تفسير إنجيل يوحنا ١٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح العاشر
الراعي الصالح
جاء حديث السيد المسيح عن الراعي الصالح بعد تفتيح عيني المولود أعمى، حيث ظهر الفارق واضحًا بين الراعي المهتم بخرافه وبين الأجراء؛ أي بين السيد المسيح الذي يشتاق إلى خلاص البشرية والفريسيين الذين يهمتمون بكرامتهم الذاتية وسلطانهم ومكاسبهم.
في الأصحاح السابق يود السيد المسيح أن يهب كل نفس نعمة البصيرة لكي تتعرف على الحق. وما هو الحق إلا إدراك أن كلمة اللَّه المتجسد هو الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف. يُعتبر هذا الاصحاح امتدادًا لحوار السيد المسيح مع الفريسيين في نهاية الاصحاح السابق. فقد أخذ الفريسيون موقفًا معاديًا له، على أساس أنهم المعلمون ورعاة كنيسة الله، وأن لا موضع ليسوع كاسر الناموس بينهم، مطالبين الشعب ألا يلتصقوا به، لأنه ليس من عند الله. جاء الحديث هنا يكشف عن ثلاثة فئات: فئة الرعاة الحقيقيين، الخدام الأجراء، اللصوص الذين يتخفون في زي رعاة.
مسيحنا مشبع كل احتياجاتنا
طُرد اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح من المجمع، ولم يعد لهم حق الدخول إلى الهيكل، ولا ممارسة العبادة اليهودية، ولا الطقوس الخاصة بالتطهيرات والأعياد الخ. فجاء هذا السفر يعلن أن يسوع المسيح يشبع كل احتياجاتهم، فيه كل الكفاية، فقد قد احتل موقع كل المؤسسات اليهودية وكل الامتيازات الخاصة بهم، ولكن بصورة فائقة إلهية.
يو 1: يعتز اليهود بموسى مستلم الناموس، أما يسوع فهو الكلمة، الذي مع الآب، وواحد معه، واهب نعمة فوق نعمة.
يو 2: يعتز اليهود بطقوس التطهيرات الناموسية، أما يسوع فيحول مياه التطهيرات إلى خمرٍ جديدٍ وفريدٍ.
يو 5: يفتخر اليهود بحفظهم السبت في حرفية، فأعلن يسوع أنه السبت الحقيقي الذي يعمل ما يعمله اللَّه الآب (يو5: 16-18).
يو 6: يفتخر اليهود بأن آباءهم أكلوا المن النازل من السماء في البرية، أما يسوع فهو الفصح الحقيقي، الخبز السماوي، وهو الذي ينقذ من الماء (سار على الماء كما عبر بالشعب بحر سوف).
يو 7-8: في عيد المظال يقدم نفسه الماء الحي والنور الحقيقي.
يو 10: عوض عيد التجديد يقدم نفسه، إذ يكرسه الآب لحساب خلاص العالم.
صور الإنجيلي هذا الحديث الثامن للسيد المسيح والذي ركز على رعايته الباذلة بعد صنع معجزة تفتيحه عيني المولود أعمى الذي طُرد من المجمع اليهودي. فالتلميذ الحقيقي للسيد المسيح يُطرد من القطيع اليهودي أو من حرفية الناموس لينعم بالعضوية في قطيع المسيح الذي تفتحت أعينه لمعاينة أسرار الملكوت.
1 – الراعي الصالح 1-21.
في هذا المثل تظهر اليهودية كقطيع (1)، والسيد المسيح هو الراعي الصالح الذي يأتي من الباب المعين (خلال باب النبوات) إلى القطيع. والروح القدس يفتح له الباب، ويتجاوب القطيع الحقيقي معه، حيث تشفى أعينهم ويعاينوا الراعي. يخرج بهم الراعي عن حرفية الناموس (3) وعن الارتداد وعدم الإيمان، بينما يرفض الحرفيون الراعي الصالح (4، 5).
نرى في هذا المثل الآتي:
أ – السيد المسيح وليس الناموس هو باب القطيع، الباب الجديد (7).
ب – كل القيادات اليهودية الحرفية الرافضة للمسيح هم لصوص (8).
ج – المسيح وحده هو المخلص، السيد، معطي ذاته (9، 10).
د – المسيح هو ذبيحة الحب يموت عن قطيعه (11-15).
ه – للراعي الصالح قطيع آخر من الأمم يضمه إلى المؤمنين من اليهود، ويقيم منهم جميعًا قطيعًا واحدًا هو كنيسة المسيح (16، 1 كو 13:12، أف 4:4-6)
و- يتفاعل هذا القطيع الواحد مع ذبيحـة المسيح الفريدة ومـوته الاختياري (17، 18). أما عدم الإيمان فيعجز عن تقديم أي شيء سوى الارتباك والتجديف الشرير.
“الحق الحق أقول لكم
إن الذي لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف،
بل يطلع من موضع آخر،
فذاك سارق ولص”. (1)
تلجأ الخراف إلى حظيرة الخراف ليلاً، غالبًا ما تكون ملاصقة لبيت الراعي. للحظيرة باب واحد يحرسه البواب. لهذا من أراد السرقة يلجأ إلى التسلل عن طريق الوثب من حائط الحظيرة.
يشبه السيد المسيح نفسه براعي الخراف المهتم بقطيعه، والكنيسة في العالم أشبه بمرعى، حيث تضم في داخلها الخراف المشتتة في العالم (يو ١١: ٥٢)، ليتحدوا معه كقطيعٍ مقدسٍ يرعاه الراعي القدوس، هذا الذي يحتضنه فيكون لهم سور نارٍ لحمايتهم (زك ٢: ٥). أما استخدام قطيع الخراف كرمزٍ لكنيسة المسيح، ذلك لما اتسمت به الخراف من وداعة وهدوء وتسليم بين يدي راعيها، والتصاقها ببعضها البعض.
قدم السيد المسيح هذا التشبيه، لأن الخراف تتسم بعجزها عن دفاعها عن النفس ضد أي هجوم، إنما تعتمد تمامًا على اهتمام راعيها وسهره على حمايتها. تعتمد أيضًا في طعامها وشرابها على الراعي الذي يتقدمها، فحتى في البلاد التي تتسم بغزارة الأمطار يحتاج القطيع إلى من يقوده إلى فترة طويلة إلى مراكز المياه لكي يشرب، ولا تبحث عنها الخراف بنفسها. وفي دخولها إلى الحظيرة لا تبدأ بالدخول حتى وإن لحق بها مخاطر من وحوش ضارية ما لم يقود الراعي خروفًا أو اثنين من الباب فتسير بقية الخراف وراءه أو وراءهما.
v إن وجدنا هذه الشخصيات الثلاث أيها الأخوة القديسون، نجد من يليق بنا أن نحبهم، ومن يجب علينا أن نحتملهم، ومن يلزمنا الحذر منهم. فالراعي يُحب، والأجير يُحتمل، واللص يُحذر منه.
القديس أغسطينوس
v لاحظوا سمات اللص؛ أولاً أنه لا يدخل علانية؛ ثانياً لا يدخل حسب الكتب المقدسة، فهذا لا يعنيه، “لا يدخل من الباب” (١). هنا أيضًا يشير إلى الذين جاءوا قبلاً والذين سيأتون بعده، ضد المسيح والمسحاء الكذبة، يهوذا وثيداس (أع ٥:٣٦) وكل من على شاكلتهم.
في قول السيد المسيح: “إن الذي لا يدخل من الباب”، المقصود بالباب هنا هو الكتبالمقدسة، لأنها تدخل بنا إلى الله، وتفتح لنا المعرفة بإلهنا، وهي تحفظنا، ولا تترك الذئاب تدخل إلينا، لأنها بصورة باب، تغلق المدخل في وجه ذوي البدع، وتصيرنا في صيانة من خداعهم، ولا تهملنا حتى لا ننخدع. لأننا بالكتب نعرف الرعاة، والذين ليسوا برعاة، ولهذا قال السيد المسيح لليهود: “فتشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي” (يو 5: 39). إنها تجلب موسى وتدعوه هو وكل الأنبياء شهودًا، إذ يقول: “كل من يسمع الأنبياء يأتي إليّ” وأيضًا: “لو صدقتم موسى تؤمنون بي”… حسنًا يقول: “يتسلق (يصعد) وليس “يدخل”، فإن التسلق هو من عمل السارق الذي يضع في نيته أن يقفز فوق السور، يفعل ذلك وهو معرض للخطر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لقد أعلنوا أنهم ليسوا عميانًا، ومع ذلك كان يمكنهم أن يروا فقط إن صاروا قطيع المسيح.
من أين لهم أن يدعوا بأن لهم النور هؤلاء الذين يعملون كلصوصٍ ضد النهار؟ ذلك بسبب بطلانهم وكبريائهم وتشامخهم العضال، لذلك أضاف الرب يسوع تلك الكلمات التي فيها يقدم لنا نحن أيضًا دروسًا قيمة إن دخلنا بها إلى القلب. إذ يوجد كثيرون بحسب عادة الحياة يُدعون صالحين – رجال صالحين، نساء صالحات، أبرياء – لمن يراعون ما جاء في الناموس: يحترمون والديهم، ويمتنعون عن الزنا، ولا يقتلون ولا يسرقون، ولا يشهدون باطلاً ضد أحد، ويراعون كل متطلبات الناموس الأخرى. ومع هذا فهم غير مسيحيين، ويسألون بتشامخٍ مثل هؤلاء الناس: “هل نحن أيضًا عميان؟”…
إنهم يعملون بلا هدف، ولا يدخلون من الباب الذي يقود إلى الحظيرة.
قد يقول الوثنيون: نحن نحيا بصلاح.
إن لم يدخلوا من الباب، أية إرادة صالحة هذه يمارسونها، ومع ذلك فهم متشامخون؟…
ليس لأحد رجاء حسن للحياة ما لم يعرف الحياة، أي المسيح، ويدخل الحظيرة من الباب.
v يوجد فلاسفة لهم مناقشات بارعة عن الفضائل والرذائل، يميزون بينها، ويقدمون تعريفات لها، وفي النهاية يقدمون تسلسلاً عقليًا دقيقًا، يملأون الكتب، ويحمون حكمتهم بأحاديث ثرثارة؛ هؤلاء يجسرون ويقولون للناس اتبعونا، انضموا إلى فرقتنا إن أردتم أن تعيشوا سعداء. لكنهم لا يدخلون من الباب؛ هؤلاء يريدون أن يحطموا ويذبحوا ويقتلوا.
v هل يمكن للفريسي أن ينطق بالصالحات؟
الفريسي هو شوك، فكيف أجني من الشوك عنبًا (مت ٧: ١٦؛ ١٢: ٣٣)؟
لأنك يا رب تقول: “ما يقولونه أعملوه، وأما ما يفعلوه فلا تفعلوه” (مت ٢٣: ٣).
هل تأمرني أن أجمع عنبًا من الشوك عندما تقول: “هل يجتنون من الشوك عنبا”؟ يجيبك الرب: “لست آمرك أن تجمع من الشوك عنبًا، بل أن تتطلع وتلاحظ حسنًا كما يحدث غالبَا عندما تتدلى الكرمة المرتفعة عن الأرض ألا تكون مشتبكة مع الأشواك”. فإننا نجد أحيانا يا اخوتي كرمة مزروعة… يكون حولها سياج من الأشواك، تلقي بفروعها متشابكة بين الأشواك. والذي يريد أن يقتطف عنبًا لا يجنيه من الأشواك بل من الكرمة المتشابكة مع الأشواك.
بنفس الطريقة فإن الفريسيين مملوءون بالأشواك، لكنهم إذ يجلسون على كرسي موسى تحيط بهم الكرمة والعنب الذي هو الكلمات الصالحة، والوصايا الصالحة تتدلى منهم. لتقطف عنبًا دون أن يوخزك الشوك، عندما تقرأ: “ما يقولوه اعملوه، وأما ما يفعلوه فلا تفعلوه”. لكن الشوك يوخزك إن كنت تفعل ما يفعلونه. فلكي تجتني عنبًا دون أن يمسك بك الشوك “ما يقولوه افعلوه، وأما ما يفعلونه فلا تفعلوه”.
أعمالهم هي الأشواك، كلماتهم هي العنب، لكنه صادر عن الكرمة التي هي كرسي موسى.
v ضميري ليس صالحًا لأنكم تمدحونه، إذ كيف تمدحون ما لا ترونه؟
ليمدحني (الله) الذي يرى.
نعم، ليُصلحه إن كان يرى فيه شيئًا يضاد عينيه.
فإنني أيضًا لا أقول إنني كاملاً تمامًا، لكنني أقرع صدري، وأقول لله: “ارحمني لكي لا أخطئ”. لكنني أظن أنني أتكلم في حضرته بأنني لا أطلب شيئًا منكم بل أطلب خلاصكم، وأنتهر على الدوام خطايا اخوتي، وأحتمل ضيقات، وذهني يعذبني، ودومًا أوبخهم. نعم لا أكف عن حثهم. كل الذين يتذكرون ما أقوله هم شهود، كيف انتهر يا اخوتي من يخطئون بدون حسدٍ.
القديس أغسطينوس
“وأما الذي يدخل من الباب
فهو راعي الخراف”. (2)
راعي الخراف هو صاحب القطيع، يهتم بكل واحدٍ منهم، يدخل إليهم من الباب بكونه صاحب سلطان. يدخل لكي يعمل لحساب الكل. وكما يقول الله نفسه: “أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب؛ وأطلب الضال، وأسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين القوي، وأرعاها بعدلٍ” (حز ٣٤: ١٥-١٦).
“لهذا يفتح البواب،
والخراف تسمع صوته،
فيدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها”. (3)
v ليس ما يمنع من الخطر أن نفترض في موسى أنه البواب، فإنه قد عُهد إليه حفظ تعاليم الله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ليتنا لا نرتبك أيها الاخوة في فهمه، إذ يحمل تشبيهات بكونه هو الباب وأيضًا البواب. لأنه ما هو الباب؟ طريق الدخول. من هو البواب؟ ذاك الذي يفتح الباب. إذن من هو ذاك الذي يفتحه إلاَّ هو نفسه حيث يكشف عن ذاته ليُرى؟
القديس أغسطينوس
“ومتى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها،
والخراف تتبعه،
لأنها تعرف صوته”. (4)
إذ يرسل الراعي الصالح خرافه ليس في الطريق الذي بلا ذئاب بل يؤكد لهم أنه يرسلهم “وسط الذئاب” (مت ١٠: ١٦)، لذلك يتقدمهم في الطريق حتى إذا ما هاجمتهم الذئاب إنما تهاجمه هو، فيحول الذئاب إلى حملان وديعة. لقد تقدم قطيعه في مرعى الصليب والآلام، حتى لا يخشى القطيع طريق الجلجثة، ولا يهابون الموت، ماداموا في رفقة المصلوب.
v يعمل الرعاة خلاف ذلك إذ يمشون وراء الخراف، ولكن السيد المسيح يبين هنا أنه هو الذي يرشد جميع تابعيه إلى الحق.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وأما الغريب فلا تتبعه،
بل تهرب منه،
لأنها لا تعرف صوت الغرباء”. (5)
القطيع غير العاقل يعرف صاحبه فيلتصق به، وإذ لا تعرف صوت الغرباء تهرب منهم. وكما قيل: “الثور يعرف قانيه” (إش ١: ٣).
“هذا المثل قاله لهم يسوع،
وأما هم فلم يفهموا ما هو الذي كان يكلمهم به”. (6)
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه بهذه العبارة يفصل السيد المسيح بينه وبين المسحاء الكذبة، فإنه بكل وسيلة كان يفعل هذا.
أولاً: تعاليمه من الكتب المقدس التي تشهد له، أما المسحاء الكذبة فيجتذبون الناس بعيدًا عن كلمة الله.
ثانيًا: طاعة الخراف له، إذ يؤمنون به ليس فقط حين كان سالكًا على الأرض بل وحتى بعد موته وصعوده إلى السماء. أما المسحاء الكذبة فتتركهم الخراف كما حدث مع ثيداس ويهوذا إذ تشتت الذين آمنوا بهما (أع ٥: ٣٦).
ثالثًا: يعمل الكذبة كمتمردين ويسببوا ثورات، أما هو فعندما أرادوا أن يجعلوه ملكًا اختفى. وعندئذ سُئل إن كان يجوز أن تقدم الجزية لقيصر، أمرهم بدفعها، بل هو نفسه دفعها (مت ١٧: ٢٧).
رابعًا: جاء لخلاص الخراف، لكي تكون لهم حياة، ويكون لهم أفضل (١٠). أما الكذبة فيحرمونهم حتى من الحياة الزمنية، إذ يتركونهم في لحظات الخطر ويهربوا لينجوا.
لم يدرك اليهود ما عناه السيد المسيح بالمثل؛ لم يفهموا أن يسوع المسيح هو الراعي الصالح، ولا أن الأجراء هم الخدام الذين يطلبون ما لنفعهم الشخصي وليس ما هو لنفع القطيع، وأيضًا السراق واللصوص هم الذين يطلبون كرامتهم الشخصية، حتى وإن كان الثمن هلاك القطيع.
لم يستطع الفريسيون فهمه، هؤلاء الذين يحسبون أنفسهم معلمين للشعب، أصحاب معرفة، ولا يحتاجون إلى أن يتعلموا شيئًا. بين أيديهم كلمة الله، لكنهم يسيئون فهمها بسبب قسوة قلوبهم، وعمى بصيرتهم الداخلية.
“فقال لهم يسوع أيضًا:
الحق الحق أقول لكم إني أنا باب الخراف”. (7)
إنه باب المرعى، باب الكنيسة. يَغلق لا ليحبس القطيع، وإنما ليحميه من الذئاب واللصوص، فلا يهلكون. إنه الحكمة والقوة والبرّ من يدخل منه يدخل إليه، وينعم بهذا كله. إنه باب مغلق في وجه الذئاب، لكنه باب الحب للخراف كي تدخل وتخرج وتلتقي معًا في شركة الحب الأخوي. لذا يدعو نفسه “باب الخراف“، لن يقدر ذئب أن يدخل منه ما لم يتحول إلى حملٍ حقيقيٍ.
إنه الباب الملوكي الإلهي، بل ندخل إلى العرش الإلهي وننعم بالحياة السماوية.
والعجيب أن راعي الخراف عومل كلصٍ، فخرجوا عليه بسيوفٍ وعصيٍ للقبض عليه (مت ٢٦: ٥٥)، لأنه لم يدخل من خلال هؤلاء اللصوص والذئاب الخاطفة، ولم يكن يستأذنهم في خدمته لشعبه. عوض التلمذة له ليسلكوا بروحه كانوا ينتظرون تلمذته لهم، ليسلك بروحهم المعادية للحق الإلهي وللحب الرعوي الحقيقي.
v عندما يحضرنا إلى الآب يدعو نفسه “بابًا“، وعندما يرعانا يدعو نفسه “راعيًا“. فلكي لا تظنوا أن عمله الوحيد أن يحضرنا إلى الآب لذلك دعا نفسه راعيًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يسوع هو كل شيء، كل الأسماء تناسبه. إنه كل شيء يعلنه.
العلامة أوريجينوس
v للمحتاجين إلى البهجة يصير لهم كرمة، وللمحتاجين إلى الدخول يقف كبابٍ.
القديس كيرلس الأورشليمي
v هو نفسه الباب؛ لنأتِِ فيه ونعرفه. لندخل أو لنفرح أننا بالفعل فيه.
v جاء قبله الأنبياء، فهل كانوا سراقًا ولصوصًا؟ حاشا. إنهم لم يأتوا منفصلين عنه، بل جاءوا معه. عند مجيئه أرسل رسلاً لكنه احتفظ بقلوب رسله. أتريدون أن تعرفوا أنهم جاءوا معه ذاك الذي هو حاضر على الدوام؟ بالتأكيد هو أخذ جسدًا بشريًا في الوقت المعين. لكن ماذا يعني: “على الدوام”؟ “في البدء كان الكلمة” (يو ١: ١). جاء معه من جاءوا مع كلمة الله. لقد قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو ١٤: ٦). إن كان هو الحق، فقد جاء معه من هم صادقون. لكن كثيرين إذ انفصلوا عنه هؤلاء هم سراق ولصوص، أي جاءوا ليسرقوا ويدمروا.
v “ولكن الخراف لم تسمع لهم” هذه نقطة أكثر أهمية. قبل مجيء ربنا يسوع المسيح، حيث جاء في تواضع في الجسد، سمعه أناس أبرار، آمنوا به أنه سيأتي بنفس الطريقة التي لنا أنه قد جاء.
الأوقات تتغير لكن ليس الإيمان… في أوقاتٍ متغيرةٍ حقًا لكن الدخول من باب واحد للإيمان، أي المسيح، فنرى كليهما قد دخلا…
يقول (الرسول): “جميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، الصخرة كانت المسيح” (١ كو ١٠: ٤). انظروا بينما بقي الإيمان تغيرت العلامات. هناك الصخرة كانت المسيح، أما بالنسبة لنا فالمسيح على مذبح الله… كثيرون في ذلك الوقت آمنوا، سواء إبراهيم أو اسحق أو يعقوب أو موسى أو البطاركة الآخرون والأنبياء الذين تنبأوا عن المسيح، هؤلاء هم خراف سمعوا المسيح. سمعوا صوته وليس صوت آخر.
القديس أغسطينوس
“جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص،
ولكن الخراف لم تسمع لهم”. (8)
v لم يتكلم هنا عن الأنبياء كما ادعى الهراطقة، فإنه إذ آمن كثيرون بالمسيح سمعوا للأنبياء واقتنعوا بهم. إنما يتحدث هنا عن ثيداس ويهوذا وغيرهما من مثيري الفتنة. بجانب هذا يقول: “ولكن الخراف لم تسمع لهم” (٨)، كمن يمدحهم على ذلك. لا نجده في أي موضع يمدح السيد من يرفضوا السماع للأنبياء، وإنما على العكس يوبخهم ويتهمهم بشدة، بينما القول: “لم تسمع” يشير إلى قادة الفتنة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أنا هو الباب،
إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى”. (9)
من يدخل إلى المرعى خلال المسيح، الباب الإلهي، ليس فقط ينجو من اللصوص والسراق، وإنما يتمتع أيضًا بالحرية الحقيقية. يدخل ويخرج بكامل حريته. يدخل كما إلى حضن الأب ليتمتع بأبوته الإلهية، ويخرج إلى العالم كما مع الابن المتجسد ليشهد للحب الإلهي، ويجتذب كثيرين إلى المرعى الإلهي. إنه يخلص ويرد كثيرين بروح الله إلى خلاصهم، فيفرح ويتهلل معهم، ويشبع الكل من مرعى الحب، ويتمتعون بعربون المجد، مترقبين بفرحٍ يوم الرب لمشاركة الرب مجده. إنهم يخلصون من أنياب الأسد ليعيشوا في سلامٍ فائقٍ.
تدخل الخراف من الباب لتجد نفسها في المسيح يسوع كما في بيتها الأبوي، ليست بالخراف الغريبة ولا النزيلة، بل صاحبة بيت، تتحرك بكامل حريتها، إن دخلت تستقر كما في بيتها، لأنها خرجت للعمل إنما إلى حين لتعود وتستريح!
v إنه كما يقول: “يكون في أمان وضمان”. ولكن بقوله “مرعى” يعني هنا الرعاية وتغذية الخراف وسلطانه وسيادته عليهم. إنه يبقى في الداخل ولا يقدر أن يدفعه خارجًا. لقد حدث هذا مع الرسل الذين دخلوا وخرجوا، وصاروا سادة كل العالم، ولم يوجد من يقدر أن يطردهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
كما أنه هو “الطريق”، وليس طريقًا بين طرق كثيرة، إنما الطريق الوحيد الذي يقودنا إلى حضن الآب، هكذا هو “الباب”، لا نقدر أن ندخل السماء من باب آخر غيره، هو الباب الوحيد.
v لنسمو بأفكارنا على اليهود، فإنهم حقًا يقرون بتعاليمهم بالله الواحد، ولكن ماذا يكون هذا وهم ينكرونه خلال عبادتهم للأصنام؟! لكنهم يرفضون أنه أبو ربنا يسوع المسيح. وهم بهذا ينقضون أنبياءهم الذين يؤكدون هذا في الكتب المقدسة، إذ جاء “الرب قال لي أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك” (مز 7:2).
إنهم إلى يومنا هذا يرتجون مجتمعين على الرب و على مسيحه (مز 2:2)، حاسبين أنهم قادرون أن يكونوا أصدقاء للآب وهم منفصلون عن تعبدهم للابن، جاهلين أنه لا يأتي أحد إلى الآب إلا بالابن القائل: “أنا هو الباب والطريق” (يو6:14؛ 9:10).
فمن يرفض الطريق الذي يقود إلى الآب وينكر الباب، كيف يتأهل الدخول لدى اللّه (الآب)؟! إنهم يناقضون ما جاء في المزمور الثامن والثمانين: “هو يدعوني أبي. أنت إلهي وصخرة خلاصي. أنا أيضًا اجعله بكرًا أعلى من ملوك الأرض” (مز 26:89، 27).
القديس كيرلس الأورشليمي
v أقول حقًا إننا ندخل حينما ننشغل بتدريبٍ للفكر داخليًا، ونخرج حينما نمارس عملاً خارجيًا. وكما يقول الرسول إن المسيح يحل في قلوبنا بالإيمان (أف ٣: ١٧). أن ندخل في المسيح، أي نسلم أنفسنا للفكر، حسن هذا الإيمان، أما أن نخرج بالمسيح، فهو أنه بذات الإيمان نمارس أعمالاً في الخارج، أي في حضور آخرين. هنا نقرأ في مزمور: “يخرج إنسان لعمله” (مز ١٠٤: ٢٣). ويقول الرب نفسه: “لتضئ أعمالكم قدام الناس” (مت ٥: ١٦)… أيضًا يبدو لي أنه يعني أنه تكون لهم الحياة في دخولهم وحياة أوفر في رحيلهم… فإنه لا يستطيع أحد أن يخرج بالباب – أي بالمسيح، إلى تلك الحياة الأبدية الذي يُفتح للنظر ما لم يدخل كنيسته بذات الباب أو بذات المسيح نفسه، التي هي قطيعه في الحياة المؤقتة التي تُمارس بالإيمان.
v “ويجد مرعى” (٩)، مشيرًا إلى كليهما: الدخول والخروج، إنهم هناك فقط سيجدون المرعى الحقيقي حيث يشبع الجائعون والعطشى إلى البرّ. هذا المرعى يوجد بواسطة ذاك الذي قيل له: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو ٢٣: ٤٣).
القديس أغسطينوس
v يدخل ليجد إيمانًا، ويخرج من الإيمان إلى الرؤية، ومن الاعتقاد إلى التأمل. يجد مرعى في انتعاشٍ أبديٍ.
سيجد قطيعه مرعى، لأن من يتبعه بقلب بريء ينتعش بطعامٍ أبدي.
ما هي مراعي هذه القطعان إلا المباهج الأبدية للفردوس الدائم الخضرة؟
مرعى المختارين هو وجه الله شخصه. عندما نراه، تشبع قلوبنا بطعام الحياة إلى النهاية.
الذين يهربون من مصائد الملذات الوقتية يفرحون في تلك المراعي في كمال الأبدية. هناك طغمات ملائكة تتغنى بالتسابيح، هناك صحبة المواطنين السمائيين.
البابا غريغوريوس (الكبير)
“السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك،
وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة،
وليكون لهم أفضل”. (10)
الرعاة المخادعون هم سراق، يدخلون لا من خلال باب الحب، بل بروح الخداع بنية شريرة. بخداعهم يذبحون النفوس ويهلكونها. بينما يهتم الراعي بتقديم حياة أفضل، ينشغل اللص بالذبح وقتل النفوس. تسلل اللص إلى القطيع يسبب موتًا، أما نزول الراعي الصالح، الكلمة المتجسد، فيهب حياة أبدية.
إن كان الراعي قد جاء إلى قطيعه في العالم لكي يبررهم ويقدسهم ويمجدهم، فإنه يرد لهم الحياة المفقودة. إنهم لا يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل الخطية، بل إلى فيض أبدي للحياة التي لن يقهرها موت، لذا يقول: “أفضل“.
v إن قلت: قل لي وما الذي يكون أفضل من الحياة؟ أجبتك: ملكوت السماوات، لكنه لم يقل هذا بعد، إنما يردد اسم الحياة الذي كان أوضح الأشياء معرفة عندهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “فقد أتيت لتكون لهم حياة” (١٠)، أي الإيمان العامل بالمحبة (غلا ٥: ٦). “وليكون لهم أفضل“، هؤلاء الذين يصبرون حتى المنتهى، فإنهم يخرجون بهذا الباب عينه، أي بالإيمان بالمسيح. فإنهم كمؤمنين حقيقيين يموتون وتكون لهم حياة أفضل عندما يذهبون إلى حيث يقيم الراعي، ولا يموتون بعد.
v إن كنا نتطلع إلى العالم كبيتٍ واحدٍ عظيم، فإننا نرى السماوات تمثل القبو، والأرض تمثل الممر. إنه يريد أن ينقذنا من الأمور الأرضية، لنقول مع الرسول: “مواطنتنا هي في السماء”. فالالتصاق بالأرضيات هو موت للنفس، عكس الحياة التي يصلي من أجلها قائلاً: “أحيني”!
القديس أغسطينوس
“أنا هو الراعي الصالح،
والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”. )11)
تطلع أنبياء العهد القديم إلى ربنا يسوع بكونه الراعي (إش ٤٠: ١١؛ حز ٣٤: ٢٣؛ ٣٧: ٢٤؛ زك ١٣: ٧)، واختبره الرسل كأسقف لنفوسنا (١ بط ٢:٢٥)؛ ورئيس الرعاة (١ بط ٥: ٤)؛ والراعي العظيم (عب ١٣: ٢٠).
لهذا اللقب “الراعي الصالح” جاذبيته الخاصة لدى المسيحيين عبر الأجيال حتى الذين لم يشاهدوا رعاة غنم في حياتهم، فإنهم يشعرون فيه بنوعٍ من دفء الرعاية. كما أن قطيع الغنم لا يقدر أن يواجه الحياة بدون راعيه، هكذا يشعر المسيحيون في مواجهة الشر والعالم الشرير إلى الراعي الإلهي الذي يحفظهم من الشر ويشبع كل احتياجاتهم، ويقودهم إلى المراعي الفردوسية.
بقوله “أنا هو” يستخدم السيد المسيح لغة اللاهوت “أنا يهوه”، فهو الراعي الوحيد الإلهي الفريد.
الكلمة اليونانية المترجمة هنا “صالح” هي kalas، وهي تختلف عن غيرها من الكلمات اليونانية التي تُترجم أيضًا “صالح”، مثل: agathos إذ تشير إلى السلم الداخلي، و dikaios التي تشير إلى الشخص الذي يبلغ مستوى عالٍ من الاستقامة. أما kalas فجاء في Abbot Smith’s lexicon ٍ أنها تشير إلى الصلاح معلنًا شكل معين، بمعنى آخر تشير إلى الصلاح مع الجمال. وقد قام E. V. Rieu بترجمة العبارة: “أنا هو الراعي“، الراعي الجميل“. على أي الأحوال فإن تعبير الراعي الصالح تعبير محبب للنفس، يحمل فيه الصلاح الجذاب للرعية. فمع صلاح رعايته تتمتع الرعية بجاذبية شخصه، أو انجذابهم إليه.
رعاية “الراعي الصالح” فريدة من نوعها، ليست فقط رعاية صالحة، حيث ينشغل الراعي بالقطيع، كمن ليس ما يشغله في السماء وعلى الأرض غيره، ولا من حيث اهتمامه بالنفس الواحدة، خاصة الخروف الضال، وإنما ما هو أعظم انه “يبذل نفسه عن الخراف“.
في منطقة فلسطين كان الرعاة يتعرضون لمخاطر اللصوص كما لمخاطر الحيوانات المفترسة. فداود النبي واجه أسدًا ودبًا وهو شاب في رعاية غنمه (١ صم ١٧: ٣٤-٣٦). ويحدثنا عاموس النبي عن الراعي الذي يخلص من فم الأسد قدمي حمل أو قطعة أذن له (عا ٣: ١٢). وفي عصر الآباء نسمع يعقوب يقول لخاله: “فريسة لم أحضر إليك. أنا كنت أخسرها. من يدي كنت تطلبها، مسروقة النهار أو مسروقة الليل” (تك ٣١: ٣٩). هكذا لعمل الرعاية مخاطر، لكننا لا نسمع قط عن راعٍ يلقي بنفسه في الموت بإرادته من أجل قطيعه. حقًا قد يتعرض الراعي للموت، لكنه ليس لأجل مصلحة قطيعه، إنما من أجل مصلحته الشخصية كمالكٍ للقطيع. أما الراعي الصالح فبإرادته وحسب مسرته واجه الموت ليفدي كل حملٍ من قطيعه.
بذل الراعي الصالح ذاته ليقدم لنا دمه الثمين، تغتسل به نفوسنا، فنطهر من الخطايا، ونشربه سرّ حياة أبدية. والعجيب فيه أنه يهب خدامه الأمناء أن يجدوا مسرتهم في البذل فينفقون ويُنفقون (2 كو 12: 15) لحساب الشعب كما فعل الرسول بولس.
بين السيد المسيح والراعي
اختيار السيد المسيح للراعي لتشبيه له لم يأت جزافًا، إنما يحمل معانٍ هامة:
أولاً: الراعي، وإن كان صاحب القطيع مهما بلغت أعداده يرتدي ثيابًا رخيصة أثناء رعايته للغنم، إذ كثيرًا ما يجلس على الأرض وحوله غنمه، ويحمل على منكبيه الغنمات المجروحة أو المتعثرة، وقد تكون متسخة بالوحل. هكذا لبس الكلمة الإلهي جسدًا لكي يشاركنا أرضنا، ويحملنا على منكبيه، بل ويحتل مركزنا يحمل آثامنا للتكفير عنها.
ثانيًا: في الرعاية يتحرك الراعي أمام الخراف لكي تتبعه، وهكذا فتح لنا مسيحنا طريق السماء بعبوره خلال الصليب، كي نشاركه آلامه فننعم بشركة أمجاده.
ثالثًا: كثيرًا ما يمسك الراعي بعصا الرعاية، مقدمتها على شكل حرف U، لكي ما إذا سقط خروف في حفرة يرفعه بها. هكذا يمسك مسيحنا بصليبه الذي يحمل كل نوع من الحنو الإلهي البناء مع الحزم والتأديب بما فيه تقدمنا المستمر.
رابعًا: كثيرًا ما يجلس الراعي بستظل في الظهيرة ويضرب بمزماره وحوله الخراف فإن سمة الراعي هو الفرح وسط المتاعب وحرّ التجارب. هكذا نجد في راعينا مصدر الفرح الحقيقي.
خامسًا: يهتم الراعي بالخروف الضال أكثر من التسعة والتسعين الباقين، ولا يستريح حتى يرده إلى القطيع (مت ١٨: ١٢-١٤؛ لو ١٥: ٣-٧).
v “أنا هو الراعي الصالح”. يتحدث هنا عن الآلام، مظهرًا أنها هي خلاص العالم، فإنه لم يأتِ إليها قسرًا. عندئذ يتحدث عن نموذج الراعي مرة أخرى وعن الأجير.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لقد قال أنه هو “الراعي“، كما قال أنه هو “الباب“. تجد الاثنين في نفس الموضع، كلاً من “أنا هو الباب” و “أنا هو الراعي” (٧، ١١). في الرأس هو الباب، وفي الجسد هو الراعي… الذي يدخل من الباب هو الراعي، أما الذي يطلع من موضعٍ آخرٍ فذاك سارق ولص، يبدد ويشتت ويهلك. من هو الذي يدخل من الباب؟ ذاك الذي يدخل بالمسيح. من هو؟ ذاك الذي يتمثل بالآم المسيح…
v هل كان (الرسل) رعاة؟ بالتأكيد كانوا هكذا. فكيف يوجد راعي واحد؟ كما سبق فقلت أنهم كانوا رعاة لأنهم أعضاء في الراعي. لقد فرحوا في هذا الرأس، وتحت رئاسة هذا الرأس كانوا في انسجام معًا، عاشوا بروحٍ واحدٍ في رباط جسدٍ واحدٍ. لذلك فجميعهم ينتمون للراعي الواحد.
v ماذا تعني إذن إنك تقدم للرعاة الصالحين الراعي الصالح وحده إلاَّ أنك تعلم الوحدة في الراعي الصالح؟ وقد أوضح الرب نفسه ذلك بأكثر وضوح في خدمتي، إذ أذكركم أيها الأحباء بهذا الإنجيل القائل: “اسمعوا ماذا وضعت أمامكم، لقد قلت أنا هو الراعي الصالح، لأن كل البقية، الرعاة الصالحين، هم أعضائي”. رأس واحد، جسم واحد، مسيح واحد. هكذا كل من راعي الرعاة ورعاة الراعي والقطيع برعاته الذين تحت الراعي.
ما هذا كله إلاَّ ما يقوله الرسول: “كما أن الجسم واحد، له أعضاء كثيرون، وكل أعضاء الجسم بكونهم كثيرون جسم واحد، هكذا المسيح” (١ كو ١٢: ١٢). لذلك إن كان المسيح هو هكذا، فبسبب صالح يحوي المسيح في ذاته كل الرعاة الصالحين، يقيمون الواحد القائل: “أنا هو الراعي الصالح”. أنا وحدي وكل البقية معي واحد في وحدة.
من يرعي بدوني يرعى ضدي. “من لا يجمع فهو يفرق” (مت ١٢: ٣٠). لتسمعوا هذه الوحدة قد وضعت أكثر قوة، إذ يقول: “ولي قطيع آخر ليس من هذا القطيع” (١٦).
v أسألكم، أتوسل إليكم بحق قدسية مثل هذا الزواج أن تحبوا الكنيسة، حبوا الراعي الصالح، فالعروس جميلة للغاية، هذه التي لا تخدع أحدًا، ولا تطلب هلاك أحد. صلوا أيضًا من أجل القطيع المبعثر، لكي يأتوا، ويتعرفوا عليه، ويحبوه، ويصيروا رعية واحدة وراعٍ واحدٍ.
القديس أغسطينوس
v كيف لا أحبك يا من أحببتني بشدة؟ رغم أني سوداء، فقد وضعت حياتك من أجل خرافك (يو 13:15)، أنت راعيهم.
ليس لأحدٍ حب أعظم من هذا، لأنك بذلت حياتك لتمنحني الخلاص.
قل لي إذًا أين ترعى؟
عندما أجد مرعى خلاصك، حينئذ اشبع بالطعام السماوي؛ الذي بدونه لا يدخل أحد إلى الحياة الأبدية. وحين أجري إليك أيها الينبوع سوف أشرب من الينبوع الإلهي الذي جعلته يتدفق ليروى كل من يعطش إليك.
إذ ضُرِب جنبك بالحربة للوقت خرج دم وماء (يو 34:19). ومن يشرب منه يصبح ينبوع ماء حيّ للحياة الأبدية (يوحنا 14:4).
إذا رعيتني ستجعلني أستريح بسلام خلال منتصف النهار في الضوء الخالي من الظلال. لأنه لا توجد ظلال في منتصف النهار، عندما ترسل الشمس أشعتها عمودية فوق الرأس. وستجعل ضوء منتصف النهار يُريح كل من أطعمته، وتأخذ أطفالك معك في فراشك (لو 7:11).
لا يستحق أحد أن يأخذ راحة منتصف النهار إلا ابن النور والنهار (1 تس 5:5). الشخص الذي فصل نفسه من ظلمة الليل إلى الفجر، سوف يستريح في منتصف النهار مع شمس البرّ (ملا 2:4).
القديس غريغوريوس النيسي
“وأما الذي هو أجير وليس راعيًا،
الذي ليست الخراف له،
فيرى الذئب مقبلاً،
ويترك الخراف ويهرب،
فيخطف الذئب الخراف ويبددها”. (12)
يتعرض هذا القطيع لذئابٍ خاطفة تخدع وتفترس وتحطم (أع ٢٠: ٢٩)، كما يتعرض للصوص يخطفون القطيع لتقديمه ذبائح لعدو الخير، أو يسرقون طعامه. غالبًا ما تأتي الذئاب في ثياب حملان (مت ٧: ١٥).
في العبارتين ١٢ و١٣ يحدثنا السيد المسيح عن الرعاة المهملين، فيدعوهم أجراء، إذ يخدمون من أجل الأجرة أو المكافأة، وليس عن حبٍ صادقٍ لشعب الله. محبتهم للمال أو لبطونهم هي التي تحملهم إلى الرعاية. حقًا من يخدم المذبح من المذبح يأكل، ومن يكرز بالإنجيل فمن الإنجيل يعيش، لكن قلوبهم مرتبطة بخلاص النفوس، لا بما يقتنوه من وراء الخدمة.
v يعلن عن نفسه أنه السيد مثله مثل الآب، فإنه هو كذلك، فهو الراعي والخراف له.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الأجير الذي يرى ذئبًا فيهرب تاركًا القطيع للافتراس يخطئ. وقد جاء في المشناه Mishnahأنه يلتزم أن يحمي القطيع إن واجه ذئبًا واحدًا لكن يعطي عذرًا له لو هاجم القطيع ذئبان أو أكثر لأنه لا يقدر على هذه المواجهة. كأجير غير ملتزم بحماية القطيع أن تعرض لذئبين معًا، لأن حياته تكون في خطرٍ.
v يعمل الأجير مادام لا يرى الذئب قادمًا، مادام لا يرى اللص أو السارق، ولكن إذ يراهم يهرب…
يصعد الأجراء بطريق آخر… لأنهم متكبرون يصعدون…
الذين ليسوا في وحدة (الكنيسة) لهم طريق آخر، أي متعجرفون ويريدون أن يفسدوا القطيع.
الآن لاحظوا كيف يصعدون. إنهم يقولون: إننا نحن الذين نقدس ونبرر ونقيم أبرارًا…
الذئب هو الشيطان الذي يرقد منتظرًا أن يخدع، وأيضًا الذين يتبعونه يخدعون، فقد قيل بالحق يرتدون جلود القطيع، ولكن في الداخل ذئاب خاطفة (مت ٧: ١٥).
إن لاحظ الأجير شخصًا منشغلاً بحديثٍ شريرٍ، أو أحاسيس قاتلة لنفسه أو يمارس رجاسة ودنسًا، وعلى الرغم من أنه يبدو كمن يحمل شخصية لها أهميتها في الكنيسة (التي منها يترجى أن ينال نفعًا إذ هو أجير)، ولا يقول شيئًا له: “أنت تخطئ”، ولا يؤنبه حتى لا يفقد ما لنفعه. أقول هذا هو معنى “عندما يرى الذئب يهرب“. إنه لا يقول له: “أنت تعمل بالشر”. هذا ليس هروبًا بالجسد بل بالنفس. الذي تراه لا يزال واقفًا بالجسد يهرب بالقلب. عندما يرى خاطئًا لا يقول له: “أنت تخطئ” نعم لكي يكون في اتفاق معه.
v لا يحملن الأجير هنا شخصية صالحة، ولكن من نواحٍ أخرى فهو نافع، وإلا ما كان يُدعى أجيرًا، وما كان ينال أجرة ممن وظَّفه. فمن هو هذا الأجير الذي يُلام ونافع أيضًا؟ يوجد بعض يعملون في الكنيسة يقول عنهم الرسول بولس: “يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح” (في ٢: ٢١). ماذا يعني “يطلبون ما لأنفسهم”؟ الذين لا يحبون المسيح مجانًا، بل يسعون نحو المنافع الزمنية، يطلبون الربح، ويطمعون في الكرامات من الناس.
v يوجد أجراء أيضًا في وسطنا، لكن الرب وحده يميزهم، ذاك الذي يفحص القلوب يميزهم.
v لنلتفت باهتمامٍ إلى الحقيقة أنه حتى الأجراء نافعون. فإنه بالحقيقة يوجد كثيرون في الكنيسة يسعون وراء النفع الأرضي، ومع هذا فهم يكرزون بالمسيح، ومن خلالهم يُسمع صوت المسيح، وتتبع الخراف لا الأجراء، بل صوت المسيح المتكلم خلالهم. أشار الرب نفسه إلى الاستماع إلى الأجراء، إذ قال: “على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا” (مت ٢٣: ٢-٣). ماذا قال سوى أصغوا إلى صوت الراعي خلال الأجراء؟
v اسمع الرسول يتنهد من أجل مثل هذه الأمور. إنه قيل أن البعض يكرزون بالإنجيل خلال المحبة، وآخرون “لعلة”، فيقول عنهم انهم لا يكرزون بالإنجيل بحق (في ١: ١٦-١٨). ما يكرزون به هو حق، أما الذين يكرزون فهم أنفسهم ليسوا مستقيمين.
لماذا من يكرز هكذا ليس مستقيمًا؟ لأنه يطلب شيئًا آخر في الكنيسة، لا يطلب الله.
إن طلب الله يكون عفيفًا، إذ يكون الله هو الزوج الشرعي للنفس.
أما من يطلب من الله ما هو بجانب الله، فإنه لا يطلب الله بعفة.
لاحظوا يا اخوة، إن كانت زوجة تحب زوجها لأنه غني، فإنها ليست عفيفة. لأنها لا تحب زوجها بل ذهب زوجها. لو أنها تحب زوجها، فإنها تحبه في عريه وفقره. لأنها إن كانت تحبه لأنه غني، ماذا إذا صار محتاجًا فجأة؟ ربما ترفضه، لأنها لم تحب رجلها بل ممتلكاته. لكنها إن كانت تحب زوجها بالحق، فإنها تحبه بالأكثر عندما يفتقر،إذ تحبه مترفقة به أيضًا.
v يلزمنا لا أن نحب الغنى، بل الله الذي خلق الغني، لأنه لا يعدكم بشيء بل بنفسه. لتجد شيئًا أثمن منه وهو يهبه لك. جميلة هي الأرض والسماء والملائكة، لكن خالقهم أكثرهم جمالاً.
إذن من يكرزون بالله بكونه الله المحب، من يكرزون بالله لأجل نفسه، يرعون القطيع وليسوا أجراء.
يطلب ربنا يسوع المسيح من النفس هذه العفة، إذ قال لبطرس: “يا بطرس أتحبني” (يو ٢١: ١٦)؟ ماذا تعني “أتحبني”؟ هل أنت عفيف؟ هل قلبك غير زانٍ؟ هل لا تطلب الأمور الخاصة بك في الكنيسة، بل تطلبني أنا؟ إن كنت هكذا وتحبني “ارع غنمي”. فإنك لا تكون أجيرًا بل راعيًا.
v يكرز الراعي بالمسيح بالحق، ويكرز الأجير بالمسيح بعلة (في ١: ١٨)، يطلب شيئا آخر. وإن كان هذا وذاك يكرزان بالمسيح… بولس نفسه الراعي يُسر أن يكون لديه أجراء. فإنهم يعملون حين يكونوا قادرين، إنهم نافعون ماداموا قادرين على الكرازة… نادرًا ما يجد (الرسول) راعيًا بين إجراء كثيرين، لأن الرعاة قليلون، أما الأجراء فكثيرون. لكن ماذا قيل عن الأجراء؟ “الحق أقول لكم أنهم قد أخذوا أجرتهم” (مت ٦: ٢). أما عن الراعي فماذا يقول الرسول؟ “لكن من يطهر نفسه من مثل هذه يصير آنية للكرامة مقدسة ونافعة للرب، معدة لكل عملٍ صالحٍ” (٢ تي ٢: ٢١)، ليست معدة لأمور معينة بل “معدة لكل عمل صالح”.
القديس أغسطينوس
“والأجير يهرب،
لأنه أجير ولا يبالي بالخراف”. (13)
يشبه القديس أغسطينوس الأجراء الذين يعملون في الخدمة لحساب أنفسهم لا لحساب المسيح بالأسوار المملوءة شوكًا وقد استندت عليها الكرمة الحاملة العنب. فيليق بنا أن نتمتع بعنب الكرمة المحمول على الأشواك. العنب الذي لم يصدر عن الشوك بل عن الكرمة.
يقدم لنا الرسول مثلاً لهذه الأشواك الحاملة للكرمة: “وأما قوم فعن حسد وخصام يكرزون بالمسيح، وأما قوم فعن مسرة. فهؤلاء عن تحزب ينادون بالمسيح، لا عن إخلاص… غير أنه على كل وجه سواء كان بعلةٍ أم بحقٍ يُنادى بالمسيح، وبهذا أنا أفرح، بل سأفرح أيضًا” (في ١: ١٥ ١٨).
v في هذا يختلف الراعي عن الأجير، واحد يطلب دومًا ما هو لسلامه غير مبالٍ بالخراف، والآخر يطلب ما هو للخراف غير مبالٍ بما هو لنفسه…
قديمًا انتهر حزقيال (الأجراء) وقال: “ويل لكم يا رعاة إسرائيل. هل يرعى الرعاة أنفسهم؟ ألا يرعون الخراف؟” (خر ٣٤: ٢ LXX). لكنهم فعلوا ما هو على خلاف ذلك، الذي هو أشر أنواع الشر، وعلة كل بقية الشرور. فقد قيل: “لم يستردوا المطرود، والضال لم يطلبوه، والمكسور لم يجبروه، والمريض لم يشفوه، لأنهم رعوا أنفسهم لا الغنم” (راجع حز ٣٤: ٤).
وكما أعلن بولس أيضًا في موضع آخر: “إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح” (في ٢: ٢١). وأيضًا: “لا يطلب أحد ما هو لنفسه بل كل واحدٍ ما هو للآخر” (١ كو ١٠: ٢٤).
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يكون الشخص أجيرًا إن احتل موضع الراعي لكنه لا يطلب نفع النفوس. إنه يتوق إلى المنافع الأرضية، ويفرح بكرامة المراكز السامية، وينقاد إلى الربح المؤقت، وينعم بالكرامة المقدمة له. هذه هي مكافآته… مثل هذا لا يقدر أن يقف عندما يكون القطيع في خطر.
الآن إذ يجد الكرامة ويتمتع بالمنافع المؤقتة يخشى مقاومة الخطر لئلا يفقد ما يحبه… عندما يقتحم شخص شرير المؤمنين المتواضعين، يكون هذا ذئبًا يهجم على القطيع، يمزق أذهانهم بالتجارب. لا يتحمل الأجير مسئولية حماية القطيع.
تهلك النفوس بينما يتمتع هو بالمنافع الأرضية. ليس من غيرة تلتهب في الأجير ضد هذه التجارب، ليس من حب يثيره، كل ما يطلبه هو المنافع الخارجية، وبإهمال يسمح للأضرار الداخلية أن تحل بقطيعه.
البابا غريغوريوس (الكبير)
“أما أنا فإني الراعي الصالح،
وأعرف خاصتي،
وخاصتي تعرفني”. (14)
تلامس المرتل مع الرب الراعي الصالح في مزمور الراعي (مز ٢٣)، حيث يكشف عن مدى اهتمام الرب الفائق برعيته.
تكشف الرعاية الصالحة عن الحب المشترك والمعرفة المتبادلة بين الراعي ورعيته. فالراعي يعرف رعيته، لا معرفة مدرسية تعتمد على التنظيمات المجردة، بل معرفة الالتصاق بهم، والانتساب إليهم وانتسابهم له، فيصيروا خاصته التي تتأهل لمعرفته.
لقد عرف الله إبراهيم واسحق ويعقوب، فدعا نفسه “إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب”. وعرف بولس راعيه الأعظم فيحسبه ربه وإلهه هو! هكذا خلال هذه الرعاية الحقيقية يسمع كل حمل من بين القطيع صوت راعيه يؤكد له: “وأكون له إلهًا، وهو يكون لي ابنًا” (رؤ ٢١: ٧).
إنه يعرف خاصته، إذ يتطلع إليهم بعيني الحب والاهتمام الرعوي، يعرفهم فيبذل ذاته بكل سرور من أجلهم. وكما يقول القديس يوحنا: “هو أحبنا أولاً” (١ يو ٤: ١٩). وكما يقول الرسول بولس: “وأما الآن إذ عرفتم الله، بل بالأحرى عُرفتم من الله” (غلا ٤: ٩).
نظرات حب الراعي تسحب نظرات الرعية إليه، وكما يعرف الراعي خاصته بالحب العملي والاتحاد معهم يعرفونه هم ويجدون لذتهم في الاتحاد معه. هذا هو العهد الجديد، عهد النعمة القائم على الحب بين الله وخاصته. فتدرك الخاصة كلمات راعيهم: “أنا أعلم الذين اخترتهم” (يو ١٣: ١٨)، وفي يقين الإيمان بالراعي يرددون مع الرسول: “لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم” (٢ تي ١: ٢١).
v المسيح إذن هو الراعي الصالح. ماذا كان بطرس؟ ألم يكن راعيًا صالحًا؟ ألم يبذل حياته عن القطيع؟ ماذا كان بولس؟ ماذا كان بقية الرسل؟ ماذا عن الأساقفة الطوباويين والشهداء؟… ماذا عن كبريانوسنا القديس؟ ألم يكن هؤلاء جميعًا رعاةً صالحين؟… هؤلاء جميعًا كانوا رعاةً صالحين، ليس لمجرد سفك دمائهم، إنما سفكوه من أجل القطيع، ليس في كبرياء، بل سفكوه في محبة.
ماذا تقول يا رب، أيها الراعي الصالح؟ فإنك أنت هو الراعي الصالح، أنت هو الحمل الصالح. في نفس الوقت أنت الراعي والمرعى، الحمل والأسد في نفس الوقت. ماذا تقول؟ هب لنا أذنًا وأعنا لكي نفهم. إنه يقول: “أنا هو الراعي الصالح”. وماذا عن بطرس؟ هل هو ليس براعٍ أو هل هو شرير؟… إنه راع وراع صالح، لكنه كلا شيء بالحق بالنسبة لقوة راعى الرعاة وصلاحه، ومع هذا فإنه راعٍ وصالح، وكل الآخرين الذين مثله هم رعاة صالحون.
v المسيح هو بابي إليكم، بالمسيح أجد مدخلاً، لا إلى بيوتكم بل إلى قلوبكم. بالمسيح أدخل، إنه المسيح الذي فيّ، هو الذي تريدون أن تسمعوا له. ولماذا تريدون أن تسمعوا المسيح فيّ؟ لأنكم قطيع المسيح، أُشتريتم بدم المسيح. إنكم تعرفون ثمنكم، الذي لا يُدفع بواسطتي، وإنما يكرز به بواسطتي. إنه هو، وهو وحده المشتري، الذي سفك دمه الثمين – الدم الثمين لذاك الذي بلا خطية.
القديس أغسطينوس
“كما أن الآب يعرفني، وأنا أعرف الآب،
وأنا أضع نفسي عن الخراف”. (15)
ليس فقط اشتهى البذل حتى الموت من أجل قطيعه بل كراعٍ صالح يؤكد: “وأنا أضع نفسي عن الخراف“. لقد حقق خطة البذل فعلاً. قدم حياته المبذولة مهرًا ليقتني الخراف. اشتراها لا لكي يذبحها، وإنما يُذبح هو لكي يحبها. لا يُقدم القطيع ذبيحة عن صاحبها كما في العهد القديم، بل يقدم الراعي نفسه ذبيحة عن قطيعه.
v “خاصتي تعرفني، كما أن الآب يعرفني، وأنا أعرف الآب”، بمعنى سأكون منتميًا لقطيعي وهم يرتبطون بي، بدأت الكيفية التي بها يعرف الرب الآب ابنه الحقيقي الوحيد الجنس، ثمرة جوهره، ويعرف الابن الآب، بكونه الله الحقيقي، ويلد كيانه من هو منه، هكذا نحن إذ تعبنا لنكون له يُقال أننا من عائلته، ونُحسب أبناءه. نحن بالحقيقة أقرباؤه (أع 17: 29)، ونحمل اسم الابن، وبسبب ذاك الذي من الآب، فإنه وهو المولود من الله، إله حق، قد صار إنسانًا، وأخذ طبيعتنا، ماعدا الخطية.
القديس كيرلس الكبير
v إنه (الآب) يعرف أنه قد ولده، كما يعرف هو أيضًا أنه مولود منه. وباختصار أذكر ما جاء في الإنجيل: “أنه لا يعرف أحد الابن إلا الآب، ولا الآب إلا الابن” (مت 27:11، يو 15:10؛ 25:17).
القديس كيرلس الأورشليمي
v إنه يعرف الآب بنفسه، ونحن نعرفه به… إذ يقول: “الله لم يره أحد قط، الابن الذي في حضن الآب هو يخبر” (يو ١: ١٨). هكذا به ننال هذه المعرفة التي يعلنها لنا.
v تذكروا كيف أن الرب يسوع المسيح هو الباب والراعي، الباب بتقديم نفسه لكي يُعلن، والراعي الذي يدخل بنا بواسطته. بالحقيقة يا اخوة، لأنه هو الراعي يعطي لأعضائه أن يصيروا مثله. فإن كلا من بطرس وبولس وغيرهما من الرسل وكل الأساقفة الصالحين كانوا رعاة. لكن لا يدعو أحد منا نفسه أنه الباب. فقد ترك هذا بالتمام لنفسه. في اختصار مارس بولس عمل الراعي الصالح عندما كرز بالمسيح، إذ دخل من الباب. لكن حينما بدأ القطيع غير المهذب يسبب انشقاقات، وأن يقيموا أبوابًا أخرى أمامهم… قال بولس أنا لست الباب؛ “هل صُلب بولس من أجلكم، أو هل اعتمدتم باسم بولس؟!” (١ كو ١: ١٢-١٣).
القديس أغسطينوس
“ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة،
ينبغي أن آتي بتلك أيضًا،
فتسمع صوتي،
وتكون رعيةً واحدةً، وراعٍ واحدٍ”. (16)
يقدم لنا الراعي الصالح في هذا السفر تأكيده عن المعرفة الفريدة المتبادلة بين الآب والابن، علامة وحدة الفكر والإرادة ووحدة العمل معًا (مع وحدة الجوهر الإلهي)، كمثال للمعرفة بينه وبيننا كخاصته المحبوبة لديه التي تجد أبديتها في قبول مشيئته وقوته والعمل به ومعه! يتحدث بعد ذلك عن الخراف الآخر التي من الأمم، بكونها خرافه التي يأتي بها إليه لتكون مع خراف بيت إسرائيل رعية واحدة لراعٍ واحد.
بقوله: ينبغي أن “آتِ بتلك” يؤكد السيد المسيح دوره الإيجابي في اقتناء الأمم شعبًا له، فهو الذي يقدم دمه ثمنًا لخلاصهم، وهو الذي يعمل بروحه فيهم ليجتذبهم، لكن ليس بغير إرادتهم. إنه يفتح قلوب مؤمنيه لمحبة كل البشرية المدعوة للتمتع برعاية السيد المسيح مخلص العالم. وفي نفس الوقت يحطم تشامخ اليهود الذين ظنوا أن المسيا قادم إليهم وحدهم، وإنهم قطيع الله الفريد، متطلعين إلى الأمم ككلابٍ بين القطيع.
بقوله “ينبغي” يؤكد السيد التزام الحب؛ حبه الإلهي يلزمه بتقديم ذاته ذبيحة لفداء قطيعه بسرورٍ.
إنه يأتي بالكل من جميع الأمم ليردهم إلى المرعى الحقيقي، الكنيسة المقدسة؛ يفتح لهم أبوابها السماوية ليدخلوا بعد تيه في البرية لزمانٍ هذا مقداره. إنه ينسبهم له، فهم قطيعه الذي خلقه ويهتم بخلاصه، ويقدم دمه الثمين ثمنا لخلاصهم، يردهم في كرامةٍ ومجدٍ.
هذا القطيع أيًا كان مصدره، إذ هو قادم من أمم كثيرة، يسمع صوت الراعي الواحد فيؤمن به، إذ الإيمان بالاستماع، فينجذبون إليه ويتحدون معه كأعضاءٍ لجسدٍ واحدٍ لرأس واحد. وكما يقول الرسول: “جسد واحد، وروح واحد، كما دُعيتم أيضًا في رجاء دعوتكم الواحد، رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم” (أف ٤: ٤-٦). هكذا ترتبط وحدة القطيع أو الوحدة الكنسية بوحدة الراعي.
v كأنه يقول: ما بالكم تتعجبون إن كان هؤلاء القوم سيتبعونني، وإن كان غنمي يسمع صوتي، لأنكم إذا رأيتم أغنام أخرى تتبعني وتسمع صوتي فستذهلون حينئذ ذهولاً عظيمًا.
v “ينبغي أن آتي بتلك”، كلمة “ينبغي” هنا لا تعني “ضرورة”، بل هي إعلان عما سيحدث حقًا كأنه يقول: لماذا تتعجبون إن كان هؤلاء يتبعونني وإن كانت خرافي تسمع صوتي؟ فإنكم سترون آخرين أيضًا سيتبعونني ويسمعون صوتي، فتكون “دهشتهم أعظم”. لا ترتبكون عندما تسمعونه يقول: “ليست من هذه الحظيرة“، فإن الاختلاف يخص الناموس وحد، كما يقول بولس: “لا الختان ينفع شيئًا، ولا الغرلة” (غلا ٥: ٦).
“ينبغي أن آت بتلك أيضًا” (١٦). لقد أظهر أن هؤلاء وأولِئك قد تشتتوا وامتزجوا، وكانوا بلا رعاة، لأنه لم يكن بعد قد جاء الراعي الصالح. عندئذ أعلن عن وحدتهم المقبلة إذ يصيروا رعية واحدة. وهو نفس الأمر الذي أعلنه بولس بقوله: “لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا” (أف ٢: ١٥).
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟ لماذا أكون كمقنَّعة عند قطعان أصحابك” (نش 7:1).
“أين ترعى أيها الراعي الصالح، يا من تحمل القطيع كله على كتفيك؟ لأنك إنما حملت خروفًا واحدًا على كتفيك ألا وهو طبيعتنا البشرية.
أرني المراعى الخضراء.
عرفني مياه الراحة (مز 2:22).
قدني إلى العشب المشبع.
ادعني باسمي (يو 16:10) حتى اسمع صوتك، أنا خروفك، أعطني حياة أبدية.
القديس غريغوريوس النيسي
v ضرب الفريسيين المعاندين بطرق متنوعة. هنا سمح لهم أن يلاحظوا أنهم على وشك نزعهم عن رعاية شعبه، الذي يدبر أمورهم بنفسه الآن. إنه يعني إن الخلط بين قطعان الأمم مع أولئك الذين لهم إرادة صالحة من شعب إسرائيل، فلا يعود يحكم اليهود وحدهم، بل ينتشر مجد نوره على الأرض كلها. إنه يرغب ألا يُعرف في إسرائيل وحدها منذ البداية، بل يقدم لكل الذين تحت السماء معرفة الله الحقيقي.
القديس كيرلس السكندري
v توجد سفينتان (لو ٥: ٢) منهما دعا تلاميذه. إنهما تشيران إلى هذين الشعبين (من اليهود ومن الأمم)، عندما ألقوا شباكهم وأخرجوا صيدًا عظيمًا وعددًا كبيرًا من السمك، حتى كادت شباكهم تتخرق. قيل “امتلأت السفينتان” تشير السفينتان إلى الكنيسة ولكنها تتكون من شعبين، ارتبطا معًا في المسيح، وإن كانا قد جاءا من أماكن متباينة.
عن هذه أيضًا الزوجتان اللتان لهما زوج واحد يعقوب، وهما ليئة وراحيل، كانتا رمزًا (تك ٢٩: ٢٣، ٢٨). وعن هذين الشعبين كان الأعميان رمزًا، جلسا على الطريق ووهبهما الرب النظر (مت ٢٠: ٣٠). وإن دققت في الكتاب المقدس تجد الكنيستين اللتين هما كنيسة واحدة وليس اثنتين قد رمز لهما في مواضع كثيرة.
القديس أغسطينوس
v أخيرًا، الذبائح نفسها التي للرب تعلن أن الاجتماع المسيحي يرتبط بذاته بحب ثابت لا ينفصل. لأن الرب عندما دعا الخبز الذي يتكون من وحدة حبوب كثيرة جسده، يشير إلى شعبنا الذي يحمل اتحادًا. وعندما يدعو الخمر المعصور من عناقيد العنب والحبوب الصغيرة جدًا التي تجتمع معًا في دمه الواحد، هكذا أيضًا يعني قطيعنا الممتزج معًا بجماهير متحدة.
الشهيد كبريانوس
“لهذا يحبني الآب،
لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا”. (17)
يخطئ البعض حين يظنون في الآب العدالة الإلهية والابن الرحمة الإلهية. هؤلاء يتصورون أن الابن مملوء حبًا نحو البشر، وقد قدم ذاته ذبيحة حب ليرفع غضب الآب. وقد اعتقد بعض الغنوسيين في القرن الثاني أن إله العهد الجديد (الابن) جاء يخلص العالم من إله العهد القديم لأنه غضوب! هنا يؤكد القديس يوحنا أن ذبيحة المسيح هي موضوع حب الآب لنا، وأنها ثمرة الحب المتبادل بين الآب والابن. فالحب الإلهي هو سمة الثالوث القدوس وليس خاصًا باقنوم دون آخر.
الابن الوحيد الجنس موضع حب الآب أزليًا، أما وقد تجسد وصار بالحقيقة إنسانًا، فإنه يتمتع بحب الآب كابن البشر حيث يقدم حياته مبذولة عن البشرية. لقد صار بإرادته خادمًا باذلاً من أجل العالم ليقتنيه لحساب الله أبيه. وقد جاء في أناشيد العبد الأمين المتألم: “هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرت به نفسي، وضعت روحي عليه، فيُخرج الحق للأمم” (إش ٤٢: ١).
بهذا التدبير الإلهي قدم نفسه لنا “الطريق”، فإننا إذ ندخل فيه نشاركه سمة الحب الباذل العملي والأمانة، فنشتهي أن نشاركه صلبه وموته لنصير فيه موضع سرور أبيه. ببذله فدى البشرية وقدمها لأبيه، وباتحادنا به ننعم بمجد البذل والصلب معه.
يتحدث السيد عن موته “أضع نفسي” وعن قيامته “آخذها“. إنه صاحب سلطان ما كان يمكن لكل قوات الظلمة أن تتصرف هكذا بدون إذنه؛ في سلطانه أن يضع نفسه ويأخذها. هكذا يقدم الموت والقيامة بأسلوب بسيط، بلا انزعاج أمام الموت، ولا دهشة أمام قيامته.
v “لأني أضع نفسي“. ليت اليهود لا يفتخرون بعد، هم يهيجون لكنهم بلا سلطان. ليثوروا كيفما شاءوا فإن كنت غير راغب أن أضع نفسي، ماذا يفعل هياجهم هذا؟…
لا يفتخر اليهود كمن غلبوا، فإنه هو الذي وضع حياته بنفسه…
أنتم تعرفون المزمور: “أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت (قمت)، لأن الرب عضدني” (مز ٣: ٥)…
إنها مسرتي أن أفعل هذا…
لكنه يجب أن يعطي المجد للآب لكي يحثنا على تمجيد خالقنا. فباضافته: “أنا استيقظت لأن الرب عضدني” أتظنون أنه قد حمل هنا نوعًا من الحرمان من سلطانه، حتى أنه في سلطانه أن يموت، وليس في سلطانه أن يقوم؟ حقًا تبدو الكلمات هكذا إن لم تُدرك كما ينبغي… اسمعوا عبارة أخرى في الإنجيل إذ يقول: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه”، ويضيف الإنجيلي: “وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده” (يو ٢: ١٩، ٢٠).
v يضع الجسد نفسه بقوة الكلمة، ويأخذ الجسد مرة أخرى بذات قوة الكلمة.
v “هذه الوصية قبلتها من أبي” (١٥). لم يقبل الكلمة الوصية في كلمات، وإنما في الابن الوحيد كلمة الآب تقوم كل وصية. ولكن حين يُقال أن الابن يقبل من الآب ما لديه جوهريًا فيه، إنما يعطيه الحياة في ذاته (يو ٥: ٢٦)، بينما الابن هو نفسه الحياة فلا ينقصه شيء من السلطان لم يعطه مولده.
فإن الآب لم يضف مواهب كما لو كان الابن غير كامل في مولده، بل الذي ولده كماله مطلق، يحمل كل العطايا بمولده. في هذا أعطاه المساواة معه ولم يلده قط في عدم مساواة له.
القديس أغسطينوس
v أي شيء يكون أكثر ملئًا من السمات البشرية عن هذا القول، إن كنا نحسب ربنا محبوبًا لأنه يموت من أجلنا؟ ماذا إذن؟ أخبروني ألم يكن محبوبًا قبل ذلك؟ هل بدأ الآب يحبه وكنا نحن السبب في حب الآب له؟ ألا ترون كيف يستخدم التنازل؟ لكن ماذا يريد أن يؤكد هنا؟ لأنهم قالوا إنه كان غريبًا عن الآب ومخادعًا وجاء ليهلك ويدمر، لذلك قال لهم: “هذا لو لم يوجد ما يدفعني أن أحبكم، بمعنى أنكم محبوبون من الآب، وأنا أيضًا محبوب منه، لأني أموت من أجلكم”. بجانب هذا يرغب في البرهنة على نقطة أخرى أنه لم يأتِ ليفعل شيئًا بغير إرادته، فإنه لو كان الأمر هكذا فكيف يكون عملي هذا سببًا في الحب؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ليس أحد يأخذها مني،
بل أضعها أنا من ذاتي.
لي سلطان أن أضعها،
ولي سلطان أن آخذها أيضًا،
هذه الوصية قبلتها من أبي”. (18)
إذ يضع نفسه يأخذها، لأنه قدوس الله الذي لن يرى فسادًا (مز ١٦: ١٠). إذ صار جسدًا بإرادته سلم نفسه باذلا ً جسده لكي يقبله من يدي الآب جسدًا مجيدًا، فاتحًا لنا باب القيامة، إذ هو نفسه “القيامة”. أعطانا فيه حق التمتع بالجسد الممجد القادر أن يشارك النفس مجدها السماوي. إنه يؤكد أن موته يتحقق بكامل إرادته، إذ هو صاحب سلطان أن يموت وأن يقوم. هذا البذل هو موضع سروره كما هو موضع سرور الآب، وفي طاعة كاملة سلم الأمر بين يدي الآب، ليحقق إرادته التي هي واحدة مع إرادة الابن.
v اشتهى المسيح أن يأكل الفصح (لو 15:22)، وأن يبذل حياته ليضعها بإرادته ويأخذها أيضًا بإرادته (يو 18:10)، وقد تحققت شهوته.
القديس أغسطينوس
v وضع حياته لكي يمجدنا، ولكن كان سلطان لاهوته أن يضعها وأن يأخذها أيضًا… ها أنتم ترون صلاحه، أن يضعها بإرادته؛ ها أنتم ترون سلطانه أيضًا أن يأخذها.
القديس أمبروسيوس
v إذ كانوا كثيرًا ما يطلبون قتله أخبرهم: “ما لم أرد أنا ذلك، فإن تعبكم يكون باطلاً”. وبالأمر الأول برهن على الثاني، بالموت برهن على القيامة. فإن هذا هو الأمر الغريب والعجيب.
كلاهما وضعا في طريق جديد على خلاف العادة.
لنتأمل بدقة لما يقول: “لي سلطان أن أضعها” )١٨(. من ليس له سلطان أن يضع نفسه؟ فإنه في مقدرة أي إنسان أن يقتل نفسه. لكنه قال هذا ليس هكذا، وإنما كيف؟ “لي سلطان أن أضعها بطريق هكذا، إنه لا يقدر أحد أن يفعل هذا ضدي بغير إرادتي”. هذا السلطان ليس لدى البشر، فإنه ليس لنا سلطان أن نضعها بأية وسيلة سوى أخرى إلاَّ بقتلنا أنفسنا. وإن سقطنا تحت أيدي أناس ضدنا ولهم سلطان أن يقتلونا، فإنهم يضعون أنفسنا ولو بغير إرادتنا. لم يكن حال المسيح هكذا، وإنما حتى عندما تآمر الآخرون ضده كان له سلطان ألا يضعها.
إذ هو وحده له السلطان أن يضع حياته أظهر أن له ذات السلطان أن يأخذها ثانية.
ألا ترون أنه بالأولى برهن على الثانية، وبموته أظهر أن قيامته غير قابلة للنقاش؟
v في قوله “هذه الوصية قبلتها من أبي” إن سألت السيد المسيح: وما هي هذه الوصية؟ أجابك: هي أن أموت عن العالم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أخبرنا مقدمًا أنه في وقت آلامه سيحل نفسه من جسمه بإرادته قائلاً: “أضع نفسي لآخذها أيضًا. لا يأخذها أحد مني، بل أضعها بنفسي. لي سلطان أن أضعها أن أضعها، ولي سلطان أيضًا أن آخذها” (17، 18).
نعم داود النبي أيضًا، حسب تفسير العظيم بطرس إذ تطلع إليه قال: “لا تترك نفسي في الهاوية، ولا تدع قدوسك يرى فسادًا” (مز 16: 10؛ أع 2: 27، 31). فإن لاهوته – قبل تجسده وعندما تجسد وبعد آلامه – غير قابل للتغير كما هو، بكونه في كل الأوقات كما كان بالطبيعة وسيبقى كما هو إلى الأبد. لكنه إذ أخذ الطبيعة البشرية كمل اللاهوت التدبير لصالحنا بنزع النفس إلى حين من الجسم، ولكنه بدون إن ينفصل اللاهوت عن إحداهما، هذان (النفس والجسم) اللذان كانا مرة متحدين، وإذ يضم العنصرين مرة أخرى اللذين انفصلا يعطى لكل الطبيعة البشرية بداية جديدة ومثالاً لما سيحدث في القيامة من الأموات، بأن يحمل كل الفاسدين عدم الفساد، وكل المائتين عدم الموت.
القديس غريغوريوس أسقف نصيص
“فحدث أيضًا انشقاق بين اليهود بسبب هذا الكلام”. (19)
هذه هي المرة الثالثة التي حدث فيها انشقاق بين المستمعين للسيد المسيح (يو ٧: ٤٣؛ ٩: ١٦)، إذ كان عدو الخير يبذل كل الجهد لإفساد عمل السيد المسيح.
إذ تحدث السيد المسيح عن بذله العملي لكل حياته من أجل قطيعه، وقيامته لكي يقيمهم، لم يحتمل البعض هذا الحب الإلهي الفائق، فحسبوه يتكلم هكذا بدافع شيطاني أو بسبب اختلال عقله. بينما يشتهي الرب تمجيدنا أبديًا يقاومه البعض ويسيئون إليه، مطالبين الآخرين بعدم الاستماع إليه، فحدث انشقاق بين الفريقين.
“فقال كثيرون منهم: به شيطان وهو يهذي،
لماذا تستمعون له؟” (20)
اتهمه البعض أن به شيطان، وأنه مجنون، لماذا يستمعون له؟ إنه يهذي ويتكلم بلا وعي. هذا الاتهام لا يزال يُوجه إلى السيد المسيح خلال كل من يشهد للحق ويتحدث عن السماء والأبدية، حيث يحسبه السامعون أنه غير واقعي، وأنه خيالي.
لقد استخفوا أيضًا بسامعيه، بكونهم يشجعونه على بث هذه التعاليم.
لا يكتفي غير المؤمن بعدم قبول الكلمة الإلهية، وإنما يسخر أيضًا منها، ويحث الآخرين على مقاومتها، بل أحيانًا يكرس طاقته لمقاومة المستمعين لها، فيقول: “لماذا تستمعون إليه؟“
v لقد صاروا مثلجين بردًا في عذوبة الحب له، ومحترقين بالشهوة نحو أذيته. كانوا بعيدين جدًا بينما هم بجواره.
القديس أغسطينوس
v كل فضيلة صالحة، أما فوق الكل فهي فضيلة اللطف والوداعة. هذه تظهرنا بشرًا مختلفين عن الوحوش المفترسة، هذه تليق بنا لننافس ملائكة. لهذا فإن المسيح يتحدث كثيرًا عن هذه الفضيلة، آمرًا إيانا أن نكون ودعاء ولطفاء. ليس فقط يقدم كلمات كثيرة عنها، وإنما يعلمنا إياها بأعماله… فقد دعاه هؤلاء الناس شيطانًا وسامريًا وكثيرًا ما طلبوا قتله، وألقوه بحجارة… مع هذا لم يرفضهم، ومع أنهم تآمروا ضده أجابهم بوداعة عظيمة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“آخرون قالوا:
ليس هذا كلام من به شيطان،
ألعل شيطانًا يقدر أن يفتح أعين العميان؟” (21)
هذا الفريق وإن كانوا لم يؤمنوا به بكونه المسيا ابن الله، إلاَّ أنهم لم يحتملوا إهانته ونسبته للشيطان. تعاليمه لا تحمل عنف الشيطان وفساد مملكته، أما عجائبه وأعماله فلن يقدر شيطان أن يفعلها.
v والآن لم يقل إنه ليس به شيطان، لأنه إذ أعطاهم برهانًا بأعماله صمت فيما بعد. فما الحاجة إلى أن يوبيخهم إذ كان بعضهم يعاند بعضًا، وأحدهم يوبخ الآخر. لهذا صمت، واحتمل شتائمهم كلها بأوفر وداعة، ليس لهذا الغرض فقط، لكن ليعلمنا كافة دعته وطول أناته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
2 – الوحدة مع الآب 22-39
“كان عيد التجديد في أورشليم، وكان شتاء”. (22)
هنا نجد أيضًا حوارًا بين السيد المسيح واليهود داخل الهيكل، وكان ذلك في عيد التجديد Hanukkah ، في الشتاء. كان هذا العيد تذكارًا لما فعله يهوذا المكابي عام 165 / 164 ق.م. قام بتطهير الهيكل من الرجاسة التي دنس بها أنطيخوس الرابع ابيفينوس السرياني الهيكل قبل ثلاث سنوات (1 مك4: 36-59). والزمهم بالعبادة الوثنية، ومنعهم من ختان الأطفال وحفظ السبت. وقد جاء ذكر هذا العيد في أكثر تفصيل في ٢ مك ١: ١٨. كان يُنظر إلى عودة الحرية إليهم كمن قاموا من الموت وتمتعوا بالحياة من جديد، ولتذكار ذلك أقاموا عيدًا سنويًا في الخامس والعشرين من شهر كسلو، حوالي بدء شهر ديسمبر ويمتد العيد لمدة تسعة أيام بالأنوار. لا يُحتفل بالعيد في أورشليم وحدها كبقية الأعياد، وإنما يحتفل به كواحد في موضعه، وذلك كعيد الفوريم (إش ٩: ١٩). إذ كان اليهود يحتفلون بعيد تقديس الهيكل وتكريسه (22) أعلن السيد المسيح أنه هو الذي كرسه الآب وأرسله إلى العالم (36).
“وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان”. (23)
“فاحتاط به اليهود وقالوا له:
إلى متى تعلق أنفسنا؟
إن كنت أنت المسيح، فقل لنا جهرا”. (24)
كان يسوع يتمشى في الهيكل، في رواق سليمان، وهو يقع في القسم الشرقي من دار الأمم، أكبر دار في منطقة الهيكل، يحوط المباني الداخلية. هذا لا يعني أن الذي بناه سليمان، لأن الهيكل تهدم وأعيد بنائه، لكنه صار لا يزال يحمل اسم أول من قام ببنائه، وقد احتفظوا باسم سليمان من أجل شهرته العظيمة “هيكل سليمان“.
تمشى يسوع وحده كمن يلاحظ تصرفات مجلس السنهدرين الجالس هناك، حيث قيل: “الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار؟” (مز ٨٢: ١-٢). يتمشى ليقدم خدماته لكل محتاج، ويجيب على كل تساءل، ولكي يفتح الباب لكل راغب في المشي معه في الرواق. سُئل السيد المسيح في اليوم الثامن من العيد إن كان هو المسيح، فأجاب:
أ- يعرف قطيع المسيح الحقيقي لاهوته ومسيحانيته (25-27).
ب- يخلص قطيعه في آمان وسلام (28-29).
ج- أكد يسوع وحدة الجوهر مع الآب، وأدرك اليهود أنه يساوي نفسه بالآب (30-31).
د – دافع عن لاهوته بأعماله وبنبوات الكتاب المقدس (32-39).
ه – إن كان إسرائيل يدعو قضاته آلهة (34-39] لأنهم يمثلون اللَّه (مز 7:82)، فلماذا يتعثرون في ابن اللَّه الحقيقي الذي أرسله الآب (36).
جاء إلى بيته وبيت أبيه، أي الهيكل، ليخدم كل نفس تطلبه، لكنهم اجتمعوا معًا كرجلٍ واحدٍ بنية شريرة يسألونه لماذا يعلق أنفسهم، فإن كان هو المسيح المنتظر فليخبرهم. يرى البعض أن السؤال حمل اتهامًا شريرًا.
كأنهم يقولون: لماذا تسحب قلوب الناس كما فعل أبشالوم حين تمرد على داود أبيه ليسحب منه العرش بروح الغش والخداع؟ أو لماذا تخدع قلوب البسطاء لتقيم لك تلاميذ؟ جاء سؤالهم يحمل مظهرًا صالحًا أنهم يريدون التعرف على الحق.
كانوا يعلمون أن المسيا سيكون ملكًا، لكن حسب فكرهم أنه ملك زمني. لهذا طلبوا إجابة صريحة كي يشتكوا عليه لدى السلطات الرومانية أنه متمرد وخائن للرومان.
لم يلم القادة أنفسهم على فساد أفكارهم وقلوبهم بل ألقوا باللوم على السيد المسيح نفسه الذي جذب الشعب وبعض القادة فسبب ارتباكًا وانقسامًا في مجمع السنهدرين. إنهم يلقون باللوم على السيد المسيح أنه تركهم في حيرة وارتباك. عوض لومهم لأنفسهم أنهم لا يقبلون الحق، ولا يريدون المعرفة. كأنه قد أرادت بعض القيادات الدينية اليهودية أن تدخل معه في مشاجرة: إلى متى تتركنا في حيرة وقلق؟ إلى متى تسحب قلوبنا؟ لتكن واضحًا وتعلن عن شخصك علانية. فإن أعماله تشهد أنه هو المسيا المنتظر، أما هم فيريدون كلمة صريحة ربما لكي يدينوه عليها متى أعلن أنه المسيا المنتظر.
يرى البعض في السؤال إعلانًا صادقًا عن الصراع الداخلي بين شعورهم بقدسيته، إذ أعماله تظهره، واقتناعهم بشخصه، وبين خوفهم على مراكزهم وفساد قلوبهم الذي يمنعهم عن قبوله، فإنهم يريدون مسيحًا حسب هواهم، يحقق لهم اشتياقاتهم الزمنية.
أظهروا أنفسهم كمن يريدون المعرفة، مع أن القديس يوحنا المعدان شهد لهم بكل وضوح، والسماء أعلنت عن شخصه، والسيد المسيح نفسه حدثهم أنه نور العالم والراعي الصالح، وواهب الحياة الأبدية، وأعماله شهدت لشخصه.
يرى البعض أن كلمة “نفوسنا” هنا تعني “حياتنا“، وذلك كما سبق فقال السيد المسيح: “لي سلطان أن أضع نفسي“، أي يموت. ولعل بعض اليهود شعروا أن تعاليم السيد المسيح بما فيها من حب وتسامح ستفضي تمامًا على حياتهم كأمة يهودية. وقد عبَّر عن ذلك قيافا حين قال: “إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا” (١١: ٤٨).
v لقد عرف أن نيتهم التي بها قدموا هذا التساؤل شريرة. فإنهم إذ يحيطون به وبقولون: “إلى متى تعلق أنفسنا؟” كما لو صدرت عن غيرة نحو المعرفة. لكن غايتهم كانت منحرفة وفاسدة مملوءة قروحًا خفية… فإنهم لم يسألوا لأجل التعلم كما يبدو الهدف.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أجابهم يسوع:
إني قلت لكم ولستم تؤمنون.
الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي”. (25)
طلب اليهود إجابة واضحة وصريحة، إما نعم أو لا. هذا لم يكن ممكنًا، لأن مفهومهم “للمسيا” يختلف تمامًا عما في خطته الإلهية. ومع هذا فقد وضع السيد المسيح إصبعه على المشكلة، إذ لا تنقصهم المعرفة، بل تنقصهم الإرادة أن يؤمنوا. أعماله الإلهية تشهد لشخصه (يو ١٤: ١١). المشكلة في داخلهم وليست في الكشف عن شخصه. لكي لا يكون لهم عذر قال لهم أنه سبق فأخبرهم بالكلام كما بالعمل. سبق فأعلن لهم أنه ابن الله وابن الإنسان الذي له الحياة في ذاته، وأنه صاحب سلطان أن يدين، أفليس هو المسيح؟ لقد تظاهروا أنه تركهم في حيرة، لكنه أكد لهم أنهم لا يريدوا أن يؤمنوا. أشار إلى أعماله وإلى حياته، فهو الذي بلا خطية، أعماله وحياته تشهد لحقيقة شخصيته الفريدة.
من جانب يود أن يقدم كل معرفة حقيقية، إن كان الشخص مخلصًا في طلبها، وذلك كما فعل مع المرأة السامرية (٤: ٢٦)، ومع المولود أعمى (٩: ٣٥ – ٣٨). لقد عرفه بعض أتباعه منذ البداية (١: ٤١)، والتف حوله البعض إذ أدركوا أنه المسيا المنتظر. لقد سبق فأعلن لليهود: “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (٨: ٥٨) فأرادوا أن يرجموه. سمعوا بما فيه الكفاية عن شخصه فاتهموه بالتجديف، لأنه جعل نفسه مساويًا لله (٥: ١٨).
v يبين السيد المسيح لليهود هنا أنه قد أبدى بأعماله صوتًا أكثر وضوحًا من صوته بأقواله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولكنكم لستم تؤمنون،
لأنكم لستم من خرافي،
كما قلت لكم”. (26)
يلقي باللوم عليهم فإنهم حرموا أنفسهم من أن يكونوا من قطيعه فكيف يمكنهم التعرف عليه؟ إنهم ليسوا من قطيعه ليس بسبب نقص في الشهادة عن شخصه، وإنما بسبب نقصهم في الإيمان. ليس لهم عذر. إذ وُجد قطيع للمسيح آمنوا به خلال كلماته وأعماله وعرفوا صوته الذي يعطي لحياتهم معنى. هؤلاء يدينون من لم يؤمنوا به الذين بسبب عدم إيمانهم لم ينضموا إلى قطيع المسيح، ولا تعرفوا عليه أنه المسيا المنتظر، ولا عرفوا صوته، لذلك فهم يتبعون رعاة آخرين.
v كأن السيد المسيح يقول لليهود هنا: فإن كنتم لم تتبعوني فليس لأني لست راعيًا لكن لأنكم لستم غنمي. قال السيد المسيح هذا لكي يريدوا أن يصيروا غنمًا له، ولكي ينهضهم ويجعل فيهم هذه الشهوة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أجابهم أنه هو ابن الله. كيف؟ أنصتوا: “أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون، الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي” (٢٥-٢٦)… إنهم خراف بالإيمان، خراف باتباع الراعي، خراف بعدم الاستخفاف بمخلصهم، خراف بدخولهم من الباب، خراف بدخولهم وخراف بخروجهم ليجدوا مرعى، خراف بتمتعهم بالحياة الأبدية. إذن ماذا يعني القول: “أنتم لستم من خرافي” (٢٦)؟ لقد رآهم قد وُضعوا للهلاك الأبدي، ولا ينالوا الحياة الأبدية بدمه.
القديس أغسطينوس
“خرافي تسمع صوتي،
وأنا أعرفها،
فتتبعني”. (27)
قدم لهم السيد المسيح علامات قطيعه، وهي أنها تسمع صوته كراعٍ لها، أنها تعرف صوت حبه واهتمامه، فتلتصق به وتتعرف عليه في أعماق جديدة، وتتأهل أن تكون موضع معرفته. وكما يقول الرسول: “يعلم الرب الذين هم له” (٢ تي ٢: ١٩).
v هذا هو المرعى، إن تذكرتم ما قاله قبلاً: “يدخل ويخرج ويجد مرعى“. إننا ندخل الإيمان ونخرج عند الموت. ولكن إذ ندخل من باب الإيمان، فإننا كمؤمنين نترك quit الجسم، فإنه بالخروج بذات الباب يمكننا أن نجد مرعى. المرعى الصالح يدعى الحياة الأبدية، حيث لا توجد ورقة نبات جافة، بل الكل أخضر ومنتعش. يوجد نبات يُقال عنه أنه دائم الحياة، هناك فقط يوجد ليعيش.
القديس أغسطينوس
“وأنا أعطيها حياة أبدية،
ولن تهلك إلى الأبد،
ولا يخطفها أحد من يدي”. (28)
لكي يقنعهم بالبؤس الذي يحل برفض الالتصاق به والانتساب إليه قدم لهم الجانب الإيجابي وهو بركات الحياة المطوبة التي يتمتع بها قطيعه ألا وهي الحياة الأبدية السماوية. أما هنا على أرض التعب والألم فقطيعه محفوظ بالروح القدس، لن يقدر العدو أن يمسه. وكما يقول المرتل: “هذا المسكين صرخ والرب استمعه، ومن كل ضيقاته خلصه. ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز ٣٤: ٦-٧). إنه يعرفهم تمامًا، ويعرف احتياجاتهم، ويعرف مقاومة العدو لهم، لكنهم محفوظون فيه.
هنا يقدم السيد المسيح الحياة الأبدية كهبة لمن يؤمن به، كما يعلن عن الأمان الذي يتمتع به المؤمن، إذ هو محفوظ في يده، الأمر الذي لن يتمتعوا به خلال الفريسية التي يتمسكون بها. انضمامهم إلى قطيعه يهبهم أمانًا لن يبلغوه بأية وسيلة أخرى. وكما يقول الرسول بولس: “لأن هبات الله، ودعوته هي بلا ندامة” (رو ١١: ٢٩).
قطيع السيد المسيح هو هبة يتسلمها الابن من يد الآب، ويبقى محفوظًا في يد الابن (٢٨) كما في يد الآب (٢٩)، أي محفوظ بالروح القدس الذي هو روح المسيح وروح الآب أيضًا.
جاءت كلمة “يهلك” هنا لتعني المصير المرعب لدمارٍ أبدي، لذا فالخلاص منه لا يُقدر بثمن. أما كلمة “يخطف” فتشير إلى سلوكٍ عنيفٍ ضد الشخص، ليس من يقدر أن يحمينا منها سوى يد القدير التي تحفظنا فيها.
v “لن تهلك إلى الأبد” (٢٨)… ماذا يستطيع الذئب أن يفعل؟ ماذا يمكن للسارق أو اللص أن يفعلا؟ إنهم لا يهلكون أحدًا إلاَّ الذين هم معينون للهلاك. أما عن تلك الخراف التي يقول عنها الرسول: “يعلم الرب الذين هم له” (تي ٢: ١٩)، “الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم… والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا” (رو ٨: ٢٩ – ٣٠)، ليس أحد من هذه الخراف يمسك بها الذئب، أو يسرقها سارق، أو يذبحها لص.
القديس أغسطينوس
“أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل،
ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي”. (29)
يرى القديس أمبروسيوس أن الروح القدس الذي هو روح الآب أيضًا روح الابن، هو يد الله الآب والابن. فالخراف التي تسمع صوت المسيح لن يقدر أحد أن يخطفها من الآب أو من الابن أو من الروح القدس.
v قول السيد المسيح: “ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي”، يُظهر أن يده ويد أبيه واحدة في القدرة، ومن جوهر واحد بعينه.
وقوله “ولا يخطفها أحد من يدي، أبى الذي أعطاني إياها” قيل لأجل أولئك اليهود لكي لا يدعونه مخالفًا لله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هل للآب والابن يد واحدة، أم نقول إن الابن نفسه هو يد الآب؟ إن كنا نفهم باليد القوة، فإن قوة الآب والابن واحدة. ولكن إن كنا نعني باليد بالطريقة التي تكلم بها النبي: “ولمن استُعلنت ذراع الرب؟” (إش ٥٣: ١) فإن ذراع الآب هو الابن نفسه، ليس بالمعنى الذي به نفهم أن لله شكل بشري، أو له أعضاء جسمية، وإنما به كل شيء كان.
القديس أغسطينوس
“أنا والآب واحد”. (30)
لم يقل “أنا والآب متطابقان”، بل “أنا والآب واحد“، إنها وحدة حب وعمل كما هي وحدة جوهر، لهذا فهي وحدة فريدة لا يمكن لخليقة ما أن تبلغها، وإنما هي المثل الأعلى للوحدة التي يشتهيها من يلتصق بالله، ويتحد معه.
جاء الحديث عن هذه الوحدة مرتبط بالحديث عن رعاية الابن والآب للمؤمن حيث لا يقدر أحد أن يخطفه من يد الابن أو الآب. كأن أساس الرعاية الإلهية هي وحدة الحب الفريد بين أقنومي الآب والابن، وغاية هذه الرعاية أن يحمل المؤمنين أيقونة الوحدة.
v يقول المسيح نفسه: “أنا والآب واحد” (30). يقول “واحد” حيث لا يوجد انفصال في السلطان وفي الطبيعة. لكن مرة ثانية يقول: “نحن” لكي ندرك الآب والابن، إذ نؤمن أن الآب الكامل يلد الابن الكامل؛ والآب والابن هما واحد دون خلط في الأقانيم بل في وحدة الطبيعة.
القديس أمبروسيوس
v يلزم أن يتقدم الإيمان الفهم، فيكون الفهم مكافأة على الإيمان…
v إنه قال، وقال بالحق: “أنا وأبي واحد“. ماذا يعني “واحد“؟ نحن طبيعة واحدة، جوهر واحد.
القديس أغسطينوس
v “أنا والآب واحد” (30)، وبعد ذلك يضيف: “أنا في الآب، والآب فيَّ” (يو 14: 30)، لكي يوضح وحده الألوهية من ناحية، ووحدة الجوهر من الناحية الأخرى. إذن هما واحد، ولكن ليس مثل الشيء الواحد الذي ينقسم إلى جزئين، كما أنهما ليسا مثل الواحد الذي يسمى باسمين، فمرة يُدعى الآب، ومرة أخرى يُدعى هو نفسه ابنه الذاتي… لكن هما اثنان، لأن الآب هو الآب، ولا يكون ابنًا، والابن هو ابن ولا يكون أبًا.
لكن الطبيعة هي واحدة، لأن المولود لا يكون غير متشابه لوالده، لأنه صورته، وكل ما هو للآب هو للابن (يو 16: 15). ولهذا فالابن ليس إلهًا آخر، لأنه لم ينشأ من خارج، وإلا فسيكون هناك آلهة كثيرون…
كلاهما واحد في الذات، وواحد في خصوصية الطبيعة، وفي وحدة الألوهية كما سبق أن قلنا حيث أن الشعاع هو النور وليس ثانيًا بعد الشمس ولا نور آخر، ولا هو ناتج من المشاركة مع النور، بل هو مولود كلي وذاتي من النور، ومثل هذا المولود هو بالضرورة نور واحد، ولا يستطيع أحد أن يقول أنه يوجد نوران. فبالرغم من أن الشمس والشعاع هما اثنان ألا أن نور الشمس الذي ينير بشعاعه كل الأشياء، هو واحد.
القديس أثناسيوس الرسولي
v إلى هنا كان يمكن لليهود أن يحتملوه، وأما وقد سمعوا: “أنا والآب واحد” فلم يستطيعوا بعد أن يحتملوا… ها أنتم ترون أن اليهود فهموا ما لا يفهمه الأريوسيون. فقد غضبوا على هذا، وشعروا ما كان يمكن القول: “أنا وأبي واحد” إلاَّ إذا وجدت مساواة بين الآب والابن.
v إذ جاءت كلمة الله إلى البشر لكي يصيروا آلهة، فماذا يكون كلمة الله نفسه الذي عند الله إلاَّ أن يكون هو الله؟
إن كان بكلمة الله يصير البشر آلهة، إن كان بالشركة معه يصيرون آلهة، فهل يمكن لذاك الذي به ينالون الشركة ألا يكون هو الله؟
إن كانت الأنوار التي تُضاء هي آلهة، فهل النور الذي يضيء لا يكون هو الله؟
أنتم اقتربتم من النور فاستنرتم وحسبتم أبناء الله، فإن انسحبتم من النور تسقطون في غموض وتُحسبون أنكم في ظلمة، أما ذاك النور فلا يقترب (ليستنير) لأنه لا ينسحب من ذاته.
v يمكننا أحيانًا أن نقول: نحن في الله والله فينا، لكن هل يمكننا القول: “نحن والآب واحد”؟ أنتم في الله، لأن الله يحتويكم، والله فيكم لأنكم صرتم هيكل الله… لكنكم هل تقدرون أن تقولوا: “من يراني يرى الله” كما قال الابن الوحيد (يو ١٤: ٩)… “أنا والآب واحد”؟ تعرفوا على امتياز الرب الفائق، وعلى المنحة التي للخادم. امتياز الرب هو مساواة للآب، ومنحة الخادم هي الشركة مع المخلص.
القديس أغسطينوس
“فتناول اليهود أيضًا حجارة ليرجموه”. (31)
للمرة الثانية أراد مقاوموه أن يرجموه (يو ٨: ٥٩)، أما علة الرجم فلأنه في نظرهم قد جدَّف، إذ ادعى وحدته مع الآب. لم يدرك اليهود حقيقة شخصه لذا لم يحتملوا كلماته.
الوحدة الفريدة بين الآب والابن، والتي هي أساس العمل الرعوي الإلهي هي مصدر استنارتنا الروحية وتعزياتنا وسلامنا الداخلي. هذه الوحدة لم يستطع أن يتقبلها اليهود بل حسبوها تجديفًا على الله.
خطية التجديف عند اليهود خطية قاتلة ومميتة لا تحتاج إلى محاكمة وسماع دفاع من المتهم، بل يُعاقب الشخص فورًا. فقد جاء في المشناه أنه إن سرق إنسان إناءً مقدسًا يعاقب المتحمسون دون محاكمة. نفس الأمر إن خدم كاهن على مذبح دنس. جاء في المشناه أن اخوته الكهنة لا يأتوا به إلى المحكمة، بل يأخذه الكهنة الشباب إلى خارج دار الهيكل ويفتحون مخه (رأسه) بالهراويل. إنها خطية مرعبة تستحق عقوبة رهيبة! هكذا رأى اليهود أنه لا حاجة لمحاكمته، بل ذهبوا خارج دائرة الهيكل ليجدوا حجارة، حملوها وجاءوا بها ليرجموه دون اعتبار حتى للموضع المقدس نفسه، إذ لا يجوز الرجم في تلك المنطقة. لكن غضبهم الشديد وظهورهم بالغيرة على مجد الله جعلهم يتصرفون هكذا.
“أجابهم يسوع:
أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي،
بسبب أي عمل منها ترجمونني؟” (32)
قدم السيد المسيح أعماله الإلهية شهادة حية عن شخصه، فهي أقوى من الحوار بالكلام، وأسهل على فهم الحقيقة.
لماذا يصر على القول “من عند أبي؟” أما كان يكفي القول: “أعمالاً كثيرة صالحة أنا عملتها”؟ لقد أراد تأكيد أنه والآب يعملان معًا، ذات العمل الذي يمارسه الابن هو من عند الآب. إن كان الابن القدوس ينسب أعماله الصالحة للآب، فكم يليق بنا نحن الخليقة الضعيفة أن ننسب كل صلاح فينا إلى نعمة الله العاملة فينا؟
لقد تحداهم السيد قائلاً: “من منكم يبكتني على خطية؟” (٨: ٤٦)، ولم يستطع أحد أن يجيبه. فكيف يرجمون شخصًا لا يقدر أحد أن يبكته على خطية واحدة؟
بقوله “أي أعمال” بمعنى “أي نوع من الأعمال” هذه التي لا يستطيع مخلوق سماوي أو أرضي أن يفعلها، إذ هي أعمال تخص الله نفسه.
“أجابه اليهود قائلين:
لسنا نرجمك لأجل عمل حسن،
بل لأجل تجديف،
فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا”. (33)
لم يستطع اليهود أن ينكروا الأعمال، لكنهم لم يحتملوا كلماته، حاسبين أنه قد تجاسر وساوى نفسه بالله. قالوا: “وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا” بينما يعلن الإنجيلي خلال كل السفر أنه وهو الإله صار إنسانًا.
“أجابهم يسوع:
أليس مكتوبًا في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة”. (34)
كلمة “الناموس” هنا بالمعنى الواسع حيث تعني العهد القديم ككل. فقد ورد هذا النص في مزمور 82: ٦ عن القضاة العبرانيين بكونهم يمثلون الله. حيث يكمل المرتل: “لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون” (مز ٨٢: ٧). فإن كان هذا قد قيل عن قضاة العهد القديم، فماذا يُقال عن السيد المسيح الذي قدسه الآب وكرسه لخلاص العالم؟
بقوله: “ناموسكم” لا يعني أنه يتبرأ من هذا الناموس، بل يتطلع إليه ككلمة الله، ولا يمكن أن يُنقض (٣٥).
v الله ليس فقط أوجدنا من العدم، وإنما أعطانا مجانًا بنعمة اللوغوس حياة متطابقة مع الله. لكن إذ رذل البشر الأمور الروحية، وبمشورة الشيطان إذ تحولوا إلى الفساد، صاروا علة فسادهم بالموت؛ صاروا بالطبيعة فاسدين.
لكن قرر لهم بنعمة الشركة مع اللوغوس أن يهربوا من حالهم الطبيعي، ويبقوا صالحين.
فإذ حلّ اللوغوس بينهم لم يُقتلوا بفسادهم الطبيعي، كما يقول الحكمة: “خلق الله الإنسان ليكون خالدًا، وأوجده صورة أبديته. لكن بحسد إبليس جاء الموت إلى العالم” (حك 2: 23).
v صار إنسانًا لكي نصير آلهة. وأعلن عن نفسه بجسم حتى نتقبل فكرة الآب غير المنظور، واحتمل إهانة البشر لكي ما نرث نحن عدم الموت. فإنه بينما هو نفسه لم يصبه ضرر بأي الأحوال، بكونه فوق الآلام وغير فاسد، اللوغوس نفسه، الله، فإنه سند البشر الذين يتألمون والذين من أجلهم احتمل كل هذا، وحفظهم في الألم الذي له.
v حقًا لقد أخذ الناسوت لكي نصير آلهة. لقد أعلن عن نفسه خلال جسد لكي ما ندرك عقل الآب غير المنظور، لقد احتمل العار لكي ما نرث عدم الفساد.
القديس أثناسيوس الرسولي
v “إنكم آلهة وبني العلي تدعون”. لهذا الهدف صار لوغوس الله إنسانًا. ابن الله صار ابن الإنسان، حتى أن الإنسان إذ يدخل في اللوغوس، ويتقبل التبني، يصير ابنًا لله. فإنه ليس من وسيلة أخرى يمكننا بها أن نبلغ إلى عدم الفساد وعدم الموت. لكن كيف كان يمكننا أن نرتبط بعدم الفساد وعدم الموت فيُبتلع الفساد بعدم الفساد، والمائت بعدم الموت فنتقبل تبني الأبناء؟
القديس ايريناؤس
v أنصت إلى ما جاء في المزامير: “ألم أقل أنكم آلهة وبني العليّ تدعون؟” (مز 132: 6). يدعونا اللَّه لهذا، ألا نكون بشرًا. إنما نكون في حالٍ أفضل حين لا نكون بشرًا، وذلك إن عرفنا أولاً الحقيقة أننا بشر، بمعنى أننا نرتفع بالتواضع إلى ذلك العلو؛ لئلا عندما نظن في أنفسنا أننا شيء بينما نحن لاشيء ليس فقط لا ننال ما لسنا نحن عليه، بل ونفقد حتى ما هو نحن فيه.
القديس أغسطينوس
“إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله،
ولا يمكن أن ينقض المكتوب”. (35)
“فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم،
أتقولون له أنك تجدف لأني قلت إني ابن الله؟” (36)
v ما يقوله هو من هذا النوع: “إن كان الذين يتقبلون هذه الكرامة بالنعمة لا يجدون خطأ في دعوة أنفسهم آلهة، فكيف يُوبخ ذاك الذي له هذا بالطبيعة؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ربما يتساءل أحد: إن كان الآب قد قدسه، فهل وُجد زمن لم يكن فيه قد تقدس؟ لقد قدسه بذات الطريقة التي بها ولده. فإنه في الولادة نال السلطان ليكون مقدسًا، إذ ولده في القداسة. لو أن ذاك القدوس كان قبلاً غير مقدس فكيف يمكننا القول عن الله الآب: “ليتقدس اسمك”؟
القديس أغسطينوس
“إن كنت لست أعمل أعمال أبي، فلا تؤمنوا بي”. (37)
“ولكن إن كنت أعمل،
فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال،
لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ، وأنا فيه”. (38)
يدعو السيد المسيح المقاومين أن يواجهوا أعماله ويختبروها حتى متى أدركوا أنها أعمال أبيه يؤمنوا به أنه ابن الله. خلال فحص أعماله يعرفوا فيؤمنوا، وقد جاء الفعل في اليونانية يحمل معنى “تبدأوا تعرفون” أو “تأتون إلى معرفة”. ويترجم البعض كلمة: “تؤمنوا” هكذا “تستمروا في معرفة هذه الأمور”، فلا تكفي بداية هذه المعرفة، إنما يلزم الاستمرار في المعرفة.
v آمنوا إذن أن حضرة الله قائمة فيها (في أعماله). أتؤمنون بالأعمال ولا تؤمنون بالحضرة؟ إذن من أين للأعمال أن تصدر ما لم تسبقها الحضرة؟
القديس أمبروسيوس
v ألا ترون كيف يبرهن هنا أنه ليس فيه شيء ما أدني من الآب، بل هو مساوٍ له في كل شيءٍ؟ فإن تساوي الأعمال وكونها هي بذاتها، يقدم برهانًا على سلطانه غير المختلف.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فطلبوا أيضًا أن يمسكوه،
فخرج من أيديهم”. (39)
عوض الحوار معه كانت إجابتهم الوحيدة هي محاولة القبض عليه مرة أخرى ليقتلوه.
“ومضى أيضًا إلى عبر الأردن،
إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولاً،
ومكث هناك”. (40)
في كمال حريتهم كانوا قادرين على اتهامه ظلمًا، والتخطيط للقبض عليه وقتله، والثورة ضده، أما تحقيق خطتهم فما كانوا قادرين عليه لأنه لم يكن بعد قد ُسمح لهم بذلك.
v من عادة السيد المسيح أنه متى تكلم كلامًا عاليًا أن ينصرف سريعًا ليخفف من غيظهم، حتى بابتعاده عنهم يُسكن داء غيظهم، وهذا ما عمله في ذلك الوقت.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v فشلوا في أن يمسكوه بسبب فقدانهم يد الإيمان. الكلمة صار جسدًا، لكنه لم يكن بالأمر العظيم أن يخلص جسده من الأيدي الجسدية. لكي تمسك بالكلمة في ذهنك هو الإدراك السليم للمسيح.
القديس أغسطينوس
3 – يسوع في موضع عماده 40-41.
“فأتى إليه كثيرون وقالوا:
إن يوحنا لم يفعل آية واحدة،
ولكن كل ما قاله يوحنا عن هذا كان حقًا”. (41)
بسبب العداوة التي أظهروها للسيد المسيح انطلق السيد إلى الجانب الآخر من الأردن، في الموضع الذي كان فيه القديس يوحنا المعمدان يُعمد القادمين إليه. جاء ليس خوفًا من قتله، فقد جاء إلى العالم ليخلص العالم بالصليب، ولكن في الوقت المعين.
يحمل هذا الموضع ذكريات رائعة للسيد المسيح وتلاميذه، حيث شهد القديس يوحنا المعمدان عن السيد المسيح “حمل الله الذي يحمل خطية العالم”. لعل سكان هذه المنطقة كانوا لا يزالون يذكرون شهادة القديس يوحنا ويرددونها. لقد استشهد القديس يوحنا وعبر من هذا العالم، لكن ثمرة شهادته ظهرت حتى بعد رحيله، إذ تذكرها أهل الموضع، وآمنوا بالسيد المسيح. لم يصنع القديس يوحنا آية واحدة، لكنهم صدقوا شهادته بدون حاجة إلى آيات.
v إن كان اليهود صدقوا أن يوحنا المعمدان الذي لم يصنع ولا آية واحدة، فبالأولى أن يصدقوا السيد المسيح، فمن هذه الجهة يتبين سمو حال السيد المسيح وعظمته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فآمن كثيرون به هناك”. (42)
v لأن الأعمال التي اجتذبتهم إليه كانت كثيرة، ولأنهم تذكروا الأقوال التي قالها يوحنا المعمدان، إذ دعاه قائلاً: “الذي يأتي بعدي هو أقوى مني” (مت 3: 11) ومما سمعوه من السماء والروح الذي ظهر بصورة حمامة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي يو 10
لتحملني على منكبيك وتغسلني بدمك!
v وسط ضجيج العالم الذي لا ينقطع،
أرى وجهًا مشرقًا، واسمع صوتًا رقيقًا جذّابًا!
إنه وجهك يا من أنت أبرع جمالاً من بني البشر!
إنه صوتك الفريد الذي يسحب كل مشاعري!
أنت هو راعيّ الصالح، المحب لنفسي!
v أنت هو الراعي، والباب، والبوّاب.
أنت هو الراعي الذي يتقدم خطواتي،
ليقتل كل ذئب مفترس.
تتقدّمني لتدخل بي إلى مراعيك السماوية الفريدة.
تتقدّمني لترتفع على الصليب،
فتغسلني بدمك الطاهر!
تحمل عصاك لتقتل بها عدوّي،
وبها تؤدبني بروح الحنو واللطف،
وبها تقودني لأدخل في أحضانك.
تحمل مزمارًا، لتعلن فرحك الكامل بي،
فيكمل فرحك فيّ، يا مصدر كل سعادة.
v أنت هو الباب والبوّاب.
كيف يدخل إلى حضنك أبيك إلا بك يا باب الأحضان الإلهية؟
هل من باب آخر أدخل به سواك؟
أنت هو البوّاب، تقودني إليك،
وتغلق عليّ فيك،
فلن يقدر عدو أن يدخل معي، ولا أن يمسّني!
v ماذا أرد لك مقابل هذه الرعاية الفريدة الفائقة؟
هب لي أن أتحد بك، فأصير بك ومعك راعيًا!
أحبك، فأرعى بك ومعك غنمك.
يكمل فرحي بخلاص الكثيرين.
وأجد لذّتي في شركتي معك بروح الرعاية الحقيقية.
v رعايتك حملتك بإرادتك إلى الموت والقيامة.
بسلطانك أخذت نفسك وأبهجت الذين في القبور!
هب لي مجد الشركة معك في صلبك،
وهب لي بهجة التمتع بقيامتك!
v في عيد التجديد كنت تتمشى في رواق سليمان،
هوذا رواق ملك السلام في داخلي،
لتدخل وتتمشى، فأتمشّى معك، وأسمع صوتك.
لتقم في داخلي عيدًا دائمًا للتجديد المستمر لهيكلك في داخلي!
v لتُعلن في داخلي أنك واحد مساوٍ لأبيك.
أؤمن يا سيدي، فقد رأيتك وتمتعت بأعمالك!
أعمالك تشهد لك،
فقد حوّلت مقبرتي إلى مقدسٍ،
وحوّلت قلبي إلى سماواتك،
وحوّلت ظلمتي إلى نورٍ،
أعلنت حضرتك في داخلي!
فماذا أطلب بعد؟
تفسير يوحنا 9 | تفسير إنجيل القديس يوحنا القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير يوحنا 11 |
تفسير العهد الجديد |