تفسير سفر أعمال الرسل ١٣ للقمص تادرس يعقوب

الجزء الثاني

الأصحاحات 13 – 28

رحلة بولس الرسول التبشيرية الأولى

  1. من أنطاكية سوريا إلى سلوكية، ميناء في سوريا (13: 1-4).
  2. أبحر ومن معه إلى سلاميس في جزيرة قبرص (13: 4).
  3. ذهبوا إلى بافوس في جزيرة قبرص (13: 5-12)، وتغير اسمه إلى بولس.
  4. إلى برجة بمفيلية بآسيا الصغرى (13: 13): عودة يوحنا مرقس إلى أورشليم.
  5. إلى إنطاكية بسيدية (13: 14): إلقاء عظة سُجلت في السفر (13: 16-41).
  6. إلى أيقونية عاصمة ليكأونية (13: 50-51).
  7. إلى لسترة بليكأونية (14: 5-6)، حيث رُجم بولس (14: 8-19).
  8. إلى دربة بليكأونية (14: 20).
  9. العودة عن طريق لسترة (14: 21)، أيقونية، أنطاكية بسيدية (14: 21)، وبرجة ببمفيلية حيث سبق أن أسس كنائس هناك (14: 21-23).
  10. إلى أتالية ببمفيلية (14: 25).
  11. إلى أنطاكية سوريا (14: 26-28).

الاصحاح الثالث عشر

رحلة بولس الرسول التبشيريّة الأولى

إذ نمت الكنيسة في أنطاكية صارت مركزًا لخدمة القدّيسين بولس وبرنابا ومن معهما، حيث بدأت الكنيسة تنطلق إلى العالم تشهد للسيّد المسيح. في ذلك الحين صارت أنطاكية أشبه بأمٍ لخدمة كنيسة الأمم في دولٍ كثيرة، إن صح التعبير.

  1. أنطاكية مركز للعمل 1

وكان في إنطاكية في الكنيسة هناك أنبياء ومعلّمون،

برنابا وسمعان الذي يدعى نيجر ولوكيوس القيرواني

ومناين الذي تربّى مع هيرودس رئيس الربع وشاول“. [1]

من بركات الاضطهاد الذي أثاره اليهود على الكنيسة في أورشليم بعد رجم القدّيس استفانوس أن انطلق كثيرون إلى أنطاكية. وكان الذين من أصل يهودي لا يكرزون بالكلمة هناك إلا اليهود وحدهم (أع 11: 19). غير أن الذين لهم ثقافة هيلينيّة أو الذين كانوا قبروسيّين أو قيروانيّين فصاروا يركزون بين اليونانيّين هناك. “وكانت يد الرب معهم، فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب” (أع 11: 21). واستمرت خدمة الرسولين برنابا وشاول الطرسوسي هناك لمدة عام وقد ألهبت قلوب الكثيرين للخدمة. صارت الكنيسة هناك ملتهبة بالروح، لهذا استراحت نفس بولس (شاول الطرسوسي) أن يجعل أنطاكية مركز خدمته، يبدأ منها رحلاته، وإليها يرجع.

يذكر القديس لوقا البشير أنّه “دُعي التلاميذ مسيحيّين في أنطاكية أولاً” (أع 11: 26). فمع أن الكنيسة قد ضمّت من هم من أهل الختان وأيضًا من هم من أهل الغُرلة، لكن لنموّها أدرك غير المؤمنين أنّه لم تعد الكنيسة شيعة من شيع اليهود، ولا فرقة، بل هي ديانة مستقلّة، حتى وإن اعتمدت على نبوّات العهد القديم وتمسّكت بأسفار التوراة، وحسبت آباء اليهود ووعود الله وعهوده أنّهم آباؤهم وأنبياؤهم والوعود الإلهية هي لهم وعهود الله معهم؛ أنُهم مسيحيّون! من هنا بدأ العالم يدرك ذلك، لذا يقول أغريباس الملك للقدّيس بولس: “بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًّا” (أع 26: 28).

يقدّم لنا الإنجيلي لوقا صورة حيّة لنشاط الكنيسة وازدهارها في أنطاكية. وُجد أنبياء ومعلّمون يقومون بخدمة الكنيسة هناك، وذكر قائمة بخمسة أسماء، وجاء برنابا على رأس القائمة، ربّما لأنّه كان أقدمهم عهدًا بالإيمان، وكان له غيرة متّقدة حتى جذب شاول الطرسوسي للعمل معه الذي كان إلى ذلك الحين مرافقًا لبرنابا وشريكًا معه في الخدمة.

كان الأنبياء الذين انحدروا من أورشليم إلى أنطاكية (أع ١١: ٢٧) بمثابة زائرين يجولون لخدمة اسم الرب، أما المذكورون هنا فهم أعضاء ثابتون في الكنيسة. كان دور النبي في العهد الجديد هو النطق بالروح القدس، أما المعلم فكان يفسر ما قيل بالروح القدس في الكتاب المقدس، وما ينطق به النبي بالروح. وكان غاية الاثنين هو تمتع المؤمنين بحضرة السيد المسيح المعلم، الحال في كنيسته على الدوام لتعيش به، وهو يحيا فيها.

سمعان الذي يُدعى نيجر: “سمعان” اسم يهودي، واللقب “نيجر” لاتيني، ربما لأنه كان أسمر اللون. غالبًا ما كان هو سمعان القيرواني والد ألكسندر وروفس (مر ١٥: ٢١).

لوكيوس القيرواني، وقد سبق لنا الحديث عنه (أع ١١: ٢٠)، وهو بخلاف الوارد في رومية ١٦: ٢١. كان أحد اليونانيين المتنصرين الذين لهم دور فعّال في الكنيسة بأنطاكية مع الرجال القادمين من قبرص. ظن البعض أن لوكيوس ولوقا شخص واحد، لأن الصيغة اللاتينيّة لكلمة لوقا اليونانيّة هي لوكيوس، لكن رفض كثير من الباحثين هذا الافتراض، خاصة وأن اسم لوقا كان شائعًا، فلم يكن ما يدعو الإنجيلي إلى عدم ذكره بالصيغة اليونانيّة.

مناين الذي تربى مع هيرودس رئيس الربع“. مناين هو النطق المخفف للاسم العبري مناحم Menahem، ومعناه “المعزي”. أما هيرودس فهو أنتيباس بن هيرودس الكبير الذي أرسل بيلاطس إليه السيد المسيح لمحاكمته، والذي تولى على الجليل وبيريه كرئيس ربع سنة ٤ ق.م. حتى سنة ٣٩ م.

مناين نبي أنطاكية التقِى على ما يُظن أنه كان من الأسينيين العارفين بالروح. تربى مناين في قصر هيرودس الكبير مع ابنه انتيباس. وقد تنبأ لهيرودس الكبير بأنه سيصير ملكًا كما كتب يوسيفوس، وكان هيرودس الكبير يوقره. وإليه تُعزى معرفة القديس لوقا بهيرودس وعائلته، وبهذه الجماعة من الأنبياء والمعلمين وأحبار الكنيسة في أنطاكية. والعجيب أن ابن هيرودس وهو قاتل القديس يوحنا المعمدان، كان زميل تربية وتعليم ونشأة مع مناحم النبي التقِي والمعلم.

يذكر شاول في آخر جماعة الأنبياء والمعلمين، لأنه لم يكن بعد قد بلغ قامة هؤلاء الأنبياء ودرجتهم، وذلك حسب الأقدمية في الكنيسة.

  1. فرز برنابا وشاول للكرازة 2-3

وبينما هم يخدمون الرب ويصومون،

قال الروح القدس:

افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه“. [2]

بدأت رحلات بولس الرسول التبشيرية بإعلان الروح القدس لا لشاول ولا لبرنابا، بل للكنيسة المجتمعة بروح الصلاة والصوم. وقد جاءت كلمة “يخدمون” في اليونانية بمعنى يحتفلون بالليتورجيا (ليتورجوتون)، أي يمارسون ليتورجيا الإفخارستيا.

الكلمة اليونانية المترجمة “يخدمون” (ليتورجونتون) تفيد الخدمة العامة غير المدفوعة الأجر كرامة للملك؛ هنا تشير إلى خدمة الصلاة في الكنيسة بتقديم الشكر والتسبيح في الاحتفال بالذبيحة الإلهية.

قال الروح“، غالبًا على لسان أحد الأنبياء المجتمعين للصلاة والصوم، وقد كرسوا قلوبهم في جدية للخدمة والشهادة.

افرزوا“، تعني التخصص لعمل الروح القدس، قائد حركة الشهادة ليسوع المسيح. والعجيب أن الروح قال: “افرزوا لي” وليس “للرب يسوع“، لأنه هو والابن الوحيد الجنس واحد في الجوهر، لهما ذات السلطان والقوة، والكرازة هي لحساب الثالوث القدوس.

جاءت الدعوة بالاسم شخصيًا لفتح أول طريق نحو الكرازة في العالم الأممي.

v أما الروح القدس فلا ينطق بلسان، إنما هو روح حي يهب الحكمة في الكلام، متحدثًا وواعظًا بنفسه… أنظروا كيف يفرز الروح الحي ويدعو ويرسل بسلطان.

القديس كيرلس الأورشليمي

في عظة للقديس يوحنا الذهبي الفم على 1 تي1: 1 يوضح أن الروح القدس هو الذي قال: “افرزوا لي برنابا وشاول” (أع 13: 1)، وفي نفس الوقت فإن السيد المسيح هو الذي دعاه وأرسله “اذهب فإني سأرسلك إلى الأمم بعيدًا ” (أع 22: 21)، كما يقول في موضع آخر: “ينبغي لك أن تقف أمام قيصر” (أع 27: 24). وفي نفس الوقت يحسب الرسول ان كل الأوامر صادرة من عند الآب… هنا يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفموحدة العمل للثالوث القدوس.

لاحظنا في المقدّمة دور الروح القدس في حياة الكنيسة، بكونه القائد الحقيقي، الذي يقدّم لها ذاته، ويهبها الإمكانيّات الإلهية لتصير أيقونة عريسها السماوي، السيّد المسيح.

v إنّه الروح الذي يعرف كل شيء (1 كو 2: 10)، الذي يعلّم (يو 14: 26)، الذي يهِّب حيث يريد وبقدر ما يريد (يو 3: 8)، يرشد (مز 142: 10)، ويتكلّم (أع 13: 2) ويُرسل (أع 13: 4)، ويفرز (أع 13: 2)… ويوحي (يو 16: 3)، وينير (يو 14: 26)، ويحيي (يو 6: 63)، أو بالأحرى الذي هو نفسه نور وحياة، ويجعلنا هيكله (1 كو 3: 16)، ويؤلّهنا (1 كو 3: 16)، ويقودنا إلى الكمال (يو 16: 13)، بحيث إنّه يسبق المعموديّة (أع 10: 47)، ويُطلب بعد المعموديّة… يوزّع المواهب الروحيّة (1 كو 12: 11)، يصنع الرسل والأنبياء والمبشّرين والرعاة والمعلّمين (أف 4: 11).

القديس غريغوريوس النزينزي

فصاموا حينئذ وصلّوا،

ووضعوا عليهما الأيادي، ثم أطلقوهما“. [3]

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن شاول سيم في إنطاكية حيث كان يخدم.

يقدم لنا القديس لوقا أول طقس سيامة كنسية، فقد جاءت الدعوة أولاً من الروح القدس بعد صوم وصلاة وشوق حقيقي لنمو الخدمة والشهادة للسيد المسيح. قام الروح القدس بتعيين الأسماء لأنه هو العارف القلوب، وجاء وضع الأيادي يتناغم مع إرادة الروح القدس، فدور الكنيسة هو تحقيق هذه الإرادة ليعيش الكل في شركة الروح ووحدتها. هنا صورة حية للسيامة بوضع الأيدي بعد دعوة الروح القدس الأشخاص للعمل الكرازي خلال ليتورجيا الإفخارستيا وممارسة صوم خاص.

تمت السيامة وهم صائمون، فقد احتل الصوم مركزًا خاصًا في حياة الكنيسة الأولى بكونه علامة حية تشير إلى انشغال الكنيسة بالمائدة السماوية، وأنها في ممارستها للحياة اليومية من أكلٍ وشربٍ ونومٍ، إنما من أجل الضرورة، وليس لأية لذة أو متعة جسدية.

v لنطلب الطعام لكي نقتات به لا ليحطمنا. نطلب الطعام كقوتٍ لنا، لا كمجال للأمراض، أمراض النفس والجسد. نطلب الطعام الذي يعطي راحة لا ترفًا حيث يكون مملوء إزعاجًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. بدء الرحلة الأولى 4-5

فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس،

انحدرا إلى سلوكية،

ومن هناك سافرا في البحر إلى قبرس“. [4]

هنا تبدأ أول رحلة كرازية للقديس بولس الرسول:

سلوكية: على شاطيء فينيقية مقابل قبرص، وهي ميناء أنطاكية المشهور وتُدعى أيضًا بيرية Pieria الواقعة على بعد ١٦ ميلاً شرق أنطاكية وخمسة أميال شمال مصب نهر الأورنتس. أسسها سلوكيوس نيكاتور أول ملوك السلوقيين سنة ٣٠١ ق.م. ولما نزلوا في قبرص نزلوا في المدينة المقابلة على الساحل الشرقي، وهي مدينة سلاميس.

يا للعجب كان شاول الفرّيسي حتمًا يتحاشى الذهاب إلى قبرص، الذي تغنّى الشعراء بفسادها وانحلالها، بكونها الجزيرة العزيزة على الإلهة فينوس. وها هو الآن شاول المسيحي قد دُعي للانطلاق إليها ليُقاوم كل انحلال فيها، ويُقيم مع شعبها هيكلاً لروح الله القدّوس.

v كمن يطير سافر (القديس بولس) على البر وفي البحر، في اليونان وكل مناطق البرابرة، وباختصار سافر في كل الدول تحت السماء. لم تكن رحلاته باطلة، فإنه حيثما سافر كان ينزع أشواك الخطية، ويزرع بذور التقوى في كل موضع، يزيل الخطأ، ويقدم الحق للشعب، يحول البشر إلى كائنات سماوية، وما هو بالأكثر، أقامهم من شياطين إلى ملائكة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ انحدرا إلى سلوكية لم يبقيا فيها لأنها يعلمان أن أهل سلوكية قد انتفعوا كثيرا من الخدمة في إنطاكية حيث بقي القديسين بولس وبرنابا سنة كاملة.

ولما صارا في سلاميس

ناديا بكلمة الله في مجامع اليهود

وكان معهما يوحنا خادمًا“. [5]

سلاميس: مدينة يونانية على الساحل الشرقي القبرصي، كانت العاصمة ومركز التجارة الأول في قبرص الشرق وقاعدة الحكم لنصفها الشرقي. بينما باغوس هي عاصمة الغرب وأكثر منها أهمية. كانت سلاميس مقصد اليهود بها أكثر من مجمع. وكانت مجامع اليهود هي المقصد الأول للقديس بولس في كرازته ورحلاته حيث وضع في قلبه أن يبدأ بهم دومًا في الكرازة بإنجيل المسيح، لكن عينيه كانت دائمًا مركزة على المترددين من الأمم داخل المجامع، وكانوا معروفين بخائفي الرب أو الأتقياء.

وكان يوحنا معهما خادمًا“: يرى البعض أن تعبير “خادم” هنا بحسب التقليد الكنسي تعني قيامة بعماد المؤمنين، ويرى آخرون أنها تشير إلى خدمة تعليم الموعوظين.

مرافقة القديس مرقس يوحنا لهما كانت مصدرًا خصبًا للمعلومات الدقيقة التي وردت في سفر أعمال الرسل، إذ كانت اجتماعات الكنيسة الأولى في أورشليم تتم في العلية التي لبيت والدته (أع ١٢: ١٢).

  1. مقاومة باريشوع للكرازة 6-12

ولما اجتازا الجزيرة إلى بافوس،

وجدا رجلاً ساحرا نبيًّا كذابًا يهوديًا اسمه باريشوع“. [6]

بافوس: كانت عاصمة قبرص الغرب، وهي مركز تجمع اليونانيين. كانت بافوس القديمة تبعد سبعة أميال جنوب شرقي بافوس الحديثة. وفي كلتا المدينتين كانت العبادة مقصورة على الإلهة اليونانية بافيان Paphian، والتي عرفها اليونان باسم افروديت Aphroditeوفينوس Venus إلهة الجمال والحب.

باريشوع: اسمه معناه “عليم الساحر”، يدَّعي علم الغيب، غالبًا ما كان يهوديًا عربيًا يحتفظ بصفته كاسمٍ له كعليم بالغيب، وكعالم بقدرته وسلطانه.

“كان مع الوالي سرجيوس بولس وهو رجل فهيم،

فهذا دعا برنابا وشاول والتمس أن يسمع كلمة الله”. [7]

سرجيوس الوالي: بالرجوع إلى سجلات الشيوخ بروما وُجد أنه مذكور كأحد الأمناء باسم “حارس التيبر” (نهر في إيطاليا)، لذلك يرى البعض أنه بعد أن قضى ولايته في التيبر نُقل إلى ولاية قبرص، وأنه روماني أصيل.

كان متعلمًا دائم البحث كما اتسم فلاسفة روما. وإذ وُجد في عاصمة قبرص المزدحمة بمجامع اليهود التي كانت تطمح في التقرب من الرؤساء، لذا كان يتداول معهم في شأن الدين اليهودي ومعرفة الله. ومن هنا صارت الصداقة بينه وبين عليم الساحر الذي خدعه بأعماله السحرية الشيطانية.

سمع الوالي عن مجيء بولس وبرنابا وكيف قدما تعاليم سامية، فاستدعاهما، الأمر الذي أثار عليم الساحر وبذل كل الجهد للتشويش عليهما.

إذ كان الوالي حكيمًا ومهتمًا بخلاص نفسه لم يحتج إلى أحاديث طويلة، إنما إذ سمع كلمة الله دعا الرسولين إليه ليحدثاه بالكلمة. كان قلبه ملتهبًا بالمعرفة الصادقة البناءة. لم يكن بعد قد رأى الوالي أية معجزة أو آية صنعها الرسولان لكنه سمع الكلمة فاجتذبته. إذ كان عليم الساحر يقاوم الكلمة اضطر الرسول فيما بعد أن يأسره بالعمى حتى تنفتح بصيرته وبصيرة الوالي لرؤية أسرار الله، ويتلامسا مع النور الحقيقي عوض الظلمة التي كان يعيش فيها الساحر ويجتذب الوالي معه إلى أسرها!

فقاومهما عليم الساحر،

لأن هكذا يترجم اسمه،

طالبًا أن يُفسد الوالي عن الإيمان“. [8]

دًعي هنا “ماجوس”، لكنه لم يكن منتميًا إلى فئة المجوس، علماء الفلك والنجوم، وإنما كان ساحرًا مخادعًا ومشعوذًا، ونبيًا كاذبًا، لا علاقة له بالله.

وأمّا شاول الذي هو بولس أيضًا،

فامتلأ من الروح القدس،

وشخص إليه“. [9]

في القديم كان الشخص يحمل ثلاثة أسماء ليكَّون اسمه الكامل: الأول يسمى Praenomen والثاني Nomen والثالث Logomen أي اللقب أو الكنية أو ما يدعى بالإنجليزية Surname أو Nickname، وهو الذي يميز الشخص.

اسم شاول كان الأصل وأُضيف إليه البديل بولس، ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه أُعطي له بوضع اليد، وإن كنا نرى أنه لم يُدعى بولس إلاَّ بعد الالتقاء بالوالي لوسيوس سرجيوس بولس. لهذا يرى القديس چيروم أن اسم بولس أُعطي لشاول تذكارًا لقبول الوالي الإيمان. ويرى لايتفوت Lightfoot أن شاول أخذ هذا الاسم أثناء الختان كعادة اليهود حيث يحتفظ باسمه الأصلي بين العبرانيين، ويستخدم اسمه الأممي بين الأمم. فقد اشتهر اليهود باستخدام أسماء معروفة لدى المناطق التي يعيشون فيها مع احتفاظهم بأسمائهم العبريّة في الوسط اليهودي.

يرى القديس أغسطينوس أن شاول أخذ اسمه عن شاول الملك المتكبر علامة الاعتداد بذاته، لكنه اختار أن يُدعي “بولس” الذي يعني “الأقل” معطيًا إيانا درسًا في التواضع. “أنا أقل الرسل” ( 1 كو 15: 9).

v لماذا ذاك الذي كان يُدعى شاول في سفر الأعمال الآن يُدعى بولس؟ في الكتاب المقدّس نجد بين القدامى قد تغيّرت أسماء كثيرة، مثال ذلك أبرام دُعي إبراهيم (تك 17: 5)، وساراي دُعيت سارة (تك 17: 15)، ويعقوب دُعي إسرائيل (تك 32: 28؛ 35: 10). وفي الأناجيل أيضًا سمعان قد تغيّر إلى بطرس (مر 3: 16)، وابنا زبدي صارا معروفين بابنيّ الرعد (مر 3: 17). لكن هذا حدث بأمرٍ إلهيٍّ، إلا أن هذا لم يحدث في حالة بولس. لهذا ظن البعض أن الرسول أخذ اسم بولس من والي قبرص الذي تحوّل إلى الإيمان المسيحي (أع 3: 4-12)، بنفس الطريقة التي كان بها اعتاد الحكّام أن يضيفوا إلى أسمائهم أسماء من غلبوهم. مثال ذلك برثيكوس Parthicus يشير الاسم إلى هزيمة البارثينيّين Parthians، وأيضًا غوثيكوس Gothicus تشير إلى النصرة على الغوصيّين وهكذا. بنفس الطريقة دعا الرسول نفسه بولس إشارة إلى نصرته على الوالي بولس.

لا يمكننا استبعاد هذا السبب تمامًا، لكن لا نجد مثل هذه العادة في الكتاب المقدّس، لذا يجب أن نبحث عن حلٍ آخر من الأمثلة التي لدينا. بالحقيقة نجد في الأسفار المقدّسةأشخاصًا لكل منهم اسمان مختلفان أو أكثر. سليمان دُعي يديديا (2 صم 12: 25)، وصدقيا يُدعى متانيا (2 مل 24: 17)، وعزّيا يُدعى عزاريا (2 مل 15: 32)، وكثيرون هكذا في أسفار القضاة وصموئيل والملوك. بل والأناجيل لم تهجر هذه العادة، كمثال متّى يُدعى “لاوي” (لو5: 27)… وتدّاوس يظهر أحيانًا بلبّاوس (مت 10: 3). واضح أن كتَّاب الأناجيل لم يذكروا أسماء الرسل خطأ، وإنّما كان من عادة العبرانيّين أن يكون للشخص اسمان أو ثلاثة أسماء مختلفة لنفس الإنسان. يبدو لنا أن بولس – بحسب هذه العادة – كان له اسم ثان. مادام يكرز وسط شعبه كان يُدعى شاول، الاسم الذي أعطاه له والداه بلياقة، ولكن حين يكتب نواميس ووصايا لليونانيّين وغيرهم من الأمم كان يُدعى بولس.

العلامة أوريجينوس

وقال أيها الممتلئ كل غش وكل خبث،

يا ابن إبليس،

يا عدو كل برّ،

ألا تزال تُفسد سُبل الله المستقيمة“. [10]

يا ابن إبليس: إنه ليس “باريشوع” أي ابن يسوع بل هو ابن إبليس، لأنه يمارس عمل أبيه، إذ كلمة إبليس تعني المضلل، والشيطان يعني الخصم أو المقاوم. هكذا يدعوه بالاسم الذي اختاره الساحر خلال تصرفاته. وإذ قاوم برّ الله أي النور، وسلك بروح الظلمة صدر الحكم بالعمى حتى يدرك عماه الداخلي ويتلمس ظلمته، لعله يعترف ويتوب مشتاقًا إلى النور الحقيقي والمعرفة الصادقة بلا خداع. لقد رفض أن يتمتع بأشعة شمس البرّ فحُرم من رؤية الشمس العادية.

يصف القديس لوقا كطبيب كيف غشت عيناه ضباب، فيتوقف جهاز العين عن استقبال النور تمامًا.

فالآن هوذا يد الرب عليك،

فتكون أعمى، لا تبصر الشمس إلى حين،

ففي الحال سقط عليه ضباب وظلمة،

فجعل يدور، ملتمسًا من يقوده بيده“. [11]

v “فهوذا يد الرب عليك” لم يكن ذلك انتقامًا بل كان شفاءً. وكأنه يقول له: “لست أنا أفعل ذلك بل يد الرب”. لاحظوا تواضعه! لم يشرق نور على الساحر كما في حالة بولس حيث أشرق نور حوله. يقول: “فتكون أعمى لا تبصر الشمس إلى حين“، مقدمًا له فرصة للتوبة. فإننا لا نجدهم في أي موضع يرغبون في الظهور كبارزين بالعنف، مستخدمين سلطانهم. فإنهم حتى إن استخدموا ذلك ضد الأعداء يكونوا قساة على الجسد بقصد صالح. إنهم لم يستخدموا هذا مع الذين في الخارج حتى لا يكون الإيمان كرهًا وبالرعب.

v كانت علامة لكي ما هو نفسه يتحول إلى الإيمان. بهذا أراد بسرورٍ أن يحوله إلى الإيمان. فإن تعبير “إلى حين” يجعل من هذا العمل ليس عقوبة بل لإيمانه. لو كان ذلك للعقوبة لجعله أعمى على الدوام لكن الأمر بخلاف هذا؛ إنه إلى حين، وأيضًا لكي يربح الوالي.

v يا لحب السيطرة! يا لشهوة المجد الباطل، كيف أنها تسقط وتهلك كل شيء، تجعل البشر يقفون ضد خلاصهم وخلاص الآخرين. تجعلهم بالحق عميان وفي ظلمة ويحتاجون إلى من يقودهم بيديه.

v كيف يمكننا أن نتخلص من المجد الباطل؟ فكروا في أولئك الذين من أجل المجد أنفقوا أموالاً كثيرة، ولم ينالوا شيئًا منه. فكروا فى الأموات، أي مجد قد نالوه، وكيف أن هذا المجد لا وجود له، بل يبدو أنه صار كلا شيء. لتفكروا أنه يحمل مجرد الاسم “المجد” ولا يحوي فيه شيئًا حقيقيًا… لنهرب من هذا الهوة، ولنطلب أمرًا واحدًا: المجد الذي من الله، وأن نكون مقبولين لديه، وممدوحين من سيدنا جميعًا، فإذ نعبر حياتنا الحاضرة في الفضيلة ننال البركات الموعود بها مع أولئك الذين يحبونه بنعمة ورحمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقدرة والكرامة مع الآب والروح القدس إلى أبد الأبد وإلى انقضاء العالم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v “ماذا تريدون؟ أبعصا آتي إليكم أم بالمحبّة وروح الوداعة؟” (1 كو 4: 21). قصد بولس بالعصا قوّة الروح الرادعة التي استخدمها ضد عليم، هذه التي استخدمها الله ضدّه.

سفيريان أسقف جبالة

فالوالي حينئذ لمّا رأى ما جرى،

آمن مندهشًا من تعليم الرب“. [12]

جاء في السجلات التاريخية أن الوالي سرجيوس بولس اعتمد هو وعائلته، وفي الجيل التالي صار بعض أفراد أسرته مسيحيين مثل ابنته وابنها كايوس كاريستانيوس فرونتو وكان عضوًا في عائلة مشهورة تقيم في أنطاكية بسيدية.

  1. خطاب في أنطاكية بيسيديّة 13-41

ثم أقلع من بافوس بولس ومن معه،

وأتوا إلى بِرْجِة بمفيلية،

وأمّا يوحنا ففارقهم ورجع إلى أورشليم“. [13]

v لاحظوا كيف أنهم لم يتباطؤا هناك كما اعتادوا أن يفعلوا، فإن الحاكم فد صار مؤمنًا، ولا ضعفوا بالتكريم والاحتفال بهم في القصر، إنما في الحال استمروا في عملهم وانطلقوا إلى الساحل المقابل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ركبوا البحر واتجهوا إلى الشمال نحو سواحل آسيا الصغرى، ودخلوا أول مقاطعة على الساحل التي في مقابل شمال قبرص، وهي مقاطعة بمفيلية.

يرى البعض أنه قد برزت أخلاقيات برنابا الكارز التقِي فإنه لما نال بولس الرسول نعمة فائقة أعطاه الأولوية مع أنه أكبر منه سنًا وأقدم في الإيمان والخدمة، فاعتبر نفسه ممن مع بولس، وليس هو القائد. اختار المتكأ الأخير بفرحٍ حين رأى نعمة الله ومواهبه المقدمة لبولس الرسول.

برجة: كانت عاصمة مقاطعة بمفيلية، وهي ليس ميناء، لهذا نزلوا في أتالية ميناء برجة والتي تُدعى حاليًا أنتاليا، ثم انطلقوا إلى برجة على بعد ١٢ ميلاً منها.

بمفيلية: تقع بين طرسوس وساحل البحر في آسيا الصغرى، يتاخمها من جهة الغرب ليكية Lycia ومن الشرق كيليكية Cilicia. كان هذا الإقليم منذ سنة ٤٣ ق. م. إلى ٦٨ م يدعى مقاطعة بمفيلية كيليكية.

يرى البعض أن الرسول بولس أُصيب بالملاريا (شوكة الجسد). ويرى البعض أن القديس مرقس أيضًا أُصيب بمرض لهذا أصر على العودة إلى أورشليم. هذا بجانب أنهم سافروا من أقصى شرق قبرص حتى غربها، أي حوالي ٤٠٠ ميلاً في أرض وعرة وطرق صعبة، بين شعبٍ غريبٍ، حتى اليهود كانوا يقاومونهم. لم يحتمل الشاب مرقس هذا المجهود، لكنه عاد وقطع طرقًا صعبة بين ليبيا ومصر، وسار حتى تهرأ نعله في الإسكندرية من أجل الشهادة للحق والكرازة بإنجيل المسيح.

وأمّا هم فجازوا من بِرْجِة،

وأتوا إلى إنطاكية بيسيدية،

ودخلوا المجمع يوم السبت وجلسوا“. [14]

وأما هما فاجتازا من برجة، وأتيا إلى أنطاكية“: في اليونانية لا توجد قواعد خاصة بالمثنى. لهذا يلازم ترجمتها في العربية بالمثنى (اجتازا، أتيا)، إذ يتحدث عن القديسين بولس وبرنابا وحدهما.

عبرا سلسلة جبال طرسوس التي تفصل برجة عن أنطاكية. إذ صارت أنطاكية عاصمة بيسيدية الكبرى، لذا تُدعى أنطاكية بيسيدية، أي عاصمتها. كانت أكثر المناطق مدنية، كما كانت مركزًا حربيًا. وهي على مرتفعٍ عالٍ يبلغ قمته ٣٦٠٠ قدمًا فوق سطح البحر، وقد حولها الإمبراطور أوغسطس إلى مستعمرة رومانية سماها مستعمرة قيصر Colonia Caesarea وكان بولس الرسول مهتمًا بدخول الإيمان في المستعمرات الرومانية، مثل لسترة وفيلبي وكورنثوس في اليونان.

كانت هذه المناطق يقطنها كثرة من اليهود، وبالتالي كانت بها مجامع كثيرة لهم، بل واستطاع اليهود في أنطاكية بيسيدية أن يكَّونوا مهجرًا مستقلاً لهم، واعتبروا انهم كولونية أو مستعمرة مستقلة.

“وبعد قراءة الناموس والأنبياء أرسل إليهم رؤساء المجمع قائلين:

أيها الرجال الإخوة إن كانت عندكم كلمة وعظ للشعب فقولوا”. [15]

“بعد قراءة الناموس والأنبياء[15]: كان اليهود يقسمون الأسفار المقدّسة إلى ثلاثة أقسام: الناموس ويحوي أسفار موسى الخمسة، والأنبياء ويضم يشوع والقضاة وسفريّ صموئيل وملوك الأول والثاني وكل الأنبياء ماعدا دانيال، والقسم الثالث يُدعى الكتابات المقدّسة Hagiographa، ويحوي المزامير والأمثال وأيّوب ونشيد الأناشيد، وراعوث والمراثي، والجامعة واستير ودانيال وعزرا ونحميا وأخبار الأيّام الأول والثاني، وكان هذا القسم يُدعى “المزامير” لأنّه أول الأسفار الواردة فيه.

كانت عادة قراءة الناموس علانيّة قديمة جدًا، ثم أُضيف بعض أسفار الأنبياء. وإذ حرق أنتيخوس أبيفانس سفر الناموس ومنع قراءته، اختار اليهود بعض أجزاء من الأنبياء رأوا أنّها مقاربة جدًا للناموس لتُقرأ عوضًا عن الناموس. وإذ عادوا إلى قراءة الناموس بقيت عادة قراءة الأنبياء مع الناموس .

فالعبارة الواردة هنا تشير إلى القراءات المختارة من القسمين: الناموس والأنبياء لتقرأ في المجمع، حاسبين أن بقراءة الجزء كأن كل الأسفار قد قرأت (مت 5: 17، لو 16: 29). أمّا القسم الثالث فلم يكن يُقرأ في المجامع.

دخلا المجمع يوم السبت وجلسا في صفوف الربيين، وبهذا نبها الرؤساء والقائمين على نظام المجمع والصلاة أنهما قادران على الوعظ.

كان نظام الصلاة في مجمع اليهود في القرن الأول المسيحي هو هكذا:

v قراءة الشِمَع، أي “اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد”.

v صلاة من فم رئيس المجمع.

v قراءة من الناموس، يضاف إليها قراءة من الأنبياء إن كان يوم سبت أو عيد.

v عظة يلقيها أحد الأعضاء المقتدرين في المجمع، يختاره رئيس المجمع أو رؤساؤه.

رؤساء المجمع” [15]: ترد في العهد الجديد أحيانًا بصيغة الجمع كما في النص الحالي، ووردت في صيغة المفرد كما في مر 5: 35-36، 38؛ لو 8: 41، 49. يبرّر البعض ذلك أنّه في البلاد التي تضمّ مجتمعًا يهوديًّا ضخمًا يوجد أكثر من رئيس مجمع، أمّا حيث المجتمعات الصغيرة، فيوجد رئيس واحد. وكان رئيس المجمع في الهيكل يحتل المركز الثالث بعد رئيس الكهنة الأعظم ورئيس الكهنة. ولم يكن يحتل هذا المركز ما لم ينل الشخص شهادة من مجمع السنهدرين أنّه يحمل السمات المطلوبة لهذا المركز. وينصبّ علمه على الإشراف على كل ما يخص العبادة. ويرى البعض أن رؤساء المجامع المحليّة تمثل مجمع السنهدرين.

فقام بولس وأشار بيده وقال:

أيها الرجال الإسرائيليون والذين يتّقون الله اسمعوا“. [16]

كان الرسول بولس يحتل مركز الصدارة في الحديث، ربّما لأنّه كان أكثرهم قدرة على الخطابة. كان له موهبة الوعظ.

كان السيد المسيح يعظ في الهيكل وهو جالس (لو ٤: ٢٠؛ مت ٢٦: ٥٥)، أما الرسل فغالبًا ما كانوا يعظون وهم واقفين.

يخاطب القديس بولس هنا اليهود والأمم المتهودين والذين يدعون أتقياء، هؤلاء كانوا دومًا أكثر استعدادًا لقبول كلمة الخلاص من اليهود أنفسهم.

يرى الأب ثيؤدورت أسقف قورش أن الذين جاءوا إلى الناموس من الأمم يُدعون “متقي الله” أو “خائفي الله”.

“إله شعب إسرائيل هذا اختار آباءنا،

ورفع الشعب في الغربة في أرض مصر،

وبذراع مرتفعة أخرجهم منها“. [17]

بدأ القديس بولس حديثه بمدحه لهم كمتقي الله. وقد دعا إله كل البشرية “أباهم”، كأنه خاص بهم، مظهرًا احسانات الله عليهم.

اعتاد الرسول بولس في أحاديثه مع اليهود أن يفتتح كلماته بإشارة موجزة لعمل الله مع شعب إسرائيل، حتى يجتذبهم للكلمة، إذ يشعروا أنّه مخلص في اهتمامه بوحدة الشعب واستقامة الإيمان الذي تسلّمه الآباء.

ركزت هذه العظة على اختيار إسرائيل من بين الأمم لكي يأتي منها المسيا الذي اشتاق إليه الآباء والأنبياء. وأن التاريخ الخاص بشعب الله بكل تفاصيله لم يكن إلاَّ تهيئه لمجيئه.

ابتدأ باختيار الآباء، ثم انتقل بسرعة إلى مؤازرة الشعب في مصر حيث رفع رأسه مع أنه كان في غربة، وأخيرًا إذ سقطوا تحت العبودية والسخرة أخرجهم بذراع رفيعة (خر ٦: ٢؛ ١٣٦: ١١).

يلاحظ في مقاله لم يشر إلى فضائل آبائهم، بل ركز على دور الله في اختيارهم وتدبير أمورهم وتقديم نبوات. إنه عمل الله، هذا الذي أرسل ابنه الوحيد يسوع المسيح مخلصًا لهم.

ونحو مدة أربعين سنة احتمل عوائدهم في البرية“. [18]

استعار القديس بولس من سفر التثنية (١: ٣١) تشبيه إسرائيل في البرية بطفلٍ مشاكسٍ يهتم به أبوه فيحمله على ذراعيه.

ثم أهلك سبع أمم في أرض كنعان،

وقسّم لهم أرضهم بالقرعة“. [19]

إذ دخل بهم إلى أرض الموعد، من أجلهم أهلك سبع أمم (تث ٧: ١) وقدم لهم أرضهم ليقسموها بين الأسباط بالقرعة.

“وبعد ذلك في نحو أربع مائة وخمسين سنة،

أعطاهم قضاة حتى صموئيل النبي”. [20]

يأتي هذا الرقم نحو أربعمائة وخمسين سنة لفترة القضاة حتى صموئيل النبي مطابقًا لحسابات المؤرخ يوسيفوس الذي يعطي ٥٩٢ سنة من خروج شعب إسرائيل من مصر إلى بناء الهيكل. وهي ٤٠ سنة في التيه، مضافًا إليها ٢٥ سنة زمن حكم يشوع حسب تقرير يوسيفوس، مضافًا إليها ٤٥ سنة زمن القضاة، ثم حكم شاول ٤٠ سنة، ثم ٤٠ سنة حكم داود (١مل ٢: ١١) ثم أربع سنوات لسليمان للإعداد لبدء بناء الهيكل، فالمجموع ٥٩٩ سنة، ويكون الفارق ٧ سنوات، لهذا يقول الرسول بولس “نحو“.

ومن ثم طلبوا ملكًا،

فأعطاهم الله شاول بن قيس رجلاً من سبط بنيامين أربعين سنة“. [21]

يعطي القديس بولس لحكم شاول ٤٠ سنة، ويتفق ذلك مع يوسيفوس في كتابه السادس (ف ١٤؛ ٩)، غير أن يوسيفوس يعود فيحدد مدته بعشرين عامًا، ويعلل البعض ذلك بأن يوسيفوس هنا يتحدث عن مدة حكم شاول بعد استقلاله تمامًا بنهاية خدمة صموئيل النبي.

ثم عزله وأقام لهم داود ملكًا،

الذي شهد له أيضًا إذ قال:

وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي،

الذي سيصنع كل مشيئتي“. [22]

رفض شاول لأن قلبه لم يكن مستقيمًا، وأقام داود الذي كان رجلاً حسب قلبه ويتمم مشيئته.

ينتقل القديس بولس من اختيار داود ملكًا إلى إقامة وعدٍ إلهيٍ بملكوت أبدي لابن داود، وذلك على نمط ما ورد في المزمور ٨٩: ١٩-٣٧، حيث يتم الخلاص الإلهي. ما قدمه الله لإسرائيل خلال داود الملك هو ظل لما يقدمه ابن داود للعالم. هكذا عبر بهم بولس الرسول من عصر الآباء إلى مجيء الملك الأبدي، مخلص العالم. وجه أنظار الحاضرين إلى ذاك الراعي الذي تحدث عنه الأنبياء (خر ٣٤: ٢٣-٢٤).

v هنا يقصد بالقلب الرغبة، التي بها كان موضوع سروره خلال استقامة شخصيته.

v لم ينتقم (داود) لنفسه بالحرب، ولا قاوم بقوة ذراعيه الذين كانوا يتربصون له، وإنما كان على مثال الرب، فقد أظهر اسم الرب ووداعته. عندما دُبرت خيانة ضده تضرع (إلى الله)، وعندما كان في خطر تغنى بالمزامير، وعندما اُضطهد لم يحمل ضغينة بل فرح؛ لهذا فقد وُجد رجلاً مثل قلب الله.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

من نسل هذا،

حسب الوعد، أقام الله لإسرائيل مخلصًا،

يسوع“. [23]

v لاحظوا كيف أنه يجدل خيوط مقاله بالربط بين الأمور الحاضرة والأنبياء.

يقول: “من نسل هذا حسب الوعد” [23]، إذ كان اسم داود عزيزًا عليه جدًا، أليس مشتهاهم هو إن يكون ابنه ملكًا عليهم؟

ثم يورد يوحنا [24]، فالأنبياء حيث يقول أن بمحاكمة (السيد المسيح) قد تمموا كل ما كُتب عنه [12].

بعد ذلك يأتي الرسل كشهودٍ للقيامة، مقدمًا داود شاهدًا لها.

فإنه تبدو براهين العهد القديم ليست مقنعة إن أُخذت وحدها، ولا الشهادات الأخيرة إن عزلت عن السابقة. لهذا فإنه جعل الاثنين معًا يثبتان بعضهما البعض بطريقة مشتركة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ سبق يوحنا فكرز قبل مجيئه بمعمودية التوبة،

لجميع شعب إسرائيل“. [24]

لكي لا يتشكك المستمعون في يسوع المسيح أنه هو المخلص ابن داود، أورد لهم شهادة القديس يوحنا المعمدان الذي أفصح عن شخصه أنه جاء ليعد الطريق له، وأنه ليس مستحقًا أن يحل سيور حذاء قدميه. ولعل كان من بين الحاضرين من سمع عن القديس يوحنا أو التقى به وآمن به كنبي حقيقي.

ولمّا صار يوحنا يكمِّل سعيه،

جعل يقول من تظنون أني أنا؟

لست أنا إيّاه،

لكن هوذا يأتي بعدي الذي لست مستحقًا أن أحلّ حذاء قدميه“. [25]

أيها الرجال الإخوة بني جنس إبراهيم،

والذين بينكم يتّقون الله،

إليكم أُرسلت كلمة هذا الخلاص“. [26]

يثير القديس بولس مشاعر اليهود الأتقياء بقوله: “أيها الإخوة بني جنس إبراهيم“، فيربط بإبداع بين بنوتهم لإبراهيم وتحقيق الوعد له خلالهم. فما يخبرهم به إنما تحقيق الوعد الإلهي لأبيهم الذي طالما ترقبه وتهلل به.

إليكم أرسلت” جاءت في النسخ الإسكندرانية والسينائية والفاتيكانية: “إلينا“، فيضم نفسه معهم، ليتمتع هو معهم بتحقيق الوعد الإلهي، إنه حق لكل أبناء إبراهيم. لقد جاء الرسول إليهم كحامل لكلمة الخلاص، ليتمتعوا بها.

لأن الساكنين في أورشليم ورؤساءهم لم يعرفوا هذا،

وأقوال الأنبياء التي تُقرأ كل سبت تمّموها،

إذ حكموا عليه“. [27]

لم يعرفوا هذا“، أو كما يترجمها البعض “أخفقوا في معرفتها”. إن كانوا قد فشلوا في معرفة هذا الخلاص فإنهم بلا عذر، لأن كتب الأنبياء بين أيديهم ويقرأونها علانية كل سبت في المجامع، وكان يليق بهم أن يتعرفوا على المخلص. ومن جانب آخر، فإن مقاومتهم له حققت النبوات.

v في كل المناسبات نجدهم (الرسل) يهتمون جدًا بإبراز هذه النقطة أن البركة خاصة باليهود حتى لا يهربوا (من المسيح)، ظانين أنه ليس لهم بسبب ما فعلوه معه حيث أانهم صلبوه. يقول: “لم يعرفوا هذا“، لهذا فإن خطيتهم كانت عن جهلٍ. لاحظوا كيف أنه بكل حنو يقدم عذرًا حتى لصالبيه. ليس هذا فقط، وإنما يضيف إلى ذلك أن هذا كان يلزم أن يتم. كيف هذا؟ “إذ حكموا عليه، تمموا أصوات الأنبياء“.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ومع أنهم لم يجدوا علة واحدة للموت،

طلبوا من بيلاطس أن يُقتل“. [28]

لئلا يظنوا أن الذين صلبوه بلا عذر، لأنهم “لم يعرفوه“، أكد الرسول بولس أن الأنبياء يصرخون إليهم بلا انقطاع لكي يتعرفوا عليه، لكنهم لم ينصتوا لهم. ومن جانب آخر فإنهم “مع أنهم لم يجدوا علة واحدة للموت، طلبوا من بيلاطس أن يُقتل“. فإن كانت قد تمت فيه النبوات، هذا لن يبرر تصرفاتهم، إنما يعطيهم فرصة لمراجعة أنفسهم والعودة إليه بالتوبة.

بيلاطس الأممي الذي بلا دراية بالنبوات يشهد عليهم إذ لم يجد عليه علة واحدة (يو ١٩: ٤، ٦)، وأما هم الذين كان يليق بهم أن يكرزوا به، فطلبوا قتله (يو ١٩: ٧).

ولما تمموا كل ما كُتب عنه،

انزلوه عن الخشبة،

ووضعوه في قبر“. [29]

الذين طلبوا صلبه انزلوه (يو ١٩: ٣١)؛ وإن ظن أحد أن يوسف الرامي ونيقوديموس هما اللذان انزلاه من الصليب، فهما عضوان في مجمع السنهدرين، وكأنهما يمثلان المجمع.

ووضعوه في قبر“: في هذا دليل قاطع على موته موتًا حقيقيًا، استلزم الدفن. موت السيد المسيح ودفنه يمثلان جزءً من صُُلب قانون الإيمان لا ينفصلان عن صلبه وقيامته. فقد سلم الرسول بولس هذه الحقائق مترابطة معًا لتحقيق الخلاص. “فإني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” (١ كو ١٥: ٣).

ولكن الله أقامه من الأموات“. [30]

حكم اليهود بقتله، والله الآب أقمه من الأموات. هذه القيامة هي الدليل القاطع أنه ابن الله القدوس (رو ١: ٢-٤).

وظهر أيامًا كثيرة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم،

الذين هم شهوده عند الشعب“. [31]

ظهوراته بعد القيامة هي براهين قوية وشهادة حية لقيامته. فالذين عاشروه وأحبوه إذ رأوه قد مات ودفن تمتعوا ببهجة قيامته لكي يشهدوا له ليصير فرح المؤمنين به كاملاً (١يو ١: ٣-٤).

“ونحن نُبشّركم بالموعد الذي صار لآبائنا”. [32]

بعد هذا العرض التاريخي اللاهوتي انتقل القديس بولس إلى الواقع العملي، فإن هذا الوعد الإلهي مُقدم لكل مستمع، حتى إذ يؤمن يتمتع بقيامة المسيح في حياته. الوعد الذي ثبته الله منذ عصر الآباء وعبر كل الأجيال قد تحقق، لكي يتمتع به الجيل الحاضر.

“أن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم،

إذ أقام يسوع كما هو مكتوب أيضًا في المزمور الثاني،

أنت ابني أنا اليوم ولدْتَك“. [33]

إذ وقع من عيني شاول الطرسوسي ما هو أشبه بالقشور قام واعتمد وصار يكرز بما رآه بخصوص المسيح: “هذا هو ابن الله” (أع ٩: ١٨-٢٠). هذه العقيدة هي موضوع كرازة الرسول بولس، وقد تأكدت بقيامته من الأموات (رو ١: ١-٤). لقد ارتبطت بنوته للآب بكل أحداث الخلاص. ففي تجسده قال الملاك: “يُدعى ابن الله” (لو ١: ٣٥). وفي عماده قال الآب: “أنت ابني الحبيب بك سررت” (لو ٣: ٢١-٢٢). وفي تجليه قال الآب: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت 3: 17). وفي قيامته يقول الرسول: “تعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو ١: ٤).

لقد جاءت قيامته تؤكّد عمليًا وبطريقة ملموسة ما شهد عنه الملاك في ميلاده، وما أعلنه الأب علانيّة يوم عماده، ولأخصّائه يوم تجلّيه. هذه القيامة ليست بالأمر الغريب عن شعب الله، فقد سبق فكشفها داود النبي في مزاميره.

هذه البنوّة السرمديّة تمس حياتنا وخلاصنا. إذ نتمتع في الابن الوحيد القائم من الأموات بنعمة البنوة بعمل روحه القدوس الذي له دوره في كل أحداث الخلاص.

أنه أقامه من الأموات،

غير عتيد أن يعود أيضًا إلى فساد، فهكذا قائلاً:

أني سأعطيكم مراحم داود الصادقة“. [34]

إذ قام في اليوم الثالث حيث لم يحل به الفساد، بشهادة داود النبي وخلال الواقع العملي الملموس. إنّه لا يموت بعد، ولن يحل به فساد قط. لقد قام لعازر من القبر بأمر ربّنا يسوع، لكنّه عاد فمات وجسده انحل.

لن يعود السيّد إلى القبر كميّت، حيث يملك الموت، إذ لا سلطان للموت عليه، إنّما قبله مرّة بإرادته من أجلنا.

ولذلك قال أيضًا في مزمور آخر:

لن تدع قدوسك يرى فسادًا“. [35]

جاء التعليم الرسولي مركزًا على قيامة السيد المسيح تحقيقًا للمزمور ١٦: ٩-١١. هذا ما أعلنه القديس بطرس في يوم الخمسين، وما يقدمه بولس الرسول هنا. وقد قام هذا التعليم على حديث رب المجد يسوع مع التلميذين الذين كانا في طريقهما إلى عمواس (لو ٢٤: ٢٦-٢٧).

“لأن داود بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد،

وانضم إلى آبائه ورأى فسادًا”. [36]

يؤكد الرسول بولس لليهود أن ما نطق به داود النبي لم يتحقّق في شخصه، لأنّه مات وقبره قائم، ليس من ينكر ذلك. لكن ما قاله يخص المسيّا المنتظر، وقد تحقّق عمليًا في شخص يسوع.

وأمّا الذي أقامه الله فلم يرَ فسادًا“. [37]

فليكن معلومًا عندكم أيها الرجال الإخوة،

أنه بهذا ينادى لكم بغفران الخطايا“. [38]

ما لم يتحقّق في شخص داود النبي تحقّق في شخص ابن داود، القادر وحده أن يُقيم عهدًا جديدًا ويهب غفران الخطايا. داود رجل الله الصالح، سرّ صلاحه نعمة الله عليه، لكنّه يعجز أن يتمتّع بالمجد، وأن يهب مجدًا لأبناء أمّته.

بمشورة الله تمتّع داود بالمُلك، وأيضًا أبناءه، لكنّهم فشلوا في ديمومة المملكة وثباتها بسبب الفساد الذي حلّ بالأسرة الملكيّة، كما بالشعب، وصارت الحاجة مُلحّة إلى “ابن داود” الغافر الخطايا والمُنقذ النفوس من الفساد، لكي يُقيم مملكة داود الروحيّة الدائمة.

بهذا يتبرّر كل من يؤمن،

من كل ما لم تقدروا أن تتبرّروا منه بناموس موسى“. [39]

إن كان السيد المسيح قد صُلب عن خطايانا، فالقيامة أكدت قبول الذبيحة فننال الغفران، بل وننعم ببرّ المسيح. هذا البرّ الذي لم يستطع الناموس أن يقدمه لأحد.

بالقيامة تحققت المصالحة الإلهية، وصار روح الله القدوس ساكنًا في الكنيسة وقائدها، لذلك نالت الكنيسة خلال رسل المسيح نفخة الروح، فتسمع الوعد المسياني: “اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تُغفر له، لمن أمسكتم خطاياه أُمسكت” (يو ٢٠: ٢٣).

كشفت القيامة عن حقيقة ذبيحة المسيح الفريدة، إنها ذبيحة حية فعَّالة وقادرة على إبادة الخطية وتحطيم الموت. إنها وإن تحققت خلال التاريخ لكنها تحمل المؤمنين إلى ما فوق التاريخ، تعمل على الدوام وتدخل بنا إلى الأبدية.

v نعم ذاك الذي دفن يغفر الخطايا أكثر من الناموس الذي له قوة على فعل هذا. لاحظوا إنه لم يقل: “ما لم تتبرروا” بل “ما لم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس موسى“.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فانظروا لئلاّ يأتي عليكم ما قيل في الأنبياء”. [40]

“انظروا أيها المتهاونون وتعجبوا واهلكوا،

لأنني عملاً أعمل في أيامكم،

عملاً لا تصدقون إن أخبركم أحد به“. [41]

يقتبس الرسول بولس الإنذار النبوي الخطير الذي نطق به حبقوق النبي (١: ٥) في حوالي سنة ٦٠٠ ق.م. على لسان الله. فإذ أصر شعب الله على العصيان هددهم بأمة الكلدانيين الرهيبة تحطم إسرائيل وتسحق الأمم من حواليه؛ وقد تحقق ذلك. فقد أسرت أشور إسرائيل، وإذ لم ترتدع يهوذا أسرتها مملكة بابل، والتقى الاثنان في السبي. وقد وصف الله رؤساء شعبه المتهاون في الحق والعاصي “رجال الهزء” (إش ٢٨: ١٤) ودعاهم “متهكمين” (إش ٢٨: ٢٢). هنا يحذر رافضي السيد المسيح ومقاومي عمله الخلاصي بأنهم “متهاونون” لا يكترثون بالكارثة التي تحل عليهم كما حلت على إسرائيل ويهوذا قديمًا بسماح من الله، لأنه “يسخط ليفعل فعله، فعله الغريب، ويعمل عمله، عمله الغريب”، أو كما يقول: “لأني عامل عملاً في أيامكم، لا تصدقون به إن أُخبر به” (حب ١: ٥).

يحمل عمل الله الغريب والعجيب معنيين، فمن جانب يسقط المتهاونون تحت الغضب الإلهي، ومن يحتمله؟! والثاني أنه قد تحقق عمل الله الغريب والعجيب بتجسد الكلمة الإلهي من أجل الإنسان، وقبوله الصليب بمسرة، وقيامته ليهب الإنسان قوة قيامته… أمور لا يقدر المتهاونون أن يصدقوها، إذ لا يتمتعوا بنعمة الإيمان!

هكذا ختم الرسول بولس عظته بهذا التحذير حتى لا يتهاونوا أو يتراخوا في الإيمان بالسيد المسيح مخلص العالم. حقًا إنه سمح للآشوريين والبابليين بسبي العصاة من شعبه، بل ويتركهم فيسقطوا في سبي ذاك الذي قبلوه أبًا لهم، إبليس! إنه لن يسحبهم إلى الإيمان قسرًا، وإنما إذ يرفضون شمس البرّ يسقطوا تحت مرارة الظلمة.

  1. التوجّه إلى الأمم 42- 49

وبعدما خرج اليهود من المجمع،

جعل الأمم يطلبون إليهما أن يكلماهم بهذا الكلام في السبت القادم. [42]

كان لليهود الأولوية في هذه المجامع في دخولهم وخروجهم، فإذ خرج اليهود أولاً، أما المتهودون من الأمم فترجوا بولس وبرنابا أن يعودا في السبت التالي ليقدما لهم المزيد من الأخبار الإنجيلية المفرحة.

لم تتحرك قلوب بعض اليهود لقبول كلمة الخلاص، فقد جاءوا لممارسة العبادة في شكلياتها إرضاء لضمائرهم، أما المتهودون من الأمم ففتح كثيرون قلوبهم لكي يتمتعوا بكلمة الله المفرحة. وكما يقول النبي: “وجدت كلامك فأكلته، فكان لي للفرح ولبهجة قلبي” (إر ١٥: ١٦).

كان إيمانهم بيسوع، في نظر اليهود، إعلانًا عن عجز الناموس الموسوي عن التبرير وغفران الخطايا. كانت قلوب اليهود في كل موضع ملتهبة بالحنين نحو جبال يهوذا، والتمتًع بمدينة الله أورشليم، والاعتداد بالهيكل. هؤلاء صمتوا عندما سمعوا كلمات الرسول بولس. حقًا كلماته مقنعة ومؤيّدة بالنبوّات، وعيناه تلتهبان بنار الروح الجذّاب، لكنّه ينطق بأمرٍ جديدٍ، في جسارة لم يرونها من قبل ولا سمعوا عنها. يسمعون أنّهم أسرى لعدو خطير، محتاجون إلى التمتّع بحريّة داخليّة، وأنّهم خطاة يحتاجون إلى مخلص إلهي إنّه اتّهام جريء كيف يتجاسر يهودي أن يتفوّه به، مطالبًا بقيام مملكة جديدة لإسرائيل، وتبرير بعمل شخصٍ مصلوب!

لقد رفض اليهود هذا الخطاب الخطير، لكن كلمة الله لن ترجع فارغة، بل تسحب قلوب النفوس الجادة في خلاصها وتدخل بها إلى فرح الملكوت. هذا هو عمل الكلمة لدى المخلصين في معرفة الحق، أما الأشرار فيقولون مع أشرار تسالونيكي: “إن هؤلاء الذين فتنوا المسكونة حضروا إلى ههنا أيضًا” (أع ١٧: ٦). وأيضًا أشرار أفسس: “وأنتم تنظرون وتسمعون أنه ليس من أفسس فقط، بل ومن جميع آسيا تقريبًا استمال وأزاغ بولس هذا جميعًا كثيرًا…” (أع ١٩: ٢٦).

ولما انفضت الجماعة،

تبع كثيرون من اليهود والدخلاء المتعبدين بولس وبرنابا،

اللذين كانا يكلّمانهم،

ويقنعانهم أن يثبتوا في نعمة الله“. [43]

كلمة “انفضت” تحمل معنى إخلاء المجمع بالأمر، أشبه بالطرد. لقد شعر رؤساء المجمع بخطورة كلمات القديس بولس على المجمع فأنهوا الاجتماع بسرعة. لكن تجمهر الذين تأثروا بكرازة الإنجيل من اليهود والأمم حول الرسولين، وقد اشتعلت قلوبهم بحب الإنجيل والتمتع بمعرفة الحق الإلهي.

يرى البعض أن كلمة “دخلاء” هنا لا تعني بالضرورة أنّهم أمم قبلوا التهوّد، وصاروا من أهل الختان، لكن بعضهم تأثّروا باليهود وآمنوا بالله الواحد، ورفضوا العبادة الوثنيّة وكل رجاساتها دون أن يختتنوا. وكان اليهود يسمحون لهم بحضور الاجتماعات ويشتركوا في العبادة، لكنّهم يشعرون بامتيازهم عنهم.

وفي السبت التالي اجتمعت كل المدينة تقريبًا،

لتسمع كلمة الله“. [44]

واضح أن الذين انضموا إلى الرسولين أكثرهم من الدخلاء، أما اليهود فكثيرون رفضوا الكلمة، بل وقاوموها. شهد الذين قبلوا الإنجيل، وكادت المدينة كلها أن تجتمع في السبت التالي لتتمتع بالكلمة الإلهية.

فلما رأى اليهود الجموع

امتلأوا غيرة،

وجعلوا يقاومون ما قاله بولس،

مناقضين ومجدّفين“. [45]

لم يحتمل اليهود هذه الجمهرة، فامتلأوا حسدًا، وحسبوا أن من واجبهم أن يصرخوا مع يهود أورشليم: “اصلبه، اصلبه” لا يبالوا بما يقوله بيلاطس: “إني لم أجد علة واحدة تستوجب الموت”. فإن كانت الجماهير في أورشليم أصرت على صلب يسوع البار، فإن جمهور اليهود هنا يصرون على صلب اسمه؛ لا يطيقون الكرازة به.

بجانب هذه الجمهرة التي تكشف عن نجاح رسالة الرسولين وبالتالي فشل العاملين في المجمع، فإنّ أحاديث الرسول بولس تُحسب إهانة موجّهة ضد الشريعة الموسويّة أمام الدخلاء، وتجريد اليهود كأمّة فريدة في عبادتها للَّه من امتيازاتها. هذا بجانب أن دعوة الرسول تدفع إلى المساواة بين اليهود والأمم، هذا ما لا تقبله العقليّة اليهوديّة.

كان شاول الطرطوسي قبلاً مقاومًا للحق الإنجيلي ومجدفًا، وها هي جموع اليهود “يقاومون ما قاله بولس مناقضين ومجدفين“. كانت نظرات الرسول نحوهم مملوءة شفقة، فقد سقطوا فيما سقط هو فيه، إذ يقول: “أنا الذي كنت قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا، ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان” (١ تي ١: ١٣). كان يصرخ في قلبه: متى يُرحم هؤلاء كما رُحمت أنا؟ متى تسقط القشور عن أعينهم فيبصروا معي ما أبصره من بهاء مجد شمس البرّ؟

فجاهر بولس وبرنابا وقالا:

كان يجب أن تتكلّموا أنتم أولاً بكلمة الله،

ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية،

هوذا نتوجّه إلى الأمم“. [46]

هنا يعلن الرسول أسلوبه الكرازي، فقد وضع في قلبه منذ تمتع بسرّ الاستنارة أن يبدأ في كل موضع بعرض بشارة الإنجيل المفرحة على اليهود أولاً بكونهم الورثة الشرعيين للوعود الإلهية ومنهم خرج الأنبياء وجاء المسيا نفسه، وبعد ذلك ينطلق إلى الأمم مع القلة القليلة من اليهود الذين يقبلون الإيمان. بهذا يسبح الرسول مع سمعان الشيخ وهو حامل في قلبه الطفل يسوع قائلاً: “الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نور إعلان للأمم، ومجدًا لشعبك إسرائيل” (لو ٢: ٢٩-٣٢).

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس لم يقل: “نحن نترككم”، بل قال: “نتوجه إلى الأمم“، وكأنه يترك باب الرجاء مفتوحًا أمامهم، فإنهم إن استعدوا لقبول الكلمة يعود يبشرهم. كان حتى في توبيخهم رقيقًا.

في التسبحة (لو ٢: ٢٩-٣٢) يبدأ بالأمم ثم يليه إسرائيل، لأن كثير من الأمم يقبلون الإيمان وقلة من اليهود يتجاوبون مع عمل السيد المسيح. لكن السيد المسيح جاء أولاً لليهود ثم لكل الأمم، فقد قال للسامرية: “الخلاص هو من اليهود” (يو ٤: ٢٢).

وكما يقول الرسول بولس: “لأني لست أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن، لليهودي أولاً ثم لليوناني” (رو ١: ١٦). “بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم” (رو ١١: ١١). “وإذ كانوا يقومون ويجدفون نفض ثيابه وقال لهم: دمكم على رؤوسكم. أنا بريء، من الآن أذهب إلى الأمم” (أع ١٨: ٦).

v لقد تم العبور الحقيقي إلى بابل الذي سبق أن رُسم في أيام إرميا؛ لقد تم بترتيب روحي في أيام تجسد الرب. ولكن ماذا يقول إرميا عن البابليين الذين عبر إليهم؟ “لأن بسلامهم يكون لهم سلام” (إر 29: 7 LXX). هكذا عندما عبر إسرائيل إلى بابل بواسطة المسيح والرسل، أي عندما بُشر بالإنجيل بين الأمم… قبلوا سلام المسيح، وكفوا عن اضطهاد المسيحيين.

v انظر فإن الشجرة (إسرائيل) قد يبست (مت 21: 18؛ لو 24: 28)، والمسيح تحرك إلى الأمم، تحرك الجبل إلى البحر.

القديس أغسطينوس

v إذ رفضتم المسيح ولم تعدوا مكانًا لائقًا عليه يُُقام مذبح الرب، فإنه سيقيمه على أرض الأمم، أي في قلوب كل الشعب. لهذا يقول الرسول موضحًا لنا: “هيكل الله مقدس الذي أنتم هو” (1 كو3: 17).

v يمكن أن يرمز جيحزي للشعب اليهودي، إذ أصيبوا ببرص الخطية في نفس الوقت عندما تحرر الأمم منه. أخيرًا أعلن اليهود الأشقياء هذا أثناء آلام المسيح: “دمه علينا وعلى أولادنا” (مت 27: 25). عندئذ بالحقيقة استحقوا أن يغطيهم برص الخطية عندما صرخوا بشفاهٍ شريرةٍ ضد الطبيب السماوي: “خذه! خذه! أصلبه” (يو 19: 15) لهذا لصق البرص بهم في نفس الوقت عندما عبرت النعمة إلينا… عندما عبر تعليم الرسل إلى الأمم، لصق برص الخطية في اليهود البؤساء.

الأب قيصريوس أسقف آرل

v من هذا واضح أن الوضع الطبيعي للأمور كان هكذا: كان يلزم أن يدخل (اليهود) أولاً وبعد ذلك الذين من الأمم، ولكن إذ لم يؤمن اليهود انقلب النظام، فبسبب عدم إيمانهم وسقوطهم يأتي هؤلاء أولاً.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إننا نجد في نبوة إرميا أمرهم الله بالذهاب إلى بابل، مشيرًا إلى أن كل الأنبياء الآخرين الذين يطلبون من الشعب عدم الذهاب إلى بابل هم أنبياء كذبة (إر 27: 14-15)… لقد هدّد إرميا، حسب أوامر الله، الذين لا يرغبون في الذهاب إلى بابل، بينما وعد الذين يذهبون بالراحة وبنوعٍ من السعادة في زراعة كرومهم ونمو حدائقهم ووفرة ثمراتهم. كيف عبر إسرائيل الحقيقي لا الرمزي إلى بابل؟ فمن أين جاء الرسل؟ أليسوا من أمّة اليهود؟ ومن أين جاء بولس نفسه، إذ يقول: “أنا أيضًا إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين” (رو 11: 1)؟ لقد آمن كثيرون من اليهود بالرب، فمنهم أُختير الرسل، ومنهم كان أكثر من خمسمائة أخ وُهب لهم أن يعاينوا بالرب بعد قيامته (1 كو 15: 6)، ومنهم المائة وعشرون الذين كانوا في العُليّة عندما حلّ عليهم الروح القدس (أع 1: 15).

ولكن ماذا يقول الرسول في سفر أعمال الرسل عندما رفض اليهود كلمة الحق؟ “كان يجب أن تُكلَّموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم… هوذا نتوجّه إلى الأمم” (أع 13: 46). لقد تم العبور الحقيقي إلى بابل الذي سبق أن رُسم في أيام إرميا. لقد تم بترتيبٍ روحيٍّ في أيام تجسّد الرب. ولكن ماذا قيل عن البابليّين الذين عُبر إليهم؟ “لأنه بسلامهم يكون لكم سلام” (إر 29: 7)… الآن في هذا السلام الكامل يمكن أن تُبنى الكنائس، وتُزرع الشعوب في حديقة الله، ويُثمر الأمم في الإيمان والرجاء والمحبّة التي في المسيح.

القديس أغسطينوس

v لاحظوا معي ما كُتب عن هذا الشعب “طلّقتها وأعطيتها كتاب طلاقها” (إر 3: 8). طلق الله هذا الشعب وأعطاه كتاب طلاق، الذي يُعطى للمتزوّجين. جاء في ناموس موسى أن المرأة التي تُغضب رجلها تأخذ كتاب طلاقها وتذهب، ويسمح للرجل الذي ترك الزوجة السابقة بسبب تصرفها غير اللائق أن يتزوج بامرأة أخرى.

هكذا لاحظوا الذين أخذوا كتاب الطلاق… قد تُركوا في كل شيء بسبب هذا.

فأين الأنبياء بينهم؟

أين الآن الآيات بينهم (مز 74: 9)؟

أين إعلانات الله؟

أين الطقوس والهيكل والذبائح؟

لقد طُردوا من موضعهم. بهذا أعطاهم كتاب طلاق. الآن نحن – يهوذا – عدنا إلى الرب. نحن يهوذا، لأن المخلّص قام من شجرة يهوذا، وقد سبق فأعلن أن ربّنا قام من يهوذا (عب7: 14).

v هذا أيضًا انعكس منذ البداية… حيث يُقال للذين هم من إسرائيل: “تدعيني يا أبي، ومن ورائي لا ترجعين. حقًا إنّه كما تخون المرأة قرينها، هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل، يقول الرب” (إر 3: 19-20). وعندما قيلت هذه العبارات بخصوص إسرائيل في البداية، وسمع أبناء إسرائيل أنّهم كانوا أشرارًا في طرقهم ونسوا إلههم القدّوس (إر 3: 21 LXX)، عندئذ وضع الروح القدس الكلمة أمامنا نحن الذين من الأمم الوثنيّة وقال لنا: “ارجعوا أيّها البنون العصاة، فأُشفي أمراضكم” (إر 3: 22). فإنّنا نحن الذين كنّا مرّة غير مؤمنين، أغبياء، مخدوعين، مستعبدين لشهوات وملذّات كثيرة، نقضي أيامنا في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وأحسانه بغسل الميلاد الجديد وسكب رحمته علينا (راجع تي 3:3-6).

العلامة أوريجينوس

v لا يتوقّف عمل الله بسبب عدم إيمان اليهود؛ إنّه الحياة الأبديّة لمؤمنيه، هذه التي وعد أن يهبها للذين يؤمنون بالمسيح. فإن الذين لم يؤمنوا حرموا أنفسهم من المكافأة دون أن يُصاب البقيّة بأي ضرر. بقوله هذا يمدح بولس المؤمنين اليهود، فإنّه ليس خطأهم أن كثيرين من بني جنسهم رفضوا الإيمان.

إمبروسياستر

v الذين لم يؤمنوا كانوا عاجزين عن أن يقفوا في طريق بركاته.

الأب ثيؤدورت أسقف كورش

لأن هكذا أوصانا الرب:

قد أقمتك نورًا للأمم،

لتكون أنت خلاصًا إلى أقصى الأرض“. [47]

اقتباسات الرسول بولس المستمرّة من الأنبياء غايتها تأكيد أن ما يكرز به ليس بالأمر الجديد، لكن جذوره في الشريعة والأنبياء. فتدبير الإنجيل أساسه في العهد القديم.

اقتبس الرسول بولس هذه الآية عن إشعياء النبي: “قد جعلتك نورًا للأمم، لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض” (إش ٤٩: ٦). فقد جاء السيد المسيح “نور العالم” (يو ٨: ١٢). أضاء في قلوب تلاميذه وأقامهم “نور العالم” (مت ٥: ١٤) لا يحملوا نورهم الذاتي، بل شعلة المسيح التي في داخلهم، لتضيء في وسط ظلمة العالم الوثني.

جاءت النبوّة تكشف عن شخص المسيح أنّه النور والمخلّص، يشرق على الأعماق فيهب حكمة وفهمًا ومعرفة لأسرار حب الله، الذي يضم كل البشريَّة، “إلى أقصى الأرض“، ولا يُحدّ بشعب معيّن أو جيلٍ محدد.

فلما سمع الأمم ذلك،

كانوا يفرحون ويمجدون كلمة الرب،

وآمن جميع الذين كانوا معينين للحياة الأبدية“. [48]

إذ قدم الرسول بولس شهادات نبوية من أسفار العهد القديم الذي بين أيديهم لم يستطيعوا أن يقاوموا بالحجة، لكنهم امتلأوا غيرة وغضبًا، وصاروا يقاومون ويجدفون بغير منطق. أما الأمم فإذ سمعوا “كانوا يفرحون ويمجدون كلمة الرب” وقبلوا الإيمان.

أدرك الأمم أنّهم في ذهن الله، موضوع حبّه منذ القدم، وأن ما يعلنه الرسول يمثّل خطّة إلهيّة كشفها الله لأنبيائه في عصر الناموس، حين كان يظن اليهود أنّهم دون سواهم موضع اهتمام الله وخلاصه. ما يتحقّق الآن هو إتمام للوعود الإلهيَّة. هذه الوعود الإلهية المفرحة صارت عثرة لليهود، ومصدر فرح للأمم.

كلمة “معينين” هنا في اليونانية تعني “مُسجلين” أو “مكتوبين”، فقد كُتبت أسماء المؤمنين الحقيقيين في السماوات (لو ١٠: ٢٠). أول من استخدم هذا الأسلوب هو موسى النبي القائل: “والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت” (خر ٣٢: ٣٢). لقد سُجلت أسماؤنا في سفر الحياة ليس لإلزامنا بالخلاص قسرًا، ولا كما يظن البعض أنه نوع من القضاء الجبري، لكن سجله الله بسابق معرفته منذ تأسيس العالم. “لأن الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه” (رو ٨: ٢٩).

“وانتشرت كلمة الرب في كل الكورة”. [49]

يقصد بالكورة هنا الإقليم كله، أي “كورة غلاطية” (أع ١٦: ٦).

كلمة “انتشرت” تكشف أن الشهادة أو الكرازة بالإنجيل لم تعد قاصرة على الرسولين بولس وبرنابا بل التهبت قلوب المؤمنين للعمل الكرازي بين أقربائهم وأصدقائهم وزملائهم، فنهض الكل للشهادة لإنجيل المسيح.

  1. مقاومة اليهود للرسولين 50- 52

“ولكن اليهود حرّكوا النساء المتعبدات الشريفات ووجوه المدينة،

وأثاروا اضطهادًا على بولس وبرنابا،

وأخرجوهما من تخومهم”. [50]

لم يكن ممكنًا أن يمنع اليهود الرسولين من الشهادة للسيد المسيح في بلد أممي تحكمه قوانين الدولة الرومانية، لكنهم التجأوا إلى النساء اللواتي دخلن الإيمان اليهودي وبعض الرؤساء من المتهودين لإثارة حملة ضد الرسولين. قام اليهود بالعمل من وراء الستار لطردهما ونجحوا في ذلك.

كانت للنساء المتعبدات عند اليهود لهن مركزهن الخاص في الخدمة، لهذا قام الثائرون ضد بولس وبرنابا بإثارتهن مع وجوه المدينة لاضطهادهما. ولم يكن للنساء المتعبدات عند اليهود دورهن في أنطاكية بيسيدية، وإنما في أغلب المجتمعات اليهودية فى أورشليم وخارجها. ولعل هذا أيضًا ورثته الكنيسة، ففي أيام السيد المسيح كون النساء جماعة لخدمته والإنفاق عليه، وكان لهن موقفًا مشرفًا في لحظات الصلب والدفن والقيامة، سبقن فيه الرسل والتلاميذ.

“أما هما فنفضا غبار أرجلهما عليهم،

وأتيا إلى أيقونية”. [51]

عند طردهما نفذا وصية الرب: “ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فاخرجوا خارجًا من ذلك البيت أو من تلك المدينة وانفضوا غبار أرجلكم. الحق أقول لكم ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينة” (مت ١٠: ١٤-١٥).

أيقونية“: في أيام الرسول بولس كانت عاصمة ليكأونية، كانت تابعة لإقليم فريجية، مدينة قونية التركية. وهي تبعد حوالي ٢٠ ميلاً عن ساحل البحر الأبيض المتوسط.

“وأمّا التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس”. [52]

يا للعجب كلما اشتدت الضيقة يملأ الروح القدس نفوس المؤمنين بالفرح السماوي والتهليل. مع كل حركة اضطهاد يصاحبها عمل الروح القدس مفرِّح القلوب ومعزي النفوس. “عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي”.

v كان المعلمون يُضطهدون، والتلاميذ يفرحون.

القديس يوحنا الذهبي الفم


 

من وحي أع 13

روحك القدّوس قائد رحلتي!

v هاجت أورشليم، مدينة الله، على كنيستك،

فانطلق شعبك يكرز في كثير من الأمم،

صارت أنطاكية مدينة الله العظمى.

هناك ألهبَ روحك الناري قلوب الكثيرين،

وانطلق برنابا ومعه شاول يعملان بقوّة في كرمك.

v اختار روحك القدّوس برنابا وشاول،

أفرزهما له، للعمل بين الأمم.

هو العارف بالقلوب،

وهو واهب الكلمة والحق،

وهو الجاذب للنفوس، لتتمتّع بغنى نعمتك.

بالروح صامت كنيستك وصلّت،

فنالت حكمة الروح، واختارت خدّامًا مخلصين.

v انطلق الاثنان ومعهما يوحنا،

طاروا في رحلة كرازيّة فريدة،

كانوا أشبه بملائكة الله،

حوّلوا بنعمتك البشر إلى ملائكة.

اقتحموا قبرص العزيزة على إلهة الجمال أفروديت،

ليقيموا فيها أبناء أعزّاء للَّه.

عوض الانحلال تحوّلت الجزيرة إلى القداسة.

v ليمت فيّ شاول الطرسوسي المعتدّ بذاته،

وليقم في داخلي بولس المتواضع،

الأقل بين الجميع.

فأنت ترفع المتواضعين، وتنزل الأعزّاء عن الكراسي.

v هب لي يا رب روح القدّيس بولس، ومتّعني بحكمته،

فأتمم خطّتك من نحوي.

v ليقاومني إبليس بكل قوّاته،

فأنت هو شمس البرّ الذي لن تقف الظلمة أمامك.

يدك الإلهيَّة تحطّم كل شرّ،

وتكشف كل عمى للبصيرة.

لكي تُقيم مملكة النور،

وتشرق بنورك على النفوس التي أسرها العدو بظلمته.

v ليهبني روحك القدّوس روح الحكمة،

فلا أنطق بكلمات من عندي،

بل أشهد لأعمالك العجيبة.

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى