تفسير سفر حزقيال ٢٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث والعشرون

أهولة وأهوليبة

في هذا الأصحاح يقدم لنا تاريخ شعب الله قديمًا من خلال أختين دعاهما “أهولة وأهوليبة”، اللتين عشقتا الغرباء، وخانتا الله.

خيانة أهولة (السامرة)   [1-10].

هذه هي المرة الثالثة والأخيرة في سفر حزقيال التي فيها يتهم الله شعبه بالخيانة العظمى (ص 16، 20، 23)، غير أن هناك فارقًا بين اتهامه لشعبه في الأصحاح السادس عشر وهنا. هناك تحدث عن الخيانة لعريسها السماوي من جهة انحرافاتها الروحية، أما هنا فقد ركز على انحراف شعبه بشقّيه (إسرائيل ويهوذا) في الزنا بالفكر السياسي الخاطئ، أي اتكال شعبه تارة على أشور وأخرى على فرعون مصر، وإن كان هذا الاتكال قد حمل في عيني الله إهانة له وعدم إيمان بقدرته على خلاصهم من جهة، كما فتح أبواب الأرض المقدسة لاستقبال المعبودات الوثنية ورجاساتها من بابل ومن مصر في ذلك الحين.

لقد شبه الله إسرائيل ويهوذا بأختين لأم واحدة، عاشتا في حياة الزنا منذ صباهما، الكبرى تسمى أهولة والصغرى تسمى أهوليبة، الأولى تشير إلى السامرة (عاصمة إسرائيل) والثانية إلى أورشليم (عاصمة يهوذا). الأولى هي الكبرى لأنها تضم عشرة أسباط، والأخرى هي الصغرى لأنها تضم سبطين.

ارتبط الاسمان بكلمة “أوهل ohel” العبرية والتي تعنى “خيمة”.

لعله أراد أن يذكِّر شعبه أنه في حقيقته يلزم أن يكون “الخيمة” التي يحل بمجده فيها ليسكن في داخلها معهم (خر 33: 7-10).

وربما أراد بدعوتهما هكذا أن يذكرهما بتغربهما على الأرض، فلا يستقران في بيوت أو مساكن ثابتة بل في خيام متنقلة ليعبروا من حال إلى حالٍ أفضل، ومن مجد إلى مجد. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يسكن في الخيام من يركض نحو الله حرًا بلا قيود ولا أحمال[210]].

[إذا تساءلنا: ما هو الفارق بين المسكن والخيمة؟… المسكن شيء ثابت قائم، له حدوده الثابتة، أما الخيمة فهي مسكن الرُحَّل المتنقلين على الدوام، هؤلاء يجدون لرحلاتهم نهاية[211]].

ولهذا أقام العبرانيون عيد المظال (لا 23: 43) تذكارًا لإقامتهم في خيام في البرية، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يليق بكل واحد منا متى خرج من مصر (محبة العالم) ودخل البرية أن يقطن في خيمة ويقيم عيدًا في الخيام، من أي مادة يجب أن تصنع هذه الخيام إلا من كلمات الناموس والأنبياء، والمزامير وكل ما تحويه الشريعة؟! عندما تنمو النفس بواسطة الكتب المقدسة تنسى ما وراء وتمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13)، تترك البقاع السفلي وتنمو وتتقدم إلى ما هو أعظم. تنمو في الفضائل، فتغير موضع الإقامة خلال تقدمها المستمر، بهذا يمكننا القول إننا نسكن في الخيمة[212]].

إذ نعود إلى الأختين نجدهما من أم واحدة، إذ كانا شعبًا واحدًا، وقد سقطت الأختان معًا في الزنا منذ صباهما في مصر. لقد سلما جسديهما بلا خجل للشر ففقدتا عذراويتهما الروحية، وفتحتا قلبيهما لأصنام مصر منذ نشأتهما (خر 20: 7)، الأمر الذي انكشف في البرية بإقامتهما عجل أبيس يتعبدون له في غياب موسى على الجبل. وكما سبق أن قلنا في تفسيرنا لسفر الخروج إن غياب موسى لم يكن إلا المحك الذي كشف الآلهة التي حملها الشعب في قلوبهم سرًا.

لقد كبرت أهولة (إسرائيل)، لكنها لم تنضج روحيًا ولا اتعظت بسقوطها في مصر، إنما مالت إلى شباب آشور اللابسين ملابس أسمانجونية، كلهم شهوة، رجال حرب، فرسان راكبون خيلاً [5]. يقول الرب “زنت تحتي” أي رفضتني كعريس لها وطلبت لها رجالاً غرباء، رفضت الرب السماوي الحق واشتهت الذين لبسوا الإسمانجوني (رمز السماء)، الذين تظاهروا بالتدين وهم أرضيون شهوانيون مملؤون شراسة. رفضت عريسها الذي حارب عنها في أرض عبوديتها وفي البرية وفي دخولها أرض الموعد، وظنت في الغرباء كفرسان أنهم قادرون على حمايتها تحت رعاية ملك آشور “لتكون يداه معه ليثبت المملكة في يده” (1 مل 15: 19)، وكان ذلك حوالي عام 738 ق.م. هذا الاتكال على آشور دفع الأخير إلى التفكير في تخريب إسرائيل عام 721 ق.م.

لم يتكل بنو إسرائيل على آشور سياسيًا فحسب، إنما اشتهوا آلهته وجروا وراء أصنامه ورجاساته، إذ قيل: “عمل بنو إسرائيل سرًا ضد الرب إلههم أمورًا ليست بمستقيمة، وبنوا لأنفسهم مرتفعات في جميع مدنهم… وأقاموا لأنفسهم أنصابًا وسواري على كل تل عال وتحت كل شجرة خضراء… وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل، وعبَّروا بنيهم وبناتهم في النار، وعرفوا عرافة وتفاءلوا وباعوا أنفسهم لعمل الشر في عيني الرب لإغاظته..” (2 مل 17). لهذا أسلمهم الرب للذين اشتهوهم حسب سؤل قلبهم، فصاروا تحت السبي، وكشفوا عورتهم، أي صاروا في عار وخزى، وقتلوا أولادهم وبناتهم، وصار بنو إسرائيل كامرأة خائنة ذاقت مرارة خيانتها أمام كل النساء، عبرة ومثلاً لهن!

هذه صورة حية لطبيعة الخطيئة وفاعليتها، إنها مخادعة وجذابة، يجرى وراءها الإنسان ظنًا منه أنه يجد فيها الشبع الجسدي والنفسي، لكنها سرعان ما تحدره تحت قدميها وتفقده كرامته وتحرمه سلامه، كما تضره جسديًا، وروحيًا ونفسانيًا. لقد وصف سليمان الحكيم عمل المرأة الزانية في حياة الساقطين في حبائلها هكذا: “عند كل زاوية تكمن، فأمسكته وقبلته. أوقحت وجهها وقالت له: عليَّ ذبائح السلامة، اليوم أوفيت نذوري، فلذلك خرجت للقائك لأطلب وجهك حتى أجدك. بالديباج فرشت سريري، بمُوشَّي كتان من مصر. عطرت فرشي بمُرّ وعود وقرفة، هلم نرتو ودًا إلى الصباح، نتلذذ بالحب… أغوته بكثرة فنونها بملث شفتيها طوحته. ذهب وراءها لوقته كثور يذهب إلى الذبح، أو كالغبي إلى قيد القصاص. حتى يشق سهم كبده كطير يسرع إلى الفخ ولا يدرى أنه لنفسه” (أم 7: 12-23).

خيانة أهوليبة (أورشليم)   [11-21].

لم تنتفع الأخت الصغرى “أورشليم” لا من سقطة صباها في مصر بالاشتراك مع أختها الكبرى (قبل الانقسام)، ولا من تجربة أختها الكبرى أهولة التي جرت وراء آشور وعبدت آلهتهم فسقطت في السبي، بل بالعكس في الفترة الأخيرة ملأت كأس شرها أكثر مما فعلته السامرة قبلها، إذ يقول الرب: “فلما رأت أختها أهوليبة ذلك أفسدت في عشقها أكثر، منها وفي زناها أكثر من زنا أختها” [11]. حقًا بعد الانقسام ظهر ملوك يهوذا أكثر قداسة من ملوك إسرائيل وحينما انحرفت حاول بعض المصلحين نزع الرجاسات، لكنها سرعان ما عادت مرة أخرى في أيام منسي إلى الفساد بطريقة بشعة أكثر مما كان لإسرائيل في أيام شره، ثم امتد هذا الفساد زمانًا. وقد أوضح هذا الأصحاح ملامح هذا الفساد:

أ. عشقت أورشليم بني آشور الولاة من أجل فخامة ملابسهم التي ترمز إلى فخامة أجسادهم وعظمة مظهرهم، مع قوتهم وشهواتهم كشبان، فانخدعت بهذه الأمور كأختها. لم تتعلم أورشليم من السامرة الدرس، بل صنعت ما هو أشر، إذ أرسل آحاز ملك أورشليم إلى فلاسر ملك آشور يقول له: “أنا عبدك وابنك اصعد وخلصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين عليَّ، فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هدية” (2 مل 16: 7-8).

ب. لم تكن هناك فرصة لرجال آشور لإغراء أورشليم، إنما أرسلت أورشليم إليهم تطلبهم ليصنعوا الشر معها، قبل أن تراهم أو تلتقي معهم، إنها مجرد رأت صورهم على الحائط، فبُهرت بهم عند لمح البصر. كان الشر قد صار كامنًا في قلبها. تجري إليه وتسعى وراءه، لا الشر هو الذي يبحث عنها ويحاول إغراءها.

يسقط الشباب أحيانًا فيما يسمونه بالحب لأول نظرة أو من أول لقاء مع شخص من الجنس الآخر، ويرى علماء النفس في هذا الحب نوعًا من عدم النضوج، لأنه لا يقوم على دراسة فكرية مرتبطة بالجانب العاطفي… إنما هو قرار يأخذه غير المختبرين. أما يهوذا فلم يسقط في الشهوة عند أول نظرة، وإنما من خلال صورٍ على الحائط!! إنها لا تعرف النضوج!!

ج. لم يقف الأمر عند سقوطها مع آشور، لمجرد رؤية صور رجاله في لمح البصر، لكنها أيضًا عادت إلى فرعون مصر تطلب الشر كما فعلت قبلاً في صباها [19]. وكأنها إنسانة بشعة تطلب هذا وتجري وراء ذاك بتهور وبلا شبع. هنا أيضًا إشارة إلى الاتكال على فرعون مصر لينقذ أورشليم ضد آشور كما فعل صدقيا الملك.

الفتاة التي تعشق شابًا وتعلن له أنها قد كرست كل قلبها له وحده، ثم تعود لتمارس نفس الأمر مع آخر من وراء الأول تُحسب إنسانة “لعوب”، تخدع هذا وذاك… فماذا لو كانت تفعل هذا مع شاب ومع عدوه في نفس الوقت. هذا ما فعلته مملكة يهوذا، في علاقتها مع آشور وفرعون مصر!

كانت أهولة تمثل صورة رمزية للنفس التي جذبتها وخدعتها فكانت براقة وجميلة جذابة، لكنها قاتلة ومميتة، أما أهوليبة فتمثل النفس التي تجرى وراء الخطيئة، تسعى إليها بلا تفكير، في تسرّع، وبلا شبع، تتخبط يمينًا ويسارًا.

عقاب أهوليبة      [22-35].

إذ لم ترتدع أورشليم بعد أن رأت بنفسها سبي السامرة أختها، بل زادت عنها في فسقها، استخدم الرب محبيها – بابل وكل الكلدانيين خاصة قبائل الحرب فقود وشوع وقوع وكل بني آشور – لتأديبها.

أما فقود فهي قبيلة آرامية كانت تسكن في السهل شرقي نهر الدجلة، على مسافة غير بعيدة من مصبه (إر 50: 21).

وشوع هو اسم سامي معناه “غنى”، اسم قبيلة آرامية تقطن شرقي بابل وكانت دائما في حرب مع الآشوريين، وكان الآشوريون يدعونهم في سجلاتهم “سوتر”.

وقوع قبيلة اشتركت مع البابليين في الهجوم على أورشليم، ويرجح أنها القبيلة التي تُدعى “قوتو” في وثائق الآشوريين، وقد سكنت شرقي نهر دجلة.

إذ أُعجبت بهذه القبائل كرجال حرب، ورؤساء مركبات [23] أسلمها لهم ليذلوها عندما هاجمت بابل أورشليم وحطمت كل إمكانياتها وشوَّهت كل جمال فيها، إذ يقول الرب:

“يقطعون أنفك وأذنيك وبقيتك تسقط بالسيف، يأخذون بنيك وبناتك وتؤكل بقيتك بالنار، وينزعون عنك ثيابك ويأخذون أدوات زينتك، وأبطِّل رذيلتك عنك وزناك من أرض مصر فلا ترفعين عينيك إليهم ولا تذكرين مصر بعد” [25-27].

إنهم يقطعون أنفها، أي ملكها الذي ينبغي أن يكون في مقدمتها له حاسة التمييز فيدرك الطريق الآمن ويميزه عن الطريق الخطر. فإذا أساء التصرف والتجأ إلى فرعون مصر ضد ملك بابل يقطعونه عن أورشليم. أما بالنسبة لنا فثمر الخطيئة هي فقداننا روح التمييز الذي به ندرك الحق ونرفض الباطل، فنحيا بلا تذوق للحق ولا إدراك للمعرفة.

أما قطع الأذنين فيشير إلى سبي الكهنة ومشيري الملك، الذين عوض أن ينصتوا للأنبياء الحقيقيين استمعوا للمشورات الشريرة الكاذبة، ودفعوا الشعب للهلاك. هكذا إذ نفتح آذاننا للمشورات الباطلة نفقد سماعنا لصوت الرب، كعالي الكاهن الذي لم يسمع نداء الله الذي سمعه الطفل صموئيل.

أما بقية أورشليم فتسقط بالسيف، إشارة إلى الشعب الذي يهلك بسبب هذه التصرفات. هذا يرمز إلى الجسد الذي يتدنس ويهلك بسبب حرماننا من نعمة التمييز وعدم سماعنا للصوت الإلهي.

أما حرق الأبناء والبنات في النار، فيتم باستخدامهم ذبائح بشرية للإله بيل أو ملوخ. هذه إشارة إلى تبديد الطاقات والمواهب التي كان يجب إن تقدم لمجد الله وبنيان النفوس، فتُستخدم لحساب الشيطان وتحطيم النفس وعثرة الآخرين.

نزع الثياب وسحب أدوات الزينة منها يشير إلى دخولها في عار وخزي علني أمام الأمم. هذه هينهاية الخاطئ الذي يفقد كل كرامة له ويصير في خزى أمام الكل، خاصة في يوم الرب العظيم، إذ يقول: “وتكونين للضحك والاستهزاء” [32]، إذ يصير مثلاً وعارًا بعد أن تحطمه الخطيئة تمامًا.

خطاب ختامي للأختين  [36-49].

يعتبر هذا الخطاب حديثًا ختاميًا يوجهه الرب للأختين معًا يكشف لهما فيه عن شرهما بصورة واضحة ويعلن عن بشاعته، سواء من جهة الرجاسات أو سفك الدم:

أ. لقد ارتكبتا خيانة زوجية، إذ تركتا الله وجرتا وراء الأصنام، ثم عادتا تنجسان مقادسه وتدنسان سبوته، فصارتا أشر من الأمم. هكذا إذ ينحرف المؤمن، يخلط المقدسات بالشر، فيجدف على اسم الله ومقدساته بسبب تصرفاته.

ب. ارتكبتا أبشع أنواع الجرائم البربرية، مثل تقديم أولادهما ذبائح للإله ملوخ، الذين هم أولاد الله.

ج. أرسلتا إلى رجال آتين من بعيد ليرتكبوا معهما الشر، وقد تزينتا بكل زينة، واستخدمتا بخور الله وزيته في الشر. وكأنهما لم يسقطا عفوا ولا نتيجة غواية من الآخرين، بل دبرتا خطة الشر بنفسيهما واستخدمتا حتى المقدسات الإلهية لتدفع الغير لارتكاب الشر معها.

د. لقد قبلتا من الرعاع أسورة في يديهما وتاجًا على رأسيهما عوض مواهب الله وأكاليله الأبدية.

بهذا استحقتا التأديب بيد هؤلاء الذين اشتركتا معهم في عبادة أصنامهم ورجاساتهم وسلمتا جسديهما وقلبيهما لهم، فيصيرا عبرة للجميع فلا يرتكبون فظائعهما [48]. ولعله قصد بهذا أن كنيسة العهد الجديد التي جاءت من الأمم، والتي كانت أممية وزانية، إذ رجعت إلى الله من خلال الإيمان بالسيد المسيح ودخلت إلى حياة الطهارة تستفيد من الدرس الذي تحقق في هاتين المملكتين قديمًا.

  

من وحي حزقيال 23

هب لي أن أنتفع من سقطات إخوتي!

v   هب لي أن أنتفع من سقطات إخوتي.

سقطت السامرة عاصمة إسرائيل،

فلم تنتفع أورشليم عاصمة يهوذا،

إذ ظنت أنها فوق كل قانون!

عوض التوبة سقطت في الرجاسات،

وصارت أكثر فسادًا من أختها!

علمني يا رب ألا أُدين أحدًا،

ولا أشمت في أحد،

ولا استكبر،

بل أتعظ من سقطات إخوتي!

v   أعترف لك بضعفي،

وأصرخ إليك طالبًا مراحمك.

اسندني، واسند اخوتي!

أعني وأعنهم،

متى نخلص جميعًا،

وننعم بشركة أمجادك يا محب البشر؟!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى