تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ٦ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح الخامس
«أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ الظَّالِمِينَ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْقِدِّيسِينَ؟»(ع1).
لم يقل بولس الرسول عند غير المؤمنين وإنما قال «عند الظالمين»، حيث وضع التعبير الذي كان بالحرى محتاجاً إليه في القضية الموضوعة ليصدهم مانعاً إياهم من المحاكمة عند اليونانيين.
«أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ، أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ الصُّغْرَى؟»(ع2).
لم يقل بولس الرسول إن العالم يدان منكم بل « بكم » كما قيل إن ملكة التيمن تقوم وتحاكم هذا الجيل ورجال نينوى يقومون ويحاكمون هذا الجيل.
«أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا سَنَدِينُ مَلاَئِكَةً؟ فَبِالأَوْلَى أُمُورَ هذِهِ الْحَيَاةِ!»(ع3).
المقصود بعبارة « أننا سندين ملائكة ، أي أننا سندين الشياطين حيث قال السيد المسيح عن هؤلاء الملائكة “اذهبوا عنی یا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته” ( مت 25: 41).
«فَإِنْ كَانَ لَكُمْ مَحَاكِمُ فِي أُمُورِ هذِهِ الْحَيَاةِ، فَأَجْلِسُوا الْمُحْتَقَرِينَ فِي الْكَنِيسَةِ قُضَاةً!»(ع4).
يعلمهم بولس الرسول هنا بإفراط ألا يدفعوا ذواتهم لليونانيين ولذلك قال إن كان ليس فيكم حکیم ولا من هو كفوء ليميز والكل محتقرون ، فيوصى بولس الرسول بأن يجلسوا من هؤلاء المحتقرين في الكنيسة قضاة، كما أنه قبيح جداً أن يكون الكاهن غير قادر على أن يصلح بين الأخ وأخيه مما يدفعهما للذهاب إلى اليونانيين.
«لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ. أَهكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ، وَلاَ وَاحِدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ؟ »(ع5).
لأنه متى تشاجر الأخ مع أخيه فالذي يحكم بينهما لا يحتاج إلى القانون والفصاحة، لأن المحبة والقرابة يفعلان كثيراً في حل مثل هذه المشاجرات.
«لكِنَّ الأَخَ يُحَاكِمُ الأَخَ، وَذلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ!.»(ع6).
لاحظ أن بولس الرسول هنا وبخ المحاكمين إذ سماهم في العدد الأول من هذا الأصحاح “ظالمين”، وأما هنا وللتخجيل فسماهم ” غير المؤمنين”.
«فَالآنَ فِيكُمْ عَيْبٌ مُطْلَقًا، لأَنَّ عِنْدَكُمْ مُحَاكَمَاتٍ بَعْضِكُمْ مَعَ بَعْضٍ. لِمَاذَا لاَ تُظْلَمُونَ بِالْحَرِيِّ؟ لِمَاذَا لاَ تُسْلَبُونَ بِالْحَرِيِّ؟»(ع7).
وحيث إن في المحاكمة قد يضار الشاکی والمشكو ، وفي هذا الأمر لا يكون الأول أخير من الثاني ، فاللوم هنا يأتي من اللجوء إلى التقاضي ولأن الإنسان لا يحتمل الظالم.
«لكِنْ أَنْتُمْ تَظْلِمُونَ وَتَسْلُبُونَ، وَذلِكَ لِلإِخْوَةِ!»(ع8).
لأن الخطايا تدين صاحبها ، فعندما يظلم الأخ أخاه فهذا يدل على شدة القساوة.
«أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ؟ لاَ تَضِلُّوا: لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ، وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ.»(ع9-10).
معنی قول بولس الرسول “لا تضلوا”، أي أنه يشير إلى قوم يقولون إن الله صالح ومحب للبشر ، ولا يعاقب على الزلات فلا نخاف لأنه لا يطالب أحداً بشیء البتة ، فلهذه الأقوال قال بولس الرسول “لا تضلوا” لأن غاية الضلال والطغيان أن نرجوا الصالحات ونخطئ بضدها ونعتقد ذلك في الله ، وهذا ما لا يجب أن نتوهمه.
أما قول بولس الرسول “ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعوا ذكور ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله” فقد احتسب كثيرون أن هذه الجملة صعبة جداً؛ کون بولس الرسول وضع السكير والشتام مع الفاسق ، والمأبون والمضاجع الذكور مع أن الزلات لیست متساوية فكيف تكون أمور العذاب متساوية ؟ ! ولذلك نقول إن زلة السكر ليست بقليلة وكذلك الشتيمة لأن مراراً كثيرة وُلد القتل من هاتين الزلتين واليهود من السكر أخطأوا الخطايا الرديئة ثم إن قوله هذا ليس في معنى القصاص بل في معنی السقوط من الملكوت ، لأن السقوط من الملكوت تسببه هذه الزلات.
«وَهكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لكِنِ اغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلهِنَا.»(ع11).
وجه بولس الرسول الكلام مخجلاً جداً إذ قال تفطنوا في إنه من أي الشرور أنقذكم الله الذي منحنا معكم خبرة محبته للبشر وإثباتها، ولم يعطنا المكافأة إلى حد النجاة فقط لكنه قدم الإحسان بسعة لأنه صيرك طاهراً، أترى هذا فقط ؟ لا ، بل قدسك ، بل وليس هذا فقط ، بل وبررك.
ومع أن العتق من الخطايا هو موهبة عظيمة إلا أن الله ملأك أيضاً من الخيرات الكثيرة وهذا حدث باسم ربنا يسوع المسيح ، وليس باسم فلان وفلان بل وبروح إلهنا.
«كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ.(ع12).
يشير بولس الرسول هنا إلى الأكل والشرب ، إذ يحل الأكل والشرب لكن لا يوافق ذلك مع الإفراط ، لأنك ما دمت تعيش بالإفراط فلا تمتلك السلطان على البطن بل هي تمتلك سلطانك ، وهذا الأمر قد يحدث في الأموال أيضا ، ويقال في باقي الأشياء كلها.
«الأَطْعِمَةُ لِلْجَوْفِ وَالْجَوْفُ لِلأَطْعِمَةِ، وَاللهُ سَيُبِيدُ هذَا وَتِلْكَ. وَلكِنَّ الْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ، وَالرَّبُّ لِلْجَسَدِ.»(ع13).
لا يعني هنا بالجوف البطن بل يقصد شره البطن.
ومعنى قول بولس الرسول “الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة” أي أن الأطعمة لها ألفة مع شره البطن وشره البطن صديق الأطعمة ولا يمكنها أن تأتي بنا إلى السيد المسيح بل تستميلنا إلى الأطعمة لأنه داء ردئ وحشی يستعبد الناس.
أما معنى قوله “ولكن الجسد ليس للزنی بل للرب والرب للجسد” أي أن الجسد أوجد لا ليعيش بالتفريط ویزنی ، كما أنه ولا البطن أُوجدت للشره في الطعام ، بل لتشبع بالسيد المسيح.
وبما أن الرب للجسد فلنرهبن ونرغبن إذ قد استحققنا كرامة هذا عظم مقدارها، إذ صرنا أعضاء ذاك الجالس في الأعالي.
«وَاللهُ قَدْ أَقَامَ الرَّبَّ، وَسَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا بِقُوَّتِهِ. »(ع14).
لم يقل بولس الرسول وأما الله فيقيم الرب لأن هذا قد تم ، لكنه قال : “والله قد أقام الرب”.
وأما عن قيامتنا نحن لأنها ما صارت بعد لم يقل هكذا ، لكنه قال : “وسيقيمنا نحن”.
وإن كانت قيامة السيد المسيح تنسب للآب فلا تنزعج من ذلك ، لأن بولس لم يقل هذا القول بمعنی انحطاط قوة المسيح وذلك للآتي:
١- لأنه كتب عن السيد المسيح “أجاب يسوع وقال لهم انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” ( يو ۲ : ۱۹ )
۲ – ولأن السيد المسيح قال لليهود “لى سلطان أن أضعها ولی سلطان أن أخذها أيضاً” ( يو ۱۰ : ۱۸ ) .
ولكن لأي سبب إذا قال بولس الرسول هكذا ؟ ! يقصد بولس الرسول من قوله ” الله قد أقام الرب”، لأن أفعال الابن تحسب للأب وأفعال الآب للابن.
«أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ أَعْضَاءُ الْمَسِيحِ؟ أَفَآخُذُ أَعْضَاءَ الْمَسِيحِ وَأَجْعَلُهَا أَعْضَاءَ زَانِيَةٍ؟ حَاشَا!»(ع15).
قول بولس الرسول “أن أجسادكم هي أعضاء المسيح” مخاطباً إياهم فيما بعد كأولاد شریفی الجنس ، لأنه من حيث إنه قال « الجسد ليس للزنی بل للرب » أوضح ذلك مبرهناً أكثر الآن.
وضع بولس الرسول هنا القول مخيفاً ومرعباً بقوله « أفأخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية حاشا» فليس قول مرعب أكثر من هذا ، إذ أنه لم يكن يقل أفآخذ إذاً أعضاء المسيح فأضمها بالزانية ، لكنه قال « أجعلها أعضاء زانية»، القول أشد توبیخاً.
«أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنِ الْتَصَقَ بِزَانِيَةٍ هُوَ جَسَدٌ وَاحِدٌ؟ لأَنَّهُ يَقُولُ:«يَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا»»(ع16).
من أين يتضح ذلك ؟ لأنه يقول « يكون الاثنان جسدا واحدة».
«وَأَمَّا مَنِ الْتَصَقَ بِالرَّبِّ فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ.»(ع17).
لأن الجماع لا يدع أن يكون الاثنان اثنين فيما بعد لكنه يصيرهما واحداً، وانظر كيف يسبق فيأتي بالتوبيخ من الألفاظ المجردة.
«اُهْرُبُوا مِنَ الزِّنَا. كُلُّ خَطِيَّةٍ يَفْعَلُهَا الإِنْسَانُ هِيَ خَارِجَةٌ عَنِ الْجَسَدِ، لكِنَّ الَّذِي يَزْنِي يُخْطِئُ إِلَى جَسَدِهِ.»(ع18).
لم يقل بولس الرسول ابتعدوا بل قال « اهربوا» ، أي بسرعة انعتقوا من الردئ . والمقصود من قوله و الذي يزني يخطئ إلى جسده ، أي أنه من يقوم بالسرقة والخطف لا يسارع للمضي إلى الحمام ، لكنه يمضى بغیر مانع إلى بيته ، أما من يزني مع زانية يبادر إلى الاستحمام مثلما يكون قد تدنس كله.
«أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟»(ع19).
لم يقل هيكل الروح القدس فقط وإنما قال « الذي فيكم»، وهو الذي كان يعزيهم ، وإذ فسر ذلك أيضاً أورد قائلا « الذي لكم من الله».
«لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَِ للهِ.»(ع20).
قول بولس الرسول « قد اشتريتم بثمن» إذ يذكرنا بعظم الإحسان وطريقة الخلاص حيث بعد أن كنا أجنبيين اشترينا وليس على الإطلاق بل « بثمن».
ومعنى قوله « فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم » أي لا نهرب من الزني بالجسد فقط بل وبالروح.
والمقصود من قوله « التي هي لله » لكونه قال »في أجسادكم وفي أرواحكم » لذلك أتبع قائلا « التي هي لله» إذ يذكرنا دائما بأن الأشياء كلها للسيد : الجسد والنفس والروح.
تفسير رسالة كورنثوس الأولى – 5 | رسالة كورنثوس الأولى – 6 | تفسير رسالة كورنثوس الأولى | تفسير العهد الجديد | تفسير رسالة كورنثوس الأولى – 7 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير كورنثوس الأولى – 6 | تفاسير رسالة كورنثوس الأولى | تفاسير العهد الجديد |