاية، حتى في الحياة الأبدية:

219- وحتى في الدهر الآتى سيكون الله دائماً معلماً والإنسان دائماً متعلماً منه.

) و بإختصار، فإن القديس إير ينيئوس يعتبر رؤية الله حتمية وواقعية بالنسبة للإنسان سواء كان الآن أو في الدهر الآتى، أما الآن فبالإيمان كشركة جزئية، فيها نرى الله غير المنظور وغير المدرك في نوريسوع المسيح الواهب القيامة والحياة الأبدية.

فرؤية يسوع المسيح الآن هي في الواقع رؤية محيية تلبس الإنسان إمكانية عدم الموت، وبذلك فهي تمهد تمهيداً حتمياً لرؤية الآب التي هي بعينها الحياة الأبدية أو عدم الموت!

(3) القديس كيرلس الإسكندري الممثل الحقيقي للاهوت الإسكندري:

من بعد آباء القرن الثاني دخلت الكنيسة في حوار خطر مع الغنوسية ومع الفلسفة اليونانية، وكلاهما كان يعتمد على العقل في البحث عن الله والحقيقة، وقد انبرى لهما لاهـوتـيـو الإسكندرية وأبرزهم كليمندس وأوريجانوس اللذان استطاعا بالفعل أن يكسرا شوكتيها، ولكن لم يكن ذلك بدون ثمن، فقد أدخلا في حوارهما ودفاعهما أصول الغنوسية والفلسفة اليونانية مع كثير من مصطلحاتها، بل واقتبسا ذات المناهج التأملية التي استخدمها أفلاطون.

وكان نصيب الحياة التأملية في التلوث بالقيم الغنوسية والنظرات الفلسفية الأفلاطونية والأفلاطونية الحديثة قدراً كبيراً جداً، مما صار عبئاً ثقيلاً على الروح النسكية الآبائية البسيطة الأولى.

وإن كان ليس هنا مجال لكي نشرح بالتفصيل المبادىء والمناهج الأوريجانية في الحياة الـتـأمـلـيـة ومـقـدار الهوة الكبيرة التي تفصلها عن الروح الإنجيلية البسيطة، فيكفي أن نبصر القارىء بالأثر الذي تركه كل من كليمندس وأوريجانوس، هذا الأثر الذي لم يقتصر على مناهجهما والذي لم يقتصر على مدرسة الإسكندرية في ذلك الزمن بل تعداه إلى أقصاء الأرض. فالذين تأثروا بأوريجانوس بل والذين تتلمذوا له بأمانة جنونية هم من أبرز لاهوتيي العالم. وهنا يجزع القلم من أن يعدد و يردد الأسماء، ولكن الذي نحمد الله عليه أن هذه التأثيرات الغنوسية والفلسفية الهلينية على وجه العموم لم يُكتب لها النجاح في الميدان اللاهوتى، واقتصر تأثيرها على مناهج الفكر الروحي سواء النسكي أو التصوفي، وهذا بدوره تصفّى قليلاً قليلاً على مدى الزمن وإن كانت آثاره لا تزال عالقة حتى اليوم في عديد من المبادىء والمصطلحات في جميع كنائس العالم.

ولكي نعرف القارىء في بساطة واختصار بمضمون مناهج الفكر الفلسفي والغنوسي الذي اصطبغـت بـه تعاليم الأوريجانية، نقول إن الأوريجانية وكل المناهج التي سلكت سلوكها في الروحيات هي تحول من الإيمان الواقعي الحي إلى الفلسفة الروحانية والإختباء وراء التأملات؛ كما يمكن وصفها بأنها تحول من حب نحو الله واقعي فعّال إلى حب فكري في الخيال؛ كذلك هي انتقال من شركة فعلية متألمة مع المسيح إلى تأمل هذه الشركة والتلذذ العقلي بها. 

والأوريجانية أيضاً تضع مناهج عقلية وخططاً نسكية للوصول بالإجتهاد إلى الله، وكأنما الله نقطة نثبتها نحن على الخريطة الروحانية ونبتدىء نتحرك نحوها بعقلنا ونسكنا حتى نبلغها.

وللرد على كل المناهج العقلية والفلسفية يكفي أن نقول إن المسيح لم يكن فيلسوفاً ولم يعتمد على العقل أو المنطق لا في محبته ولا في بذله لذاته وهو لا يُستعلن للعقل كموضوع أو نظرية أو فكرة نصل إليها باجتهادنا ، ولكنه يُستعلَن للقلب كقوة فعالة مجددة، وكحب كبير فاد وكحياة أبدية مبهجة، فهو القائل: «طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله » (مت 5: 8). على أن المسيح هو الذي يأتى إلينا عندما نحبه، و يستحيل أن نقترب إليه باجتهادنا.

ولقد أشرق على الكنيسة بظهور القديس كيرلس الإسكندري عصر جديد دخل فيه اللاهوت الإسكندري عموماً نار الممحص، فتطهر تماماً ونهائياً من النسكيات الأوريجانية والفلسفة العقلانية، سواء كان اللاهوت النظري المختص بالمبادىء الإيمانية ومصطلحاتها أو اللاهوت النسكي الإنجيلي.

فلاهوت القديس كيرلس لاهوت أرثوذكسي صاف إنجيلي حلو، يُشبع الروح و يلهبها ، والرؤية عند القديس كيرلس هي التحام صميمي بالله كمسرة إيمانية وبهجة خلاص ولیست تلذذات عقلية.

والمعرفة عند القديس كيرلس الكبير ليست هي وسيلة للوصول إلى الله ولكنها بالعكس نتيجة وثمرة وموهبة حلول الروح القدس فين . وهكذا قلب القديس كيرلس الكبير موازين الأوريجانية كلها.

ولعل من المؤثرات المباشرة والموجّهة للاهوت القديس كيرلس الكبير والقديس أثناسيوس من قبله حياة القديس أنطونيوس وتحقيقه لملء النعمة وكمالات الفضيلة وكافة المواهب الروحانية ليس بالتأمل النظري ولكن بالإيمان والحياة وبساطة القلب وتطبيق الإنجيل، حاصلاً على كل مؤهلات الشركة في الطبيعة الإلهية بالصلة المباشرة مع المسيح في دالة الحب والبذل والصلاة.

ومن روائع لاهوت القديس كيرلس الكبير أنه لا يضع الإتحاد بالله نتيجة الجهادات نسكية وتطهيرات وتأملات، فالإتحاد بالله قد تم وأكمل فينا بالتجسد، فنحن بالمسيح أبناء الله الحي «أبناء بالشركة »؛ واتحادنا بالطبيعة الإلهية هو تعبير مساو تماماً لبنوتنا لله وهذا نناله كعطية من الله بالإيمان بالمسيح وحلول الروح القدس الذي يشهد في الحال لأرواحنا أننا صرنا أبناء له. 

و يقول القديس كيرلس الكبير إن اشتراكنا في لاهوت المسيح معناه إتحادنا بالثالوث ، وهذا بالتالي يجعل الطبيعة الإلهية تتخللنا وتلهبنا كما تلهب النار قطعة الحديد فتجعلها نارية. وما علينا بعد إيماننا بالمسيح وشركتنا معه إلا أن نعطي الفرصة للجمال الإلهي الذي لطبيعة الثالوث ، غير المنطوق به، أن يشرق فينا و يتوهج و يضيء.

فالجهاد النسكي، عند القديس كيرلس، ليس سوى محاولة للتوافق مع الروح القدس الذي فينا ، وانسجام مع فكر المسيح الذي يملأنا .

والروح القدس الذي يعطيه الله لنا بمجرد أن يحل فينا يجعلنا مؤهلين أن نأخذ شبه المسيح وبالتالي نصير كصورة حقيقية للآب !

وعـنـدمـا نـأخـذ شبه المسيح بحلول الروح القدس فينا نصير «أبناء بالشركة»، وعندما نشترك في الطبيعة الإلهية كأبناء مع المسيح نصبح في اتحاد مع الله بواسطة الروح القدس. 

220ـ فإذا حدث أن فقدنا عِشرة الروح القدس – وهذا أمر غير محتمل على أقسى الظروف – فيستحيل أن نأمل أن يكون الله فينا.

والروح القدس ليس فقط هو ينبوع الحياة الروحانية في النفس بل وأيضاً هو علة المعرفة الروحانية وأساسها ، فهو الذي يجعلنا نستشعر النعمة في هذه الحياة.

وبذلك فإن المعرفة الكاملة لله أي الرؤية بأقصى معناها ليست هدفاً نهائياً لحياتنا نسعى إليه الآن أو في الدهر الآتى، بل هي جزء لا يتجزأ من حياة الشركة التي نعيشها في صميم الطبيعة الإلهية بالإيمان منذ أول لحظة بالروح القدس.

و يقول القديس كيرلس الكبير إن المسيح يضيء فينا بالمعرفة بواسطة الروح القدس، فندرك الله ، لأنه يصبح « لنا فكر المسيح» (1كو 2: 16) . وأما فكر المسيح فهو بعينه الروح القدس الحال فينا.

أما نمونا في الإدراك الكامل الله فهو مرتبط بحياتنا السرائرية : 

221- فالمعرفة الكاملة للمسيح تبدأ بالمعمودية إذ تحصل فيها على الإستنارة بالروح القدس.

222– وحتى الجسد – وفي هذه الحياة الحاضرة – فإنه ينال نصيباً ما في سر الإتحاد بالله وذلك في مضمون سر الإفخارستيا على وجه الخصوص كشركة جسد بجسد مع المسيح

ونلاحظ هنا أن المعرفة الكاملة، عند القديس كيرلس الكبير، التي هي بعينها الرؤيا بأجلى معانيها والإتحاد السري بالله الذي يسميه كيرلس الكبير مراراً وتكراراً بـ «التأله » ، ليسا ها هدفاً نسعى إليه بقدر ما هما حقيقة يحصل عليها الإنسان بالروح في السركهبة ونعمة. فالرؤيا لا تقف على قمة منهاج تأملي دقيق، بل هي استنارة تتم بحلول الروح القدس والإتحاد الذي هو نهاية كل نهاية ليس هو هدفاً بعيد المنال، بل هو مذخور في سر الشركة، سهل وواقعي كأكل اللقمة أو كشرب الكأس، وما على الإنسان بعد ذلك إلا أن يدرك ما فيه، ويقيم فيا أنعم به عليه ويُظهر بالفعل والعمل الرحمة التي جاءته مجاناً، ويرد دين المحبة التي انسكبت في قلبه بالروح القدس.

وفي لاهوت القديس كيرلس، لا تجد أية إشارة إلى منهج ديونيسيوس الأريو باغي الذي أخذ عنه الغالبية العظمى من اللاهوتيين في الشرق والغرب ومتصوفي الغرب بوجه مخصوص، هذا المنهج السلبي الذي يستغرق في وصف الطريق التجريدي لمعرفة الله في الظلام وفي اللاشيئية واللا إسمية واللاموجودية بالنسبة الله ؛ فالقديس كيرلس يرى الله في سطع نوره المعلن في وجه يسوع الذي جاء ليبدد كل معنى الظلمة و يضيء لكل إنسان آت إلى العالم، و يردد القديس كيرلس كلمتي «النور» و «الإستنارة» في كل تعاريفه ومدركاته عن الله.

والقديس كيرلس يتعرف على كمالات الله بالرؤية المشرقة في قلبه التي هي من عمل الروح القدس، حيث يعطي للإنسان أولاً فكر المسيح الذي به يرى الآب ويحبه و يتقرب إليه بكل جراءة وقدوم الإبن بإيمان المسيح نفسه ودالته.

ولا نجد القديس كيرلس يتطاول قط ليبحث عن الله بدون هداية الروح وقيادته المضيئة المنيرة لقلب الإنسان وفكره ، لذلك لم يتخبَّط لاهوت القديس كيرلس قط في الظلمة المحيطة بالله والحاجبة لمجد الألوهة عن العقل البشري غير المؤله بالمسيح والروح القدس.

ولم يحاول القديس كيرلس أن يغالب عجزه ويتجاوز جهله ليتأمل في الله بغير فكر المسيح، لذلك خلا لاهوته كليةً من اللامعرفة المظلمة واللافهم المغلق، لأنه كان يعيش في المسيح حقاً وفعلاً، فكان يرى الآب في ابنه يسوع المسيح رؤية سهلة مقنعة، جعلت لاهوت القديس كيرلس يكرس لنا طريقاً سهلاً حياً حديثاً لرؤية الله.

وفي لاهوت القديس كيرلس نجد أن الفارق الوحيد بين رؤية الله في الحاضر والرؤية الكاملة في الدهر الآتى هو أن المسيح في الحاضر يهبنا نوره ويهبنا فكره بالقدر الذي يتناسب مع خلاصنا وبالكيفية التي تؤهلنا للقيامة الأولى، أما في الدهر الآتى فإنه سيغدق علينا من نوره وفكره إلى أقصى ما يعوزنا للحياة مع الآب وما تستلزمه الرؤيا الكاملة للآب التي فيها سنرى الله كما هو».

و يعرف القديس كيرلس الكبير معنى رؤية الله وجهاً لوجه فيقول :

223– إننا سنرى الله كما هو، وهذا يعني أننا بوجه مكشوف وبفكر غير منحصر أو متعوق تحصل في ذهننا على انطباع حقيقي الجمال طبيعة الآب نفسه ، وذلك بتوسط تأملنا في مجد ابنه الوحيد الذي خرج منه إلينا. 

وهكذا يتضح من لاهوت القديس كيرلس العميق السهل أنه يستحيل علينا استحالة مطلقة أن نحصل على رؤية واضحة كاملة لله بدون توسط المسيح، حيث يعمل المسيح فينا بشخصه من خلال سر تجسده، ثم من خلال سرموته، وأخيراً من خلال سر قيامته وتمجده، لأن مجد الآب في عُرف القديس كيرلس الكبير لا يُرى إلا من خلال مجد المسيح ! لأن مجد المسيح هو هو استعلان وقوة مجد الآب : « كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة» (رو 6: 4 ) . كذلك فإن مجد الآب لا يُستعلن إلا باستعلان مجد المسيح «متى جاء بمجده ومجد الآب.» (لو 9: 26)

ويركز القديس كيرلس الكبير كثيراً على أن جوهر الرؤية هو استعلان مجد طبيعة الآب، وهو من حيث تأملنا وإحساسنا جمال فائق (جمال الطبيعة الإلهية)، والذي نشترك فيه هو هذا الجمال عينه بتوسط الروح القدس.

أما مجد المسيح فيشرق في العقل كمعرفة جديدة أو كرؤيا، ويسميها القديس كيرلس الكبير «البصيرة الإلهية » ، التي هي نفس التعبيرات التي استخدمها بولس الرسول : « كي يعطيكم إنه ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه …» (أف 1: 17 و 18)، وذلك عندما يلهب الروح القدس النفس و يؤله الطبيعة البشرية. فيرى الإنسان المسيح وجهاً لوجه بتوسط الروح القدس، حيث رؤية المسيح توصلنا إلى شركة سرية في الثالوث، والتي تُستعلَن بالإستنارة الكاملة في الدهر الآتى. 

ونلاحظ في لاهوت الإسكندرية عموماً والذي يمثله القديس كيرلس الكبير تركيزاً كبيراً على أن مجد المسيح ومجد الآب هما جوهر الإستعلان والرؤية. و يعبر القديس كيرلس الكبير عن الوصف الرؤيوي لمجد المسيح بتعبير مبدع في الإحساس اللاهوتى وهو «جمال الطبيعة الإلهية»، معتبراً أن هذا الجمال هو موضوع الشركة وفرح لا ينطق به كقول الإنجيل: لكي تفرحوا في استعلان مجده . » ( 1بط 4: 13).

أقوال الآباء في رؤية الله :

ماهية رؤية الله :

يحدثنا القديس أنطونيوس الكبير عن ماهية هذه الرؤيا وفعلها في النفس وثمارها موضحاً أقواله من اختبارات القديس بولس الرسول في تصريحه أنه رأى الرب كما رآه الرسل، ليس بنظرة العين البسيطة التي لا ترى في المسيح إلا إنساناً ضعيفاً ولكن بنظرة العقل المكشوفة التي رأته إلها ممجداً : 

224- لأنه ( بولس الرسول ) انعتق أولاً من الشر، وثانياً لم يتعبد لشيء من الشهوات لكونه صار ناسكاً، وفي الآخر تحرر برؤية السيد المسيح. فعندما نظره للوقت تبع أقواله بلا تأخير وصار في غاية الكمال والإتضاع، وهكذا كل الذين يتمسكون بأقوال الرب فإنهم يعرفون الحق، والحق يصيرهم أحراراً ويعتق نفوسهم من عبودية الشر كما صار بولس الرسول ، لأن مخلصنا حرره بإظهار ذاته له ، لذلك قال : «ألستُ أنا حراً ، أما رأيتُ يسوع المسيح ربنا ؟» (1کو 5: 1)

كثيرون يقولون بجهالتهم إنهم رأوا الرب يسوع مثل الرسل، وهؤلاء يا أولادي مخدوعون وضالون وليس لهم عيون ينظرون بها كما نظر الرسول الرب، لأن الرسول نظر الرب كما كان ينظره الرسل الذين كانوا معه، وكما نظره الذين آمنوا به كنازفة الدم التي رأته بعيني قلبها وآمنت أنه إله ولمست طرف ثوبه بایمان فبرئت… ولكن بيلاطس وحنان وقيافا رأوا الرب كمثل سائر الجموع الذين كانوا ينظرونه بعيني الجسد فقط ، لأنهم لم ينظروه بأمانة مثل نظرة الرسول، ولذلك لم يستفيدوا شيئاً بنظرهم إياه … أما الرسول فنظره نظرة أخرى بعين قلبه بإيمان قوي كمثل ما نظرته النازفة أيضاً. هكذا ظهر ربنا يسوع المسيح لرسوله بولس بعد غلبته للأوجاع وصيَّره حراً … هكذا كل من انعتق من الأوجاع فإنه ينظر الرب بعيني قلبه و يتحرر، ولكن لا يستطيع أن ينظر بعيني جسده ذلك النور البهي الذي نظره بولس الرسول. لأن ربنا يظهر لأولاده الذين ليسوا هم عبيداً للأوجاع. ومكتوب عن إشعياء النبي أن الرب ما عاد يظهر له لكونه لم يبكت الملك عُزّ يا ومنع من النبوة، وبعد وفاة عُزّ يا ظهر له ملاك الرب وظهره بجمرة النار التي من على المذبح. 

فاعلموا إذن يا أحبائي أن الإنسان إذا ماتت منه الخطية فإن الله يظهر للنفس و يطهرها مع الجسد أيضاً … فإن كانت الخطية حية في الجسد فلا يمكن للإنسان أن ينظر الله . لأن النفس تكون مظلمة ولا يظهر لها النور الذي هو نظر الله . وداود يقول : « بنورك يا رب نعاين النور وما هو هذا النور الذي نعاين به الله ؟ هو النور الذي ذكره ربنا يسوع المسيح أن يكون الإنسان كله نيراً وليس فيه جزء مظلم . ومكتوب أيضاً أنه ليس أحد يعرف الآب إلا الإبن ولمن يريد الإبن أن يكشف له». فالإبن يا أولادي لا يُظهر أباه لبني الظلمة بل للثابتين في النور الذين هم أبناء النور وقد استضاءت عيون قلوبهم بمعرفة الوصايا … فموسى لما تحرر من عبودية فرعون، استحق أن ينظر النار المشتعلة في العوسجة وهي لا تحترق وقال إنها رؤية عظيمة، وكانت له بداية ثم نظر السر الأوسط وبعده كان الكمال ….

واعلموا يا أولادي أن رؤية الله تكون لغير الكاملين مثل الناظرين في مرآة، وأما الذين قد وصلوا إلى الكمال فإن عيون قلوبهم تنكشف ويظهر لهم نور عظيم براحة وليس بتعب . لأن عيون الكاملين تكون قد تنقت من الخطيئة وآثارها. الذي يقول عنه بولس الرسول أننا بوجوه مسفرة ننظر إلى مجد الله كمن ينظر في المرآة وذواتنا تتبدل من مجد إلى مجد… ومن فضيلة إلى فضيلة أكمل ، فهذا الإنتقال والتقدم هو الذي يقربنا إلى الرب فنأخذ نظر المعرفة القوية، لأن الله يقول بلسان النبي إن الذين يقتربون إلي يعرفون قوتى، فالعقل الذي لم يقترب بعد من الله فإن الشيطان ينمو فيه مثل شجرة لبنان، فإذا اقترب العقل من الله واتحد به وصار معه واحداً فإن المنافق لا يعود يظهر فيه، بعد أن كان مرتفعاً ومتطاولاً مثل أرز لبنان كما يقول :داود: رأيت المنافق قد زاد علواً وارتفع متطاولاً مثل أرز لبنان ثم عبرت فإذا هو كأنه لم يكن ، طلبته فلم أجد مكانه . وداود لم يطلب المنافق إلا لأنه يبحث عن معرفة التي إذا عبرنا إليها لا نجد للمنافق فيها موضعاً بالجملة، لأنه بقوله «عبرتُ» أي «جزتُ وتقدَّمتُ » كقوله أيضاً في المزمور 42: «إني جزتُ من الخيمة العجيبة إلى بيت الله » ، فهذا هو العبور الذي يُظهر لنا نمو النفس إلى الكمال بعد أن كانت بعيدة عن الله قبلا …. الله

فاجتهدوا إذن يا أولادي لتصلوا إلى نظر الله الذي بالتاور يا الروحانية بنعمة ربنا يسوع المسيح الممجد من جميع الناطقين مع أبيه والروح القدس من الآن وإلى أبد الآبدين آمين.

أبا أنطونيوس الكبير

في هذا العرض الإختباري الذي لقديسنا العظيم أنبا أنطونيوس نرى أسس اختبار

النظرة الروحانية ورؤية الله مرتبة بوضوح :
فأولاً : للتقدم لرؤية الله ينبغي التخلص من جميع الشهوات والخطايا وآثارها.
ثانياً : يجب أن يمارس الإنسان أنواع الفضائل التي توصلنا إلى درجة النسك.
ثالثاً: الإشتياق نحو الله ومحبة الحق.
رابعاً : بنظرة الحق الذي هو الله نصير أحراراً من عبودية الخطية وننتقل إلى درجة أولاد الله الذين لا يخطئون.

كذلك شرح القديس أنطونيوس معنى رؤية الله، وفرّق بين النظرة الجسدية والرؤية الروحية التي بعين العقل المطلق بالإيمان . ووضح كيف تُرفع هذه الهبة، أي هبة رؤية الله إذا عاد الإنسان إلى عصيان أوامره كما كان الحال مع إشعياء النبي وكيف استلزم الأمر أن يطهره الله بجمرة النار التي من على مذبح الله لكي تعود إليه هذه الموهبة مرة أخرى ؛ كذلك فرَّق القديس أنطونيوس بين النظرة غير الواضحة التي لغير الكاملين والنظرة المكشوفة التي للكاملين.

وعلق القديس أنطونيوس أهمية قصوى على اختبار اقتراب العقل من الله والوصول إلى نظرته ، وأبان كيف يصير العقل مسكناً للشيطان بابتعاده عن معرفة الله والتأمل فيه.

وبذلك يكون القديس أنطونيوس أول من رسم الطريق للتأمل في الحق ورؤية الله وفتح ذلك الباب العجيب أمام القديسين الذين جاءوا من بعده سواء في الشرق أو الغرب.

التعطش نحو المطلق :

225ـ الله جوهر بسيط غير متغير والنور والبهاء هما من طبيعته . وسوف تعلن حكمة الله ذاتها لمختاريه يوماً واضحة كل الوضوح. غير أن الله وعد أنه سيكون لنا نصيب في رؤيته ونحن هنا على الأرض قبل أن ننتقل إليه ، بقوله : « الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتى …» (يو 14: 21)

وصرح أيضاً أنه: «طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله ….» ، وقال بولس الرسول : إننا ننظره الآن كما في مرآة ولكن حينئذ يكون وجهاً لوجه … الآن أعرف جزئياً ولكن فيا بعد سأعرفه كما أعرف ذاتي الآن .

أما قول بطرس الرسول : « الذي تشتهي الملائكة أن تطلع عليه»، فهذا ليس لأن الملائكة لا تراه قط إذ أنه صرح قائلاً: «إن ملائكتهم ينظرون وجه أبي في السماء كل حين» ، فهل في قول الروح تعارض ؟ حاشا ، ولكن إذا قارنا كلتا الجملتين معاً فإنه يتحقق لنا أنه ليس بينها أدنى اختلاف . لأن الملائكة ينظرون وفي نفس الوقت يشتاقون أن ينظروا ! فهم في تعطشهم نحوه يتطلعون إليه … لأنه لو قدر لهم أن لا يسعدوا قط بنظره على الرغم من اشتياقهم ورغبتهم في النظر إليه، لأصابهم القلق من عدم الحصول على ثمرة اشتياقهم الملح، والقلق يستوجب اللوم والعقاب، فكيف يتأتى أن تُعاقب الملائكة وهم أبعد ما يكونون عن المخالفة والعقاب؟ أو كيف يتلاقى العقاب والبركة معاً !! إذن فهم بمنأى عن العقاب وبمنأى عن القلق أيضاً … ولكي نوفق بين القولين في معنى واحد منسجم نقول إنهم دائماً يرون ودائماً يشتاقون، فلا يكون إذن قلق في اشتياقهم، إذ هم يحققون ما يشتاقون إليه . ولكي لا يكون في دوام تحقيقهم لما يشتاقون إليه قعود أو مضايقة، فهم على الدوام يشتاقون وعلى الدوام ينظرون. ينظرون وجه أبي كل حين !

وهم يشتاقون بلا عناء لأن اشتياقهم محقق لهم، ولا يصيبهم ملل في تحقيقهم لإشتياقهم، لأن رؤيتهم الله تشتعل فيهم بالإشتياق على الدوام.

هكذا نصير نحن أيضاً يوماً من الأيام حينما نأتى إلى ينبوع الحياة، و ينطبع على محيَّانا بهجة دوام الإشتياق وبهجة دوام الرؤيا معاً !!! حينئذ يتحرر اشتياقنا من العجز والقصور، وتتحرر رؤيتنا لله كذلك من الملل والفتور، لأننا إذ نكون مشتاقين لرؤية الله، نراه وعندما نراه نزداد اشتياقاً إليه . هكذا نرى الله و يكون لنا ذلك إكليل جهادنا، إذ يصير بعد حلكة الظلمة التي تكاثفت على عالمنا الميت سعادة القُربى من نوره العجيب.

غريغور يوس الكبير

البحث عن المطلق :

226 – دخلت في أعماقي ورأيت بعيني نفسي ما هو أعلى من ذاتى وأعلى من نفسي، رأيت ذلك النور الدائم الذي لن يعتريه تغيير قط، ليس هو من هذا النور الذي يراه كل ذي جسد، ولا هو من نوع أرق كأن يكون أشد ضياء أو أعظم نفاذاً أو أرقى رواءً، ولا هو أعلى مني كعلو السماء عن الأرض … ولكن هو أعلى مني لأنه صنعني ، وأنا دونه لأني مخلوق به … إن من يعرف الحق يعرفه، ومن يعرفه يعرف الأبدية … إن الحب يعرفه … إيه أيها الحق الأبدي والأبدية المحبوبة والحب الحقيقي ! أنت هو الله ومن أجلك أنا أتنهد نهاراً وليلاً ….

227- إني أبحث عن الله لا لكي أؤمن به فقط ، ولكن لكي أرى شيئاً منه !

228- حينما يتحقق العقل من الأمور المنظورة يدرك أنه أرفع شأناً منها ، وحينما يتحقق من تغير ذاته ومن ضعفاته الكثيرة ويسلم بذلك ، و يتطلع إلى الحكمة ، يرى أنه يوجد ما هو أعلى منه وأرفع شأناً ، ألا وهو الحق الثابت الدائم الذي لا يتغير قط ….

فالإنسان يسمع قولاً، سواء من إنسان آخر أو من ملاك . فلكي يشعر و يتأكد أنه حق يعود بعقله إلى داخل نفسه ( بدون أن يناقش الأمر أو يحكم عليه بالمقارنة يستوحي الحقيقة من هناك … فالحق الثابت الذي لن يتغير قط يشع داخل النفس كالشمس فيصيرها شريكة ذلك الحق …. أما هذا الحق الثابت فهو يحيط بكل ما هو غير متغير كذلك ، وإدراكه ليس هو وقفاً على أحد ولكنه ملك لكل أحد فهو أمر مفتوح لكل من يسعى ليدرك الحق ….

والجميل أن كل حقائق الأمور جميعاً تُدرك من خلال ذلك الحق الثابت فهو عامل الحق المشترك ! وللتدليل على ذلك: إذا رأيت أنت في كلامي أنه حق ، وإذا رأيتُ أنا في كلامك أنه حق ، فمن أين لك ومن أين في معرفة هذا الحق ؟ لا أنا دخلت في نفسك ولا أنت دخلت في نفسي، ولكننا نحن دخلنا في الشيء الواحد وهو الحق غير المتغير الذي هو أعلى وأعمق من نفسي ومن نفسك !

إذن، فالوصول الى معرفة الحق سبيله العقل على أن يكون في نور الحق الإلهي الثابت.

229- اشتاق موسى أن يرى الله في ذات جوهره ليس بشبه مخلوق ما أياً كان إنما بصورته هو بالذات على القدر الذي يستطيعه الإنسان، بعيداً عن الحواس الجسدية وبعيداً أيضاً عن كل لغز أو رمز روحي ( أي تكون الرؤيا خالية من تدخل الإدراك الحسي والإدراك التصوري) … في تلك المرتبة العليا حيث الله هناك يتحدث بسر بلا واسطة ما وإنما بما يفوق الكلمات المنطوقة.

هذه كانت رغبة موسى أن يرى الله في طبيعته كما يراه القديسون هناك … فهو لم يقنع أن يحدثه الله فما لهم تحت صورة ما وإنما أراد أن يراه كما هو…

أوغسطينوس

230- كل من تذوّق ذلك السرور المفرط الذي يكون في التأمل حينما يُرفع بالنعمة ليشارك زمرة الملائكة بعقله المطلق، وهو محصور في النظرة العليا، بعيداً عن كل أمور العالم تجده دائماً غير قانع بمشاركة الملائكة إنما يتوق لو يستطيع أن يتفرس في الذي هو فوق الملائكة، إذ أن سر الإنتعاش الحقيقي لعقولنا يكون في رؤية الله . فمن مشاركة الملائكة المرنمين ترتفع بعيون عقولنا لنتأمل مجد جلاله الأسنى … وإلى أن يراه العقل يبقى جائعاً هوفاً حتى إذا ما رآه قنع وشيع …

غريغور يوس الكبير

في عرض هذه القطع المختارة نرى لهفة نحو معرفة الله معرفة عقلية مطلقة، واشتياقاً لرؤية الله على حقيقته المطلقة بلا واسطة حواس أو فكر أو تصور نرى هذه اللهفة وهذا الإشتياق في معرض حديث القديس أوغسطينوس عن نفسه مدللاً على صحة هذا الإتجاه بما يشابهه عند موسى. إذن، فهي حقيقة ثابتة عند بني البشر. فاشتهاء رؤيا الله أمر يختلج في نفوس الناس جميعاً وشعور يداعب قلوبنا بين الحين والحين . غير أن الجرأة في الإعلان عن ذلك أو التقدم للسؤال والطلبة من أجل هذا الأمر يختلف باختلاف الدالة التي تربط الإنسان بالله ، والتي تتوقف على حياة القداسة التي يحياها الإنسان أمام الله . وليس عجب في هذا الإشتياق من نحو رؤية الله كما هو . فالإنسان يحمل روح الله في داخله : «… روح الله يسكن فيكم» (1كو 3: 16) ، «به نحيا ونتحرك ونوجد » (أع 17: 28) ، وهو لن يستريح قط طالما هو بعيد عن الله . ولن يستقر إلا إذا شعرت النفس بقربها من خالقها، و يقول في ذلك الأب سيرافيم (من صروف ) : 

231– إذا كنت لا تعرف الله يستحيل عليك أن تحبه ، ولن يمكنك أن تحبه إلا إذا رأيته ، ولكن لا تستطيع أن تراه إلا إذا عرفته!

وهنا نرى تدرجاً لطيفاً نحو الرؤيا، فنحن نبدأ علاقتنا بالمعرفة ثم تتطور هذه المعرفة إلى حب و يتطلع الحب نحو الرؤ يا ليثبت و يتقوى !

و يقول أيضاً القديس إيرينيئوس :

232- الرجل الحي هو مجد الله ، أما حياة الرجل فهي رؤية الله .

أنواع الرؤيا :

كما رأينا ، فإنه يوجد عند الجميع اشتياق عام لرؤية الله ، غير أن هذا الإشتياق يُفصح عنه بدرجات متفاوتة من الإهتمام والسعي ، كذلك نجد هذا التفاوت واضحاً حتى عند بلوغ الرؤيا، فنجد في اختبارات القديسين أنهم لما بلغوا الرؤيا بلغوها على درجات متفاوتة من الوضوح :

أولاً : الرؤيا الواضحة :

من الذين يتحدثون عن احتمال اختبار رؤية الله بوضوح، القديس أوغسطينوس :

233ـ توجد حياة أخرى ليس فيها موت وليس فيها مرض هناك سوف نرى وجهاً لوجه ما نراه هنا في مرآة في لغز؛ ولكن يمكن أيضاً أن نصل إلى ذلك هنا إذا تقدمنا كثيراً في تأمل الحق.

234- إن الخالق والمدير لجميع المخلوقات يضبطها وهيؤها إلى أن يشرق جمال العالم العتيد کانبعاث لحن شجي لموسيقي بارع ، وحينئذ يؤهل الذين يعبدون الله بالحق إلى تأمل جوهر الحقيقة إلى الأبد… هذا التأمل في جوهر الحقيقة (بالعيان) يمكن أن يكون أيضاً في زمان الإيمان ( أثناء وحتى الحياة على الأرض).

235ـ حينما ندرك هذا ( رؤية الحق كعلة لكل الخليقة) فحينئذ تتحقق من بطلان كل ما هو تحت الشمس، وندرك بعد الأشياء الزائلة في العالم عن الأشياء الثابتة الحقيقية التي في العالم الآخر، وحينئذ نعرف حقائق الإيمان التي نتمتع بها وجمال وظهر ما تمدُّنا به أمنا الكنيسة، ونرى في طبيعة أجسادنا حقيقة البعث والقيامة العتيدة وسر التجسد الإلهي والميلاد من عذراء، والموت لا يعود يخيفنا بل نشتهيه كما نشتهي نصراً أو مكسباً حتى تتحرر النفس وتلتصق بالحق بكاملها.

أوغسطينوس

كذلك يشترك القديس يوحنا سابا في تقرير إمكانية الرؤيا الواضحة إلى حد ما :

236- ناظرين مجد الله ممتلئين يقيناً واتكالاً بلا فحص لأنهم لطبيعة الله المحجوبة عن الكل ينظرون وفيها يتأملون بحركة وديعة لذيذة ممتزجة بفرح .

الشيخ الروحاني

237ـ كما أن انبساط نظر العين أوسع وأعرض من العين ذاتها كذلك نظر النفس التي اتحدت بالله ، فإنها تنبسط بنظرتها فيه بلا مانع ولا عائق!

الشيخ الروحاني

238- الذين يلتهبون لرؤية الله يشتاقون أن يروه ليس تحت هيئة ما وإنما بذات الجوهر الذي هو به کانن ـ هذه كانت رغبة موسى أن يرى الله في ذات طبيعته كما سيراه القديسون في السماء . فهو لم يكتف بأن يتحدث إليه فهماً لفم و وجهاً لوجه تحت هيئة ما ولكنه سأل أرني ذاتك مكشوفاً حتى أتمكن من رؤياك.

239- إن التأمل في الله وجهاً لوجه قد وُعِد به لنا ليكون نهاية سعينا ومنتهى مسراتنا.

240- هناك يُرى الرب ليس بالبصر الجسدي، أو بالتصور الروحي، ولكن بالمنظر المعقول على قدر ما يقوى عليه العقل البشري بنعمة الله، حتى أن من أهل هذا الحديث يتكلم فما لفم، ولكن ليس بالفم الجسدي، وإنما بالعقل.

أوغسطينوس

241 ـ «إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له في الحلم أكلمه. أما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي فما إلى فم وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز، وشبه (منظر الرب يعاين . » (عد 12: 6-8)

في هذه القطع نرى بوضوح إمكانية الرؤيا واضحة أثناء هذه الحياة؛ إلا أنه يعترضنا سؤال مهم، وهو قول الرب لموسى: «لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني، و يعيش.» (خر 33: 20).

ولكن للقديس أوغسطينوس رأياً قاطعاً بخصوص هذا المعنى :

242 – ربما يُسأل كيف أن ذات جوهر الله يمكن أن يُرى لإنسان لازال في هذه الحياة. هذا لا يتأتى إلا إذا اختطف العقل البشري من هذه الحياة إلى الحياة الملائكية، قبل أن يجوز الموت الطبيعي بانفصال النفس عن الجسد نهائياً.

هكذا اختطف بولس الرسول وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يصح لإنسان أن يتكلم بها ، إذ كان قد فارق حواسه الجسدية لدرجة أنه لم يستطع أن يقرر هل كان في الجسد أم خارج الجسد حينما رأى وسمع هذا. فقد كان في حالة ذهول شديد، وعقله متغرب تماماً عن هذا العالم وما فيه. وكان الجسد قد انفصل انفصالاً كاملاً كما هو في حالة الموت حتى أنه طابق قول الرب أنه ليس حياً في ذاته الإنسان لا يراني و يعيش»، لأنه يتحتم على العقل أن يفارق الجسد والحياة تماماً ويُحمل ليستطلع منظر الرب كما هو. ثم بعد ذلك لا يستطيع أن يعبر عما رآه. ولا يصعب تصديق ذلك أن هذا الإستعلان الفائق منح لبعض القديسين ، ولكنهم اجتازوه دون أن يموتوا بالمعنى الكامل الذي تصبح فيه أجسادهم جثثاً هامدة.

أوغسطينوس

وله أيضاً قطعة في ذات المعنى :

243 ـ إن الإستعلان الذي يتراءى فيه الله، يكون الحديث فيه ليس بألفاظ وإنما بسر يُدرك في الحال بلا تعبير ،ما ، فهو حديث غير منطوق. ويتحتم على الذي يستطلع منظر الله أن لا يكون حياً بالجسد، أو في يقظة حواسه أو شعوره، وهذا إما أن يكون بالموت الطبيعي ، وإما أن يكون بمفارقة النفس والعقل للجسد في حالة الذهول. حتى أنه لا يدرك وهو في هذه الحالة شيئاً عن جسده، فهو لا يعرف إن كان في الجسد أو خارج الجسد.

يتحتم على الإنسان أن يصل إلى هذه الحالة حتى يستطيع أن يرى بهاء الله ليس بتوسط حواس الجسد أو بقوة التخيل كأن يكون بلغز أو بصورة كما في مرآة، وإنما يكون وجهاً لوجه وفهماً لفم كما كان مع موسى، أي أنه بالعيان يرى الله كما هو. غير أن ما يستطيع العقل أن يدركه عن الله يكون قليلاً جداً مهما كانت درجة نقاوة العقل وخلوه من الشرور وابتعاده عن الحواس الجسدية. أما السماء الثالثة | التي اختطف إليها بولس الرسول فلا يستطيع العقل أن يرى شيئاً فيها إلا إذا انفصل وابتعد وتغرب تماماً عن الحواس الجسدية، وتنقى من كل تأثير صادر من الجسد أو الخيال حتى يمكنه أن يسمع ويرى بوضوح الأشياء التي هناك ، وذات جوهر الله ، والله الكلمة، والروح القدس.

أوغسطينوس

هكذا يوضح القديس أوغسطينوس نظرية الرؤيا الواضحة، ويكشف عن معنى عدم إمكانية رؤية الله طالما كان الإنسان حياً بحواسه. وبذلك يستقيم المعنى تماماً، لأن موسى رأى الله بالفعل والرب أعلن ذلك : «عياناً أتكلم معه لا بالألغاز ومنظر الرب يعاين» . وطبعاً ذلك كان بتوسط حالة الذهول التي يفقد الإنسان فيها كل صلته بالجسد والعالم و يرتفع بالعقل طاهراً خالياً من كل تأثيرات الحواس والمناظر ليطلع على حقيقة الله المطلقة. و يؤمن أوغسطينوس أن موسى رأى الرب في حقيقة جوهره و يرى أن هذا الإختبار ليس هو وقفاً على أحد، إنما هو مستطاع لكل من يسعى بالحق لرؤية الحق.

ثانياً : الرؤيا غير الواضحة :

الذين اختبروا هذا النوع من الرؤيا وعلموا بعدم إمكانية الرؤيا الواضحة طالما كان الإنسان موجوداً في هذه الحياة، هم غالبية الآباء وفي مقدمتهم غريغوريوس الكبير ومار إسحق و يوحنا سابا وديونيسيوس الأريوباغي:

244 ـ علينا أن نعرف أنه طالما نحن نحيا في هذا الجسد القابل للموت ، لا يستطيع أحد أن يتقدم في قوة التأمل بالدرجة التي فيها يملأ عينيه ويتفرس ملياً في ذلك النور غير المفحوص. لأن الله القادر على كل شيء لم يُر بعد بهذا الوضوح، إنما كل ما تستطيعه النفس هو أن ترى ما يحيط به، فتنتعش وتنمو لتدرك مجد منظره، وحتى حينما يتقدم العقل في التأمل لا يستطيع أن يتأمل الله كما هو. غير أن مثل هذا التأمل يقود إلى اختبار تذوق الهدوء الداخلي جزئياً – على حد القول – وليس كاملاً ، كما هو مكتوب في سفر الرؤيا “وكان هدوء في السماء نحو نصف ساعة” لأن السماء هي النفس البارة. ويتذوق التأمل العقلي يصير فيها هدوء إذ تكون الضوضاء والإنشغالات الأرضية قد تلاشت، وتحرر الفكر من الإرتباك بها، ولكن بسبب ا هدوء العقل لا يمكن أن يكون كاملاً في هذه الحياة لم يقل إنه صار هدوء في السماء ساعة كاملة، ولكن قال نحو نصف ساعة ! لأنه عندما يرتفع العقل و يلج إلى الهدوء الداخلي لا يستقر هناك كثيراً بسبب الأفكار التي لا تزال تلح عليه بشعبها فيختل هدوء العقل من ذاته، و بوقوعه في هذا الإرتباك تغشاه الظلمة مرة أخرى فيعمي.

245- إن عقول الذين يمارسون التأمل لا تدرك من النور الحقيقي إلا بصيصاً خافتاً، ولكن إذا ما استطاعوا أن يضبطوه – وهذا نادر – فإنه ينمو داخلهم بتضاعف عظيم … والقدر الذي يراه هؤلاء المتأملون من الأبدية قليل، ولكن من ذلك القليل تمتد ثنايا عقولهم إلى اتساع في الحرارة والحب. و بازدياد هذه الحرارة وهذا الحب ينسكب النور فيهم أكثر ولكن كما من ثنايا ضيقة في غرفة مظلمة. هذا الإتساع في التأمل إنما يوهب فقط للذين يحبون.

246- إن موضوع التأمل الناضج هو الحكمة الإلهية حينما يدركها العقل المطلق وتلمس لمساً رقيقاً … فعندما ا يتقدم بنا التأمل لنرتقي إلى حكمة الله – أو بالحري ترتقي هي بنا إلى ذاتها ـــ حينئذ يكون عظم اتساعها اللانهائي سبباً لاقتناعنا بعجزنا وامتناع كمال المعرفة على العقل البشري ! إنما فقط بالحب نتلامس مع هذه الحكمة تلامساً، ولكن لا تجوز خلالها بأي حال من الأحوال.

247 – “منظر شبه مجد الله . ولما رأيته خررت على وجهي.” ( حز 1: 28)
لم يقل حزقيال إنه منظر المجد ولكن “شبه مجد” ، حتى يظهر أنه مهما جاهد العقل ومهما ضبط نفسه من كل تخيل المناظر والصور الجسدية وأخلى قلبه من الإهتمامات الزائلة ، يبقى على الرغم من ذلك غير قادر على رؤية مجد الله كما هو، طالما يسكن في هذا الجسد القابل للفساد … فكل ما يصادفه العقل من إشراق إنما يكون بالشبه فقط وليس بذات الجوهر.

248- لا يستطيع العقل طالما نحن في منفى هذه الحياة أن يغشى نور الأبدية مهما جاهد في سبيل ذلك . فكلما نحاول أن نحدق ملياً في ذلك النور العجيب تُغلب من ضعفنا ، فنرتد عنه ، وقد غشيت أبصارنا العقلية سحابة الظلمة … لأن الجسد الذي يثقل كاهلنا الروحي يحرمنا بضعفه من أن نرى نور الأبدية كما هو حقاً إن العقل يتقد فينا أحياناً فيختطف ليكون مع الله ، وحينئذ يكون كل فكر وحس بشري خاضعاً له، ولكن على الرغم من هذا كله فهو لا يرى الله كما هو.

249ـ طالما نحن محاطون بأنواع الفساد الذي تبعثه أجسادنا، فقوة ضياء اللاهوت ستظل مختفية عنا في حقيقة ذاتها وحقيقة ثبوتها الدائم غير المتغير. ولن تستطيع عيوننا العقلية أن تحتمل ذلك الإشراق الهابط من النور الأبدي الذي يضيء فوقها ببريق يفوق احتمالنا.

250- إن اللاهوت لا يعلن حقيقة ذاته للذين يمارسون التأمل فيه طالما هم في هذه الدنيا، وإنما يكشف عما يحيط به من إشراق بقدر بسيط ، حتى تحتمله عيون عقولنا التي أعمتها الظلمة، فلم تعد تطيق التحديق في نور اللاهوت.

251- مهما أحرزنا من نمو وتقدم ونحن في الجسد فلن نرى الله بواقع منظره الحقيقي، ولكن نراه كما في لغز كما من خلال صحيفة من زجاج البلور، فكم من القديسين ارتفعوا إلى أعلى درجات التأمل ولكن لم يره أحد قط كما هو. يتبارون مجاهدين بصبر وعزم موجهين كل التفاتهم نحوه ولكنهم لا يرونه عن كثب، ولا يتمكنون أن ينفذوا إلى عظم بهائه لأن ضباب فسادنا يحجبنا عن ذلك النور غير الفاسد. فإذا ما وهب لنا أن نتطلع إليه فيكون ذلك بمقدار و يتراءى لنا كأنه آت من بعد سحيق !! فلو كانت رؤيتنا له مُحكمة واضحة، لما اعترضتنا هذه السحابة الكثيفة التي تحجز حقيقته عنا.

252- مهما كان التقدم في الفضيلة فإن العقل لا يستطيع أن يستجلي منظراً واضحاً للأبدية . وغاية ما يصل إليه هو أن يراها كما من خلال ضباب معتم بشيء من التخيل، لذلك يدعونها رؤيا الليل. ففي أثناء التأمل يعترض الشعاع المنبثق من الشمس الداخلية سحابة الفساد الجسدي، التي تغشى حياتنا فتحجب النور وتمنعه من أن يصل إلينا كما هو، فلا يتراءى الله لعيوننا العقلية إلا كما في منظر ليلي.

253ـ حينما يحلق العقل عالياً في التأمل فهو لن يبصر الله مهما كان له من قوة على الرؤيا ! إذن، هل هناك نوع من الحقيقة في معرفتنا الله ( على وجه العموم) طالما نحن تحت سلطان الحواس ؟ أقول نحن لا ندرك شيئاً على حقيقته المطلقة فيما يختص بالله.

254 – أي إنسان يدرك شيئاً من الكائن الأبدي – ( الله ) – بالتأمل فإنه يرى نفس الشيء في صورة ابنه المساوي له في الجوهر والأبدية … فحينما ندرك شيئاً عن أبديته بالقدر الذي تسمح به طبيعتنا فمنظره الذي يستعلن لعقلنا هو بالذات ما نراه في منظر ابنه ! إذن، فمن صورة الإبن الذي ولد وهو بلا بداية نحن نجتهد أن نستطلع بشكل ما ولو وميضاً منه ، هذا الذي لا بداية له ولا نهاية.

255 – ولكن أكيد أننا نحن لا نرى الله كما يرى هو ذاته ! كما أننا لا نستريح فيه بالقدر الذي يستريحه هو في ذاته …. لأن رؤيتنا له أو راحتنا فيه تشابهه إلى درجة ما ولكن لا تعادله في حقيقته… ولكن لا نخور لأننا أعطينا جناحاً للتأمل يرفعنا لتحمل خارج ذواتنا لنتحد به … هذا الخروج ليس للراحة الدائمة وإنما مجرد الخروج فيه كمال الإستراحة ولماذا قلنا كمال الإستراحة ؟ لأن نظرتنا لله وتمييزنا له بالقدر الذي نستطيعه كفيل ليرفعنا إلى كمال الإستراحة ولكن لا يجب أن نساوي راحتنا فيه باستراحته هو في ذاته إذ هو لا يحتاج مثلنا أن يخرج من ذاته و يتحد بآخر ليستريح فيه !

وهكذا فإن راحتنا فيه تشابهه بعض الشيء ولا تدانيه في كل شيء، وإنما نحن نقتفي أثره لنرتاح فيه، فنتقدس بهذه الإستراحة . ولكي نسعد وندوم إلى الأبد نقتدي بذلك الدائم الأبدي. لأنها أبدية وخلود. عظيم حقاً أن نكون مقتدين بذلك الأبدي، ووارثين لمن نقتدي به ، فنحن برؤيته نشترك فيه ، وفي الشركة نقتدي به.

نبتدىء أولاً بالإيمان فنراه، وبعد ذلك تكمل الرؤيا هناك حينما نشرب من تفجر جداول حكمته في الأبدية . معه . هذه الحكمة نستخرجها الآن من شفاه الوعاظ والعارفين بمشقة كثيرة .

 256ـ حينما تدرك النفس قياس ذاتها وتتحقق من سموها فوق الأمور الجسدية وفوق المنظورات جميعاً، حينئذ تتقدم لمعرفة خالقها … وإذا كانت النفس مهما جاهدت لا تبلغ قط إلى سبر غور ذاتها كاملاً، فكم وكم يكون عجزها وقصورها عن إدراك عظمة القدير الذي استطاع أن يخلق هذه النفس … ولكن حينما نجاهد ونثابر بعزم راغبين في أن نستطلع شيئاً من هذه الطبيعة الخفية تجهد وتقهر، ولكن على أي حال ولو أننا لا نستطيع الدخول من الباب، إلا أننا بالمجهود الذي بذلناه للرؤية نستطلع من بعيد ما هو بداخله.

غريغور يوس الكبير

257 ـ من أجل أن مجد طبيعته هو الذي يتراءى لمحبيه ، وليس جوهر طبيعته ، لذلك قيل إن الله لم يره إنسان قط .

الشيخ الروحاني

258 ـ يكون لهم اتحاد مع أزليتك مثل الأعضاء مع رأسها ، ولكن نعمة هذا الإتحاد هي مع مجدك وليست مع طبيعة أزليتك، إنما هو إتحاد بمجدك وليس بجوهرك لتنعيمهم، لأنهم يكونون مشتاقين ليتغيروا إلى شبه مجدك.

الشيخ الروحاني

259- الغمام الإلهي هو النور غير المقترب إليه، الذي يُقال إن الله ساكن فيه، وفيه يدخل كل من وُجد مستحقاً أن يرى ويعرف الله، ليس برؤية ومعرفة الشيء للشيء، ولكن بالوجود فيه، هذا الذي هو فوق كل معرفة.

ديوناسيوس الأريوباغي

260ـــ نحـن نـصـلي لـيـكـون لنا حظ الوجود في ذلك الغمام الإلهي الذي هو دون طبيعة جوهر النور.

ديوناسيوس الأريوباغي

261- والكل يستنير من الشمس الواحدة المعقولة ، كل واحد حسب ما يستحقه على قدر تدبيره . ولا ينظر أحد منزلة من هو أعلى منه أو مَنْ هو دونه لئلا يعرض له من ذلك حزن وكآبة عندما يقيس نقصه إلى كمال غيره، أو تكبر وتشامخ عندما يقيس كماله إلى نقص غيره . لكن هناك لا يوجد حزن أو تنهد ولا شر وتكبر ، بل كل واحد يُسر في داخله بحسب النعمة المعطاة له.

مار إسحق السرياني

262- نظرة مجد الله هي أن يتحرك في العقل فهم على عظمة طبيعته فقط .

مار إسحق السرياني

263ـ كل عقل حسب مقدار تدرجه يستنير بكمية محدودة من النور.

مار إسحق السرياني

يـتـفـق غـالـبـيـة الـقـديـسين على أن نظرة العقل بالتأمل في الله ( الذي يُعبر عنه بالنور الثابت – والنور الذي لا يتغير – ونور الأبدية والنور الأبدي ـ والحق الثابت) إنما تكون جزئية، أو مبسطة، أو كأنها من خلال العتمة أو الضباب، وليست كنوع من التقدير أو القياس أو الفلسفة ولكن هي حقيقة ما اختبره القديسون عن الله في أثناء اشتغالهم بالرؤية. وهذا ما يطابق قول موسى عن الله : « ليس مثل الله يا يشورون . يركب السماء لمعونتك والغمام في عظمته.»( تث 33: 26)

وقول داود: «طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه.» (مز 18: 9)

وهذا ما عبر عنه القديس غريغوريوس في اختباره عن رؤية الله في جميع أقواله ، وخصوصاً عندما قال: «عندما يُخطف العقل في التأمل فإنه يعاين جوهر الحقائق كأنه من خلال ضباب.»

والقديسون في تعبيرهم عن الله بالنور والحق لا يقصدون أن يفصلوا ما يُرى من الله عن طبيعته ؛ وإنما يقصدون بالنور الذي يرونه والحق الذي يدركونه أنهما هما بالذات طبيعة الله . فالله نور وحق . ويقول في ذلك القديس غريغور يوس: « في رؤية بهاء نور الله نرى الطبيعة الإلهية». غير أن العقل المطلق لا يستطيع أن يتعمق في طبيعة الله أكثر من ذلك، طالما هو مرتبط بالجسد في هذه الحياة.

ثالثاً : الرؤية المحدودة بصورة أو شبه :

264- حينا أتطلع إلى آباء العهد القديم أرى أن كثيرين من الذين يذكرهم التاريخ المقدس يشهد لهم أنهم رأوا الله . فيعقوب رأى الله وقال: «نظرت الله وجهاً لوجه، ونفسي نجت» (تك 32: 30)، وما رآه يعقوب كان بصورة إنسان صارعه حتى مطلع الفجر. وكذلك موسى رأى الله الذي كتب قائلاً «ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه» (خر 33: 11). وأيوب أيضاً رأى الرب وقال: « بسمع الأذن سمعتُ عنك والآن رأتك عيناي» (أي 42: 5) . وإشعياء رأى الرب وقال: «في السنة التي مات فيها عُز يا رأيت السيد جالساً على عرش عال ومرتفع» (إش 6: 1) . وميخا رأى الرب وقال: «رأيتُ الرب جالساً على عرشه وكل جند السماء واقفين بجواره عن يمينه وعن يساره.» (2أخ 18: 18)

وماذا يعني الكتاب إذن عندما يقول يوحنا : « الله لم يره أحد قط » ؟ قد أعطي لنا أن نفهم بكل وضوح أنه طالما نحن نحيا هنا في هذا العالم بهذه الحياة التي تنتهي بالموت فالله إنما يُرى لنا بتشبيهات خاصة، وأما بمنظر جوهره الحقيقي فلا يمكن أن يُرى.

فيعقوب الذي يشهد أنه رأى الله ، لم يره إلا في صورة ملاك. وموسى الذي خاطبه الله وجهاً لوجه كما يخاطب الإنسان صاحبه نجده يقول للرب بعد هذا: «إذا كنتُ قد وجدتُ نعمة في عينيك ، أرني وجهك لكي أعرفك ! » ( خر 33: 12 – 23). ويقيناً إن الذي يخاطبه هو الله بالذات، لأنه لا يقول له : « أرني الله » بل «أرني وجهك» ! فإذا كان الله هو الذي يتحدث معه وجهاً لوجه، فلماذا إذن يتضرع له ليراه وهو يراه؟ ولكن من الرجاء الذي قدمه يُستدل أنه كان متعطشاً أن يدركه بحواسه في وضوح طبيعته الإلهية، مع أنه بالكاد ابتدأ يراه بتشبيهات فقط، وذلك استدعى أن يحل جوهر اللاهوت في العقل ويملأه لكي لا يعترض إنبساطه الذي يمتد إلى الأبدية أي تشبيه آخر أو صورة مادية من فعل الحواس في هذه اللحظة.

لذلك فإن الله لم يره أحد قط. وأيوب يقول إن الحكمة – التي هي الله ـ مخفية عن أعين جميع الأحياء. وإنما الله يتراءى للأحياء في هذا العالم بواسطة العقل المطلق في صورة وتشبيه من جوهره، ولكن لا يستطاع أن يُرى كما هو في نور الأبدية غير المدرك.

غريغوريوس الكبير

265ـ وقد كان يظهر أيضاً لكل من الآباء الأطهار على ما شاءه واستحسنه ، فظهر لإبراهيم بطريقة ولإسحق بأخرى وليعقوب بطريقة ثالثة وبغيرها لنوح ولدانيال ولداود وسليمان وإشعياء، ولكل من الأنبياء، وبنوع لإيليا وبآخر لموسى ، وهكذا ظهر الله لكل من القديسين الخلاصهم وإرشادهم إلى معرفته.

أبا مكاريوس الكبير

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى