الصراع العقلي ضد الخطية
العقل هو الميدان الأول الذي يتقابل فيه الإنسان مع الخطية ، وهو الحدود الأمامية التي تتلاقى فيها البشرية مع عدوها الألد : الشيطان .
ولا عـجـب أن يخـتـار الـعـدو عقل الإنسان كميدان لمصارعاته العنيفة . فالعقل کا يـقـول أحـد عـلاء الـنـفـس : « هو التاج الذي يعلو الجسم الإنساني و يدير دفة حركاته وسـكـنـاتـه سـواء في اليقظة أو المنام في شعوره وإدراكه ووجدانه وإرادته وتفكيره . فهو المركز الرئيسي المسيطر على السلوك الإنساني » .
إذن، فـلـو انهزم الإنسان في هذا الميدان فقد ملك الشيطان كل مواهب الإنسان وإمكانياته !
هذا علاوة على أن الـشـيـطـان نـفسه كما عرفناه هو قوة عقلية، وهو وإن كانت له قدرات فائقة مختلفة إلا أن تأثيره لا ينفذ إلينا إلا عن طريق العقل فقط .
وهذه حقيقة هامة يعوز الكثير منا خصوصاً الذين يجاهدون الجهاد الحسن في ميدان الـفـضـيـلـة والبر والتعفف أن يتعرفوا عليها . فالشيطان وإن كان قوة روحية هائلة إلا أن میدان نـشـاطـه محـدود للغاية ضد الإنسان فهو لا يستطيع مواجهته إلا عن طريق العقل فقط وهو الجزء الوحيد من طبيعتنا الذي يستهدف للحرب معه .
ولـكـن لـيـس بالأمر الهين على الشيطان أن ينتصر على عقل الإنسان أو أن . يستطيع بـسـهـولـة اقتحام هذا الجهاز الإلهي الجبار . لأنه بالرغم من أن الشيطان قوة عقلية إلا أن طبيعة هذه القوة تختلف في شيء عن طبيعة القوة العقلية في الإنسان، وهذا الإختلاف لنا الفرصة للتعرف عليه عندما يقترب من تفكيرنا . فليس عسيراً على أي إنسان عادي أن يكشف فكرة خبيثة يدسها الشيطان له !
ولـكـن لا يزال أيضاً العقل البشري يمتاز عن غريمه بشيء أهم . فالشيطان قد خرم نهائياً وإلى الأبـد مـن أي مـعـونة إلهية خلاف طبيعته العقلية الأصلية . أما الإنسان فهو حبیب الله الذي لم يـحـرم مـن رحمـة الـقدير منذ البدء ، وحتى في أشد حالات نكوصه وارتداده كان ولا يزال مصباح الله ( الحق ) يشتعل في عقله وضميره ليهديه الخير ويجنّبه معاثر الشرير. لذلك فعندما نصطرع مع عدونا بأسلحة محاربتنا العقلية نجد أننا في حالة أفضل وأضمن للنصرة .
وقـد بـرهـن كثير من المجاهدين القديسين على هذه الأفضلية وهذه النصرة واستطاع أن يذلوا فخر الشيطان ويجبروه على الفرار مقهوراً في ميدان الحرب العقلية !
استدراج :
لا تبدأ الحرب العقلية مع الشيطان عنيفة أبدأ وذلك لسببين : الأول : هو أن الإنـسـان قـوة مخيفة للعدو لأنها غير معروفة عنده تماماً خصوصاً إذا لم يكن الإنسان قد انسبق وانهزم أمامه بصورة واضحة أي لم تنكشف نفسه أمامه .
أما الثاني : فهو إمكانية معونة الله الأكيدة والسريعة التي ينالها الإنسان عند صراخه إلى الله عندما ينتبه فجأة إلى حركات العدو و يكتشفها .
مـن أجـل هـذيـن السببين يبدأ العدو حربه على الدوام هادئة ، بتقديم مجرد مشورة أو عرض لفكرة ـ خاطئة طبعاً ـ ولكن تتناسب في خبثها مع حالة الإنسان الروحية .
عجـز:
وهـو بـعـد أن يـقـدم فـكـرته الخبيثة المحبوكة لا يملك بعد ذلك أن يتقدم خطوة واحدة إيجابية في تـفـكـيـرك الخاص. وهذه رحمة من الله على طبيعتنا البشرية . لأنه لو كان للشيطان قدرة التسلط على تفكيرنا أو إمكانية تحريك عقلنا لمصلحته ما كان في استطاعة إنسان أن يفلت من سطوته وشره .
ولـكـنـه يـعـوض عن عجزه السابق بقدرته في التردد بنفس الفكرة بطرق مختلفة بغير كلل أو ملل . أما الإنسان فإنه يحس بهذه الفكرة المترددة على عقله و يستشعر بخبثها ولـكـن يـرى في تـقـديمـهـا علة ومناسبة استطاع العدو أن يستخدمها إلى أبعد حدود المكر والدهاء !
أقوى أسلحة العدو:
هذه أقوى أسلحة الشيطان : مناسبة التجربة لواقع الحال !
ـــ ولما جاع أخيراً تقدم إليه المجرب بفكرة تحويل الحجارة خبزاً!
ـ ولما شعر داود بالقلق والضجر النفسي وصعد ليتمشى على السطح قدم له الشيطان منظر امرأة تستحم !
فهو لن يزأر حولك دائماً كالأسد! فحينا تقف لتصلي أو في أثناء ساعات جوعك في جـهـاد الـصـوم المبارك أو حينها تجول تصنع خيراً، في هذه الساعات ما يطيق العدو أن يقترب منك لأن أمانتك وثقتك وحبك الله سهام نارية موجعة جدا له . والسبب في ذلك معروف ، فهو الملاك الحانث المرتد عن الإيمان والثقة ومحبة الله . وشعوره كشعور ملحد في هذه الأيام . ولـكـن حـينما تنتهـي مـن صلاتك أو تفرغ من صومك أو تعود من جولا تك الـرحـيـمـة يـتـقـدم ، ولكن ليس كأسد لأنك تكون لازلت مفعماً بقوة الخير، وإنما كحية لثيمة تمزج اللين بالخبث .
يـقـول لك: ما أكرمك اليوم بالحق ، لقد تشبهت بالقديسين ! وما أسهل أن تصدق ذلك ، لأن كلام الشيطان في القلب لين كالزيت وهو أحد من السيف !
والـويـل والحـزن للـعـقـل الذي ينخدع بمديح وتكريم الحية ، لأن العدو يعود إليك في الحال ومـعـه صـورة قديمة لإنسان كان قد أساء إليك أو امتهن كرامتك فيثير فيك مفاضلة مزعومة بين قداستك تلك وامتهان هذا الإنسان الحقير لك . وحينئذ يكون قد نجح في تقديم فكرة الكرامة في وقتها المناسب ثم يشعل ثقاب البغضة في زيت القداسة المزعومة . وحينا ينفعل قلبك و يبتدىء لهب الكراهية يرتفع حينئذ يبدأ الأسد يتحرك وقد ضمن فريسته فيجول يزأر وهو مطمئن أن النفس قد تخدرت بالحقد والبغضة وصارت في نصف وعيها !! فيوعز إليها بالنقمة والضربة القاضية !!
وهـكـذا يـتناسب الشيطان و يتشكل في طرقه وفي حيله ، فهو كالأسد حينها يملك ، أو كالحية حينا تستشعر منك اليقظة ، أو كالدخان حينها يفتضح أمره بصرخة استغاثة إلى الله !
ولـكـن سـواء كـان هـذا أو ذاك ، فلك أن تثق أنه لا يملك أن يستخدم الضغط على الإطلاق طالما لم تقبله .
فعقلك هو معقل النور الإلهي الذي لا يقوى رئيس الظلمة على اقتحامه قط إلا إذا أطـفـأت أنـت بـيـدك مصباح الحق الإلهي المنير فيه بقبولك مشورة العدو إذ تكون أحببت الظلمة أكثر من النور .
ومها كانت تفاهة الأفكار التي يعرضها العدو في الشر والنجاسة فهي لا تستطيع أن تـدئـس عـقـل الإنسان أو توقعه تحت أي دينونة أو عقاب طالما لم يتقبلها الإنسان أو يظهر لها علامة الرضا أو الإستحسان .
وإلى هذا الحد يظل الشيطان كعدو عاجز أمام حصن منيع .
درجات السقوط :
ولـكـن في اللحظة التي يتقبل فيها العقل الخطية مرتضياً بها وموقعاً على صك المشورة ببصمة الإرادة الحرة حينئذ تصبح الخطية عنصراً داخل العقل .
+ فالخطية تقترف بالعقل أولا ( افترافاً كاملاً ) : «كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه . » (مت 5 : 28)
+ اقـتـراف الخـطـيـة بـالـعـقـل هـو عـبارة عن تزاوج يتم بين مشورة شريرة مقدمة من الـشـيـطـان وإرادة حرة للعقل الواعي مع حصول اتفاقي وتراض ، وإن كان الطرف الثاني أي العقل يشعر دائماً بخبث الأول وعدم صدقه ، إلا أنه يخضع له لكثرة إغرائه ولباقته في العرض المحكم واستخدام الفرص المناسبة .
+ الجنين الشيطاني يتم تفريخه داخل العقل و يولد بالعمل أي بالفعل .
+ أما العقوبة المستحقه تلقائياً فهي : السقوط التلقائي من مستوى الحق أو الصدق أو الـفـضـيـلـة والطهارة ، و يتم قبل العمل الظاهري ، وهذا يحسه الإنسان ولكن يكون كمن سُلب منه الوعي .
+ أمـا عـدالـة هـذا الـعـقـاب التلقائي أي السقوط التلقائي فهو لأن الجزء الساقط من الإنسان ليس هو الجسد الترابي الفاني ولكنه الجزء الروحاني الخالد أي النفس العاقلة التي سيقع عليها الثواب أو العقاب ، والتي تمثلها الإرادة الحرة وموافقة الضمير .
+ ولـكـن بمـجـرد تـتـميم الخـطـيـة بـالجسد بالفعل يصير العقاب غير قاصر على النفس بسقوطها من المستويات الروحية العالية، بل يتعداه إلى الجسد فيجعله غير متوافق مع البر والطهارة والتعفف أو حياة القداسة في نور الله . وحينئذ تتسحب الظلمة على كل حواس الإنسان ظاهراً و باطناً .
كيفية الجهاد الإيجابي في الصراع مع العدو:
1 ـ حصر الأفـكـار الشريرة بعيداً عن التفكير العادي وعدم قبول أي مساومة معها أو تنازل لها .
2- تحصين التفكير العادي بالمبادىء والمثل العليا والوصايا أي كلمة الإنجيل ، لما
لها من قوة ذاتية .
3 ـ التمرن على حفظ الإرادة صديقة لإيحاءات الحق والشرف والفضيلة مهما كانت التكلفة .
4 ـ عـدم التهاون بالتفكير المسترسل للعقل ليجول كيفما شاء بل يجعل له حدود في نطاق كل ما هو حق وطاهر وشريف مع تكوين علاقة وطيدة بالإنجيل والقديسين ، لأنه رصيد مبارك له أكبر التأثير على اتجاهات تفكيرنا وإرادتنا أثناء العمل الجدي أو في لحظة تقرير المواقف والمصير .