تفسير سفر الملوك الأول 13 للقمص تادرس يعقوب ملطي
إصابة يد يربعام بالفالج
يكشف لنا هذا الأصحاح عن طول أناة الله وعن عدم محاباته. فمن جهة أرسل رجل الله إلى يربعام الذي أدخل العبادة الوثنيَّة في المملكة الجديدة المنشقَّة. لقد اختاره الرب لتأديب رحبعام، لكنَّه إذ لم يكن أمينًا لله أرسل إليه نبيًا من يهوذا ينذره بسبب ارتداده عن الرب، ويؤدِّبه. اليد التي امتدَّت لتحطيم العبادة لله يبست.
والعجيب في طول أناة الله أنَّه إذ ندم الملك نال غفرانًا وشُفيت يده اليابسة.
طُلب من رجل الله الذي أُرسل للملك لتحذيره ألاَّ يأكل ولا يشرب في ذلك الموضع. إذ أطاع صنع الله به معجزات، وإذ لم يطع بغواية آخر افترسه أسد. ليس عند الله محاباة، فهو يؤدِّب من أخطأ، سواء كان ملكًا أو نبيًا.
1. إصابة يد يربعام بالفالج |
[1 –5]. |
|
2. ندم يربعام |
[6]. |
|
3. امتناع رجل الله عن الأكل |
[7 –9]. |
|
4. افتراس رجل الله |
[10 –24]. |
|
5. دفن رجل الله |
[25 –32]. |
|
6. إصرار يربعام على الشرّ |
[33 –34]. |
|
من وحي 1 ملوك 13 |
1. إصابة يد يربعام بالفالج:
“وإذا برجل الله قد أتى من يهوذا بكلام الرب إلى بيت إيل،
ويربعام واقف لدى المذبح لكي يوقد” [1].
كان يربعام يعلم تمامًا أن ما فعله فيه مقاومة للحق الإلهي، ومعصية للوصيَّة، مع هذا فقد بدأ عمله كرئيس كهنة يوقد، إذ أقام نفسه بنفسه. أرسل إليه الرب من يهوذا نبيًا يحذِّره بعلامة ظاهرة حتى لا يكون ليربعام عذر.
“فنادى نحو المذبح بكلام الرب وقال:
يا مذبح يا مذبح هكذا قال الرب،
هوذا سيولد لبيت داود ابن اسمه يوشيا.
ويذبح عليك كهنة المرتفعات الذين يوقدون عليك،
وتحرق عليك عظام الناس” [2].
لم يهمس رجل الله بما قاله الرب له بخصوص الملك لكنَّه بكل شجاعة “نادى” بصوتٍ عالٍ، فإنَّه لم يخشَ الملك، ولا خجل من رسالة الله له. لم يخشَ رجل الله بطش الملك، فإن من يخاف الله لا يخاف وجه إنسان مهما كان سلطانه أو مركزه.
* خوف الله هو الحارس لممارسة الوصايا، وهو ثمرة الإيمان السليم.
الأب أوغريس
* خوف الله يحثّ النفس على حفظ الوصايا، وعن طريق حفظ الوصايا يُشيد منزل النفس.
إذًا ليتنا نخاف الله ونُشيد منازل لأنفسنا، حتى نجد مأوى في الشتاء حيث المطر والرعد، لأن من لا منزل له يعاني من مخاطر عظيمة في وقت الشتاء.
* كيف نقتنى مخافة الله؟
قال الآباء إن الإنسان ينال مخافة الله وذلك:
أ. إن تذكَّر الموت والعذابات،
ب. وسأل نفسه كل مساء كيف قضى يومه، وكل صباح كيف قضى الليل.
ج. ولا يكون وقحًا (مهزارًا).
د. وأخيرًا إن بقى في علاقة (صداقة) مع إنسان يخاف الله. فإنَّه يُروى عن أخ سأل ناسكًا: ماذا أصنع أيُّها الأب لكي أخاف الله؟ فأجابه الناسك: “اذهب واسكن مع إنسان يخاف الله، فبسلوكه كخائف لله تتعلَّم مخافة الله“.
ونحن نطرد خوف الله عن أنفسنا بصنعنا ما هو نقيض للأمور السابقة. فلا نذكر الموت ولا العذابات، ولا ندقِّق مع أنفسنا ونحاسبها كيف نقضي زماننا بل نعيش مستهترين، ونصادق أناسًا ليس فيهم خوف الله، كذلك نسلك بوقاحة.
وهذه الأخيرة “الوقاحة” (أو الهزل السخيف) هي أشرّ الكل، إذ تدمِّرنا إلى التمام. فليس شيء ينزع خوف الله عن النفس أكثر من الوقاحة.
الأب دوروثيؤس
بكل غيرة أراد أن يقدِّمها للملك كما لكل الحاضرين الذين كانوا من عظماء المملكة ومن الشعب، إذ كانت مناسبة لها أهميَّتها العظمى لدى الملك ورجال الدولة.
لم يوجِّه حديثه للملك ولا لرجاله ولا للكهنة أو الشعب بل إلى الحجارة، صارخًا: “يا مذبح يا مذبح“. فقد صارت قلوب الكل بلا إحساس نحو الرسالة الإلهيَّة، فالأمل في الحجارة أن تسمع أكثر ممَّا في قلوب الناس. لقد أغلقت البشريَّة آذانها عن أن تسمع الرسالة الإلهيَّة، لذا صرخ إلى الحجارة لعلّها تنصت وتستجيب.
ظنَّ يربعام أن خطَّته تنجح حتمًا، تعطيه هو وبنيه من بعده استقرارًا وأمانًا فلا يعود الشعب إلى ملوك يهوذا. لكن رجل الله أكَّد أن الشرّ لن يدوم، وخطَّة الله تتحقَّق حتمًا. لهذا فقد تنبَّأ رجل الله عن يوشيا قبل ميلاده بثلاثة قرون ونصف، الذي يقوم ويهدم المذابح الوثنيَّة ويحرق عظام الذين يوقدون عليها.
كثيرًا ما نظن أن الشرّ أقوى وأبقى، لكن الله يؤكِّد أنَّه إلى حين. فالنور يبدِّد الظلمة، والحق يحطِّم الباطل. العبادة الوثنيَّة حتمًا ستنتهي، أمَّا كلمة الرب فباقية إلى الأبد.
“وأعطى في ذلك اليوم علامة قائلًا:
هذه هي العلامة التي تكلَّم بها الرب،
هوذا المذبح ينشق ويذرَّى الرماد الذي عليه” [3].
يؤكِّد الله رسالته بعلامة، وهي أن يهتز كيان المذبح وينشق ويذرَّى الرماد الذي عليه. بهذه العلامة يؤكِّد أن المتحدِّث معهم هو رجل الله حقيقة، وأن الله لن يُسرّ بذبائح تقدَّم على مذبحٍ رجس، عاجز عن أن يقدِّس الذبيحة. ومن جانب آخر فإنَّه إن كانت قلوبهم قد تحجَّرت كالمذبح الوثني، فإن كلمة الله وحدها قادرة أن تهز هذه القلوب الحجريَّة وتُذرِّي ما لصق بها من رماد الرجاسة.
“فلما سمع الملك كلام رجل الله الذي نادى نحو المذبح في بيت إيل
مدَّ يربعام يده عن المذبح قائلًا: امسكوه.
فيبست يده التي مدَّها نحوه، ولم يستطع أن يردَّها إليه” [4].
اهتم الله بيربعام فأرسل إليه رجل الله لكي ينذره. بسط الله يده بالحب لعلَّ يربعام يتوب ويرجع إليه. ردّ يربعام الحب بالعجرفة، فمدّ يده لا ليضعها في يد الله الممتدَّة إليه بل ليُقاوم. عِوض أن يقدِّم يربعام توبة ازداد حماقة، وظن أنَّه قادر أن يمسك رجل الله ويقتله. لم يسمح الله بأن تُصاب يد الملك بالفالج حينما امتدَّت لتقدَّم بخورًا للأوثان، لكنَّه سمح بذلك حين امتدَّت لتُمسك رجل الله. فإن كل مقاومة لرجاله تُحسب مقاومة له، وهو لا يسمح أن تستقرّ عصا الأشرار على نصيب الأبرار (مز 125: 3). لقد حذَّر “لا تمسُّوا مسحائي” (1 أي 16: 22؛ مز 105: 15).
* يوجد مثال كامل، ففي شخصٍ واحدٍ ظهرت مراحم الله وغضبه. وذلك عندما فقد يمينه فجأة وهو يقدِّم ذبيحة، وإذ ندم نال الغفران(112).
القديس أمبروسيوس
* الخطيَّة هي جموح حقيقي وإفساد في الإنسان، هي انحراف بعيد عن الخالق الأسمى وتوجُّه نحو الخليقة الأقل(113).
القديس أغسطينوس
“وانشق المذبح وذرِّيَ الرماد من على المذبح
حسب العلامة التي أعطاها رجل الله بكلام الرب” [5].
لقد أعطى الله ليربعام أكثر من فرصة لعلَّه يرجع عن شرِّه، لكنَّه كان مصرًّا على الفساد، فتحوَّلت كل الأمور لهلاكه. كما أن كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبُّون الله (رو 8: 28)، هكذا كل الأمور تؤول لهلاك الشرِّير المُصرّ على شرِّه. لقد أعطاه الله عشرة أسباط، وأرسل له نبيًا من يهوذا ينذره، وسمح بانشقاق المذبح وتذرِية الرماد من عليه، وشفى يده اليابسة عندما تاب، لكن كل هذه الأمور صارت شهادة ضدَّه لدينونته. لم ينتفع بطول أناة الله بل أساء استخدامها.
2. ندم يربعام:
“فأجاب الملك وقال لرجل الله:
تضرَّع إلى وجه الرب إلهك وصلِّ من أجلي،
فترجع يديَّ إليَّ.
فتضرَّع رجل الله إلى وجه الرب،
فرجعت يد الملك إليه، وكانت كما في الأول” [6].
الله الذي يجرح هو وحده قادر أن يشفي الجراحات. لم يحمل النبي روح الانتقام ولا التشفِّي، بل في محبَّة ردّ شرّ الملك بالخير، وفتح له طريق الرجاء في الرب الطبيب الحقيقي للنفس والجسد.
تمتَّع الملك بالشفاء بالرجوع إلى الله وطلب شفاعات النبي عنه، فإن الله يسمع لطلبات أولاده. استجاب لطلبات موسى النبي عن فرعون (خر 10: 17)، وطلبات أيُّوب عن أصدقائه المقاومين له، وأيضًا لرجل الله هنا عن يربعام الذي عرف كيف يصلِّي من أجل مقاومه [6].
سأل الملك رجل الله أن يأكل في بيته فيقدِّم له أجرة، لكن رجل الله رفض أن يأكل أو يشرب في بيته، حتى وإن قدَّم له نصف ممتلكاته. أنَّه قرار حازم تسلَّمه من الرب نفسه، خاص بعدم الشركة مع الأشرار. مع ما تحمَّله النبي من مشاق وغالبًا ما كان في حاجة إلى طعام وشراب، وربَّما لم يكن معه من المال لشراء طعام رفض استضافة الملك له وقبول أيَّة هديَّة منه. بحسب الفكر البشري كان يمكنه قبول الدعوة لكي تتوفَّر فرصة أطول للحديث مع الملك لعلَّه يرجع ويقدِّم توبة صادقة، لكنَّه لم يفعل ذلك طاعة للرب الذي هو أحكم من الجميع. كرسول أطاع مرسله.
الله في طول أناته يريد خلاص الخطاة لا موتهم. فمع سابق معرفته أن يربعام يعود فيقدِّم ذبائح للأوثان، عندما قدَّم توبة غُفر له وشُفي يده اليابسة. إنَّه لم يسمح بموته في الحال لعلَّه يرجع ويتوب فيحيا. هكذا يشتهي الرب خلاص الكل.
3. امتناع رجل الله عن الأكل:
“ثم قال الملك لرجل الله:
ادخل معي إلى البيت وتقوَّت فأعطيك أجرة” [7].
يرى البعض أن هذه الدعوة هي عرض من الملك للنبي لكي يقبل أن يكون كاهنًا لديه، فيقدِّم له أجرة مجزية ومغرية. ربَّما كانت الدعوة هي مكافأة أراد أن يقدِّمها الملك للنبي مقابل شفاء يده.
جاء الأمر الإلهي ألاَّ يرجع من نفس الطريق الذي جاء منه، أولًا كاختبار عملي لطاعته لله. ومن جانب آخر لكي لا يعطي فرصة أن يتعرَّف عليه أحد ويسيء معاملته بعدما وبَّخ الملك ورفض قبول الدعوة للدخول إلى بيته والجلوس على مائدته الملوكيَّة.
“فقال رجل الله للملك:
لو أعطيتني نصف بيتك لا ادخل معك،
ولا أكل خبزًا ولا أشرب ماء في هذا الموضع.
لأنِّي هكذا أوصيت بكلام الرب قائلًا:
لا تأكل خبزًا ولا تشرب ماء ولا ترجع في الطريق الذي ذهبت فيه” [8-9].
تنفيذ الوصيَّة أو الطاعة لله في عيني الله أفضل من اقتناء نصف مملكة يربعام. هكذا يرى المؤمن في الوصيَّة الإلهيَّة ليس مجالًا للحوار والنقاش، لكنَّها فرصة لقاء حب مع الله يشبع كل كيانه. لا يرى في تنفيذها حرمانًا من لذَّة معيَّنة، أو كبتًا لمشاعر معيَّنة، إنَّما يرى فيها لذَّة تفوق كل لذَّة في العالم كلُّه. يرى فيها اقتناء لمواهب كل الخيرات، وتمتُّع بخالق السماء والأرض. الوصيَّة مشبعة لأعماقه ومفرحة للغاية، فهي كنزه الذي يحرص عليه فيحوط به بكل قلبه لتبقى مستقرَّة في أعماقه الداخليَّة.
يقول المرتِّل:”إن كلماتك حلوة في حلقي، أفضل من العسل والشهد في فمي” (مز 119: 103). لكلمة الله عذوبة خاصة، أحلى من كل فلسفات العالم ومعرفته وحكمته. شتَّان بين من يدرس كلمة الله بطريقة عقلانيَّة بشريَّة جافة، وبين من يأكلها ليغتذي بها، فيجدها طعامًا مشبعًا وحلوًا، أشهى من العسل والشهد. إنَّها تعطي عذوبة للنفس، فتحوِّل جفاف قلبنا القاسي إلى عذوبة الحب المتَّسع والمترفِّق! كأن كلمة الله في عذوبتها تحوِّل المؤمن إلى الحياة العذبة، فيستعذب الآخرون الشركة معه.
* إذا أكل إنسان حصرمًا تضرَّست أسنانه وصارت تعاني من فرط الحساسيَّة فلا يقوى على أكل الخبز، هكذا أيضًا إذا ما اقتات إنسان على دنس هذا العالم بإفراط وانغمس في أحاديث النميمة الباطلة فإنَّه يحتقر ويرفض الدرس الإلهي الحلو حتى إذا ما قرأه هذا الإنسان لا يستطيع أن يقول مع النبي: “ما أحلي قولك يا رب”(114).
* تبقى حلاوة كلمة الله دائمة فينا شريطة أن نرغب في غرسها في الآخرين بتكرارها وترديدها دومًا بحبٍ كاملٍ متدفِّق(115)ٍ.
الأب قيصريوس أسقف آرل
* أحيانًا يكون لعبارات كتابيَّة عذوبة متزايدة في الفم (مز 119: 103) كما يكرِّر المرء عبارة بسيطة في الصلاة عدَّة مرَّات دون أن يشبع منها وينتقل منها إلى عبارة أخرى(116).
مار اسحق أسقف نينوى
* الآن تعليم الحكمة المُعلن يشبه العسل، وكالشهد الذي يُضغط عليه من الأسرار الغامضة كما يُفعل بخلايا الشمع بفم المُعلِّم كمن يمضغه، فيكون حلوًا في فم القلب لا الفم الجسدي.
القديس أغسطينوس
* إنَّه سحر الحق الذي عبَّر عنه المرتِّل مؤكِّدًا ذلك عند قوله: “كم هي حلوة كلماتك لحلقي، إنَّها أحلى من العسل في فمي“.
القدِّيس باسيليوس
* صارت كلمات الله حلوة لي مثل عسل الشهد، وصرخت من أجل المعرفة، ورفعت صوتي لأجل الحكمة(117).
القديس غريغوريوس النزينزي
* أيضًا “اذهب إلى النحلة وتعلَّم منها مقدار نشاطها”. تأمَّل كيف تنتقل بين كل أنواع الزهور المختلفة لتجمع لك عسلها. هكذا لتنتقل أنت بين الكتب المقدَّسة وتتمسَّك بخلاص نفسك، وإذ تشبع منها تقول: “وجدت كلامك حلوًا في حلقي، أحلى من العسل والشهد في فمي”(118).
القديس كيرلس الأورشليمي
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنَّه ليس كل نفسٍ تجد عذوبة في كلمة الله، بل النفس السويَّة غير المريضة، فإن المريض لا يشعر بطعم الطعام وعذوبته(119).
* مع هذا… لا يعرف البعض حتى أنَّه توجد كتب مقدَّسة لا نهائيًا. لهذا السبب صدِّقوني ليس شيء سليمًا، ليس من أمرٍ نافعٍ يصدر عنَّا(120).
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ يكتب القديس جيروم عن الأرملة Furia تحدَّث عن دبُّورة بكونها النحلة التي تجمع من زهور الكتاب المقدَّس عسل النحل.
[حسنًا دُعيت نحلة (دبُّورة)، لأنَّها تتغذَّى على زهور الكتاب، وكانت تُحاط برائحة الروح القدس الذكيَّة، وتجمع معًا في وحدة مع الشفاه النبوي عصير النكتارين الحلو(121)].
4. افتراس رجل الله:
“فذهب في طريق آخر ولم يرجع في الطريق الذي جاء فيه إلى بيت إيل.
وكان نبي شيخ ساكنًا في بيت إيل،
فأتى بنوه وقصُّوا عليه كل العمل الذي عمله رجل الله ذلك اليوم في بيت إيل،
وقصُّوا على أبيهم الكلام الذي تكلَّم به إلى الملك.
فقال لهم أبوهم: من أي طريق ذهب؟
وكان بنوه قد رأوا الطريق الذي سار فيه رجل الله الذي جاء من يهوذا” [8-12].
ما أكثر حيل إبليس وخداعاته. استطاع النبي أن يقف أمام الملك، وبكل جرأة رفض الدخول إلى بيته والجلوس على مائدته. وفي طاعة لله عاد في طريق آخر غير الذي جاء منه. ومع هذا لم يتركه عدوّ الخير يتمتَّع بما ناله من بركات الطاعة. أرسل إليه من يخدعه حتى لا يتمِّم وصيَّة الله له. أرسل إليه نبي شيخ مخادع وكاذب، قدَّم مشورة لرجل الله، ناسبًا إيَّاها لإعلان سماوي.
ربَّما نشأ هذا النبي الكاذب في مدرسة الأنبياء التي أسَّسها صموئيل النبي، لكن العالم أغواه، ففارقه روح النبوَّة بسبب شرِّه، لأنَّه يليق بأنبياء الله الحقيقيِّين أن يكونوا قدِّيسين (2 بط 1: 21). يرى البعض أن ما فعله هذا المخادع كان بحسن نيَّة فقد أراد أن يقدِّم طعامًا لرجل الله الجائع والمرهق. لكن الرأي الغالب أنَّه نبي كذاب، وكان من طبيعة هؤلاء الأنبياء أن يُسرُّوا بسقوط الأنبياء الحقيقيِّين.
حقًا إنَّه لم يذهب ليشترك مع الملك في تقديم العبادة، إنَّما ذهب أولاده وعادوا يحكون له ما قد حدث. ربَّما ذهبوا من أجل حب الاستطلاع وليس للاشتراك في العبادة الوثنيَّة. على أي الأحوال لم يقف هذا النبي ضد العبادة الوثنيَّة، ولم يقف ضد الملك في هذا الشأن. كان غير مخلصٍ للرب، سكن في مدينة وثنيَّة، ولم يشهد للإله الحق.
كان يليق برجل الله أن يكون له روح التمييز، فيفرز ما هو حق ممَّا هو باطل، فلا يقدر النبي الكاذب أن يخدعه.
* صلوا لكي يهبكم الله نعمة الإدراك السليم في كل الأمور، فتقدروا أن تميِّزوا بين الخير والشرّ تمييزًا حسنًا.
* لقد كتب الرسول بولس: “وأمَّا الطعام القوى فللبالغين” (عب 5: 14). هؤلاء الذين بواسطة العمل المتواصل والجهاد” تُدرَّب حواسهم وميولهم على التمييز بين الخير والشرّ، وقد أُحصوا كأبناء الملكوت وصاروا من عداد أبناء الله، هؤلاء يعطيهم الله الحكمة والتمييز الحسن في كل أعمالهم، فلا يقدر إنسان أو شيطان أن يخدعهم.
فالعدوّ يحارب المؤمنين تحت صورة الخير، وينجح في خداع كثيرين، هؤلاء الذين ليس لهم حكمة ولا تمييز حسن. لهذا علَّم الرسول بولس عن غنى الفهم الذي لا حد لعظمته، المخصَّص للمؤمنين، إذ كتب إلى أهل أفسس يقول: “كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه مع القدِّيسين” (أف 1: 17-18)، كاتبًا هذا بدافع حبُّه العظيم المتزايد نحوهم، ولعلمه أنَّهم إن اقتنوا الفهم لا يعود يكون بالنسبة لهم شيء فيه صعوبة، ولا يمسُّهم خوف، بل يعزِّيهم فرح الرب نهارًا وليلًا، وتصير الأعمال بالنسبة لهم عذبة في كل حين.
حقًا إن كثيرين من الرهبان والعذارى في المجمع لم يقتنوا الفهم بهذه الدرجة، وأمَّا أنتم فإن أردتم أن تحصلوا عليه بهذا المقدار الذي فيه كمال، فاهربوا من أولئك الذين يحملون اسم “رهبان وبتوليُّون” دون أن يكون لهم الإدراك الحقيقي والتمييز الحسن. لأنَّكم إن اختلطتم بهم، لن يدعكم تتقدَّمون بل وربَّما يطفئون حرارة غيرتكم، إذ لا حرارة لهم بل برودة وهم يسيرون وراء أهوائهم. فإن أتوا إليكم وتحدَّثوا معكم في أمور أرضيَّة حسب أهوائهم الخاصة، لا تستكينوا لهذا؟، إذ كتب الرسول بولس: “لا تطفئوا الروح، لا تحتقروا النبوَّات” (1 تس 5: 20)، عالمين أنَّه لا شيء يطفئ الروح أكثر من الكلام الباطل(122).
القدِّيس أنبا أنطونيوس
“فقال لبنيه: شِدُّوا لي على الحمار.
فشَدُّوا له على الحمار، فركب عليه.
وسار وراء رجل الله،
فوجده جالسًا تحت البلُّوطة.
فقال له: أأنت رجل الله الذي جاء من يهوذا؟ فقال أنا هو.
فقال له: سر معي إلى البيت وكل خبزًا” [13-15].
لم يكن رفضه مثل هذه الدعوة مقبولًا في الشرق، إذ تحمل معنى الاستهانة بالمضيف. كانت العادة عندما يصل إنسان إلى مدينة يستضيفه أحد سكَّانها، فيقدِّم له طعامًا ويعطيه مأوى يحميه من الجو كما من اللصوص أو الأعداء، ويشارك الضيف المضيف العبادة أو يتمتَّع بآلهة العائلة. كان ينظر إلى الضيف أنَّه قد صار أحد أفراد الأسرة يشاركها كل شيء، وأنَّه “ضيف الله”(123).
“فقال: لا أقدر أن أرجع معك، ولا أدخل معك،
ولا أكل خبزًا ولا أشرب معك ماء في هذا الموضع.
لأنَّه قيل لي بكلام الرب:
لا تأكل خبزًا ولا تشرب هناك ماء،
ولا ترجع سائرًا في الطريق الذي ذهبت فيه.
فقال له: أنا أيضًا نبي مثلك،
وقد كلَّمني ملاك بكلام الرب قائلًا:
ارجع به معك إلى بيتك فيأكل خبزًا ويشرب ماء.
كذب عليه” [16-18].
يرى البعض أنَّه من المستحيل أن يكون هذا النبي كذَّابًا، لكنَّه إذ قال بأن ملاكًا تحدَّث معه بكلمة الرب [18]، فإن كلمة “ملاك” معناها “رسول”. فهو يقصد بالملاك ابنيه اللذين قدُما إليه من عند الملك وأخبراه بكل ما حدث مع رجل الله، وأنَّهما اشتهيا أن يستضيفاه. لهذا فما قاله النبي إنَّما هو تورية عن ابنيه اللذين أرسلهما له الرب لكي يحثَّاه على استضافته، خاصة وأنَّه إذ شاهد رجل الله تحت الشجرة في تعب شديد، شعر بأنَّه محتاج إلى طعام وشراب ليتقوَّى جسده. لهذا فإن النبي الشيخ هو نفسه قد خدعه عدوّ الخير، لكن بدافع الشفقة أغوى رجل الله ليخالف وصيَّة الرب له. “ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور (2 كو 14: 11). إنَّه يخدع الآخرين، ويحثُّهم على خداع الغير تحت ثوب الفضيلة.
على أي الأحوال كان يمكن لرجل الله أن يكتشف كذب هذا النبي، أولًا لأن الوصيَّة الإلهيَّة التي بلغته جاءت مباشرة من الله، فلماذا يطالب الله بما يخالفها عن طريق شخص آخر؟ لو أن هذا النبي أمينًا لماذا لم يشهد ضد العبادة الوثنيَّة في يوم الاحتفال العظيم الذي أعدَّه الملك؟ لماذا لم يرجع رجل الله إلى الله يسأله قبل أن يعصي الوصيَّة ويأكل؟
كان كلاهما في حاجة إلى روح التمييز، فإن كان النبي المُسنّ قد انخدع تحت الرغبة في استضافة رجل الله المرهق، فهو بلا عذر. كان رجل الله – الذي جاء من يهوذا بدعوة إلهيَّة مباشرة وتنبَّأ للملك وتحقَّقت نبوَّته، وعلى يديه أُصيبت يد الملك بالفالج وشُفيت – في حاجة إلى روح التمييز ليفرز الحق من الباطل.
روح التمييز والإفراز هو الطريق الآمن، هو عطيَّة الروح القدس الذي يقودنا في طريقه الملوكي حتى يعبر بنا إلى حضن الآب.
“فرجع معه وأكل خبزًا في بيته وشرب ماء.
وبينما هما جالسان على المائدة كان كلام الرب إلى النبي الذي أرجعه” [19-20].
لمن جاءت كلمة الرب؟ جاء النص العبري يحمل المعنيين، أمَّا ذاك الذي رجع أي رجل الله أو ذاك الذي جاء به أي النبي الشيخ، ويرى يوسيفوس المؤرخ أن الكلمة الربانيَّة قد جاءت للنبي الأصلي الحقيقي.
“فصاح إلى رجل الله الذي جاء من يهوذا قائلًا:
هكذا قال الرب من أجل أنَّك خالفت قول الرب،
ولم تحفظ الوصيَّة التي أوصاك بها الرب إلهك” [21].
الذي صرخ هو “كلمة الرب“؛ سابقًا جاءته كلمة الرب ليحمل روح القوَّة والنصرة فلا يرهب الملك ولا كل حاشيته. الآن وقد خالف الوصيَّة جاءته الكلمة ترعبه وتذيب قلبه. إنَّها السيف ذو الحدِّين، تحمل روح القوَّة لكي تسند، وتقدِّم تأديبًا إلهيًا.
“فرجعت وأكلت خبزًا وشربت ماء في الموضع الذي قال لك لا تأكل فيه خبزًا ولا تشرب ماء
لا تدخل جثَّتك قبر آبائك.
ثم بعدما أكل خبزًا وبعد أن شرب،
شدَّ له على الحمار أي للنبي الذي أرجعه.
وانطلق فصادفه أسد في الطريق وقتله،
وكانت جثَّته مطروحة في الطريق،
والحمار واقف بجانبها والأسد واقف بجانب الجثَّة” [22-24].
جاء افتراس الأسد للنبي شهادة حيَّة لعدم محاباة الله لأحد، فإذ أخطأ رجل الله وعصا سقط تحت التأديب.
ما قد حدث كان بأمر إلهي وليس مصادفة، فالأسد قتل رجل الله لكنَّه لم يأكله، ولم يقترب الأسد نحو الحمار. والعجيب أن وقف بجوار الجثَّة كمن يحرسها مع الحمار. إن يدّ الله واضحة!
يسمح الله بقتل الجسد لكي يتعلَّم الكل أن المعصية تدفع إلى موت النفس وهلاكها. أمَّا عدم التهام الجسد فكشف عن شوق الله أن يتمجَّد الإنسان روحًا وجسدًا، فلا يحطِّمه الفساد إلى الأبد.
* إنَّه لأمر عجيب أن الأسد الذي ترك الحمار في أمان وسلام لم يترك النبي يقوم من طعامه! ذاك الذي حين كان صائمًا صنع عجائب، لكن ما أن أكل حتى دفع العقوبة عن اللذَّة. يوئيل أيضًا يصرخ بصوتٍ عالٍ: “قدِّسوا صومًا، نادوا بوقت شفاء” (يوئيل 1: 14، 2: 15)، لكي يظهر أن الصوم يتقدَّس بأعمال أخرى، وأن الصوم المقدَّس يجلب شفاء من الخطيَّة(124).
القديس جيروم
5. دفن رجل الله:
“وإذا بقوم يعبرون فرأوا الجثَّة مطروحة في الطريق،
والأسد واقف بجانب الجثَّة،
فأتوا واخبروا في المدينة التي كان النبي الشيخ ساكنًا بها.
ولما سمع النبي الذي أرجعه عن الطريق قال:
هو رجل الله الذي خالف قول الرب،
فدفعه الرب للأسد، فافترسه وقتله حسب كلام الرب الذي كلَّمه به.
وكلَّم بنيه قائلًا: شدُّوا لي على الحمار، فشدُّوا.
فذهب ووجد جثَّته مطروحة في الطريق والحمار والأسد واقفين بجانب الجثَّة،
ولم يأكل الأسد الجثَّة ولا افترس الحمار” [25-28].
كان العبرانيُّون يهتمُّون جدًا بدفنهم مع آبائهم (تك 47: 30؛ 49: 29؛ 2 صم 19: 37 إلخ).
“فرفع النبي جثَّة رجل الله ووضعها على الحمار،
ورجع بها،
ودخل النبي الشيخ المدينة ليندبه ويدفنه.
فوضع جثَّته في قبره وناحوا عليه قائلين: آه يا أخي.
وبعد دفنه إيَّاه كلَّم بنيه قائلًا:
عند وفاتي ادفنوني في القبر الذي دُفن فيه رجل الله، بجانب عظامه ضعوا عظامي” [29-31].
مع كونه نبيًا كاذبًا لكنَّه أراد عند موته أن يدفن مع النبي فيكون موته موت نبي حقيقي. شعر النبي بخطئه وأدرك مسئوليَّته عمَّا أصاب رجل الله. اشتهى أن يُدفن معه لكي يقوم أيضًا معه.
“لأنَّه تمامًا سيتم الكلام الذي نادى به بكلام الرب نحو المذبح الذي في بيت إيل ونحو جميع بيوت المرتفعات التي في مدن السامرة” [32].
لم تكن السامرة بعد قد بناها عمري (1 مل 16: 24)، فقد أشار إليها النبي بروح النبوَّة كما أشار رجل الله إلى يوشيا باسمه قبل ميلاده بثلاثة قرون ونصف.
6. إصرار يربعام على الشرّ:
“بعد هذا الأمر لم يرجع يربعام عن طريقه الرديَّة،
بل عاد فعمل من أطراف الشعب كهنة مرتفعات،
من شاء ملأ يده فصار من كهنة المرتفعات.
وكان من هذا الأمر خطيَّة لبيت يربعام،
وكان لإبادته وخرابه عن وجه الأرض” [33-34].
قدَّم الله ليربعام كل وسيلة لعلَّه يرجع عن الشرّ الذي يمارسه، لكنَّه لم ينتفع من هذا كلُّه.
* عِوض تقديم ذبيحة شكر لله الذي وهبه العشرة أسباط انحرف بالشعب نحو العبادة الوثنيَّة.
* لم يسمع لصوت النبي القادم من يهوذا بل أراد أن يقتله.
* تحقَّقت النبوَّة وانشقَّ المذبح وذرِّيَ الرماد الذي عليه، أمَّا قلبه فلم يهتز أمام كلمة الله.
* تمتَّع بشفاء يده اليابسة ولم يُشفَ قلبه من فالجه الروحي.
* سمع عن افتراس رجل الله بسبب عصيانه في وصيَّة تبدو غير أساسيَّة، ومع هذا لم يتَّعظ يربعام ولا رجع عن طريق شرِّه.
من وحي 1 ملوك 13
مَنْ يشفي يدي اليابسة؟
مَنْ يخلِّصني من قسوة قلبي؟
* أقمت يربعام ملكًا، فجحد الغبي حبَّك.
عوض ذبيحة الشكر أقام عجلين ذهبيِّين خلافا للوصيَّة.
بمحبَّتك أرسلت إليه نبيًا من يهوذا يهز المذبح.
وبغباوة مدَّ يربعام يده على نبيَّك فيبست.
صلَّى إليك النبي فشفيتها.
أما هو فأصرَّ إن يبقى بقلبه الحجري.
في طاعة رفض النبي أن يأكل لدى الملك ولا يقبل هديَّته.
خدعه نبي كاذب فعصى الوصيَّة.
افترسه أسد في الطريق لعدم طاعته.
* انزع جحود قلبي فأشكرك يا من أقمتني ملكًا.
لن يدخل قلبي عجل ذهبي،
بل تقطن أنت في أعماقي.
* هب لي قلبًا رقيقًا لا يرفض تحذيراتك،
فلا تمتدّ يدي بالشرّ، فتفقد حيويَّتها.
لأرفض مع هذا النبي طعام الشرّ،
ولا اشتهي كل غنى العالم.
لتبقَ وصيَّتك محفورة في قلبي،
مرسومة أمام عينيّ.
وصيَّتك تحملني إلى الطريق الملوكي.
وصيَّتك تحفظني من إبليس، الأسد المفترس.
وصيَّتك تشفي جراحاتي وتجدِّد قلبي.
- سفر الملوك الأول – أصحاح 13
- تفاسير أخرى لسفر الملوك الأول – أصحاح 13
تفسير ملوك الأول 12 | تفسير ملوك الأول القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير ملوك الأول 14 |
تفسير العهد القديم |