تفسير سفر أيوب أصحاح 5 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الإصحاح الخامس
بقية حديث أليفاز
الخاطئ هو الذي يلاشيه الله

۱- قال أليفاز” ادع للنجدة لترى إن كان أحد سيصغى إليك وهل يلاحظك أحد من الملائكة القديسين” (٥: ١).

وبهذا أظهر تفوق الله. إذ كان من الطبيعى أن أيوب يفحص موقفه بدءً من براهين عقلية، ناظراً لما قاله أليفاز فيرد قائلاً: لا تتكلم هكذا إن الله عظيم، وصنع أشياء كثيرة نجهلها. وعظيمة هي وضاعتنا ونحن نريض فى جزء ما بعيداً عنه. وماذا يقال عنه إن كان لا يمكن قول نفس الشيء على عبيده (أى) نحن نجهل أيضاً عبيده الملائكة). بالتالي فإنه صنع حسناً ما فعله.

٢- وقال أليفاز “وعلى ذلك فإن الأحمق يلاشيه غضبه والضال (عن الحق) تهلكه غيرته”

لكن الحكيم يفحص كل هذا بعناية، بينما الأحمق لا يرى فيه شيئاً. بدون شك هذا يريد القول أن الله هو الذي يلاشى الأحمق بغضبه وبغيرته أى غيرة الله يهلك الضال. غضبه يلاشى الحمقى»: يعنى في رأيي يلاشى الخطاة.

إن أليفاز قال: إن الأحمق هو الذى يلاشيه غضبه، بالتالي لن يلاشى أبداً من هو عاقل، والغضب لن يجد له موضعاً في هذه الحالة. لكن الكتاب يقول في موضع آخر: «الغضب يهلك أيضاً العاقلين» (أم ۱٥: ۱) ، فكم بالأولى جداً في حالة الأحمق.

٣- وأنا من جهتي رأيت أغبياء يتأصلون لكن مسكنهم أبتلع في الحال (٥: ٣).

لاحظ كيف يأخذ أليفاز محاذيره الخطابية (فيجيب): لا تقل لى «أحياناً يكون لهم أولاد». نعم، لكن ليس بطريقة دائمة. لأنه فى الواقع كان من الطبيعي القول: فكيف كان أيوب يستمتع بهذه الخيرات العظيمة لو كان خاطئاً؟

فيرد أليفاز قائلاً: نعم «أنا من جهتي رأيت أغبياء يتأصلون».

ها أنت أيها القارئ ترى أنه بكلمة الأغبياء يقصد الخطاة، والتدبير الإلهى يُراعى ألا يتلاشى الخطاة في الحال، بل تُعطى لهم مهلة لكى يتوبوا أو لكي لا يُجبر الآخرون على عمل الخير قسراً.

٤- وقال أليفاز “بنوه محرومون من السلام ويستهزأ بهم لدى أبواب من هم دونهم” (٤:٥)

“أى أن يتشتتوا ويتبددوا ولا يوجد من ينقذهم” (تابع ٤:٥)

ه – لأن الذى حصدوه أكله الأبرار، أما هم فلن ينجون من بلاياهم وتنفذ قوتهم .(٥:٥)

أي لتتبدد قوتهم، وفى نفس الوقت يكونوا هدفاً للشماتة.

البلية هي أمر طبيعي للإنسان

٦- “بالتأكيد أن البلية لا تخرج من التراب والجبال لا تزهر المشقة (٦:٥)

وأليفاز يقول : إن الإنسان يحمل البلية في داخله.

لاحظ (أيها القارئ) كيف أن أليفاز مُجبر أن يُظهر من جديد أن كلماته متطابقة . الطبيعة لكي لا يمكن انتقاد حديثه فقال: إن الطبيعة البشرية – في الواقع – تفعل هكذا «إن الأرض لم تطعم من هو أكثر بؤساً وشفقة من الإنسان» أي نحن لا ينبغي أن نندهش أو نفاجأ، فنحن قد ولدنا للألم والمشقة. وهذا أيضاً ما قاله النبي «غالبية أيام سنينا هي تعب وبلية مز (۹۰ :۱۰) ، ويعقوب من جهته يقول “أيام سنى حياتى قليلة ورديئة” (تك ٤٧: ٩)

٧- ويتابع أليفاز كلامه فيقول “لكن الإنسان مولود للمشقة” (٧:٥).

أى أن هذا الأمر مغروس في طبيعتنا ويستحيل الهروب من البلية. إن أليفاز لا يريد الاعتراض من جديد على برّ أيوب، ويقول: إنه بار لكن الطبيعة البشرية قد تطبعت على معاناة البلايا.

لاحظ (أيها القارئ) أن أليفاز ابتدأ الكلام عن الطبيعة البشرية ليؤكد أن أيوب لم یکن بلا لوم. وقال أليفاز «تعساء هم الذين يعيشون في بيوت من طين» (٤: ۱۹)، وأيضاً  قال: «فماذا! هل سيكون المائت طاهراً أمام الله ؟» (٤) (۱۷) ، أو أيضاً: إذ أنه من المستحيل مغادرة هذه الحياة دون آلام، فقال «الإنسان مولود للمشقة» (٧:٥)

واضح – في الحقيقة – أنه ليس الكائنات العديمة الإحساس والحيوانات عديمة العقل هي التي ستشعر بالإحباط، بل هذا سيوجد لدى الإنسان (فقط)، ولاحظ طبيعتنا المشتركة وستجد أن الأمر هكذا.

٨- وقال أليفاز ” إن النسور الصغيرة تطير نحو الأعالي (تابع ٥ : ٧).

أى أنها بلا هم أو اهتمامات فماذا هل هي تستمع برعاية عظيمة جداً (أكثر من الإنسان؟ حاشا لله ! إذ الأرض والجبال لم يُعطيا إلا عدم الإحساس كصفات لهم، ويبدو لى أن هذا الطائر أيضاً عديم الإحساس لأنه شريب دم وآكل لحم. 

أنا أطلب إلى الله بدلا منك

٩- ولكني طلبت الرب ودعوت القدير ( ٥: ٨)

وقال أليفاز: عندما وجدت نفسى فى هذا الموقف، لم يشابه اتكالي أبداً اتكالك، لكنى انتظرت معترفاً أن الله هو الرب، لأنك أنت اغتظت، أما أنا فانتظرتُ الله دون أن أتوقف عن الدعاء ودون أن أفقد الرجاء، فهو دائماً قادر على تبديل وتغيير الظروف. إنني وجدت نفسى وسط البلايا، لكن الله يستطيع أيضاً أن يقيمنى وسط الخيرات تماماً كما عبرني من موقفى السابق إلى الحالي.

«القدير» أى ضابط كل الظروف والأماكن والأشياء.

ثم بسط قوته التي جعلها على كل نوع من الكائنات التي تكلم عنها أولاً بالجنس وبعد ذلك بالنوع (ربما يقصد هنا ما جاء في سفر التكوين).

لأن الله صانع عجائب

۱۰- “هو الفاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تُعد. المنزل مطراً على وجه الأرض والمرسل المياه على البراري” (٩:٥، ۱۰)

وهذا (المطر هو ) أولاً دليل على جوده ثانياً يُستخدم ليس فقط لدوام حياتنا، بل أيضاً هو علامة على تغير في الموقف.

١١ – الذى يرفع المتواضعين ويقيم الموتى بإنقاذهم ” (١١:٥).

وهذا المثال عندما يُنظر إليه من جهتيه يمثل وجهاً منظوراً ووجهاً غير منظور، لكنه مثال مناسب تماماً.

١٢ – هو المبطل أفكار المحتالين» (١٢:٥).

أي الذي يغير ويحوّل خطط المحتالين ولن تدرك أيديهم أبداً الحقيقة التي يريدونها

من وراء حيلهم) (تابع ١٢:٥)

وأليفاز يقول إنه فى حالة من لا يدركون الحقيقة فهناك أيضاً عمل القوة والحكمة الإلهية بألا يستطيعوا تحقيق مأربهم وبأن يجعلهم حمق لأنه أمر يخص الله تماماً أنه يستطيع الانتصار على نفس محتالة أكثر من الجسد القوي.

۳۱ – “الآخذ الحكماء بحيلتهم ” (١٣:٥).

أى بالانتصار والسيادة عليهم “ويقلب مشاريع الماكرين” (تابع ٥: ١٣)، أي يجعلهم

عاجزين.

إن أليفاز قد عمل هذه التلميحات ضد أيوب كما لو كان أيوب يتباهى ويتشامخ، ثم وأضاف قوله أن الله يعمل العكس عندما يختص الأمر بالضعفاء.

أشار هو إلى أية بلايا شمله الله بها.

١٤ – قال أليفاز في النهار يصادفون ظلاماً وفى الظهيرة يتحسسون (طريقهم) كما أثناء الليل” (١٤:٥).

” ويجعل البائس يفلت من يد القوى، ويجعل للذليل رجاء ويجعل فم الظالم يستد! -(5: 15، 16)

وهذا ما يعمله الله لكى، ليس فقط يترجى البائس السعادة، بل أيضاً لكي لا يتكبر القوى. وحيث أنه قال في السابق ادع للنجدة لترى إن كان يوجد شيء يفلت من العناية الإلهية بحجة أنه لن يسمع لك، فإنه قال: لا حتى وإن لم يُرى الله فهو مع ذلك يعمل أشياء عديدة. وأليفاز مهتم تماماً باستخلاص النتيجة بأن يعطى حديثه دفعة من جهة أيوب، لكى يمكنه تحطيمه، لأن لو كان الله معتاداً على رفع البؤساء، لكنه يخفض الأقوياء ويُربك الماكرين.

ثم لكي لا يجعل حديثه مؤلماً ولكى لا يهاجمه، أضاف قوله أن طريقة العقوبة ليست هي فقط عبارة عن معاقبة الأردياء، بل توجد حالات تتحول فيها العقوبة لصالح من يُراد تقويمهم أو بالأحرى هو لم يقل هذا، لكن الذين هم أسوأ الأردياء، هؤلاء بعقابهم سيجنون منفعة.

عقوبة الله مفيدة للإنسان

١٥ – قال أليفاز “طوبى لرجل يؤدبه الله على الأرض فلا ترفض تأديب القدير” (١٧:٥).

فإن كانوا ينالون عفو (الله) حارسهم، فهذا لأنهم كابدوا مثل هذه التجارب. ثم يتحدث عن قوة الله ليعبر إلى الموقف المضاد قائلاً إن الله يعمل معنا خيراً بعقوبته (لنا)، وفى الحال يغير الألم (أى يلاشيه) بمجرد أن يعطى (الألم) تأثيره المرجو منه) ولكي لا يقال: بدون شك الدواء مفيد، لكنه أيضاً مرّ، ولن أستطيع أن احتمله، فإنه هذا أضاف قوله : نعم ، لكنه ليس مستمراً، بل بمجرد أن يأتى الدواء بتأثيره، فإن الله يرفعه. أيسمح الله بأنك تحتاج لطبيب آخر ؟ فتأمل أنه هو نفسه يعتنى بك. ومن الواضح أنه الآن أيضاً يعتني بك ويجعلك تتألم.

١٦ – لأنه هو يجرح وهو أيضاً يعصب، يضرب ويداه تشفيان (٥: ١٨).

إن كان الله هو الذي يضع نهاية للبلايا ويحولها إلى ما يضادها ويجعل الإنسان ينعم بسلام عميق، فهذا لا يفعله بفكر مختلف، إنما فى الواقع العملى هو الذي يقود في كلا الأمرين).

۱۷ – فی ست شدائد ينجيك وفى السابعة لن يدركك سوء (٥: ١٩).

أى أنه لا يتصرف دائماً بنفس الطريقة، لكنه يسمح أولاً بأن تجوز الألم وبعد ذلك لا يسمح لك حتى أن تذوقه.

۱۸- “فى وقت المجاعة ينتشلك من الموت وفى وقت الحرب ينجيك من بطش السيف ويحميك من سوط اللسان ولن يكون لك أبداً شيئاً تخافه من البلايا التي تهاجمك” (٥: ٢۰، ٢١)

إن هذا امتياز ليس بقليل بل هو عظيم القدر.

لا شيء من الخير يُرجى من ثرثار (انظر أم ۲: ۱۲ بحسب النص)، لأنه لا شيء أسوأ من اللسان الذي ينطق بكل أنواع الغدر والوشايات هذا هو الأكثر رعبة وإخافة من أى نوع من أنواع السيوف.

إنه قال لن يكون لك أبداً شيء تخافه» ، أي: ليس فقط لن تعاني من شيء، بل حتى لن يكون لك شيء لتخافه (بالمرة) وعند مجيء ء البلية ستضحك على الأردياء والأثمة» (تابع ٥: ٢١) . وهذا أيضاً :أفضل أنه نفسه ليس فقط سيكون في مأمن، بل إنه سيضحك على الآخرين. وما لزوم التكلم عن البشر ؟ بل إن الحيوانات المفترسة لن تكون مخيفة لك.

١٩ – لن تخشى وحوش الأرض، لأن الحيوانات المفترسة ستحيا في سلام معك، وستكون خيمتك آمنة ويكون بهاؤك محميا دون أى خوف من التعثر، وسيكون بيتك في سلام (٢٢:٥ – ٢٤).

أى بيتك أيضاً سينعم بسلام عميق، ولا شيء في الواقع يساوى الفرحة من رؤية السلام يسود في بيتك. إذ ما هى الفائدة فى أن يكون الإنسان خالياً من الحروب الخارجية بينما هو ممتلئ متاعب من الداخل

٢٠- قال أليفاز “إن تموين خيمتك لن ينقصه شيء بالتأكيد” (٢٤:٥).

أي لن يعوزه شيء ولن يكون معرضاً للمشقة أو البلية. وبالتالي فإن السعادة ستمتد إلى نسلك أيضاً والموت لن يهبط عليك قبل الأوان.

٢١ – فتعلم أن زرعك (أى نسلك) كثير وذريتك كعشب الأرض. تدخل المدفن في شيخوخة كرفع الكدس (أى رفع أكوام القمح إلى الجرن في أوانه. وانظر هذا ما قد اكتشفناه وهذا ما سمعناه، أما أنت فتأمل فى ذاتك لترى إن كنت قد اقترفت إثماً ما» (5: 25-27)

لاحظ كيف أنه أهلك كل النفع من كل ما قيل ووجه لأيوب ضربة قاسية. كيف وبأية طريقة؟ بإظهاره أن أيوب لم يكن ضمن الذين نالوا إنذاراً أو حفظوا الرجاء. وعلى ذلك فما قاله طبقه بالتأكيد على شخص أيوب.

لكن حديثه كان له صفة العمومية، لأنه قال هذا هو ما رأيناه وسمعناه. لكن إن لم يكن هذا ما حدث في حالتك وإن بقيت في بلاياك فأنت الذي يختص بك أن تعرف ضلالك.

تفسير أيوب 4 سفر أيوب 5 تفسير سفر أيوب تفسير العهد القديم تفسير أيوب 6
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير سفر أيوب 5 تفاسير سفر أيوب تفاسير العهد القديم
 

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى