لقد شبَّهتكِ يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون
«لقد شبَّهتكِ يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون» (9:1)
نشيد الأنشاد أهميته كما قلنا أنه يدور حول أهم وأعظم وصية، التي هي:
«تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك» (مر 12: 30). فسفر نشيد الأنشاد أكثر سفر في الكتاب المقدس كله يُعلّمنا كيف نتاجر بهذا الحب الإلهي . والآية التي نشرحها اليوم تختص بالجزء الأخير من هذه الوصية أي «تحب الرب إلهك… من كل قدرتك».
المسيح هنا يقول للنفس التي هي عروسه: «لقد شبَّهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون». الفرس رمز للقوة، وبالأخص عندما تكون في مركبات فرعون جيش فرعون كان مشهورًا بقوة الفرس وراكب الفرس، وقد كان الفرس في العالم القديم هو أعظم قوة حربية. ونحن نقول يوميًا في الهوس الأول: [الفرس وراكب الفرس طرحهما في البحر].
المسيح يُشبه النفس التي تُحبُّه بأعظم قوة في أعظم جيش. وفي مرة أخرى في نفس نشيد الأنشاد يُشبه النفس بأنها «مرهبة كجيش بألوية» (نش 6: 4، 10)، مرهبة للشياطين.
والقوة المقصودة هي روحية بلا شك إنها قوة الحب الإلهي الذي به تستطيع النفس أن تدخل إلى الملك في كل حين وتطلب ما تريد فيكون لها. «تطلبون ما تريدون فيكون لكم» (يو 15: 7) فالنفس تكون شبيهةً بأستير حينما دخلت إلى الملك وسَبَتْ قلبه بحبها، حتى قال: «ما هو سؤلكِ يا أستير الملكة وما هي طلبتكِ؟ ولو إلى نصف المملكة تُقضى» (أس 7: 2) فإن كان الملك الوثني قال ذلك حينما سُبيَ قلبه بمحبة أستير، فكم بالحري الملك المسيح، فإنه يقول للنفس تُحبُّه: «قد سبَيتِ قلبي يا أختي العروس قد سبيتِ قلبي بإحدى عينيكِ، بقلادة واحدة من عنقِكِ» (نش 4: 9). هذه هي القوة الروحية التي بسببها يُشبه المسيح النفس التي تُحبه «بفرس في مركبات فرعون». إنها قوة الحب التي تغلب قلب المسيح «حولي عني عينيكِ فإنهما قد غلبتاني» (نش 6: 5)، بل وتجعل قوة المسيح نفسه تحل في النفس.
هذه القوة هي التي قال عنها بولس الرسول: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (في 4: 13). بهذه القوة نغلب كل أعدائنا الروحيين: «لأن أسلحة محاربتنا ليست جسدية، بل قادرة بالله على هدم حصون» (2٢كو 10: 4).
وهذا ما يقوله أيضًا القديس يوحنا في رسالته الأولى: «كتبتُ إليكم أيها الأحداث، لأنكم أقوياء، وكلمـة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير» (1يو 2: 14). وفي نفس الرسالة يقول: «أنتم من الله أيها الأولاد، وقد غلبتموهم، لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم» (1يو 4: 4). من هو الذي فينا ؟ إنه المسيح نفسه القديس يوحنا وهو يكتب هذه الآية كان في ذهنه الرؤية التي كشفها أليشع النبي لتلميذه: «الذين معنا أكثر من الذين معهم» (2مل 6: 16). كان ذلك حين أراد ملك آرام أن يقبض علي أليشع، اعتقادا منه أنه هو الذي يُفشي كل أسراره الحربية لملك إسرائيل. فذهب لإلقاء القبض عليه وأحاط بجيشه الجبل الذي كان فيه أليشع. أما أليشع فقال لغلامه: «لا تخف، لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم». وصلَّى أليشع ليفتح الرب عيني غلامه، فأبصر وإذ الجبل مملوء خيلاً ومركبات نارٍ أكثر جدًا من جيوش ملك آرام .
نفس الموقف تكرر في بستان الرهبان مع الأنبا موسى الأسود عندما جاء إلى أبيه أنبا إيسيذوروس وهو مضطرب جدا بسبب الأفكار التي تحاربه. فأوصاه أنبا إيسيذورس أن يصعد إلى السطح وينظر للغرب، فرأى شياطين كثيرين يتحفّزون للحربِ والقتال. ثم قال له: «انظر إلى الشرق»، فنظر ورأى ملائكة كثيرين يُمجدون الله. فقال له : أولئك الذين رأيتهم في الغرب هم محاربونا، أما الذين رأيتهم في الشرق فإنهم معاونونا …» فلما رآهم أنبا موسى فرح وسبَّح الله ورجع إلى قلايته بدون جزع. (بستان الرهبان، قول ١٧٤).
غير أن الآية التي قالها القديس يوحنا: «الذي فيكم أعظم من الذي في العالم، تمتاز جدًا عن التي قالها أليشع النبي لتلميذه الذين معنا أكثر من الذين معهم». فنلاحظ أولاً أن «فيكم» جاءت بدلاً من «معنا»، وهذا هو امتياز العهد الجديد أن الله صار يحل فينا ، «وحل فينا» (يو 1: 14)، «المسيح فيكم رجاء المجد!» (كو 1: 27)، «يسوع المسيح هو فيكم إن لم تكونوا مرفوضين!» (2کو 13: 5) فصارت المعونة الإلهية تأتينا من الداخل بعد أن كانت في العهد القديم مجرد معونة خارجية «معنا».
ثم نلاحظ أيضًا أن «الذين معنا» في قصة أليشع كانوا مجرد جيوش ملائكية، بينما «الذي فينا» في آية القديس يوحنا هو واحد بالمفرد، وهو الله نفسه فانظر المفارقة الشاسعة بين القوة التي كانت تؤازر رجال العهد القديم، والقوة التي صارت فينا من الداخل في العهد الجديد. لذلك حق لنا أن نقول بجدارة: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (في 4: 13) ، المسيح الذي هو «قوي فيكم» (2کو 13: 3)، «لأن الله لم يُعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح» (2تي 1: 7)
نحن بذواتنا لسنا أقوياء، بل ضعفاء جدًا، ولكن قوتنا هي قوة الله الساكن فينا، الذي هو «قوي فيكم». هذه القوة الروحية نأخذها من المسيح حينما نوثّق علاقة الحب التي تربطنا به فنثبت فيه وهو يثبت فينا حينئذ يقول لنا: «لقد شبهتكِ يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون».
هذا هو الامتياز العظيم الذي نلناه في العهد الجديد. هذه هي نتيجة سرّ التجسد الباهرة أن الله صار يحلُّ فينا، وبالتالي »الذي فينا (وليس فقط معنا) هو أعظم من الذي في العالم».