تفسير إنجيل متى أصحاح 11 للقمص متى المسكين

‏بدء القسم الثالث من خمسة أقسام الإنجيل
[11: 2 – 13: 52]

ويبتدئ بعدم تصديق اليهود للمسيح ورفضه ومعاداته
[11: 2 – 12: 50]

شكوك المعمدان وَرَدُّ المسيح [1:11-19]

1:11 «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ لِتَلَامِيذِهِ الاثني عَشَرَ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ لِيُعَلَّمَ وَيَكْرِزَ فِي مُدْنِهِمْ».

بهذه الآية ينتهي الكتاب الثاني بحسب تقسيم القديس متى، وهي آيته التقليدية التي يختم بها كتبه الخمسة التي – كما سبق وقلنا في المقدّمة – قد جمعها ونسقها لتكون البديل للخمسة أسفار التي للتوراة، والتي تضمنت ناموس موسى والتعاليم الخاصة بهذا الناموس. وهنا يرى ق. متى أن الإنجيل هو في الحقيقة التوراة الجديدة التي تحوي ناموس المسيح وكافة التعاليم الخاصة به. وهو هنا يصف حديثه السالف عن الإرسالية بتعبيره الخاص «ولما أكمل المسيح أمره لتلاميذه» معتبراً أن بنود الإرسالية كانت على مستوى الأوامر، مثل مقابلها في التوراة التي كانت الوصايا تأتي فيها كأوامر ولكن في صيغة المستقبل الذي يفيد الأمر: تحب الرب إلهك …. ولو أن العالم يعتبرها مجرد تعليم.

2:11 و 3 «أمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ في السجن بأعمال المسيح، أرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلَامِيذِهِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟»

لا تزال عين ق. متى على سلطان المسيح الفائق كتعريف بمن هو وبرسالته. فكما أوضحه بقوة في العظة على الجبل ثم بالمعجزات، ثم كشفه وسلمه لتلاميذه في حديث الإرسالية، جاء هنا ليدعمه إزاء الشكوك والمقاومات والرفض. لأن معيار هذا الأصحاح برمته هو عرض للمقاومات والرفض التي قابلها المسيح وتعرض لها.

ويلزم أن نتذكر أن المسيح سمع سابقاً أن يوحنا أسلم «ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل» (مت 12:4) ذلك في بداية خدمته في الجليل بعد التجربة على الجبل مباشرة.

ولكن هنا يحكي عن شكوكه وهو في السجن قبل أن يموت، لأن ق متى هنا بصدد جمع كل أعمال الشكوك والعداء والرفض التي عاناها المسيح في هذا الأصحاح. بينما سيعود ليذكر حادثة القبض على المعمدان بواسطة هيرودس وإلقائه في السجن هناك في الأصحاح (3:14) باعتبارها قصة قديمة يستذكرها ويذكر معها موته، كما يعود ويذكر للمرة الثانية كيف انصرف المسيح لما سمع خبر استشهاده (13:14).

ويلاحظ هنا أن ق. متى لا يذكر “يسوع” بل المسيح توكيداً لرسالته في مواجهة شكوك المعمدان. وهنا نرى أنه من الواجب أن لا يغيب عن بالنا نقد تلاميذ يوحنا المعمدان السابق للمسيح نفسه: «حينئذ أتى إليه تلاميذ يوحنا قائلين لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيراً وأما تلاميذك فلا يصومون؟» (مت 14:9). واضح أن السؤال الذي جاء يحمله تلميذا المعمدان ليس جديداً في أمر تشككهم هم أيضاً وانتقادهم، فالأمر في نظرنا أكثر من مسألة عدم الصوم، إذ واضح من جهتهم تعصبهم لأعمال النسك والعبادة المعتمدة على الاجتهاد البشري، ووضع الأنظمة القائمة على الناموس والزائدة عن الفروض التي يسمونها نوافل العبادة، التي تتناسب بالفعل مع منهج المعمدان وتقشفه الشديد في الأكل واللبس ونوع الحياة، هذا من جهة المعمدان وتلاميذه. أما من جهة نظرتهم للمسيح فقد خاب أملهم فيه لأنهم انتظروه يحمل بيده مذراته رفشه) ليجمع التبن للحريق، فإذا به وديع ومتواضع، لا يسمع أحد صوته في الشوارع، محب للخطاة ويأكل ويشرب مع العشارين ويغفر للزناة. هذه هي الأعمال ” التي سمع عنها المعمدان في سجنه بقلعة ما خيروس (خربة المكور الآن) على بعد خمسة أميال شرق البحر الميت، وكانت قصراً لهيرودس. فإن كان المسيح هكذا لطيفاً مع الخطاة، يصنع الآيات والمعجزات وحسب، فقد أخطأ المعمدان في حساباته وأوصافه عن مسيا الآتي الأقوى منه ومعروف كيف أن المعمدان كان شخصية حديدية نارية أرعب الكتبة والفريسيين ونعتهم بأقذع الألفاظ، والجند روعهم بابتزازهم الأموال من الناس. فنظر وإذا المسيح أهدأ من نسيم الصباح، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يُطفئ، هذا من جهة الأسلوب والمنهج الذي جعله يشعر أنه أخطأ في تصوره وتعليمه عن الآتي بعده. أما من جهة العلاقة المقطوعة فهي التي حزت في نفسه وفاض كيلها لما انتظر أن المسيح يصنع شيئاً بقوته السمائية وبمقتضى سلطانه ومعجزاته لينقذه من ظلم هيرودس ويخرجه من حبسه الذي طال حتى على أساس أنه إنما يخدم طريق المسيا، فهو يُعد له طريقه. فكيف يتجاهله إلى هذا الحد هنا أرسل تلميذيه ليستفسرا عن الأمر ويتحققا من شخصه وتعليمه، ولعله إذا رآهما يذكر رحمة ويصنع له شيئاً.

ولكن المسيح كان يعلم كل هذا الذي للمعمدان والذي له شخصياً، وكل ما قيل عن المعمدان والذي قالوه عنه شخصياً. ولكن ماذا تقول الشمس إذا اعتدلت في السماء لمصباح صغير أو قدوه بالليل على شاطئ الأردن؟ جاء يوعي الناس وينادي بالصوت العالي عن المسيا، والمسيا جاء وأعماله تتبعه؟ ولكن لا يزال أمامنا باب مفتوح نطل منه على فكر يوحنا المعمدان بعد أن أنهى مشواره بالسجن وانقطع فجأة الصوت الذي يصرخ في قلبه، بانقطاع صوته في داخل السجن. أين هو من عمله الذي جاء من أجله؟ هل انتهى؟ وإلا فلماذا أنا هنا؟ إن خدمة المعمدان قد توقفت فهو يسأل عن خدمته. هل جاء المسيا أم أنه سيأتي؟ لو كان قد جاء يكون السجن نهايتي، وإن لم يكن قد جاء بعد فلابد أن أخرج وأكمل عملي. فأرسل: هل أنت الآتي؟ أم ننتظر آخر نخدمه؟

6-4:11 «فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمَا: اذْهَبَا وَأَخْبِرًا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ، وَتَنْظُرَانِ الْعُمْيُّ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطهَّرُونَ، وَالصَّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشِّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لَا يَعْثرُ فِي».

يلفت المسيح نظر المعمدان إلى النقرة التي منها قطع، أليس من إشعياء أخذ صوته الصارخ ومن فمه استلم إعداد الطريق وتقويم السبيل في القفر للأتي بعده والآتي بعده ها هو قد أتى حاملا صوت إشعياء نفسه وعاملاً بمفردات نبوته حرفاً بحرف؟ أليس إشعياء الذي قال عن الصوت الصارخ هو بنفسه قال: « حينئذ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تتفتح حينئذ يقفز الأعرج كالإيل (الغزال) ويترنم لسان الأخرس؟ (اش 35 5 و 6) ، أليس هو القائل: «روح السيد الرب عليَّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق … لأجعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة. فيدعون أشجار البر غرس الرب للتمجيد (إش 61: 1-3). ثم اعتماد المسيح على النبي إشعياء لتوعية النبي المعمدان ليس حَدْساً جديداً : فـ« أرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء» (1 كو 32:14)

«وطوبى لمن لا يعثر في»:

ما أقرب هذا القلب إلى القلب الذي طلب من أجل بطرس «ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك (لو 32:22). إن هذه الآية التي اختتم بها المسيح أقواله لتلميذي المعمدان ولو أنها تحمل تحذيراً ولكنها بأن تحمل الطوبي لمَنْ حَذِرَ. والمعمدان بإرساله تلميذيه كان كمن يقول: «أومن يا سيد فأعن عدم إيماني (مر 24:9). لا تلومني انظر إلى سجني وإلى ذلي!! وما درى المعمدان أن الذي استغاث به إلى ذات السجن ذاهب وإلى الذل يسير حاملا صليبه إن جعل نفسه ذبيحة إثم … سكب للموت نفسه!» (إش 53: 10و12)

ويلاحظ القارئ أن المسيح لم يتكلم كلمة واحدة عن نفسه، وكأنما هذه المعجزات صنعت نفسها بحضوره أو أنها عملت لتشهد لمجيئه فقط. إن مستوى تواضع المسيح هنا جبار عملاق لا يدانيه تواضع قط. فالمعجزات والآيات تجري أمامه، تصيح بأصوات الفرح والتهليل، مجد الرب ملء الأرض! نحن يصعب علينا أن لا نتصور عاصفة التهليل التي تنطلق من العمى والصم والعرج والبرص والشل وهم يصيحون بأعلى أصواتهم ويعطون مجداً الله والمسيح كأنه غير موجود، ما جئت إلا أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله!!» (يو 34:4)

7:11 و 8 وبينما ذهَبَ هذان ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَقُولُ لِلْجُمُوع عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى البرية لِتَنْظُرُوا ؟ أقصبة تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ لكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا أَإِنْسَانَا لابساً ثياباً ناعمة؟ هُوَذَا الَّذِينَ يَلْبِسُونَ التَّيَابَ النَّاعِمَةَ هُمْ فِي بُيُوتِ الملوك».

لم يشأ المسيح أن يتكلم في وجودهما لئلا يحسب مديحه إطراء لاسترضاء صوته. وهنا أسرع المسيح ليصحح أي تفكير سواء في الموجودين أو في الذين سيسمعون، أن المعمدان بهذا السؤال يُحسب أنه غير ثابت الرأي أو تزعزع من فرط الحزن والاضطهاد فهو كما هو وكما يراه المسيح، جبار بأس وإلا لما أرسل بنفسه يستفسر لنفسه ليستوثق من عمله الذي عمل أي شهادته التي شهد، وعن العمل الذي عمل به أي سجنه الذي كان إعداداً للذبح. إذن، فالمسيح يستبعد عن يوحنا بيقين أنه قد غير رأيه ولكنه يستوثق من عمله. فهو ليس كالقصبة التي تحركها الريح، والريح هنا هي الظروف القاسية التي ألمت به. ولكن السجن للمعمدان في نظر المسيح هو شهادة جرأة وبأس لإنسان وبخ ملكاً دون أن يهاب. فالسجن يحمل صورة إكليله ولم يحط من قدره. ثم نفى الثياب الناعمة عن جسم المعمدان الذي كان وبر الإبل يحك جلده في نومه ويقظته، ثم ينفي عنه تأففه من شظف المعيشة في السجن أو غيره، فهو ابن البراري الذي يستخرج طعامه من الصخر وجحور النحل. أين هذا من بيوت الملوك ورفاهية العيش؟

9:11 لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا ؟ أنبيا؟ نعم أقولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ».

أما قوله نبي فلا مراء في ذلك بشهادة الأنبياء والروح بفم أبيه زكريا، فقد ولد ليكون نبيا، بل نبي العلي يُدعى! أما كونه أفضل من نبي، فلم يحدث أن نبيًّا رأى المسيا ووضع يده عليه ورأى الروح نازلاً عليه من السماء وسمع شهادة الله أن هذا هو ابني الحبيب فكفى لأي نبي أن يتنبأ، أما هذا فرأى وشاهد وشهد وأعد الطريق أمام يهوه حسب نص النبوة: «ها أنذا أرسل ملاكي فيهيء الطريق أمامي» (مل 3: 1). ثم أي نبي أعطي له نصيب وشركة في الإعداد للملكوت بسلطان التوبة ومغفرة الخطايا؟

10:11 «فإنَّ هذا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ : ها أنا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهَكَ مَلَاكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طريقك قدامك».

لقد أعاد المسيح صياغة النبوة لتنطبق على يهوه لما تجسد وصار هو يسوع المسيح المتكلم. فمن يهوه: « ملاكي فيهيء الطريق أمامي» إلى يسوع المخاطب والمتكلم هو الله أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك وبهذا عدل المسيح النبوة بسلطان الله من عما كانت ليهوه لتصير لنفسه.

11:11 «الحق أقولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُم بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظُمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ ولكنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ أَعْظُمُ مِنْهُ».

هنا لا يفوتنا أن في هذه الشهادة تلميحاً إلى المعجزة التي ولد بها المعمدان، فهو ابن موعد، ولد ليكون نبيا خاصاً للعلي وتقدس وهو في بطن أمه، وتكلم أبوه بالروح القدس بعد صمت يرحب به بفم نبوة «وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم.» (لو 1: 76 و77).

والمسيح إذ يعرف سر المعمدان يوفره كأعظم من نبي «وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته، لأنه يكون عظيماً أمام الرب. وخمراً ومسكراً لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس. ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار، لكي يهيئ للرب شعباً مستعدا» (لو 1: 13-17). فالآن يرفع المسيح يوحنا المعمدان أعظم من كافة بني البشر المولودين من النساء، وهنا يكمن سر ميلاده، ثم يرفعه أعظم من كافة الأنبياء وهنا يكمن ارتفاع نوع نبوته إذ هي نبوة خادمة للعلي مباشرة، وكأنه الشاروبيم يُعدّ طريقه حتى لا تصدم بحجر رجله. ثم كونه يأتي بروح إيليا جاء حاملاً قوة العهد الأول ليخدم صاحب العهد الجديد، ويسلمه سر غلق السموات وفتحها، لذلك فلحظة أن خرج المسيح من تحت يد المعمدان انفتحت له السموات ورأى الروح وسمع الصوت الأبوي يحيي ابنه الوحيد. وهكذا سلم المعمدان الوديعة وأكمل العمل الذي ألمح إليه المسيح بقوله إنه ينبغي أن نكمل كل بر!

«ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه»:

يوحنا أخذ أعلى كرامة يمكن أن ينالها إنسان العهد القديم. ولكن إن قورن بالعهد الجديد وملكوت الله فهو لا يقارن قط بإنسان نال الخلاص وقوة الفداء وغسيل الدم وشركة الجسد وروح الله ، وتصالح مع الله ونال التبني فهو إلى هذا الحد يقف عند عدم استحقاق حمل سيور حذائه، فلم يبلغ بعد الشركة مع المسيح والالتصاق به ليصير معه روحاً واحداً !! فهو يبقى كما هو ينتظر التبني «إلى أن يجيء» هنا يلزم أن ندرك ما معنى الأصغر في ملكوت الله أعظم منه هنا الأمر ليس عظمة شخصية أو عظمة مجد أو إنارة، بل هي الطبيعة البشرية التي أهلها المسيح بموته وقيامته وتسليمها جسده القائم من الأموات، كخلقة جديدة بينها وبين الخلقة الأولى هوة سحيقة يستحيل لإنسان أن يعبرها إن لم يعبر به المسيح شخصيا، ليسلمه ما استلمناه ويهبه ما وهبنا.

12:11« وَمِنْ أَيَّامٍ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ إلى الآن مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ يُعْصَبُ، وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطفُونَهُ».

والآن يستمر المسيح يشهد للمعمدان ولمركزه العالي، إذ ولو أنه لا يُحسب أنه مواطن لملكوت الله الذي ينادي به، ولكنه منذ أن نادى بقرب ملكوت الله وبالتوبة لمغفرة الخطايا والعماد في الأردن مع الاعتراف بالخطايا، نشأت تبعاً لذلك قوة وحركة نحو ملكوت المسيا الذي أحسه الناس «قد وجدنا مسيا .» (يو 1: 41)

«ملكوت السموات يُغصب»:

الكلمة اليونانية يُغصب βιάζεται, تحمل معنى العنف كالعاصفة، فتكون العاصفة بعنفها من جهة الملكوت ترفعنا إلى فوق مثل مركبة إسرائيل وفرسانها (2مل 12:2) والكلمة تترجم بواسطة العلماء المقتدرين في اللغة اليونانية مثل ماير حرفياً كالآتي: إن (الملكوت) يمتلك بالقوة أو يقتحم = is conquered بمعنى أن الغيرة والاشتياق المتولد الذي لا يقاوم، مع العراك struggling لامتلاك ملكوت المسيا الذي نشأ وتقوى وازداد في أيام المعمدان وهو يعظ عن المسيا والملكوت، أصبح وكأنه الملكوت يُغصب كما بعاصفة اقتحام والناحية المقابلة صحيحة عند بعض العلماء وهي أن الملكوت نفسه أصبح كالعاصفة أي يقتلع الأشجار فيمتلك القلوب والناس ويرفعها برغم المقاومة التي تجعلها وكأنها عنوة ولكن ولو أن هذا المعنى مقبول شكلا ولكن بقية الكلام الذي يأتي بعده يضعفه ويلغيه.

والغاصبون يختطفونه

بمعنى أن الذين يستخدمون العنف في اجتهادهم أو بمجهودات عنيفة يجرونه نحوهم drag it to themselves بنجاح. وكأنهم يقبضون على غنيمة فتصبح ملكهم. وهكذا يصور المسيح أن السعي للملكوت أصبح بتلهف شديد ونشاط فعّال وليس بعد بهدوء وتعقل ومجرد أمل في أمر ملكوت الله.

13:11 و 14 «لأنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسِ إلى يُوحَنَّا تَنبَّاوا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فهذا هُوَ إِيلِيَّا الْمُؤْمِعُ أَنْ يَأْتِي».

هذه الآية تشدّد ما قبلها وتجعلها حقيقة مفروغاً منها، والمعنى هو أن ما حدث منذ أيام يوحنا وخدمته، وهو أن ملكوت الله صار الموضوع الذي تتجه إليه حركة امتلاكه بالعنف، كان علامة على مجيء إيليا الموعود به (مل 5:4) فالأنبياء والناموس العهد القديم بأكمله ظلوا يتنبأون حتى أيام المعمدان. والذي حدث بمجيء المعمدان هو توقف عصر التنبؤ حتى انتهى إلى توقف نهائي، وكان يوحنا هو نفسه نهاية هذا التنبؤ ، ثم هو نفسه أول من خطا خطوة ظهر بها على مسرح الحياة باعتباره السابق للمسيا الذي يُعد له كإيليا الموعود أنه يأتي. وبالتالي وبالضرورة فإن حركة العنف في امتلاك الملكوت التي ظهرت بين الناس أشارت قطعاً إلى ظهور إيليا، الذي أعطي لهم كعلامة البدء. والذي يؤكده المسيح هنا أن يوحنا المعمدان هو إيليا إذا استطاعوا أن يدركوا السر، وبناءً على ذلك تكون نبوة ملاخي بإرسال إيليا (مل 5:4) قد تحققت في المعمدان وبالتالي الملكوت. وهذا إثبات رائع من المسيح أورده ليدعم أقواله السابقة بأهمية يوحنا المعمدان في ظهور الملكوت وحركة الاندفاع الهائلة نحو امتلاكه. وهو تنازل من المسيح ما بعده تنازل. ويعلق على ذلك العالم بنجل بقوله: [إن لغة المسيح هنا كإنسان ينظر من العهد القديم إلى ما يحدث في العهد الجديد.

15:11 «مَنْ لَه أذنان لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ».

تعتبر هذه الآية دعوة من المسيح لإعادة النظر والسمع للآية السالفة لأهميتها القصوى حيث السمع هنا هو الوعي الداخلي.

19-16:11 «وَبِمَنْ أَشَبِّهُ هذا الجيل؟ يُشبه أولاداً جَالِسِينَ فِي الْأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أصْحَابِهِمْ وَيَقُولُونَ : زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا ! نحنا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا ! لَأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لا يَأْكُلُ وَلا يَشْرَبُ، فيقولون: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هَوَدًا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبُّ لِلعَشَّارِينَ وَالخُطاةِ. وَالحِكْمَة تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا».

بهذا المثل يهزأ المسيح بعقلية الكتبة والفريسيين، ويردها إلى مستوى لعب العيال، ولكن بالملاحظة نرى أن المسيح يورد هذا المستوى المنحط من تفكير النقاد من الكتبة والفريسيين بعد رفع تفكير القارئ إلى أوج قمته في أمر المعمدان وعمله. حيث يورد النقد هنا لشخصيته هو ولشخصية المعمدان التي لم ترض عقلية هؤلاء القوم النقاد الذين تزعموا الجيل بأكمله فأضلوه ولعبوا بعقله حتى جعلوه يخرج عن الحكمة والمعرفة والأصول التقليدية والتوازن هنا مختل اختلالاً فاضحاً، فلا النسك والعبادة التقليدية التي للآباء والأنبياء أرضتهم، ولا الاتساع والحب والرحمة والنزول إلى مستوى المسكين والفقير والمضطهد يرضيهم هنا أوقفهم المسيح في تناقض مرير، وجعل رأيهم وفكرهم مجرد انفعالات لا تضبطها حكمة ولا معرفة ولا تقليد ولا تطلع إلى الأفضل.

والمثل ينطبق تماماً على روح العهد القديم في يوحنا المعمدان، الحزن وتوقف الحياة كما بتشييع جنازة، وعلى روح العهد الجديد الفرح والتهليل والرقص وانبثاق النور والحياة فلا هذه أرضتهم في المعمدان ولا هذه الحياة أرضتهم في المسيح. مع أن أصالة الانطباق بالنسبة لروح العهد القديم بالنسبة للمعمدان مقطوع بها، فهو نبي وبار ولائق من كل الوجوه أن يكون مثلاً أعلى لكل الأنبياء الذين كانوا ينوحون على حالة الشعب في العهد القديم. فبالرغم من حمله مشعل النسك والتحفظ والتدقيق في كل أمور الحياة، إلا أنه جاء يشيع العهد القديم ويحيي ويقدّم عريس العهد الجديد كما لقبه المعمدان. وهنا خرج عن رزانته وقال: إنه بناء على وظيفته فقط كمن يُعدّ الطريق للعريس، وعليه يتحتم أن يفرح كصديق للعريس. وهنا وفي هذه اللحظة التي يتقابل فيها القديم مع الجديد يتحتم أن نرفع الحزن والنسك عن وجه العهد القديم لما التحم بالعهد الجديد ليدخل سهلا مهلا في رحاب فرح الله ومسرة ملكوته، كفرح سمعان الشيخ والناسكة حنة النبية هذا إبداع التلاقي بين العهدين على يد المعمدان، إذ احتفظ بما له ولكن اشترك فيما لغيره: ينبغي أن أفرح وأن أنقص بآن واحد. هذا التقدم أو الشخصية التقدمية لم تعوز نبي النسك والبرية لما خطا خطوته الأولى والعظمى لينتقل بالشعب كله من ماضي النبوات والناس إلى حاضر عرس الملكوت: « ولكن يأتي من هو أقوى مني» (لو 16:3) دون أن يضحي بمظهره القديم أو يجرحه ولا يتمنع عن مجاراة الفرحين بالعريس، ووصف نفسه بالأرضي الذي خرج من ترابه ليصافح ويحيي السمائي ليعود بعدها إلى ترابه. والترابي حتماً ينقص ويزول والسمائي يزداد ويكمل ليبقى كاملاً.

أما الذي أربك الأولاد فلم يرقصوا ولا هم لطموا ، فهو أنهم عيال لم يفهموا أصل اللعبة، ولم يتبينوا صوت المزمار في وقته ولا أصاخوا السمع لصوت النواح في حينه. لأن اللعبة لعبة صغار ولكن سرها من صنع الحكمة والحكمة لا تدرك ولا تتبرر إلا من بنيها والإشارة هنا للتلاميذ ! فالكتبة والفريسيون هم الأولاد في الأسواق الذين لم يتبينوا صوت المزمار إذ لم يتعرفوا على شكل العريس، وفات عليهم الانتباه إلى صوت النواح السائر في خلف المشهد، فاحتقروا المعمدان وعميوا عن سر إيليا، ففات عليهم الفرح. والمثل متقن أشد الإتقان ولاذع ومر أشد المرارة أودى بهيبة الكتبة والفريسيين ودفن نقدهم دفناً واستظهر عليهم استظهار الحكمة على الجهالة.

وهذا المثل الذي سجله .ق. متى في هذا المكان بلور فيه أعمق رؤية للمسيح عن أعمال النقد والصدام، مع الجهل والبغضة التي نالها على أيدي الكتبة والفريسيين، والتي اختار لها هذا الأصحاح.

ويل للمدن التي سمعت تعليم المسيح ولم تستجب [20:11-24]

20:11 «حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّحُ الْمُدْنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكثرُ قَوَّاتِهِ لَأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ».

يلاحظ القارئ في الآية السالفة أنه يوجه وصفه وكلامه عن «بمَنْ أشبه هذا الجيل» فهنا وفي هذه الآية صورة هذا الجيل لا تزال منطبعة في ذهن المسيح، وبالطبع تمثلها أكثر المدن التي لاقى فيها عدم توبة وعصياناً واحتقاراً ورفضاً، وتزعمت هذه المدن المدن التي كانت أغلبيتها أممية. ولكن لم تفلت كفرناحوم من الدينونة وهي بلده التي عاش فيها مع معظم تلاميذه وكانت مركز خدمته، والتي استغلت معرفتها له لكي تحتقره وتنتقده في تعاليمه وآياته وقواته التي صنع فيها.

24-21:11 «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا ! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ المَصْنُوعَة فِيكُمَا ، لتَابَتا قديماً فِي الْمُسُوحَ وَالرَّمَادِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكثرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا. وَأَنْتِ يَا كفرناحومَ الْمُرْتَفِعَة إِلى السَّمَاءِ ، سَتُهْبَطِينَ إلَى الْهَاوِيَةِ. لَأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعة فيك لبقيت إلى اليَوْمِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أكثرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكَ».

هذه كلها بلدان صغيرة ولكن كانت حالتها متميزة بسبب التجارة عبر خطوط السفر من البحيرة إلى الساحل. وقد جاب شوارعها ودخل بيوتها وكرز فيها بالبشارة المفرحة، وكلمهم عن الحياة الأبدية والملكوت، وانتظر منهم التوبة ولم يتوبوا . وعمل أمامهم معجزات وآيات بلا حصر حتى عيره أهله في الناصرة أنه اختص كفرناحوم بمعظم معجزاته وآياته أكثر منهم «كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك» (لو 23:4). وهكذا أتيح لكفرناحوم فرصة ضخمة للتوبة وقبول المسيح والتهذيب بتعليمه لولا معدن شعبها الذي اختلط بالأمم وصار على أخلاق وسلوك ذميم.

أما كورزين وبيت صيدا مدينة بطرس الأولى فهما خاملتا الذكر، وقد خدم فيهما المسيح وعمل معجزاته وشفي مرضاهم. أما صور وصيدا فهما مدينتان أمميتان خليعتان على الساحل احتار الأنبياء في وصفهما لأنهما عصينا الرب ورفضتا مشيئته «وحي من جهة صور ولولي يا سفن ترشيش لأنها خربت حتى ليس بيت …» (إش 1:23) (انظر إشعياء 23 كله وحز 26 و 27)؛ «ها أنذا عليك يا صور فأصعد عليك أمماً كثيرة كما يعلي البحر أمواجه فيخربون أسوار صور …» (حز 26: 3 و 4) كان شعبها متغطرساً وثنيا مستغلا، ولكن مدن الجليل كانت في نظر المسيح أسوأ من حال هذه المدن في أيامها الوثنية لأنه خدم فيها وعلم وعمل المعجزات ولم تتب.

أما كفرناحوم فخصص لها المسيح إدانة خاصة، لأن التعب والجهد الذي بذل لخدمة أهلها وعمل المعجزات فيها كان كافياً – كما يقول المسيح – أن يجعل سدوم تتوب قديماً وتنجو من بركان النار الذي دفنها في الأرض حية. وكانت مدينة ذات ماض أثيم في النجاسة والتسفل الأخلاقي المنحط.

المسيح يشكر الآب لاستعلان حقيقة المسيا 11: 25-27

25:11 و 26 في ذلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاء وَأَعْلَنْتَهَا لِلأطفال. نَعْمْ أَيُّهَا الآب لأن هكذا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ».

لأول وهلة يبدو للقارئ أن لا علاقة لهذه الآية بالنسبة لهذا الأصحاح بأجمعه، فهو يحكي عن المقاومات والرفض واللعنات على المدن التي لم تسمع ولم تتب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نسمع هنا ولأول مرة أن المسيح يفرح فرحة غامرة وليس لأي سبب أمامنا، ثم يشكر الآب ويحمده وليس على أي شيء أمامنا. ثم ما هذا الذي أخفاه الله عن الحكماء الذين هم الكتبة والفهماء الذين هم الفريسيون، وأعلنه للأطفال الذين هم تلاميذه المؤهلون لدخول الملكوت؟

فبالبحث وجد الكاتب ” أن مكانها الوحيد في الإنجيل كله يمكن أن يكون بعد أن أعلن ق. بطرس إجابته لسؤال المسيح وأنتم من تقولون إني أنا ؟ فأجاب: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» فأجاب وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات» (مت 17:16). ثم يستطرد قائلاً: «وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال الصغار . نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك» (لو .21:10). هنا رفع الحمد للآب، لأن الأب أعلن مسيانية الابن لبطرس. وقوله: “هذه ” يعني بها استعلان مسيانية المسيح.

وأعتقد أن القارئ سيوافقني أن هذا المكان هو – لا نقول أنسب مكان وحسب – بل المكان الوحيد الذي يليق بالمسيح ليتهلل بالروح لأن الأب أعلن حقيقة المسيا لتلاميذه لأن من هذه اللحظة بدأ المسيح يكشف عن مسيانيته وآلامه المزمعة.

لذلك نقترح أن تقرأ هذه الآية (25:11) بعد (مت 17:16) ، كذلك تكملة الآية: «لأن هكذا صارت المسرة أمامك» واضح أنها تتبع كيف أن مسرَّة الآب أن يخفيها مسيانيته عن الكتبة والفريسيين ويعلنها لتلاميذه.

27:11 «كُلَّ شَيْءٍ قَدْ دُفعَ إِليَّ مِنْ أبي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلا الْآبُ، وَلَا أَحَدٌ يَعْرِفُ الآب إِلا الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ».

كذلك نرى أن هذه الآية ليس لها أي موضع في هذا الأصحاح وموضعها المناسب هو بعد أن أعلن ق. بطرس عن إيمان التلاميذ بالمسيا – وهو أساساً استعلان الآب له – وفرحة المسيح بهذا الإعلان. وتأتي لتكمل قول ق. بطرس أنت هو المسيح ابن الله فهنا يؤكد المسيح لتلاميذه وحدهم أنه ابن الله وأن كل معرفة الأب هي عنده كمعرفة الآب له التي أعلنها الآب لبطرس، وأن كل شيء قد دفع إليه من أبيه، التي عاد وكررها بعد القيامة ليعزّز بها إرساليته لتلاميذه في كل العالم كما جاءت في إنجيل ق. متى « فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم…» (مت 18:28و 19) .

أما المناسبة التي قال بسببها الآية هنا (27:11) فهي بسبب استعلان التلاميذ لمسيانيته وبنوته الله التي أهلتهم للتلمذة، أما إرساليتهم إلى العالم فتأخرت حتى القيامة.

«ومن أراد الابن أن يعلن له»، هذه تجيء ردًّا على إعلان الآب لبطرس عن يسوع أنه المسيح ابن الله، فهو يكمل بسلطان بنوته الذي يعلن به الآب كما أعلن الاب الابن لبطرس والمعنى رائع للغاية، فالاب يعلن الابن والابن يعلن الآب، وهي معلومة لاهوتية عالية القيمة جداً لها سببها ولياقتها ووقتها الصحيح تماماً، لأن بدء الاستعلان أتى من فوق من الأب أولاً.

دعوة للراحة 11: 28-30

30-28:11 «تعالوا إِليَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالتَّقِيلي الأحمال، وأنا أريحُكُمْ احْمِلُوا نِيري عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأنّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ القلب، فَتَجِدُوا رَاحَة لِنُفوسِكُمْ. لأَنَّ نِيري هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ».

عاد المسيح هنا في هذه الآية ليكشف أعظم أسرار مسيانيته التي جاء ليؤديها على أرض الشقاء، فهي تقف إزاء تعاليم الكتبة والفريسيين عن أوامر ولوازم الناموس وطاعته التي ثقلت أحمال الناس، وأرهقت نفوسهم وأرواحهم؛ وإليك تصريح القديس بطرس وهو يراجع مجمع الرسل لكي يرفعوا نير الناموس عن عنق التلاميذ : «فالآن لماذا تجر تجربون الله بوضع نیر (الناموس) على عنق التلاميذ المؤمنين بالمسيح لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله (أع 10:15). والمسيح نفسه يشهد بثقل الأحمال التي يحملها الفريسيون على ظهور الناس من وصايا وتعاليم وفتاو أرهقت أرواح الشعب: «فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يُحركوها بإصبعهم.» (مت 23: 4)

فهنا يرفع المسيح الستار عن منهج المسيا إزاء أعمال الناموس، ولكن بالأكثر نير الخطية البشع الذي إذا ركب الضمير صيره غير صالح للحياة، كما فعل الناموس بهذا (بالمسيح) يتبرر كل مَنْ يؤمن من كل ما لم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس موسى (أع 39:13). وهكذا فالناموس، خاصة في أيدي الكتبة والفريسيين، أصبح هما لا يُحتمل، وبالأكثر فقد كون في ضمير الإنسان الإحساس القاتل بالخطية، ولم يستطع أن يقدم أي نصيحة أو عمل ليريح قلب الإنسان «ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت .» (رو (24:7)

المسيح هنا يقدم راحة لِمَنْ يأتي إليه، وراحة لِمَنْ يحمل نيره.

تعالوا إلي يا جميع المتعبين: 

الذي يشدنا هنا إلى كلام المسيح هو الدعوة العامة: جميع”. هذه أول سمة من سمات المسيا، ويخص بها جميع الخطاة والمتعبين، أما المتعبون فيخص منهم الذين يجهدون فكرهم وقلبهم وروحهم وجسمهم، ليجدوا راحة إزاء ما تركته الخطية في ضمير الإنسان من شعور بالذنب والإثم والنجاسة والضياع، وليس ما يسند أو يعزي أو يشفي. فلما استعلن الآب حقيقة “يسوع” لبطرس أنه هو المسيا ابن الله، في الحال بدأ المسيا يُعلن عن عمله الفائق في مقابل الناموس الذي عرفنا بالخطية ولا يزال المسيح هنا يقدم الراحة.

وأنا أريحكم

الراحة هنا ليست كلاماً ولا وعوداً، لأن الذي يُقيمها ويُديمها ويضمنها أنا ge”. صحيح أننا سنعرف بعد ذلك كيف سيرفع المسيح الخطايا مكفّراً عنها بذبيحة نفسه، ويبدد شبح الموت القاتل بأن يهب «روح الحياة في المسيح يسوع» (رو 8: 2) ، ويعطي سر جسده «لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت (يو 50:6)؛ ولكن قبل ذلك كله واعتماداً على ذلك كله، يعطي هنا الوعد الدائم الأبدي أن كل مَنْ يأتي إليه ويلمس هدب ثوبه أو جرح يده أو جنبه ، فمهما كان تعبه فهو يريحه – إيمانك قد أراحك – هذا عمل أقنوم الابن في وضعه المسياني. وهنا القول: «تعالوا إليَّ» أي المجيء إلى المسيح” يعني الإيمان به مع الثقة بلمس القلب. ففي لحظة الإيمان بالمسيح تنتهي كل هموم الإنسان وأتعابه، إذ يمسك المسيح بزمام الحياة وبعد ذلك سيرى الإنسان ماذا عمل المسيح له، ويتعرف على الإنجيل، ولكن التركيز هنا على المسيح بشخصه. المسيح هنا يراهن جميع المتعبين والثقيلي الأحمال أن يجازفوا ويأتوا إليه ليروا كيف يعطيهم الراحة في الحال وهي عينها الراحة الأبدية.

ولكي يؤكد المسيح قدرة ” أنا” على إعطاء الراحة في الحال سبق وقال: «كل شيء قد دفع إليَّ من أبي «لو 22:10)، وقد وضحته الآية المقابلة: دفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 18:28) وكأنه يقول: «أنا أريحكم» قد قلتها لكم، وأمين أنا فيما قلت فسأريحكم حتماً، ولكن آمنوا لتروا. وعدي هذا أمسكوه فيكون لكم، هذا هو عملي، ألقوا علي همكم فأحمله عنكم وأعطيكم سلامي. لقد جئت لتكون لكم حياة ويكون لكم أفضل (يو 10: 10).

صحيح أن “أنا المسيح تحمل مضمون الفداء والخلاص والتبنّي وميراث الملكوت، ولكن “أنا المسيح بحد ذاتها هي قوة الفداء والخلاص فالذي يؤمن بالمسيح بمعنى كل من يأتي إليه، يدخل في الحال في ملء فدائه وخلاصه.

وتحقيقاً لهذا الكلام بل وتأكيداً له، أعرف إنساناً كان يجدف على المسيح ويضطهد المؤمنين به ويهين صليبه، ولكن في يوم ما نخسه قلبه أن يتعرف على هذا المسيح، فبمجرد أن طلب التعرف على شخصه ظهر له ورحب به و عرفه بنفسه وشرح له موته وقيامته، وأكمل له فرحه فرحاً بقي معه حتى في أحلك الأوقات. إذن فقول المسيح: تعالوا إليَّ حق هو وفيه كل تحقيق الوعود وتكميل الأعمال !!

وعلى القارئ أن يلاحظ أن المسيح هنا يكشف أعماق لاهوته بلا شرح وأظهر ما في هذه الدعوة هو رفع الأحمال والأثقال من فوق الضمير ومن على الظهر ليعود الإنسان طفلاً يسعد بالحياة دون ثقل أو هم، خليقة جديدة هذا كله في مقابل ما صنع العهد القديم وناموسه ووصاياه وتعاليم كتبته وفريسيه. المسيح هنا يكشف منهجه العملي بلا شرح هو مجرد وعد، كل من صدقه وأتى إليه صار عالماً بالمسيا ودارسا للاهوته وقوته واقتداره بلا معلم ولا كتاب.

إشعياء لم يكن يعرف شخص المسيا ولكن اشتهى أن يراه، وفي شهوته عاش دون أن يراه، ولكن لم يفارق قلبه ولا نفسه مع أنه لم يدرس لاهوته ولا أدرك شكله: «إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس، بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر . » (إش 8:26و9).

والمسيح يسبقنا إلى هذا العشق وإلى تكميل شهوة الحب، وهو يعطي ذاته لِمَنْ يقدّم له المحبة والعبادة. كل ما ندور حوله الآن هو التعريف بقوة “أنا أريحكم”. فهي راحة فوق العقل، لأنها تجعل كل شيء في الإنسان جديداً. لقد عبر عنها القديس يعقوب شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه (يع 18:1). فهي خليقة جديدة أو كما عبر عنها المسيح نفسه ولادة من فوق !

المثيل لهذه الآية: «سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا .» (يو 14: 27)

«احملوا نيري عليكم» 

في الآية السابقة أعطى المسيح صورة لحضن المسيا المريح الذي يتسع لجميع المتعبين والثقيلي الأحمال.

أما هنا فيدعو الذين جاءوا إليه واحتموا في حضنه أن يتتلمذوا عليه، فالنير هونير المبادئ والعقيدة، وهو في جملته الإنجيل والإيمان والمسير وراءه. فهو كمعلم تعليمه مريح للنفس وهو يسقي أولاده المعرفة من ينابيع سرية كما يرضع الولد من ثدي أمه، فهو يَمْخَضُ بمحبيه ويلدهم جدداً للسماء أبناء أورشليم الحرة هل أنا أمخض ولا أولد يقول الرب، أو أنا المولد هل أغلق الرحم ، قال إلهك. افرحوا مع أورشليم وابتهجوا معها يا جميع محبيها افرحوا معها فرحاً يا جميع النائحين عليها، لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعزياتها، لكي تعصروا وتتلذذوا من درة (ضرع) مجدها.» (إش 9:66-11)

والمسيا لما يعلم، لا يعلم بالعلم ولا بالكتابة بل بالنظر إليه: «التفتوا إلي واخلصوا إش 22:45)، «نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل (مز 5:34) ناظرین مجد الرب بوجه مكشوف … نتغير إلى تلك الصورة عينها …» (2كو 18:3). هو يعطي نفسه، فقط هو يريد مِمَّنْ يتبعه أن يفتح عينيه وأذنيه، لأنه دون أن يحس ودون أن يُجهد عقله وفكره يتغيَّر إلى تلك الصورة عينها.

«تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب»:

و تعلموا مني”، هنا تجيء بصورة الأمر، وهكذا كل وصايا الله أمر هي، لأن الله والمسيح لا يعطيان أمراً إلا وهو واجب التنفيذ، فهو فعل نافذ لكل من يأتمر به. فأمر المسيح: تعالوا ” كل من يسمعها ويطيعها يدخل الحضرة الإلهية، واحملوا نيري ” كل من تبع حمل، وتعلموا مني ” كل من سمع وأبصر عَلِمَ وعَمِلَ . فالمسيا يحمل طاقة جديدة للبشرية مجاناً تعمل وتأتي بجديد، ليس كالناموس القديم يكوم على الظهر وينكد على الضمير، بل فرحه فرح السماء ، دخل إلى عالمنا بالفرح والتهليل وتمجيد الله والسلام على الأرض، وتركها لنا وذهب ليعد لنا مكاناً في حضن الله.

لأني وديع ومتواضع القلب»: المسيح يقدم نفسه النموذج الحي الذي يشع صفات بني الملكوت. فهو يجسد الوداعة والتواضع، وهما الصفتان الأساسيتان لدخول الملكوت اللتان ألبسهما في السابق لشخصية “ولد ” وقال: «مَنْ لا يَقْبَلُ ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله.» (مر 15:10)

والآن جسد المسيح هاتين الصفتين لذاته إنما بصورة فعّالة قادرة أن تعطي ذاتها كمن يقول: أنا أصل الطفولة ومنبع الملكوت، وقد لخص فيهما تطويبات الآيات الثلاث الأولى من عظته على الجبل. وفي الحقيقة فإن هاتين الصفتين إن حملهما الإنسان في قلبه – والقلب هو مركز الوداعة ومصدر التواضع . صار له في الحال نير الرب هينا وحمله خفيفاً، وتسكن الراحة قلبه وفكره وحياته كلها. وهذا تعبير عملي عن مؤهلات إنسان الملكوت لذلك ومن واقع أعمال الكتبة والفريسيين للطريق القديمة المؤدية إلى استرضاء الله – من أعمال ثقيلة وذبائح وعقوبات وتهديدات – يقف المسيح لينادي بنفسه: «أنا هو الطريق والحق والحياة.» (يو 6:14)

هذا هو نيري: “وداعتي ، وهذا هو حملي تواضعي”، كل من قبلني سار بي إلى قلب الله، وتأهل للملكوت. كانت راحتهم السبت، أما سبتي الذي أهديه إليكم فهو “أنا”، تعالوا إليَّ فأريحكم وتعلموا مني تجدوا راحة لنفوسكم.

إن تواضع المسيح من طبيعته وليس من أخلاقه، لذلك فهو قادر أن يهبنا تواضعه. ويمكن أن نتأمل كيف أن المسيح ترك موضعه في السماء في المجد، ونزل إلى أرض الشقاء بإرادته ومسرته، ثم كيف ترك كل درجات البشرية التي كان يمكن أن يأتي في صورتها، إن ملكا أو رئيساً أو عظيماً أو كاهنا، ولكن ترك كل المواضع العليا واختار على الأرض موضع العبد الخادم الذي يخدم ويغسل الأرجل؛ فهولم يدع التواضع بل عاشه واحتكره لنفسه.

وهو عندما يدعونا لنأتي إليه واعداً بالراحة فليس من فراغ، فوداعته واتضاعه تجعلاننا نأخذ مكاننا معه مهما كنا خطاة ومدسين، وصفته الإنجيلية “محب للعشارين والخطاة لم تأت من فراغ. فوداعته واتضاعه جعلا محبته صادقة ومقبولة وحلوة لا يجد فيها الخطاة أي نشاز مع ضعفهم. ومن هنا سر إمكانية وضع ثقل أحمالنا عليه ووجود راحتنا عنده مهما كانت أحمالنا.

لذلك نرى أن ذكر آخر جواهر دعوته يستودعها السر كله. فسر الدعوة من أولها واقع على قوله: «لأني وديع ومتواضع القلب وهنا ثقل أنت في أحمالك كيفما شئت، وأوصف مرارة أحزانك وأتعابك إلى أقصى ما بلغت، فهذه كلها تذوب عندما تتقابل معه لأنه في ما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين.» (عب 18:2)

ولكن أيضاً في قوله فتجدوا راحة لنفوسكم هنا لا يجعل الراحة راحة فكر ولا راحة جسد أو أعصاب، بل راحة تستقر في النفس لتتوزع على كل كيان الإنسان، لا مرة واحدة بل كطبيعة جديدة تكتسبها النفس من طبيعته. وهكذا تستقر الراحة في مركز الإنسان الذي غابت عنه الراحة. ولكن – وهذا هو الثمين جداً في وعد الرب – أن راحة المسيح التي تعطى هنا بسخاء هي مقدم أو عربون الراحة العليا والعظمى التي على أساسها أقام دعوته تعالوا إلي”. فهي راحة الحاضر والمستقبل، راحة النفس والروح والأبد.

فالمسيح لا يحمل أحمالنا وحسب، بل يحملنا بأحمالنا. وتعالوا إلي تنتهي بقوله: «أنتم في وأنا فيكم.

تفسير إنجيل متى – 10 إنجيل متى – 11 تفسير إنجيل متى تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل متى – 12
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل متى – 11 تفاسير إنجيل متى تفاسير العهد الجديد
 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى