تفسير مراثي إرميا أصحاح ٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث
رجاء مشرق وسط الظلمة
مقدمة
تمثل هذه المرثاة الطويلة قلب المراثي ومركزها، ونقطة تحول من التطلع إلى الألم الذي يلحق بأورشليم التي تحت التأديب إلى المخلص الإلهي المتألم حامل آثامنا على الصليب. إنها أنشودة المصلوب محب البشر!
يتحدث النبي عن رد الفعل في أعماقه وهو يتأمل فيما حلّ بالمدينة من دمارٍ شاملٍ. فنجد أحزان النبي نفسه وقد اتحدت روحه الرقيقة الحساسة مع شعبه المتألم، حتى يصعب أن نميز إن كان المتكلم هو النبي أم الأمة كلها.
أدركت الكنيسة القبطية عظمة هذه المرثاة حيث اختارتها -كما قلنا في المقدمة- ليرنم بها الأسقف أو الكاهن في بدء الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة العظيمة، في تذكار دفن السيد المسيح المصلوب وعبوره إلى الجحيم ليحمل النفوس التي ماتت على الرجاء، ويدخل بها إلى الفردوس.
لا نعجب أن بدأت هذه المرثاة تعدد الآلام التي احتملها إرميا بكونه رمزًا للسيد المسيح المتألم لحساب البشرية. لقد ذكر 25 نوعًا تقريبًا من الآلام، تمثل ما احتمله السيد نيابة عني، لكي يدخل بي إلى بهجة قيامته، ويرتفع بي إلى سماواته.
آلام المصلوب عنا
- رأى المذلة بقضيب غضبه [1].“حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه” (إش 53: 4-5). إنها مذلة حب مجيد! مذلة بهجة الخلاص! احتمل المذلة ليهبني الشركة في المجد الأبدي.
- قادني وسيّرني في الظلام ولا نور [2]. دخل مسيحنا نور العالم إلى ظلمة الجحيم ليحطمها، ويشرق بنوره وبهائه علينا، مبددًا ظلمتنا، حتى ننعم نحن بنوره الإلهي ساكنًا فينا.
- ردّ يده عليّ [3]، أي صار كمن في موقف العداوة، إذ احتل مركز آدم الأول وبنيه، الذين حملوا عداوة لله، أعطوه القفا لا الوجه، وأصروا على العصيان والتمرد. فقدم الطاعة لينزع عنا العصيان والعداوة وندخل في مصالحة. “ونحن أعداء صولحنا مع الله بموت ابنه (رو 5: 10).
- أبلى لحمي وجلدي [4]، لكي إذ يفنى إنساننا العتيق، يتجدد فينا الإنسان الجديد الذي على صورته (كو 3: 10).
- كسَّر عظامي [4]. فقد بدا على الصليب كأن كل هيكل جسمه قد انهار أو عظامه قد تحطمت، ليهبنا التمتع بعربون الجسد المُقام، القادر على تحدي الخطية.
- بنى عليّ أو ضدي [5]، صار الآب كعدوٍ له، لأنه يمثل البشرية، مع أنه واحد معه في الجوهر.
- أحاطني بعلقم ومشقة [5]، قَبِلَ كل مرارة، ليحمل مرارتنا، ويهبنا عوضًا عنها عذوبة الشركة معه.
- أسكنني في ظلمات، كموتى القِدَم [6]؛ وهو واهب الحياة والخلود احتمل الموت، ودُفن في قبرٍ، وصار بين الأموات، لكي يحطم الهاوية، ويحرر الأموات من قيوده الأبدية.
- سيج عليّ، فلا أستطيع الخروج [7]. هذا الذي قيل عنه إنه يحرر المسبيين (إش 61: 1)، صار كمن سباه القبر، وأحكم إغلاقه بحجرٍ كبيرٍ، ووضع عليه ختم.
- ثقّل سلسلتي [7]، ظن إبليس أنه قد ربطه ليدخل به إلى الهاوية كسائر بني آدم، ولم يدرك أنه نزل بإرادته لكي يحررنا من قيود الخطية.
- يصد صلاتي [8]؛ على الصليب صرخ كمن يستغيث، فسخر به الصالبون، ولم يدركوا أنه ابن الله الوحيد القابل الصلوات، صُلب حتى تصير لنا نحن فيه دالة البنوة لدى الآب، ونظهر أمام عرش مجده.
- سيَّج سبلي، وأغلق طرقي المسلوكة [9]، فقد ظنت قوات الظلمة أنه سقط في فخٍ لا خلاص منه، مع أنه هو الطريق الذي يهبنا ذاته، يفتح أمامنا أبواب السماء، ويدخل بنا إلى الاتحاد مع الآب.
- هو لي دُب كامن، وأسد في مخابئ [10]، ظن إبليس الأسد الزائر لكي يفترسنا (1 بط 5: 8)، أن الآب سيفترس يسوع. ولم يدرك أنه الابن الوحيد، الأسد الخارج من سبط يهوذا، به نحطم إبليس وننعم بسلطانٍ عليه.
- ميّل طرقي ومزقني [11]. يقول النبي إشعياء: “حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا” (إش 53: 4). نزل إلينا ليهبنا الاستقامة، ويصير لنا برًّا.
- جعلني خرابًا، خلال صلبه كشف عن ما بلغناه من دمارٍ، ليهبنا عدم فساده عوض فسادنا.
- صوّب سهمه عليّ [12]، بدا كأن الآب قد صوّب سهمه عليه، بينما قدم السيد المسيح نفسه سهم الحب الذي يجرح القلب فيشفيه من الجحود.
- أدخل في كليتي نبال جعبته [13]. تشير الكلية إلى العاطفة، وكأنه على الصليب تحطمت كل عواطفه وأحاسيسه، بينما وهبنا بالصليب عواطف مقدسة نحو الله والناس عوض تلك التي حطمتها نبال الخطية.
- صرت ضُحكة لكل شعبي [14]، قيل عنه: “وكان الشعب واقفين ينظرون، والرؤساء أيضًا معهم يسخرون به، قائلين: خلص آخرين، فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله” (لو 23: 35). بصليبهننعم نحن بأمجاد سماوية.
- أشبعني مرائر، وأراني أفسنتينا [15]. ذاق المر عنا، لكي يقدم لنا جسده ودمه حياة أبدية متهللة.
- جرش بالحصى أسناني [16]،لكي أتلذذ بوصاياه بكونها أحلى من العسل والشهد.
- كبسني بالرماد [16]، فأتمتع بالوليمة السماوية.
- قد أبعدت عن السلام نفسي [17]، ليصير هو نفسه سلامي الحقيقي.
- بادت ثقتي ورجائي من الرب [18]، قبل السيد المسيح أن يبدو كمن هو بلا رجاء في أعين صالبيه، ليهبني الرجاء أن أصير مسكنًا للثالوث القدوس، يعمل فيّ، ويهبني النصرة.
- ذكر مذلتي وتيهاني [19]، فصارت لي أمجاد سماوية، وانفتحت أبواب السماء أمامي.
- انحنت نفسي [20]، لكي يهبني أن تنتصب نفسي، فلا تتطلع إلى الأرضيات بل تنطلق نحو العلويات السماويات.
شخص الرب المخلص
إن كانت هذه المرثاة قد فاضت بالكشف عن جراحات السيد وآلامه، لكي يُظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة، فقد كشف عن حقيقة سمات شخصية الرب المخلص:
1. رحوم [22، 32]. |
2. رءوف. |
3. مخلص وأمين [23]. |
||||
4. طيب وصالح [25]. |
5. منقذ [26]. |
6. بار وعادل [30]. |
||||
7. طويل الأناة [31]. |
8. محسن [22]. |
9. لا يذل البشر ولا يحزنهم [33]. |
||||
10. يهتم بالبشر وينظر إليهم من السماء [50]. |
11. سامع الصلوات [56]. |
|
تُختم هذه المرثاة بصلاة: “رد لهم جزاءً يا رب حسب عمل أياديهم، أعطهم غشاوة قلب. لعنتك لهم. اتبع بالغضب، وأهلكم من تحت سماوات الرب” [64-66].
1. آلام السيد المسيح 1 – 21
أنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ [1].
من جهة مشاعر الشعب نحوه، الكل من ملوك وكهنة وأنبياء كذبة وشعب، أذاقه مرارة المرّ، من سجن ومؤامرات لقتله وإلقاء في الجب ومقاومة لنبوَّته، ومع ذلك كان يحبُّهم! أقول، إن سيطرة روح الرب على إرميا وشعوره بالأبوَّة، وفهمه لرسالته، وإدراكه لقيمة أولاده الروحيِّين، جعله يشعر بضيقاتهم ويتألَّم لآلامهم ولو لم يشعروا هم بها، فصار في مذلةٍ حين سقطوا تحت ذل السبي..
بالنسبة لإرميا النبي، في مشاعر الأبوَّة الصادقة يدرك أن مرارة الشعب في أثناء السبي نصيبه هو، مع أنه حذرهم مرة ومرات، لكنَّه كأب يشعر بمرارة حالهم كما لو كان هذا حاله هو. لذلك رفض بإباء أن تُعطى له كرامة في بابل، مصرًا أن يبقى مع الشعب مذلولًا، صارخًا إلى الله في مرارة نفسه، قائلًا: “أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الذي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ” (مرا 3: 1). من هو هذا الرجل إلا كلمة الله الذي تجسد ليحمل كل آلامنا عنا، فرأى مذلة، وتحمل قضيب سخط الآب عوضًا عنا.
يتحدث إرميا في هذه المرثاة باسم ذاك الذي حمل المذلة عن البشرية كلها. قبل تجسد الكلمة كان آدم الأول يُحسب البكر بين بني البشر، وبسقوطه زاغوا وفسدت طبيعتهم، وانهارت إرادتهم، وتشوه مفهومهم عن الله، إذ نظروا إليه كعدوٍ، فصاروا تحت الغضب الإلهي. جاء آدم الثاني ليحتل مكانه، يقبل أن يتمم المصالحة بدمه الثمين. هو ابن الله الوحيد الذي به يُسر، يضمنا إليه فننعم بمسرة الآب لنا.
صار إنسانًا بالحقيقة، وقَبِلَ المذلة وتألم، أخذ مالنا، لنأخذ نحن ما له.
“قضيب سخطه”: يترجمها البعض العصا الثقيلة لسخطه أو غضبه، وكأن الله لم يستخدم السيف لقتل كل شعبه للتدمير الكامل، وإنما عصا التأديب الثقيلة لتدربيهم وإصلاحهم (عب 12: 7-11).
في نفس الوقت يشير إلى جانب من جوانب الصليب، بكونه ذبيحة إثم. حقًا إنه ذبيحة رضا ومسرّة لدى الآب الذي أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16). هذا الصليب الذي هو قضيب سخطه، قبله كلمة الله، بل وهو موضوع مسرّته، أطاع حتى الموت موت الصليب. حمل الصليب أيضًا جانبًا آخر، وهو الطاعة للآب.
* ليس له شكل ولا جمال في أعين اليهود، أما بالنسبة لداود فهو أبرع جمالًا من بني البشر (مز 45: 2). على الجبل (أثناء التجلي) كان بهيًا ومضيئًا أكثر من الشمس (مت 17: 2)، مشيرًا إلينا نحو سرّ المستقبل [1].
القديس غريغوريوس النزينزي
* ذاك الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر رآه البشر على الصليب بلا شكل ولا جمال؛ كان وجهه منكسًا، ووضعه غير لائق. مع هذا فإن عدم الجمال هذا الذي لمخلصك أفاض ثمنًا لجمالك الذي في الداخل، فإن مجد ابنة الملك من داخل (مز 45: 2) [2].
القديس أغسطينوس
* قدر أن يحتمل الإهانة لكونه محترمًا، لأنه عندما يُهان من هو مكرم لا يُحسب هذا إهانة.
إنها إهانة لمن أعماله هي خزي، فلو توقفوا عن إهانته فهو مهان وساكت.
إذًا، إن أهين المكرم، ويُسخر منه وهو غير مستحق ينتصر بين المتميزين.
لو كانوا قد تفلوا في وجه آدم، لكانت إهانة له وخزيًا، لأنه تجاوز الوصية.
وكان يُسقطه الخزي والبصاق اللذين يستحقهما… لأنه خجل واتضع بذنبه.
وبما أن ربه أشفق على الضعيف، فقد دخل وقبل الخزي بدلًا منه، وإذ لم يذنب لم يكن يخجل.
كان يهان ويُسخر منه ولم يكن يتوجع: عندما يُهان من ليس مذنبًا فهذا مجد له.
كان يُشتم ويضرب ويهان وهو هادئ ولطيف ومتواضع ونقي وغير مضطرب [3].
القديس يعقوب السروجي
قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ، وَلاَ نُورَ [2].
بالنسبة لإرميا وضعوه في جُب مظلم، وبالنسبة للشعب، فإنهم إذ رفضوا الله حرموا أنفسهم من نوره، وصاروا يتخبطون في الظلمة. أما بالنسبة للسيد المسيح فقد أراد عدو الخير أن يحبس النور ويطفئه في قبرٍ بعد موته، ولم يدرك أن النور يبدد الظلمة.
بقوله: “قادني وسيرني” يُعلن أنه جاء ليطيع الآب وهو واحد معه في ذات الجوهر، حتى بتمتعنا بالعضوية في جسده، لا نعود نُحسب أبناء المعصية، بل أبناء الطاعة. لقد أراد أن يخلصنا، لكنه حقق الخلاص من أجل طاعته لأبيه، لنحمل شركة سمة الطاعة التي له.
ما معنى “في الظلام، ولا نور”. إن كان الظلام يشير إلى الضيق الشديد، والنور يشير إلى الازدهار، فإنه لم يحقق الخلاص وهو في سماواته بإصدار أمرٍ بالعفو، إنما بدخوله طريق الآلام حتى الموت موت الصليب.
هذا وقد أعلن عن نفسه أنه نور العالم، فإذ صرنا نحن ظلمة، قبِلَ أن يحمل آثامنا لكي يبدد الظلمة التي تسللت إلى طبيعتنا، ويهبها من نوره وبهائه، فتستطيع أن تشاركه مجده الأبدي.
كأنه يقول: قادني إلى ظلمة القبر، لكي بقيامتي أهب الجالسين في الظلمة التمتع بالنور السماوي.
الله نور، ومن يلتصق به يسلك في النور حسنًا (1 يو 1: 7). أما من يعطي القفا لله فيسلك في الظلمة (عا 3: 3).
* نحن ننظر ونتعجب بالظافر الذي وقف في المحكمة. ابن الأحرار الذي لُطم على خده،
الشمس الذي احتضن العمود (الذي رُبط السيد حوله ليُجلد)…
النار التي تُجلد بالسياط (مت 27: 26)،
النور الذي تحتقره الظلمة (يو 8: 12؛ 1: 5)،
اللهيب يُطعن بالحربة (يو 19: 34).
مكلل الشمس بالأشعة، وُضع على رأسه إكليل شوكٍ (مت 27: 29) [4].
القديس مار يعقوب السروجي
حَقًّا إِنَّهُ يَعُودُ وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ الْيَوْمَ كُلَّهُ [3].
بالنسبة لإرميا النبي كانت حياته كلها، إلى آخر نَفَسْ له سلسلة لا تنقطع من المتاعب والضيقات حتى من أهل قريته عناثوث.إذ كانوا يتطلعون إليه كإنسان متشائم على الدوام، يحطّم نفسية القادة والجيش والشعب، وإن ما يهدد به إنما هو كلام. اُتهم كخائنٍ لوطنه، لا يستحق حتى الحياة في وسط مجتمعه!
أما بالنسبة للسيد المسيح فإن ما حلّ به منذ الحبل به إلى دفنه في القبر، إنما هو طريق الآلام والصليب. يبدو كأن الآب الذي بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، قد امتدت يده عليه بالضيقات، حتى يتحقق خلاص العالم.
بقوله “اليوم كله” يشير إلى حياته على الأرض، فهي سلسلة لا تنقطع من الآلام. كما يُقصد به يوم الصليب، حيث تكتلت الآلام من كل صنفٍ لتحل به.
أما بالنسبة لكل مؤمنٍ منا، فيبدو كأن الله ضدي، يؤدب يومًا فيومًا، لكنه لن يوقف حبه لي، فهو ليس ضدنا بل ضد خطايانا.
أَبْلَى لَحْمِي وَجِلْدِي.
كَسَّرَ عِظَامِي [4].
بالنسبة لإرميا فإلى وقت كتابة هذه المراثي لم نسمع عنه أن جسمه وجلده قد بليا، ولا أن عظامه قد انكسرت وتبعثرت، فالحديث هنا لا يؤخذ بالمعنى الحرفي. نفس الأمر بالنسبة للسيد المسيح، فإن جسده لم يرَ فسادًا، وعظامه لم تنكسر واحدة منها. لكن ما حلّ به من متاعب وجلد وإهانات وصلب لا يُمكن وصفه، كأن جسمه وجلده قد بليا تمامًا، وعظامه لم تعد لها قوة؛ صارت كأنها قد انسحقت وتبعثرت! الآلام التي حلت به جعلته كإنسانٍ غير قادر أن يحمل الصليب. كل الطريق، فأتوا إليه بمن يحمل معه الصليب.
بالحقيقة احتمل آلامًا لا تُحتمل، حتى لا يترك لإنسانٍ أن يعتذر بآلامه. لقد دفع السيد الثمن غاليًا لكي يهبنا المجد السماوي، للنفس والجسد معًا!
يشبه النبي الشعب برجلٍ مُسِنٍّ جلده مجعّد، لا أمل في إصلاحه، بل وعظامه قد كُسرت، فلا يستطيع التحرك.
يرى بعض الآباء أن التلاميذ وجماعة المؤمنين هم عظام السيد المسيح، فقد تبعثروا في ضعفٍ في لحظات الصلب، لكنهم بالقيامة اجتمعوا كجسدٍ واحد لم تنكسر منه عظمة واحدة.
* “تبعثرت كل عظامي” (مز 22: 14). بالرغم من أن عظام جسمه لم تتبعثر، ولم يُكسر منها واحدة. لكنه إذ تحققت القيامة، قيامة جسد المسيح الكامل الحق، فإنه يجتمع معًا أعضاء جسد المسيح الذين يكونون في ذلك الوقت عظامًا جافة، كل عظم من عظمه، فيلتصق الكل ويرتبط معًا (لأن من كان عاجزًا عن الترابط معًا لن يبلغ الإنسان الكامل)، وهكذا يبلغون إلى قياس ملء قامة المسيح. حينئذ يصير الأعضاء الكثيرون جسدًا واحدًا، مع كثرتهم يصير الكل أعضاء الجسد الواحد[5].
العلامة أوريجينوس
* لقد سُحق وجُرح، لكنه شَفي كل مرض وكل ضعف [6].
القديس غريغوريوس النزينزي
بَنَى عَلَيَّ (ضدي)،
وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ [5].
لعله يقصد هنا المتاريس والاستحكامات التي قام الكلدانيون ببنائها حول أسوار مدينة أورشليم للهجوم على الهاربين منها، أو للاستعداد للاستيلاء على المدينة متى أتيحت لهم الفرصة أثناء حصارهم لها.
هكذا ظن عدو الخير إبليس خلال قوات الظلمة التي بذلت كل الجهد، ووضعت كل الخطط ألا يفلت السيد المسيح من الموت، بل وحتى بعد موته ودفنه طلبوا حراسة مشددة على القبر، ووُضع ختم حتى لا يدَّعى تلاميذه أنه قام كما سبق وقال.
حوصرت المدينة حتى سقطت. أما بالنسبة لإرميا فكرمزٍ للسيد المسيح، فحاصره الجميع: الملك والكهنة ورجال الدولة والأنبياء الكذبة والشعب حتى أهل قريته اتهموه بالخيانة الوطنية.
بنى عليّ أو ضدي [5]، صار الآب كعدو لابنه وحيد الجنس، لأنه يمثل البشرية الساقطة مع أنه بلا خطية وحده، وهو واحد مع الآب في الجوهر.
“وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ” [5]. سبق أن حذرهم موسى النبي من الانحراف وراء الآلهة الغريبة، على مستوى الفرد أو الجماعات، قائلًا: “لئلا يكون فيكم رجل أو امرأة أو عشيرة أو سبط قلبه اليوم منصرف عن الرب إلهنا، لكي يذهب ليعبد آلهة تلك الأمم، لئلا يكون فيكم أصل يثمر علقمًا وأفسنتينا” (تث 29: 18). وأيضًا يقول إرميا النبي: “أسقانا ماء العلقم، لأننا قد أخطأنا إلى الرب (ار 8: 14). كما يحذرنا معلمنا بولس: “ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله، لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع انزعاجًا، فيتنجس به كثيرون” (عب 12: 15). فإن الخطية تثمر “علقمًا وأفسنتينًا“. وإذ حمل السيد المسيح خطايانا، قال على لسان المرتل: “يجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا” (مز 69: 21).
* حتى إن وجد جذر من هذا النوع (المُرّ) لا تدعه ينمو بل اقطعه، حتى لا يحمل ثمره الخاص به، وحتى لا ينجس الآخرين أيضًا ويفسدهم.
بسبب صالح دعا الخطية مرارة، فإنه لا يوجد شيء ما أكثر مرارة من الخطية [7].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* من بين الأمور الأخرى التي تنبأوا بها عنه، مكتوب: “يجعلون في طعامي علقمًا (سمًا)، وفي عطشي يسقونني خلًا” (مز 69: 21). نحن نعرف في الإنجيل كيف حدثت هذه الأمور. أولًا قدموا علقمًا. أخذه وذاقه وتفله. فيما بعد وهو على الصليب معلقًا، فلكي تتحقق هذه النبوات قال: “أنا عطشان” (يو 19: 28). أخذوا إسفنجةمملوءة خلًا ووضعوها على قصبة، وقدموها له حيث كان معلقًا. أخذها وقال: “قد أكمل” (يو 19: 30). ماذا يعني: “قد أكمل”؟ كل ما قد تنبأوا به عني قبل آلامي قد تحقق [8].
القديس أغسطينوس
أَسْكَنَنِي فِي ظُلُمَاتٍ كَمَوْتَى الْقِدَمِ [6].
لعله يشير هنا إلى موقف الرؤساء حين كان يحذر بالسقوط تحت السبي ، إذ قالوا للملك: “ليُقتل هذا الرجل، لأنه بذلك يُضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة وأيادي كل الشعب”. فسلمه بيدهم، فألقوه في جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن، ولم يكن في السجن ماء، بل وحل، فخاص إرميا في الوحل (إر 38: 1-6).
نبوة عن دفن السيد المسيح في قبرٍ (مي 7: 8)، وبالنسبة لإسرائيل فقد اختاروا الظلمة ورفضوا النور الإلهي.
“أسكنني في ظلمات كموتى القدم”. يا للعجب فإن ذاك الذي هو القيامة والحياة، والذي بسلطانه أقام موتى، من أجلنا يدخل إلى الموت كما في الظلمات. يقول القديس مار أفرام السرياني إنه الحمل الذي افترسه الموت كذئبٍ، لكن لم يكن ممكنًا للموت أن يحبسه فيه، ففجرَّ معدة الموت، وأطلق الذين سبق أن افترسهم وحبسهم في معدته.
* سلم الرب جسده للموت، لكي نتقدس خلال مغفرة الخطايا التي تتحقق برش دمه…
يلزمنا أن نشكر الرب من الأعماق، لأنه أخبرنا عن الأمور الماضية، وأعطانا حكمة بخصوص الأمور الحاضرة، ولم يتركنا بغير فهمٍ بخصوص الأمور المستقبلة [9].
الرسالة إلى برناباس
* بالموت أقام الموتى من الموت، إذ حمل اللعنة مخلصًا إيانا منها [10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
سَيَّجَ عَلَيَّ،
فَلاَ أَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ.
ثَقَّلَ سِلْسِلَتِي [7].
إذ حدث السبي البابلي صار يهوذا كمن في سجن مغلق لا رجاء له في الخروج منه. “سيَّج حولي“، كسجين مجرم مقيد بالسلاسل حتى لا يهرب. لقد اقتادهم الكلدانيون مربوطين بسلاسل كسبايا إلى بابل.
أحكم الكلدانيون الحصار حول أورشليم، حتى صار مصيرها الدمار الشامل، لا يفلت أحد من الجوع والأوبئة في الداخل، والسيف في الخارج. وإن أرادوا بقاء أحد لخدمتهم ففي مذلة يقودونه إلى السبي، أو يتركونه في أعمال حقيرة مقابل جزية ثقيلة.
قيل عن مملكة إسرائيل الزانية: “لأن أمهم قد زنت… قالت: أذهب وراء محبيّ الذين يعطون خبزي ومائي وصوفي وكتاني، زيتي وأشربتي، لذلك هانذا أسيج طريقكِ بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها” (هو 2: 5-6). هذا قد يليق بزانية تُصر على الخروج من وراء رجلها. أما أن يُحاط السيد المسيح بالأشرار كما بسياجٍ، ويربط كمن يود الهروب، وهو القدوس الذي جاء بإرادته ومسرة أبيه لخلاص العالم، فهذا يمثل صورة غاية في الألم، الأمر الذي قبله برضاه حبًا فينا.
قبل السيد المسيح أن يُحاكم ويصلب، لكي نتبرر فيه ونتحرر.
“سيَّج عليّ، فلا استطيع الخروج، ثقل سلسلتي”. بلا شك أن موت الصليب، من أصعب أنواع الموت. حسبوه قد سيَّج الله حوله فلا يستطيع أن يخلص نفسه من الموت، ولا أن يخرج من الهاوية بل يبقى مربوطًا في سلاسلها.
“كان المجتازون عليه يسخرون به قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك. وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. إن كان هو ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتّكل على الله فلينقذه إن أراده” (مت 27: 40-43).
* رأوه قائمًا من القبر ومع ذلك لم يريدوا أن يؤمنوا أنه كان قادرًا أن ينزل من خشبة الصليب. أين هو افتقاركم للإيمان أيها اليهود؟ فإنني أستدعيكم أنتم أنفسكم قضاة لأنفسكم! كم بالأكثر يكون مستحقًا للدهشة أن يقوم ميت من بين الأموات عن أن يختار الحيّ أن ينزل من الصليب! لقد طلبتم أمرًا صغيرًا فحدث ما هو أعظم، لكن افتقاركم للإيمان لم يكن ممكنًا أن يُشفى بالآيات أكثر مما رأيتم[11].
القديس جيروم
* بالحق أراد المخلص ربنا أن يُعرف مخلصًا لا بخلاص نفسه بل بخلاصه الآخرين. فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بإبراز مهارته مع المرضى. هكذا الرب بكونه المخلص لا يحتاج إلى خلاص نفسه. فليس بنزوله من على الصليب يصير مخلصًا بل بموته. فإنه بالحق يتحقق خلاص عظيم للبشرية بموته أكثر من نزوله عن الصليب [12].
القديس البابا أثناسيوس الرسولي
أَيْضًا حِينَ أَصْرُخُ وَأَسْتَغِيثُ، يَصُدُّ صَلاَتِي [8].
إذ صرخوا حين سقطوا تحت السبي، لم يسمع الله لصرخاتهم، لأنها لم تكن عن توبةٍ صادقة، واشتياق للرجوع إلى الله.
إذ صار السيد المسيح ممثلًا البشرية، يدفع ثمن عصيانها، صرخ: “إلهي إلهي، لماذا تركتني؟”، صار كمن قد صُدت صلاته!
* لم يكن المسيح متروكًا من الآب ولا من لاهوته كما يظن البعض، أو كما لو كان خائفًا من الآلام فانفصل بلاهوته عن ناسوته أثناء آلامه…؛ وإنما كما قلت إنه كان ينوب عنا في شخصه. نحن كنا قبلًا متروكين ومرذولين، أما الآن فبآلام ذاك الذي لا يسوغ له أن يتألم (حسب اللاهوت) أقامنا وخلصنا [13].
القديس غريغوريوس النزينزي
* ماذا يعني ربنا؟ الله لم يتركه إذ هو نفسه الله… فلماذا استخدم هذه الكلمات لو لم نكن نحن حاضرين (فيه)، لأن الكنيسة هي جسد المسيح (أف 1: 23)؟ ماذا يقصد بقوله: “إلهي إلهي لماذا تركتني” إلا أن يستلفت أنظارنا، قائلًا لنا: “هذا المزمور إنما كُتب عني؟”
* بموت البار الذي تم بمحض اختياره، نزع موت الخطاة الذي حدث بالضرورة كحكمٍ نستحقه [14].
القديس أغسطينوس
* اختار أن يمشي في جميع طرق البشر حتى دخل في باب الموت ليحل آدم! بدأ بالميلاد وكمل الطريق حتى التقى بالموت!
سار بتواضعٍ بوطأة آدم، إلى حيث سقط آدم في أعماق الهاوية، فدخل هو وسقط من أجله وجذبه وخرج.
القديس يعقوب السروجي
سَيَّجَ طُرُقِي بِحِجَارَةٍ مَنْحُوتَةٍ.
قَلَبَ سُبُلِي [9].
بالنسبة لمن يرفض السير في طريق الله، فإن الله يسيج حوله ليعوقه عن السلوك في الشر، ويرجع إلى طريق الحق.
“لرجلٍ قدْ خفي عليْه طريقه، وقدْ سيّج الله حوْله” (أي 3: 23). لم يكن له أمل في تحسين حاله؛ لم يرَ بابًا للنجاة، ولا طريقًا يسلكه، إذ كان الله قد سيَّج حوله، فصار كمن في موضعه عاجزًا عن الحركة. وكما قيل في هوشع: “هأنذا أُسيج طريقك بالشوك، وأبني حائطها، حتى لا تجد مسالكها” (هو 2: 6).
“سيج طرقي بحجارة منحوته. قَلَبَ سبلي”، إنه كمن وُضع في طريقه عوائق لا يمكن أن تُقهر، وكمن يُمنع بكل الطرق من وجود منفذٍ للخلاص مما هو فيه.
هُوَ لِي دُبٌّ كَامِنٌ،
أَسَدٌ فِي مَخَابِئَ [10].
إذ تحل الضيقة بالبار، يسبح الله ويطلب مراحمه، أما الشرير فيحسبه دبًا كامنًا. أو أسدًا في مخابئ يطلب افتراسه.
إذ قبل السيد المسيح بسرورٍ أن يحمل عار الصليب عوضًا عنه، يرى فيما حلّ به كإنسانٍ كأن دبًا أو أسدًا يود افتراسه. إنه تألم حقًا، ولم تكن الآلام بلا تعب لجسده ونفسه كإنسانٍ، أما من جهة خطته مع الآب وتدبيره الإلهي فهي موضع سروره!
* أنا نفسي كنت فريسة الأسد، عندما أمسك بي وقادني للموت، وهو يزأر: “أصلبه، أصلبه” (يو 19: 6).
* “أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني” (مز 22: 12). هؤلاء هم الشعب وقادته؛ الشعب أو الثيران التي بلا عدد؛ وقادتهم الثيران القوية.
القديس أغسطينوس
مَيَّلَ طُرُقِي وَمَزَّقَنِي.
جَعَلَنِي خَرَابًا [11].
بقوله: “ميَّل طرقي” يعني أنه يبدو كمن بدد كل مشوراته وخططه. كمن يجعله ينحرف في طرق خطرة، فيتعرض للوحوش المفترسة.
يا للعجب ذاك القدوس الذي بلا لوم في تواضعه سمح للأشرار أن يتهموه بأن طرقه ملتوية وشريرة، ومختل (مر 3: 21)، بل وحسبوه بعلزبول رئيس الشياطين (لو 11: 15). أية صورة أبشع من هذه؟
* اِحتمل كل هذه الأمور لكي نسلك على إثر خطواته، ونحتمل هذه السخريات التي تقلق أكثر من أي توبيخ [15].
القديس يوحنا الذهبي الفم
مَدَّ قَوْسَهُ وَنَصَبَنِي كَغَرَضٍ لِلسَّهْمِ [12].
خلال الحب الحقيقي بمسرته قَبِلَ السيد المسيح الصليب كسهمٍ، يُجرح به من أجل أحبائه. وفي نفس الوقت يخترق المصلوب قلوبنا فتتمتع بجراحات الحب الإلهي الشافية. تناجيه النفس البشرية، قائلة: “أنْعشوني بالتّفّاح، فإنّي مجروحة ٌحبًّا” (نش 2: 5). سرّ جراحات النفس بالحب، كما يقول العلامة أوريجينوس[16]، هو المسيح نفسه، الذي هو كلمة الله الحيّ الفعّال، الأمضى من سيف ذي حدين، يدخل إلى أعماق النفس ويجرحها بالحب الإلهي.
* إن التهب أحد ما في أي وقت بالحب الصادق لكلمة الله، إن تَقّبل أحد الجراحات الحلوة لهذا “السهم المختار” كما يسميه النبي، إن كان قد جُرح أحد برمح معرفته المستحقة كل حبٍ حتى أنه يحن ويشتاق إليه ليلًا ونهارًا، فلا يقدر أن يتحدث إلاَّ عنه، ولا ينصت إلاَّ إليه، ولا يفكر إلاَّ فيه، ولا يميل إلى أية رغبة أو يترجى سواه. متى صار الأمر هكذا تقول النفس بحق: “إنيّ مجروحة حبًا”. إنها تتقبل جرحها من ذاك الذي تقول عنه: “جعلني سهمًا مختارًا، وفي جعبته يخفيني” (إش 49: 2).
يليق بالله أن يضرب نفوسنا بجرحٍ كهذا، يجرحها بمثل هذه السهام والرماح، يضربها بمثل هذه الجراحات الشافية…
مادام الله “محبة”، فإنهم يقولون عن أنفسهم: “إنيّ مجروحة حبًا”. حقًا إنها دراما الحب إذ تقول النفس: إنيّ تقبلت جراحات الحب!
النفس التي تلتهب بالشوق نحو حكمة الله، أي التي تقدر أن تنظر جمال حكمته، تقول بنفس الطريقة: “إنيّ مجروحة بالحكمة”. والنفس التي تتأمل سمو قدرته، وتدهش بقوة كلمته، يمكنها القول: “إنيّ مجروحة بالقدرة”. أظن أن مثل هذه النفس هي بعينها التي قالت: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أجزع؟!” (مز 26). والنفس التي تلتهب بحب عدالة الله، وتتأمل عدل تدابير عنايته، تقول بحق: “إنيّ مجروحة بالعدل”. والنفس التي تتطلع إلى عظمة صلاحه وحنو محبته تنطق أيضًا بنفس الطريقة. أما الجرح الذي يشمل هذه الأمور جميعها فهو جرح الحب الذي به تعلن العروس: “إنيّ مجروحة حبًا” [17].
العلامة أوريجينوس
* يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة (1 يو 4: 8)، فقد صوب ابنه الوحيد “السهم المختار” (إش 49: 2) نحو المختارين، غارسًا قمته المثلثة في روح الحياة.
رأس السهم هو الإيمان، الذي يربط ضارب السهم بالمضروبين به، وكأن النفس ترتفع بمصاعد إلهية، فترى في داخلها سهم الحب الحلو يجرحها. متجملة بالجروح…
إنه جرح حسن وألم عذب، به تخترق “الحياة” النفس. إذ بواسطة دموع “السهم” تفتح النفس الباب الذي هو مدخلها [18].
القديس غريغوريوس النيسي
* ليت غير الأصحاء يجرحون، فإنهم إذ يجرحون كما يليق يصيرون أصحاء! [19]
القديس أغسطينوس
أَدْخَلَ فِي كُلْيَتَيَّ نِبَالَ جُعْبَتِهِ [13].
* يليق بنا أن نفهم الكليتين بمعنى الأفكار العميقة والرغبات الداخلية… أتطلع دومًا إلى الكليتين أنهما تشيران إلى الإدراك الحسِّي والفكر السليم… هذه هي عادة الكتاب المقدس عندما يقصد الإعلان عن أمر سرِّي مخفي وسرائري يقول: “يا فاحص القلب والكلى، يا الله” (راجع مز 7: 10) [20].
القديس ﭽيروم
هذا يشير إلى موته على الصليب، لأن الصليب يمس أعماق محبة السيد المسيح لنا، فقد قدم ذاته فدية وخلاصًا عن جراحات حبه الفائق من نحونا.
حقًا بالصليب يحملنا روح الله القدوس كما إلى أعماق قلب السيد المسيح -إن صح التعبير- فنتلامس مع الحب الإلهي في أروع صوره، وفي نفس الوقت إذ نحمل المصلوب في أعماقنا ننعم نحن بنبال جعبته فنشتهي أن نصلب معه، وأن نعمل على الدوام من أجل خلاص كل نفس.
صِرْتُ ضُحْكَةً لِكُلِّ شَعْبِي،
وَأُغْنِيَةً لَهُمُ الْيَوْمَ كُلَّهُ [14].
هذه صورة للساخرين بالسيد المسيح من القادة والشعب، بل وحتى من اللصين اللذين كانا عن يمينه ويساره، إذ كانا يعيرانه. يكشف النبي هنا عن السيد المسيح أنه مات موت العار، حيث كان القادة والشعب يهزأون به (مت 27: 39-44).
* “عار عند البشر ومحقر الشعب” (مز 22: 6). تواضعي جعلني موضع سخرية البشر، فيستطيعون القول باستخفاف وبروح الإساءة: “أنت تلميذ ذاك” (يو 9: 28)، وهكذا يقودون الغوغاء إلى احتقاره.
“كل الذين يرونني يسهزئون بي” (مز 22: 7). كنت أضحوكة كل من ينظر إليّ.
“يفغرون الشفاه ويُنغِضون الرأس” (مز 22: 7). صمتت قلوبهم، فنطقوا بشفاههم وحدها.
القديس أغسطينوس
أَشْبَعَنِي مَرَائِرَ،
وَأَرْوَانِي أَفْسَنْتِينًا [15]
في محبته الإلهية الفائقة احتمل كلمة الله المتجسد كل مرارة لكي يلجأ إليه كل مُرّ النفس، فيجد راحة فيه. بالحب صار مسيحنا مُرّ النفس لحسابنا، وبالتوبة نرجع إليه في مرارة نفسٍ من أجل خطايانا، فننعم بعذوبةٍ لا يُعبّر عنها.
* تعال، انظر الوليمة التي وضعتها (الأمة اليهودية) أمامه. أحضرت المُر، مزجت الخل، استلت السيف. عوض المن أعطته الخل. عوض المياه المرة التي جعلها لها حلوة، وضعت له المُر في المياه الحلوة.
* انظر في المسيح، كم أحتمل من الأثمة؟!
ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه!
كيف تجاسرت أيها اللسان أن تنضح بالبصاق…؟!
كيف احتملتِ أيتها الأرض هزء الابن…؟!
نظرة مخوفة، مملوءة دهشًا، أن ينظر الإنسان الشمع قائمًا ويتفل في وجه اللهيب…
وهذه أيضًا من أجل آدم حدثت، لأنه كان مستحقًا البصاق لأنه زل! وعوض العبد قام السيد يقبل الجميع!
قدم وجهه ليستقبل البصاق، لأنه وعد في إشعياء أنه لا يرد وجهه عن احتمال خزي البصاق…!
شفق سيد (آدم) على ضعفه، ودخل هو يقبل الخزي عوضًا عنه!
القديس يعقوب السروجي
* ينصت الآب إليك وأنت تتكلم في داخل نفسك، ويسرع لمقابلتك. عندما تكون لا تزال بعيدًا يراك ويركض.
إنه ينظر ما في داخل قلبك، ويُسرع حتى لا يؤخرك أحد، بل ويحتضنك.
“مقابلته لك” هي سبق معرفته، و”احتضانه لك” هو إعلان رحمته، وتعبير عن حبه الأبوي.
يقع على عنقك لكي يقيمك أنت الساقط تحت ثقل الخطايا، ولكي يرجعك إلى السماء إذ اتجهت إلى الأرض، فتطلب خالقك.
يقع المسيح على عنقك، لكي يخلص عنقك من نير العبوديَّة، فيحملك نيره الهين (مت 11: 30)…
يقع على عنقك بقوله: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم” (مت 11: 28).
هكذا يحتضنك الرب عندما تتوب [21].
القديس أمبروسيوس
وَجَرَشَ بِالْحَصَى أَسْنَانِي.
كَبَسَنِي بِالرَّمَادِ [16].
هنا تصوير لمرارة الآلام الشديدة غير المُحتملة، وكأن الآب قد سمح له أن يضع له حصى في فمه ليأكله بأسنانه، ورمادًا على رأسه علامة الحزن الشديد على ميتٍ، حتى صار كمن قد فقد كل أملٍ أو رجاءٍ.
احتمل هذا كله، ليقدم لنا كل عذوبة، إذ صار لنا سرّ بهجة وتهليل.
* ربنا، ليلبسْ تفكيري محبتك بتمييز، ويصف خبر محاكمتك بمحبة.
بالمحبة فقط يقدر الفم أن يتحدث عنك، لأن المحبة أيضًا سحبتك لتتألم لأجلنا (يو 3: 16).
محبة الآب العظمى هي قتل ابنه، لأنه أحب العالم حتى أنه أسلم وحيده.
كيف أحبنا بحيث أعطى ابنه للموت وخلصنا، لنتكلم إذا عن مخلصنا بنفس تلك المحبة.
للمحبة غصبٌ عظيم حيثما وُجدت، فلا توجد عند مقتنيها قوة أشد منها.
مَن كان يقدر أن يغصب الآب ليسلم ابنه، إلا المحبة التي هي أعظم من الكل كما هو مكتوب (يو 15: 13، 1 كو 13: 13).
بهذه العلامة يقترب الإنسان من الله الذي اقترب أيضًا منا بهذه (المحبة) وصار منا…
في ساعة القتل نزلت المراحم إلى المعركة، ولم تنتصر من بين كل المراحم إلا (مراحم) الابن.
انهزم الرؤساء (التلاميذ)، ولم يهرب الراعي من رعيته، ليعرف القطيع بهذا مَن الذي يحبه [22].
القديس يعقوب السروجي
وَقَدْ أَبْعَدْتَ عَنِ السَّلاَمِ نَفْسِي.
نَسِيتُ الْخَيْرَ [17].
من يتطلع إلى الصليب يظن أن الخطة قد وضعت بإحكام ليفقد المصلوب أي رجاء في الإنقاذ، بل وينسى كل سلامٍ قد سبق أن اختبره.
قَبِل السيد المسيح ذلك لكي بصليبه يهب سلامًا لنفوسنا مع أجسادنا خلال مصالحتنا مع الآب وتمتعنا بعطية روحه القدوس، كما صالح الشعب مع الشعوب، والأرض مع السماء، والبشر مع الطغمات السمائية. يقول الرسول بولس: “وليملك في قلوبكم سلام الله الذي إليه دعيتم في جسدٍ واحدٍ، وكونوا شاكرين” (كو 3: 15).
* من يطلب السلام يطلب المسيح، لأنه هو سلامنا (كو 1: 20)، الذي يجعل الاثنين واحدًا (أف 2: 14)، صانعًا السلام بدم صليبه سواء على الأرض أو في السماء[23].
القديس باسيليوس الكبير
* يكون كمال السلام حيث لا توجد مقاومة. فأبناء الله صانعو سلام، لأنه ينبغي للأبناء أن يتشبَّهوا بأبيهم. إنهم صانعو سلام في داخلهم، إذ يسيطرون على حركات أرواحهم ويخضعونها للصواب، أي للعقل والروح، ويُقمعون شهواتهم الجسديَّة تمامًا.
هكذا يظهر ملكوت الله فيهم، فيكون الإنسان هكذا: كل ما هو سامٍِ وجليل في الإنسان يسيطر بلا مقاومة على العناصر الأخرى الجسدانيَّة…
هذا وينبغي أن يخضع ذلك العنصر السامي لما هو أفضل أيضًا، ألا وهو “الحق” ابن الله المولود، إذ لا يستطيع الإنسان السيطرة على الأشياء الدنيا، ما لم تَخضع ذاته لمن هو أعظم منها.
هذا هو السلام الذي يعطي الإرادة الصالحة، هذه هي حياة الإنسان الحكيم صانع السلام! [24]
القديس أغسطينوس
وَقُلْتُ: بَادَتْ ثِقَتِي وَرَجَائِي مِنَ الرَّبِّ [18].
كل من يتطلع إلى المسيح أثناء صلبه يظن كمن صار بلا رجاء، غير أنه بصليبه فتح لنا نحن الخطاة باب الرجاء، بل صار هو نفسه رجاءنا.
* بكونه إنسانًا يتكلم حاملًا مخاوفي، فإننا إذ نكون في وسط المخاطر نظن أن الله قد تركنا. لهذا كإنسان اكتأب، وكإنسان بكى، وكإنسان صُلب [25].
القديس أمبروسيوس
* لا تسقط في اليأس بسبب عثراتك. لست أقصد أنه يلزمك ألاَّ تشعر بالألم بسببها، وإنما يلزمك ألاَّ تحسبها غير قابلة للشفاء.
فإنه من الأفضل أن تكون جريحًا عن أن تكون ميتًا.
يوجد بالحق الشافي، ذاك الذي طلب على الصليب الرحمة لصالبيه، الذي غفر للقتلة عندما عُلق على الصليب.
جاء المسيح من أجل الخطاة ليشفي منكسري القلوب، ويضمد جراحاتهم. يقول: روح الرب عليَّ، لهذا مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأعتق المسبيين، لأُفتح أعين العميان (لو 4: 18)، ليقوي المتعبين بالغفران.
ويقول الرسول في رسالته: “جاء يسوع المسيح إلى العالم ليخلص الخطاة” (1تي 1: 15). ويشهد ربه أيضًا: “لم آت لأدعو أبرارًا، لأنه لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مر 2: 17) [26].
القدِّيس مار اسحق السرياني
ذِكْرُ مَذَلَّتِي وَتَيَهَانِي أَفْسَنْتِينٌ وَعَلْقَمٌ [19].
مجرد محاولة تصوير ما حلّ به يحمل ذلك نوعًا من المرارة كالأفسنتين والعلقم، بل وتنهار النفس وتنحني (مز 137: 1، 5).
* بالتأكيد أخذ مرارة حياتنا في جسم بشريته.
القديس أمبروسيوس
ذِكْرًا تَذْكُرُ نَفْسِي،
وَتَنْحَنِي فِيَّ [20].
أخطر عدو للنفس البشرية هو اليأس، وللأسف إذ يتذكر البعض تأديبات الرب لهم، عوض التأمل في محبته، يحل بهم اليأس من خلاصهم. إذ يتطلع الناس إلى المصلوب يظنون كأنه قد سقط في اليأس، وأحنى رأسه على الصليب كما في التراب أو القبر. هذا الفكر يُفسد نظرة البعض إلى الصليب، أما الرسول بولس فيرى في الصليب “قوة الله للخلاص” (1 كو 1: 18).
* لا تخجل من صليب مخلصنا بل بالأحرى افتخر به. لأن “كلمة الصليب عند اليهود عثرة، وعند الأمم جهالة”، أما بالنسبة لنا فخلاص (1 كو 2:1، 3). إنه عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهو قوة الله (1 كو 18:1،23). لأنه كما سبق أن قلت إنه لم يكن إنسانًا مجردًا ذاك الذي مات عنا، بل هو ابن الله، الله المتأنس…
من ينكر قوة المصلوب فليسأل الشياطين!
من لا يؤمن بالكلام فليؤمن بما يرى، فكثيرون صُلبوا في العالم، لكن الشياطين لم تفزع من واحدٍ منهم، لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذي صُلب عنا يُصعقون، لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب آثامهم، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الآخرين… “لأنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش” (إش 9:53؛ 1 بط 22:2). لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. لكن إشعياء قال أيضًا، ذاك الذي لم يكن حاضرًا معه بالجسد لكنه تنبأ بالروح عن مجيئه بالجسد.
ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا؟ فها هو بيلاطس نفسه الذي حكم عليه يقول: “لا أجد في هذا الإنسان علة” (لو 23:14) ولما أسلمه غسل يديه قائلًا: “أنا بريء من دم هذا البار”.
هناك شهادة أخرى عن يسوع البار الذي بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس، إذ بكَّت زميله منتهرًا إياه قائلًا: “أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله (لو 23:41)، لأن كلينا تحت قضائه[27].
القديس كيرلس الأورشليمي
أُرَدِّدُ هَذَا فِي قَلْبِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُو [21].
في الآيات السابقة تصوير لما حلّ بالسيد المسيح من الآم خاصته منذ القبض عليه في البستان حتى إنزال جسده لدفنه. الآن وقد نزل جسده للدفن، في الوقت الذي فيه انطلقت نفس السيد المسيح لتحرر الأسرى من الجحيم، أشرق نور الرجاء، وانكشفت مراحم الله الدائمة التجديد، والتي لن تفنى.
=في الطقس القبطي تبدأ الكنيسة أثناء قراءة هذه النبوة في بداية الساعة الثانية عشرة من الجمعة العظيمة تتحرك لتنزع علامات الحزن، وترتدي كل نفس ثياب الفرح والبهجة بالخلاص الذي تممه السيد المسيح على الصليب، وتحطيم متاريس الهاوية، ونزع سلطان إبليس وملائكته، ليحيا المؤمن في حرية مجد أولاد الله مادام ممسكًا بيد مخلصه.
إن كان القسم الأول من المرثاة وصف السيد المسيح كرجل آلام، خاصة وهو تحت المحاكمات الدينية والمدنية والصلب والموت والدفن، الآن وقد سلم السيد الروح، وبدأ نور الصليب يشرق، حلّ الرجاء في حياة المؤمنين به.
بموته وعبوره إلى الجحيم أطلق الأسرى، انقشعت السحابة، وبدأت خطة الله تتكشف. نغمة النبي بدأت تتغير، وعوض النظر إلى أحداث الصليب من الخارج بدأت بصيرته تنفتح لتدرك سرّ الصليب بكونه قوة الله للخلاص، وينبوع مراحم الله الفائقة تفيض كل صباح بلا توقف.
في المرثاتين السابقتين كان النبي يكشف عن آلامه التي كانت تتدفق من أعماقه كشاهد عيان لما حلّ بوطنه وشعبه. الآن وقد تحول نظره إلى حامل آلام البشرية في جسده بالصليب، انكشف أمامه سرّ الحب الإلهي، وامتلأ قلبه بالرجاء في الرب، وتلامس مع إحسانات الرب، وأدرك أن مراحمه لن تشيخ، بل تبقى تفيض مع كل صباح، جديدة في فاعليتها في حياة كنيسته والمؤمنين به.
2. الرجاء في مراحم الله 22-39
الرجاء الذي يعبر عنه إرميا النبي هنا، لا يقوم على التقليل من شأن الألم والبؤس الذي حل بالمدينة وشعبها. إنما يتحقق هذا الرجاء بتحويل البصيرة من الأحداث الظاهرة إلى الله وخطته ومعاملاته.
مفتاح هذا القسم هو “مراحمه لا تزول” [22]. فإن كان الله قد أقام عهدًا مع شعبه، إنما ليقدم لهم مع كل صباحٍ خبرات جديدة لمحبته ومراحمه.
ما أجمل عبارات الرجاء في اختبار النبي، فيقول:
- من أجل ذلك أرجو [21، 24].
- طيب هو الرب للذين يترجونه [25].
- يجعل في التراب فمه لعله يوجد رجاء [29].
إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ،
لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ [22].
تطلع أيوب إلى الحياة منذ ولادته أنها لعنة ونكبة له، وحسب الموت أعظم بركة كانت تحل عليه (أي 3: 11). على عكس هذا يقدم إرميا النبي وسط مرثاته المرة تسبحة شكر لله على “عطية الحياة“، فيقول: “إنه من إحسانات الرب أننا لم نمت من الرحم، ولم نفنَ” (مرا 3: 22).
* العالم تصونه العناية الإلهية، إذ لا يوجد مكان لا تدركه هذه العناية.
والعناية الإلهية هي تنفيذ مواعيد الكلمة الإلهية، الذي يهب شكلًا للمادة التي يتكون منها هذا العالم، وهو المهندس والفنان لهذا كله.
فالأشياء ما كان يمكن لها أن تأخذ جمالها لولا فطنة قوة الكلمة الذي هو صورة اللّه (الآب) وعقله وحكمته وعنايته.
القديس أنطونيوس الكبير
هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ.
كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ [23].
هذه هي إحساسات المسيحي الدائمة، يرى مراحم الله جديدة بالنسبة له كل صباح، فيشتهي أن يرد الحب بالحب، وكأنه في كل يوم يبدأ بلقاء جديد مع الله، إذ يقول في صلاة باكر: “لنبدأ بدأ حسنًا” .
العجيب أن القديس أغناطيوس الأنطاكي إذ كان في طريقه إلى روما للاستشهاد يقول: “إني أبتدئ أن أكون مسيحيًا!”
هذا هو عمل الروح القدس في حياة المؤمنين، يجعلنا نشعر في كل لحظة، كأنها بداية الحياة مع الله، وذلك كالأم في حبها لرضيعها الوحيد تتطلع إلى وجهه دائمًا كما لو كانت تراه لأول مرة.
لعله لهذا السبب أقام اليهود “عيد التجديد” الذي حضره السيد المسيح في أورشليم (يو 22:10)، وفي الطقس السرياني يحتفلون بالأحد الثاني من الصوم الكبير كأحد “تجديد الكنيسة” لكي يراجع الكهنة والشعب حياتهم في بدء الصوم، وكأنهم ينطلقون إلى علاقة جديدة مع الله.
تحولت حياة إرميا النبي إلى مراثٍ مرة، بسبب ما حلّ بالكهنة وكل القيادات الدينية والملك ورجال الدولة وكل الشعب. يصرخ قائلًا: “يا ليت رأسي ماء، وعينيّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قتلى بنت شعبي. يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين، فأترك شعبي، وأنطلق من عندهم، لأنهم جميعًا زناة جماعة خائنين” (إر 9: 1-2). “أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي. يئن فيَّ قلبي. لا أستطيع السكوت” (إر 4: 19). وسط هذه المرارة تطلع من بعيد إلى مجيء السيد المسيح مجدد حياة الإنسان، فتغنَّى قائلًا: “مراحمه لا تزول؛ هي جديدة في كل صباح، كثيرة أمانتك” (مرا 3: 22-23).
يطرح الله خطايانا في أعماق بحر محبته الغافرة، فلا يعود يذكرها. مع كل صباح نتطلع إليه كأبٍ غافرٍ لخطايا أبنائه، وساكب الحب في قلوبهم، يردهم دومًا إليه. إنه يطرح خطايانا كما في البحر الأحمر مع فرعون وجنوده، فلا يعود يذكرها. وكما قيل عن الإنسان التائب: “كل معاصيه التي فعلها لا تُذكر عليه؛ في برِّه الذي عمل يحيا” (حز 18: 22). ويقول الرب: “قد محوت كغيمٍ ذنوبك، وكسحابةٍ خطاياك. ارجع إليَّ، لأني فديتك” (إش 44: 22). “يعود يرْحمنا، يدوس آثامنا، وتطْرح في أعْماق الْبحْر جميع خطاياهمْ. (مي 7: 19)
تقول النفوس التائبة مع إرميا النبي: “مراحمه لا تزول؛ جديدة في كل صباح“، أما المعاندون فيلزمهم أن يترقبوا التأديب الإلهي في كل صباح. إن كان الله يهدد الخطاة المتهاونين والمستهترين بأن يوم التأديب قادم سريعًا، فإنه لا يود حزن البشر ومرارتهم، إنما يهدد لكي يتوبوا فيفتح لهم باب مراحمه الفائقة.
يليق بنا إذ نتمتع بعمل المسيح الخلاصي الذي لن يشيخ، أن نقدم دومًا تسبحةً جديدةً بقلبٍ جديدٍ وفكرٍ متجددٍ. فمع كل نصرة، ندرك قوة الله العجيبة العاملة في ضعفنا، تهبنا الحياة المقدسة، والنصرة على الشر، وتفتح قلوبنا للغير بالحب. أعمال الله العجيبة الدائمة تبعث فينا فرحًا داخليًا، كأنه جديد، وبهجة مستمرة.
عمل الكنيسة هو الكشف عن الإمكانيات الإلهية التي وُهبت للمؤمنين في المعمودية، فتدفع بأولادها بين يدّيْ الروح القدس الناري الذي يجدد أذهانهم بغير انقطاع. وكما يقول الرسول: “لا تشاكلوا هذا الدهر. بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المَرضيَّة الكاملة” (رو 12: 2). وأيضًا: “تجدَّدوا بروح ذهنكم” (4: 23)، وأيضًا: “إن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدَّد يومًا فيومًا” (2 كو 4: 16)، “إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعمالهِ ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقهِ” (كو 3: 9-10).
خلعنا الإنسان القديم بأعماله ونوالنا الإنسان الجديد هو ميلاد جديد، بدء انطلاقة “لتجديد المعرفة“، أي للنمو بغير انقطاع، وهذه هي علامة الحياة. هذا ما يؤكده الكتاب المقدس: “وأما منتظرو الرب فيجدَّدون قوةً. يُرفعون أجنحةً كالنسور. يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون” (إش 40: 31).
“الذي يُشبع بالخير عمركِ، فيتجددمثل النسر شبابكِ” (مز 103: 5).
هذه هي إحساسات المسيحي الدائمة، يرى مراحم الله جديدة بالنسبة له كل صباح، فيشتهي أن يرد الحب بالحب. وكأنه في كل يومٍ يبدأ لقاءً جديدًا مع الله، إذ يردد في صلاة باكر: “لنبدأ بدأ حسنًا”.
الجدَّة هنا ليست من جانب الله غير المتغيِّر، بل من جهة الإنسان الذي في كل يوم، في نموُّه المتزايد، يدرك مراحم الله بصورة أعمق، كما لو لم تكن من قبل. إنه كإنسان حيّ متغيِّر “يغيِّر شكله كل يوم بتجديد ذهنه”، “روحًا مستقيمًا جدِّد في أحشائي”.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنَّنا في هذا العالم نشبه جنينًا بالمعموديَّة، أُعطيَت لنا الإمكانيَّة لتتكوَّن فينا صورة والدينا، المسيح والكنيسة. هذه الصورة تُكتمل بالتمام يوم يُلقي بنا العالم إلى لحظة الدينونة. فإن كنَّا ونحن في رحم العالم دائمي النمو ن نُحسب أحياء، نخرج من ظلمة الرحم إلى الحياة، وإلاَّ نكون كالسقْط الميِّت الذي يخرج من ظلام إلى ظلام أشد.
النمو هو علامة الحيويَّة، فالأستاذ الذي يقدِّم كل عامٍ دروسًا حفظها بلا تجديد في معلوماته أو طريقة تدريسه، يحُكم عليه بالموت في علمه. والطفل، كما الحيوان والنبات، الذي لا ينمو يكون مريضًا أو ميِّتًا. هكذا كل من شعر بالاكتفاء من ربنا يسوع، وظنَّ أنه خلُص تمامًا، ولا حاجة له إلى الجهاد أو إلى اختبارات يوميَّة جديدة وحياة أعمق مع الرب، مثل هذا يكون ميِّتًا، ولو كان راهبًا متوحِّدًا أو كاهنًا أو أسقفًا أو بطريرك.
ويعتبر السحر أو الصباح أفضل وقت للصلاة (مز 88: 13): “يا رب… كن عضدنا (قوتنا) في كل صباح” (إش 33: 2). لذلك مراحم الرب جديدة في كل صباحٍ (مرا 3: 23) هذه التي نتوقع نوالها في صلواتنا (الصباحية)، إذ التبكير في الصلاة هو السعي الدءوب الجاد لطلب الله، قبلما أن نسأل الآخرين المساعدة؛ الإنسان الذي يقدم باكورة أفكار اليقظة لله لا يحجم عن أن يكرّس له بقية ساعات النهار الأخرى.
الصباح أيضًا هو الوقت المناسب لخدمة الهيكل (خر 29: 38-40؛ لا 6: 12-13؛ 2 مل 3: 20). في الحقيقة ذبيحتا الصباح والمساء في الهيكل هما الأساس الذي قام عليه نظام صلاة التسبيح ورفع البخور عند المسيحيين صباحًا ومساءً، وقد ارتبط بتقديم البخور لله.
الصباح أيضًا هو رمز تحرير الشعب من مصر (خر 14: 20-24)، ومن الأشوريين (إش 37: 36)، ومن الليل أو من ظلمة الخطية. هذا الأمر يتكرر في كثير من المزامير، فإن مراحم الرب تُتوقع غالبًا في الصباح (مز 59: 16؛ 90: 14)، وفي الصباح يعين الله المدينة المقدسة وينقذها من السقوط (مز 46: 5؛ 101: 8).
ربما يشير الصباح هنا إلى تدخل ملاك الله ضد سنحاريب (2 مل 19: 35)، وربما إلى قيامة السيد المسيح [28].
* تتلى الصلوات باكرًا في الصباح لكي تكرَّس للرب كل الحركات الأولى التي للنفس والعقل، فلا يكون لنا أدنى اهتمام آخر خلاف تهليلنا وفرحنا وشبع قلوبنا بالتفكير في الله، كما هو مكتوب: “تذكرت الرب فابتهجت” (مز 77: 4 الترجمة السبعينية)، ولكي لا يتثقل الجسد بأي عمل آخر قبل إتمام الكلمات: “لأني إليك أصلي يا رب، بالغداة (في الصباح) استمع صوتي، بالغداة أقف أمامك وتراني” [2] [29].
القديس باسيليوس الكبير
نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي،
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُوهُ [24].
هل يستطيع إنسان أن يقول هذا على الرغم من أنه ضُرب بقضيب غضب الرب ما لم يختبر صلاح الرب وأمانته ومراحمه التي لا تزول، ولأنه اختبر هذا كله، فهو يعطى لأورشليم نفس الاختبار الذي اختبره لذلك يقول: “طيب هو الرب للذين يترجونه للنفس التي تطلبه” [25].
نصيبنا في العالم لن يدوم، أما الرب فهو نصيبنا الأبدي (مز 73: 26).
تتجلى مراحم الله لا في تقديم خيرات زمنية ورفع الآلام، إنما ما هو أعظم أن يقدم نفسه نصيبًا يقتنيه من يطلبه.
* أيتها النفس التي نهبها الشرير من الله، لا يطيب لك الخبز معه، لأنه قتّال الناس (يو 8: 44).
عودي إلى الله كما عادت سارة إلى أبرام، فهو نصيبك، ولا تتكلي على الكذاب (تك 17: 5،؛ مز 16: 5).
سارة ذهبت إلى بيت فرعون بدون إرادتها. عارُكِ عظيم، لأنك استُعبدتِ بإرادتك.
يا نفس تذكري الصورة العظمى المصورة على ذاتكِ، والخلاص الذي صنعه لكِ بواسطة وحيده.
خلطكِ معه وكتبك باسمه، وها أنت صرتِ مُلكه، فمن هو هذا الذي اصطاد أذنكِ وسباك منه؟
العالم أقلقك بإغراءاته وأخذك، وها إنه قد ربطكِ براحاته كما بقيودٍ قاسيةٍ…
يجمل بك أيتها النفس أن تعيشي مع الله، وليس مع العالم المليء موتًا لمن يتطلع إليه.
فرعون الشرير يريد أن يأخذك من الله، انتبهي لا تفسدي زواجك المليء جمالًا
يا بنت سارة ارجعي مثل سارة عند البار ولا تتدنسي مع الأثيم الذي يطلب نفسك[30].
القديس يعقوب السروجي
طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجُّونَهُ لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ [25].
في النسخة العبرية تبدأ العبارات الثلاث [25-27] بكلمة جيد أو صالح أو طيب. هذه العبارات تحثنا على طلب الله نفسه نصيبًا لنا، وأن نخضع لحكمته وتحقيق وعوده في المواعيد التي رآها، وأن يتقبل المؤمن تأديبات الرب بحمله النير في صباه.
* قال لهم كما في البداية: السلام معكم، وبهذا (السلام) علّمهم بحكمة.
كل شيءٍ كان يصادفهم بالسلام وبمحبة، ليقتنوا طيبه، ويتشبهوا به.
منذ أن أتى إلى أن ذهب عند مرسله كان كل شيء يجري بالسلام في كل دربه…
قال لرسله: سلامي أعطيكم، وشهد لهم (قائلا): سلامي الخاص أترك لكم.
سلامي الخاص ليس من العالم، لأن محبته ماكرة، وسلامي الخاص أتركه لكم لأنه بدون مكر.
لم يكن يمشي ما لم يبسط السلام في دربه، لئلا يهان الملك الآتي في الدرب البسيط.
كل شيءٍ كان يجري على ثوب منسوج بالسلام، مثل ملك (ماشٍ) على البساط القرمزي [31].
القديس يعقوب السروجي
جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ،
وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ [26].
جيد للمؤمن وهو يلمس عمل المسيح الخلاصي أن يسبح قائلًا: “لتكن مشيئتك”!
جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النِّيرَ فِي صِبَاهُ [27].
وراء كل نيرٍ يتقبله من يد المصلوب، تشرق مراحم الرب بخبرة جديدة تمس أعماق النفس. لنحمل النير، ونُصلب مع المصلوب منذ شبابنا، فلا نتمرد كثورٍ غير مروضٍ على حمل النير.
يسمح الله من أجل أبوته أن يعاني أولاده من ضيقات تحلّ بهم من الآخرين، كنيرٍ ثقيلٍ يسقط عليهم. لكن إذ يحسبوه تأديبًا من قبل الرب لخلاصهم يقبلونه بفرحٍ.
من يحمل نير الضيق يدرك قسوة نير الخطية، خلال الصليب، مدركًا عذوبة نير الصليب، لأنه نير الحب الباذل. إذ يقول: “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم؛ احملوا نيري عليكم، وتعلموا مني… لأن نيري هيّن (حلو) وحملي خفيف” (مت 11: 28-30). إنه يدعونا لنلقي نيرنا تحت قدميه، لا لنعيش بغير نيرٍ، وإنما نستبدل نيرنا بنيره العذب. عوض نير الخطية القاسي، نحمل شركة نير المسيح، أي شركة آلامه النابعة عن الحب الباذل!
يحدثنا عن نير الحب العذب وفاعليته في حياتنا، قائلًا: “كنت أجذبهم بحبال البشر برُبُط المحبة، وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم، ومددت إليه مُطعمًا إياه” (هو 11: 4). إذ يرى المؤمن مسيحه يحمل النير عنه يشتهي أن يكون له مجد الشركة معه في حمل هذا النير. يشتهي أن يحمله منذ صباه، محققًا قول إرميا النبي: “جيد أن ينتظر الإنسان، ويتوقع بسكوت خلاص الرب؛ جيد للرجل أن يحمل النير في صباه” (مرا 3: 27).
* اسمع كلمات داود: “خير لي أنك أذللتني، لكي أتعلم فرائضك” (مز 71:119). ويقول نبي آخر: “جيد للرجل أن يحمل النير في صباه” (مرا 27:3). وأيضًا: “طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب” (مز12:94). وآخر يقول: “لا تحتقر تأديب الرب” (أم 11:3). وأيضًا: “إن تقدمت لتخدم الرب، أعدد نفسك للتجربة” (سي 1:11). كما قال السيد المسيح لتلاميذه: “في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن افرحوا” (يو 33:16).
وأيضًا: “أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح” (يو20:16). وأيضًا: “ما أضيق الباب” (مت 14:7). أرأيتم كيف تُمتدح الضيقة في كل موضع؟! [32]
القديس يوحنا الذهبي الفم
يَجْلِسُ وَحْدَهُ وَيَسْكُتُ، لأَنَّهُ قَدْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ [28].
إذ يقبل النير من يد الله يكرس قلبه بالكامل لله، بينما يبدو مطرودًا في عزلةٍ عن الغير.
جلوس الإنسان وحده لا يعني الاعتزال الجسماني، إنما عدم الاتكال على ذراع بشر، حتى ننعم بالاتكال على صدر الله والشركة معه.
السكوت هنا يعني قبول إرادة الله، ورفض الشكوى لدى البشر.
* يحثنا المسيح ليس فقط أن نتجنب مثل هؤلاء الناس (الأشرار) بل ونقطعهم، قائلًا: “إن كانت عينك اليمنى تعثرك، فاقلعها وألقها عنك” (مت 5: 29). في الواقع إنه لا يتحدث عن أعين، فإنه أي خطأ تفعله العين لو أن النية صادقة، بالحري إنما يوجهها بخصوص الأصدقاء والأقارب الذين هم مثل تلك الأعضاء بالنسبة لنا، ويضروننا، فإنه يأمرنا بمقاومة صداقة هؤلاء الناس حتى يكون خلاصنا في أمان. لهذا أيضًا يقول المرتل في موضوع آخر: “لم أجلس مع أناس السوء، ومع الأشرار لا أدخل” (مز 26: 4) إرميا أيضًا يوصي بأن يجلس الشخص وحده، ويحمل النير من صباه [33].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* في العالم يسهل على العدو أن يضايقنا بأسلحته الخفية والظاهرة، متخذًا بعض الناس المطيعين له كمساعدين له في إثارة الحرب ضد المؤمن. فيمكنه أن يستخدم بعض النسوة قليلات الحياء كسلاحٍ قويٍ ضد المؤمن، ناشرًا شباكهن الخادعة على نطاق واسع.
عندما رأى حزقيال الأربعة مخلوقات ذات الأربعة وجوه يعطون الرب مجدًا، لم يكن ذلك في مدينة أو قرية، بل خارجًا في حقل، إذ قال الله له: “قم أخرج إلى البقعة، وهناك أكلمك” (حز 22:3).
ولما عرف النبي إرميا أن الانفراد يرضى الله جدًا، قال أيضًا: “جيد للرجل أن يحمل النير منذ صباه، يجلس وحده ويسكت” (مرا 27:3-28). مرة أخرى إذ عرف أضرار كثرة الحديث البشري لمن يرغبون في إرضاء الله، لم يقدر أن يكف عن ترديد: “يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين، فأترك شعبي، وأنطلق من عندهم” (إر 2:9).
وأيضًا عندما أخذ إيليا النبي طعامًا من الملائكة، لم يكن وسط جمهرة الجموع، ولا في مدينة أو قرية، بل في البرية.
كتبت كل هذه الأمور وما على شاكلتها التي حدثت مع القديسين، حتى نتشبه بأولئك الذين أحبوا العزلة، إذ من شأنها تسهيل الوصول إلى الله.
اجتهدوا إذًا أن تكونوا مؤسسين على السكون تأسيسًا صالحًا، حتى ننقاد إلى رؤية الله، أي التأمل الروحي العظيم [34].
القديس أنطونيوس الكبير
* سُئل شيخ: “لماذا قال أنبا أنطونيوس لأنبا بولس تلميذه: اِذهب واسكن في صمتٍ، حتى تتلقَّى تجارب الشياطين؟” فقال الشيخ: ”لأنّ الكمال يأتي للراهب من السلوك الروحاني، والسلوك الروحاني ينشأ من ميول القلب، ونقاوة القلب تتأتّى من ميول الفكر، وطريقة التفكير تُبنَى على الصلاة غير المنقطعة، ومن الصراع مع الشياطين. ولكن الصلاة غير المنقطعة والصراع مع الشياطين، سواء في الأفكار أو في الرؤى، ليست لهما فرصة لأن توجدا بدون السكون والوحدة”.
فردوس الآباء
* الراهب الذي يكون مع كل أحدٍ مثله (يتلوّن ويجاري كل واحدٍ) رياءً يلبس وجه شيطان.
القديس مار فيلوكسينوس المنبجي
* في مرةٍ أخرى قال الله لإبراهيم: “اُخرج من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أُريك” (تك 12: 1)، فأطاع إبراهيم وذهب.
إنني أُؤكّد لكم أنكم قد اتخذتم لأنفسكم نفس القول الإلهي الذي به دُعي إبراهيم، وأنكم تشاركوه في بركته: “جيدٌ للرجل أن يحمل النير في صباه، يجلس وحده ويسكت” (مرا 3: 27-28).
هذا هو المعنى من خروجكم من العالم. إنّ الغِنى لا يُغويكم، ولا محاسن المرأة تجعلكم تنحرفون، ولكن كأنه لم يكن لكم جسد وبمخافة الله قد وطئتم بأقدامكم الميول الرديئة. لقد فصلتم أنفسكم عن أفكار العالم، بل هربتم من أباطيله [35].
* قيل عن أنبا مقار إنّ أخًا ذهب لمقابلته يومًا ما وقال له: “يا أبي، إنّ أفكاري تقول لي: قم افتقد المرضى، لأنّ هذه وصية عظيمة”. فقال له أنبا مقار: “إنّ كلمة النبوّة لا تتغير، لأنه يقول: “جيدٌ للرجل أن يحمل النير منذ صباه، ويجلس وحده صامتًا” (مرا 3: 27-28). أمّا قول الفم غير الكاذب الذي لربنا يسوع المسيح: “كنتُ مريضًا فزرتموني” (مت 25: 36)، فقد قاله لعامة الناس. ولكنني أقول لك، يا ابني، إنّ المكوث في القلاية أفضل لك جدًّا من افتقاد المرضى، لأنه سيأتي وقتٌ فيما بعد يستهزئون فيه بالذين يظلّون في قلاليهم، ويتممون قول أنبا أنطونيوس: “إذا رأوا أحدًا ليس مجنونًا، يقفون ضدّه قائلين: إنك مجنونٌ، لأنه لا يشبههم”. “أقول لك، يا ابني، لو لم يبتعد موسى عن مخالطة الناس ومحادثتهم، ويدخل في السحاب وحده؛ لما كان قد أُعطيَ لوحي الشريعة المكتوبين بأصبع الله لأجل المجد (خر 24: 12-18)” [36].
بستان الرهبان
* أيها الصديق العزيز، إن عادة الأتقياء الثابتة على الدوام، هي الخشوع أمام الخليقة كلها في صمتٍ، وبفرحٍ يصرخون شاكرين الله ومسبحينه، صانع الخيرات للكل، وهذا ما قيل في الأسفار وبالذات في الكلمات التي تقول: “يجلس وحده ويصمت“. وأيضًا: “في هدوء يهتم بأموره الخاصة” (مر 3 : 28). وهذه الكلمات “وحده” و”يهتم بأموره الخاصة”، تعني أن يكون كل شيءٍ بإفراز ويقظة واهتمام وحسب وصية الله [37].
القديس أثناسيوس الرسولي
* بالحقيقة إن الهدف من حياة المجمع أن يصلب الراهب جميع رغباته ويتمثل بالكمال… ولا يهتم بالغد. وواضح تمامًا أن هذا الكمال لا يبلغه الجميع بل راهب الشركة… ولكن كمال المتوحدين هو أن يُخلي ذهنه عن كل الأشياء الأرضية، وأن يربطه بالمسيح قدر ما يسمح ضعف الإنسان. ويصف النبي إرميا مثل هذا الرجل قائلًا: “جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ، يجلس وحدهُ ويسكت، لأنهُ قد وضعهُ عليهِ” (مرا 27:3-28). ويقول داود أيضًا: “سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح” (مز 7:102) [38].
الأب يوحنا
* خرج من نظام الشركة نوع آخر من الساعين وراء الكمال، يُدعون بـ”المتوحدين” أي المنعزلين. وإذ لم يكتفوا بنصرتهم، إذ داسوا حيل إبليس الخفية تحت أقدامهم وهم يعيشون وسط الناس، اشتاقوا أن يدخلوا في حرب علانية ومعركة مكشوفة مع العدو.
هكذا لم يخشوا التوغل في أعماق البرية، مقتفين آثار يوحنا المعمدان الذي قضى كل حياته في الصحراء، كذلك إيليا وإليشع، إذ يتحدث الرسول عنهم قائلًا: “طافوا في جلود غنمٍ وجلود معزى، معتازين مكروبين مُذَلّين، وهم لم يكن العالم مستحقًّا لهم، تائهين في براريَّ وجبال ومغاير وشقوق الأرض” (عب 37:11-38).
تكلم عنهم الرب مع أيوب بصورة رمزية قائلًا: “من سرَّح الفراءَ حُرًّا، ومن فكَّ رُبُط حمار الوحش، الذي جعلتُ البرية بيتهُ والسباخ مسكنهُ. يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق. دائرة الجبال مرعاهُ وعلى خضرةٍ يفتّش” (أي 5:39-8). أيضًا يقول سفر المزامير: “ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد العدوّ”. ثم يكمل قائلًا: “تاهوا في البرية في قفر بلا طريق. لم يجدوا مدينةَ سكنٍ. جِياع عِطاش أيضًا أعيت أنفسهم فيهم. فصرخوا إلى الرب في ضيقهم، فأنقذهم من شدائدهم” (مز:107: 4-6). يصفهم إرميا أيضًا قائلًا: “جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ. يجلس وحدهُ ويسكت، لأنهُ قد وضعهُ عليهِ” (مرا 27:3-28). وتخرج كلمات المرتل من القلب: “صرت مثل بومة الخِرَب. سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح (مز 6:102-7) [39].
الأب بيامون
يَجْعَلُ فِي التُّرَابِ فَمَهُ،
لَعَلَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ [29].
في الجلوس الهادئ في صمتٍ يكتشف الإنسان ضعفه الذاتي، وعدم الاتكال على الذراع البشري، فيتواضع أمام الله ليصير رجاؤه في الرب. هنا يشير إلى من يتواضع ويرفض الشكوى لدى البشر ويخضع بالكامل لله ويقبل إرادته بفرحٍ.
* أنت تراب لا تتطاول على العظمة، أنت طين لماذا تفكر بما لا يعنيك؟
وبخه بهذه الكلمات وزجره وهو يحتقره: أنت تراب، ولأنك تكبرت ستعود إلى التراب.
لو كان يريد أن يتأمل في تلك الوصية لكنت تفقّهه بأنه يوجد رب أعلى منه.
أبغض الكبرياء، لأنه فخ عظيم ومملوء موتًا، به وقع العدو منذ البداية.
وبه انحدر آل آدم من الفردوس ومن ذلك المجد الذي ألبسه ربه في جنة عدن.
لا يوجد شيء أبغض وأنبذ إلى لله مثل كبرياء من يتبختر بالتباهي [40].
القديس يعقوب السروجي
يُعْطِي خَدَّهُ لِضَارِبِهِ.
يَشْبَعُ عَارًا [30].
إن كان النير يشير إلى مذلة العبودية، فإن اللطم على الخد لا يُمارس إلا مع العبد، إذ فيه إهانة.
كان يليق بمملكة يهوذا ألا تتذمر، لأن تلك اللطمة التي حلت بواسطة البابليين، ليست إلا بسماح لله لتأديبهم على الإصرار على العصيان. السيد المسيح الذي بلا خطية ظُلم ولم يفتح فاه، وكشاةٍ سيق للذبح ونعجة أمام جازيها، فكم بالأولى نحن الخطاة يليق بنا ألا نتذمر حين نسقط تحت التأديب. في نبوة صريحة واضحة تحدث إشعياء النبي عن أحداث الصليب فقال على لسان المخلص: “بذلت ظهري للضاربين، وخدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق” (إش 50: 6).
* أظهرت ليّ تدبير تعطفك.
احتملت ظلم الأشرار، بذلت ظهرك للسياط، وخديك أهملتهما للّطم. لأجلي يا سيدي لم ترد وجهك عن خزي البصاق.
أتيت إلى الذبح مثل حمل حتى إلى الصليب…
القداس الاغريغوري
* مرة حملوا الحجارة على ربنا بجنونهم، وبما أنه لم يُضرب، فقد حفظوها لاسطفانوس.
هنا كمل نقصان آلام الابن، وما انتقص عن المخلص صُنع به.
لم يصب ربنا من اليهود الرجم فقط، ولكي يكتمل نظام آلامه، فقد نفذوه بعبده…
كان العمل من مبادرتهم دون أن يُكتب: لم يكتب أحد الأنبياء بأنهم يرجمونه.
المرارة والخل والرمح وخشبة الصليب وجلد الظهر وتوزيع الثياب وثقب اليدين.
والتفل على الوجه واللطم على الخدين تمت كلها، لأنها كانت مكتوبة في النبوة عن مخلصنا [41].
القديس يعقوب السروجي
لأَنَّ السَّيِّدَ لاَ يَرْفُضُ إِلَى الأَبَدِ [31].
لا يرفض الرب إلى الأبد، فتأديباته وقتية من أجل التمتع بأمجاد أبدية. في وسط التأديبات لا ينزع الرب رحمته عن شعبه، بل يود تجديد العهد معهم. الله يؤدب، لا لكي يحكم، بل لكي يفتح طريق العفو والمغفرة للمخطئين برجوعهم إليه. الله يجرح ويعصب، يضرب ويجبر (هو 6: 1)، فمع التأديب يصب رحمته علينا كطبيبٍ محبٍ ماهرٍ إن كنا نثابر على الطلب.
* قم في الصلاة أيها الرجل الجامع أفكاره والمستحق والصادق، وكل ما تسأله ستناله من الله.
إن أردت أن تطلب المراحم من الله، لماذا تسرع وتنتقل، ولم يعطك بعدُ؟
تأخر عنده وأزعج الطبيبَ واطلب منه، واجلب دموع التوبة وبلل عتبته.
كثّرِ الطلبَ، فلو لم يعطك من باب المحبة، فلن يقدر أن يرفض كل أسئلة اللجاجة.
كن لجوجًا على باب الطبيب وغير متوانٍ، فإن كنت تتوانى لن يضمدك، ولماذا تحضر إذا؟
الإلحاح يعرف أن يأخذ منه المراحم، لأنه لا يتركه يبتعد عنه إلا بعد أن يعطي.
أيها التائب كن لجوجًا، وستنال من واهب كل الخيرات بقدر ما تطلب [42].
* لا تضجر في طلبك. لا تفكر بأن طلبك يعود فارغًا.
لا تقل: طلبت كثيرًا ولم أجد، ولعلني لا أجد أبدًا [43].
القديس مار يعقوب السروجي
فَإِنَّهُ وَلَوْ أَحْزَنَ،
يَرْحَمُ حَسَبَ كَثْرَةِ مَرَاحِمِهِ [32].
* أشرق تواضع ابن الله وحكمته وتعليمه (وظهر) كيف أنه نيّر…
ظهرت رحمته ولطفه: كيف أنه يريد أن يحيا كل واحدٍ حيثما وُجد.
وكيف أنه يشفي دون أن يفضح البشر، لكنه يطيل أناته، ويضمد بتواضعٍ.
طلب الشاب منه (قائلًا): ماذا أصنع لأرث الحياة؟ وكان يعرف بأنه لم يكن يقبل التعليم.
وإذ عرفه، لم يوبخه أمام الكثيرين، لأنه ليس معتادًا أن يفضح مَن يقترب منه.
لم يقل له: إنك لا تقدر، ولا تحتمل، ولستَ صادقا، وأنت كذاب، فانتقل وولِّ.
لكنه قبله، وأصغى إليه، وسمعه بلطفٍ، ووضع عليه الضماد، ولو سمع له لشفاه[44].
القديس مار يعقوب السروجي
لأَنَّهُ لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ،
وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي الإِنْسَانِ [33].
إنه أب سماوي، لا يُسر الله بالمعاقبة، إن أدّب إنما يكون كمن خرج من مكانه أي من الرحمة المملوءة ترفقًا وحنانًا. إثمنا وعصياننا يجعلانه كمن يخرج من مكانه ليُعاقب. حتى في خروجه يطلب أن يضمنا إليه ليرجع بنا إلى عرش رحمته. قيل: “لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليُعاقب إثم سكان الأرض” (إش 26: 24).
إن كان الله يؤدب ويسمح لنا بالضيق، فهو يفعل هذا وهو جالس على كرسي الرحمة، وفي كل ضيقنا يتضايق، لأنه أبونا الكلي الحب. يطلب بنياننا وخلاصنا وليس مذلتنا حتى في لحظات التأديب.
* لا تعني العصا عدم وجود المحبة، ولكن المحبة مخفية وراء ضرباتها، ولا يدركها ذاك الذي تسقط عليه [45].
العلامة أوريجينوس
* عندما يديننا الرب، إنما لأجل تهذيبنا، حتى لا نُدان بعد مع العالم. قديمًا قال النبي: “قدّم لي الرب درسًا عنيفًا وإلى الموت لم يسلمني” (مز 18:118) [46].
القديس إكليمنضس السكندري
* عندما يوبخ الله، وإنما لكي يصلح، ويصلح لكي يحفظنا (له) [47].
القديس كبريانوس
* لقد ضربتني، ليس كديانٍ، بل كأب تصلحني!
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
أنْ يَدُوسَ أَحَدٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ كُلَّ أَسْرَى الأَرْضِ [34].
في العبارات [34-35-36] يود النبي أن يحول نظر المتألمين من خبرتهم في التعامل مع البشر إلى التعامل مع الله. فالإنسان أحيانًا يجد مسرته في إذلال مقاوميه، وإذ يُعطى سلطانًا لا يلتزم بالعدالة، بل يتعدى الحدود عند التأديب. أما الله ففي السماء يرى كل شيءٍ، وهو كلي العدالة والبرّ، يعمل حتى في تأديباته لصالح مقاوميه.
هنا يقدم النبي شكوى الشعب الساقط تحت التأديب، وكأنه يقول: هل يُسر الله بأن تدوس بابل الوثنية الشعب المسبي تحت قدميها؟ هل يقبل هذه المذلة؟
أنْ يُحَرِّفَ حَقَّ الرَّجُلِ أَمَامَ وَجْهِ الْعَلِيِّ [35].
لن يتجاهل الله حق الإنسان، حتى وإن كان تحت التأديب. إنه يستخدم بابل وأمثالها للتأديب، وفي نفس الوقت لا يقبل طغيان أدوات التأديب نفسها، ولا يستريح لأسلوبهم المتوحش. لأجل خلاص شعبه وبنيانهم سمح بأسرهم بواسطة بابل، أما أن تذلهم بابل وترفض عتقه من العبودية فهذا لا يقبله. إنه يعاقب بابل نفسها على الظلم والوحشية والإثم.
أَنْ يَقْلِبَ الإِنْسَانَ فِي دَعْوَاهُ – السَّيِّدُ لاَ يَرَى! [36].
يليق ببابل أن تلتزم حدودها، حتى وإن سمح لها الله أن تؤدب شعبه بسبيهم؛ ويليق بالمسبيين أن يدركوا أنه ليس شيئًا مخفيًا عن الله حتى وإن تعدت بابل حدودها.
مَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ فَيَكُونَ،
وَالرَّبُّ لَمْ يَأْمُرْ؟ [37].
ما يؤكده النبي أن كل الأمور في يد الله الذي يود تجديد العهد، وتقديم مراحم جديدة. فمادام الإنسان لا يزال حيًا، لماذا يشتكي مما يحل به من آلام؟ الأمر يحتاج إلى توبة!
مِنْ فَمِ الْعَلِيِّ أَلاَ تَخْرُجُ الشُّرُورُ وَالْخَيْرُ؟ [38].
ظنت بابل أن بقوتها العسكرية وعظمة آلهتها الوثنية غلبت شعب الله وأسرته، فكان البابليون يقيمون مواكب نصرة تزف أصنامهم في مناطق أسر اليهود لإذلالهم والسخرية بالله إلههم، ولم يعلموا أنه ما كان يمكنهم أن يأسروهم دون سماح الله نفسه بذلك.
يُقصد بالشرور هنا الضيق الذي يحلّ بالشعب، فهي في نظرهم شرور، لكن في نظر الله تأديبات سمح بها لبنيانهم. جاء في عاموس: “هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟” (عا 3: 6)
وقد تحدَّث الآباء كثيرًا عن كلمة “شرور” الواردة هنا أو في العبارات المماثلة مميِّزين بين نوعين من الشرّ، الشرّ الذي بطبعه شر ومضاد للفضيلة أو للصلاح، والشرّ الذي هو ألم أو ضيق نحسبه نحن شرًا. هذا ما أكَّده القديس يوحنا الذهبي الفم [48] في أكثر من موضع.
* لا يقصد بهذه الكلمات أن الله هو علَّة الشرّ، بل أن كلمة “شرّ” تستخدم بطريقتين، بمعنيين. أحيانًا تعني ما هو شرّ بطبيعته، هذا هو ضد الفضيلة وضد إرادة الله، وأحيانًا تعني ما هو شرّ وضيق لإحساسنا، أي الأحزان والكوارث. هذه تبدو شرًا لأنها مؤلمة، وإن كانت في الحقيقة هي صالحة، إذ تكون بالنسبة للفاهمين إنذار للتحوِّل والخلاص. هذه يقول الكتاب عنها إن “الله هو مصدرها”[49].
الأب يوحنا الدمشقي
* حينما يتحدَّث الحكم الإلهي مع البشر يتكلَّم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشريَّة. فالطبيب يقوم بقطع أو كيّ الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحّتهم، ومع هذا يراه غير القادرين على الاحتمال أنه شرّ [50].
الأب ثيؤدور
لِمَاذَا يَشْتَكِي الإِنْسَانُ الْحَيُّ الرَّجُلُ مِنْ قِصَاصِ خَطَايَاهُ؟ [39].
يليق بنا ألا نتذمر على الله بسبب تأديباته لنا، بل نعترف بخطايانا، فنقدم توبة عوض التذمر.
إذ ملأ الصليب قلبه بالرجاء، وجد الدواء الإلهي، فانطلق يعاتب الشعب كله، فردًا فردًا، “لماذا يشتكي الإنسان الحي الرجل من قصاص خطاياه؟” نعم إن حاكم الله، فمن يتبرر أمامه؟ لكن طريق الخلاص مفتوح للجميع على المستوى الشخصي، كما على المستوى الجماعي. فإن كان قد وجه السؤال بصيغة المفرد” “الإنسان”، فقد قدم الإجابة أو العلاج بصيغة الجميع: “لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع على الرب” [40].
* هل ستستمر في الشر على طول الخط؟ قل لنفسك: الله محب للبشرية ويطلب خلاصنا… ليتنا لا نستسلم لليأس، فإن السقوط ليس خطرًا مثل أن تبقى حيث أنت ساقط. ولا الجرح خطير مثل رفض الشفاء بعد أن تُجرح… أقول هذا لا لكي أجعلكم مهملين، إنما لكي أمنعكم من اليأس [51].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. دعوة للتوبة 40 – 42
ينقسم هذا الجزء إلى قسمين. الأول عبارة عن صلاة يضعها إرميا النبي على فم الشعب [40-47]. والثاني يضيف النبي دموعه إلى دعوى الشعب [48-51].
لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا،
وَنَرْجِعْ إِلَى الرَّبِّ [40].
عوض التذمر يلزمنا أن نجلس مع أنفسنا، ونفحص طرقنا، ونرفع قلوبنا إلى الله ليُصلح أعماقنا. يقدم لنا إرميا النبي مفهومًا إنجيليًا للتوبة، فإن كنا نفحص طرقنا، ونكتشف خطايانا، فلنركز أعيننا على الله غافر الخطايا: “نرجع الرب”.
* أيها الخاطئ أشفق على نفسك المليئة جمالًا، لأنك أخضعتها بإرادتك للشهوات،
لا السالبون ولا اللصوص نزعوا جمالها، أنها تشتكي عليك، لأنك دنستها بإثم يديك،
الراحة الزمنية والشهوات غير الحسنة أنزلت النفس من الروحانية،
وبلا شيء سقط شيء عظيم من علوه، لأنك ارتخيت أيها الخاطئ بالإثم الذي فعلته،
انتبه إلى ما فقدت وقم وفتش عليها لعلها توجد، لئلا تهلك النفس الصالحة المشتراة بأثمان،
إنها خليقة سامية وممجدة ومليئة جمالًا، ولا توجد في الخلائق أخرى أسمى منها[52].
القديس مار يعقوب السروجي
لِنَرْفَعْ قُلُوبَنَا وَأَيْدِينَا إِلَى الله (العلي) فِي السَّمَاوَات [41].
يشتهي النبي أن يقدم الشعب صلاة توبة من القلب، لا برفع الأيادي فحسب، وإنما برفع كل الكيان الداخلي (القلوب) إلى العلي الساكن في السماوات.
* بدون جمال الله الخفي لما رأيت نفسك واستحققت الله، ولما سهل عليك أن ترى نقائص شخصك.
هذا هو جمال فطنتك الأساسي: أن ترى عيوبك عيوبًا [53].
القديس ماريعقوب السروجي
نَحْنُ أَذْنَبْنَا وَعَصِينَا.
أَنْتَ لَمْ تَغْفِرْ [42].
باسم الشعب، يجلس مع نفسه يعترف أن ما حلَّ به أو بهم، إنما هي بسبب الذنوب، وأن العلاج لا يتحقق إلا من قبل الله نفسه، الذي من حقه أن يغفر. أما أنه لم يغفر فليس عن نقص في قدرته أو مراحمه، إنما في عدم تقديم توبة كما يليق.
* لقد انشغلت بالدفاع عن خطاياك، فانهزمت… دفاعك ليس مفيدًا لك. لأن من أنت يا من تدافع عن نفسك؟ كان يليق بك أن تتهم نفسك. لا تقل: “إنني لم أفعل شيئًا”، أو “أي أمر خطير أنا فعلت؟” أو “آخرون أيضًا فعلوا هكذا”.
إن فعلت خطية وقلت إنك لم تفعل شيئًا تصير أنت نفسك لا شيء، ولا تنال من الله شيئًا!
الله مستعد أن يهب غفرانًا، لكنك أنت تغلق الباب على نفسك!
الله مستعد أن يعطي، فلا تقاوم بمزلاج الباب، بل افتح حضن الاعتراف: “تسمعني سرورًا وفرحًا”.
القديس أغسطينوس
4. ثمار الخطية 43 – 54
الْتَحَفْتَ بِالْغَضَبِ وَطَرَدْتَنَا.
قَتَلْتَ وَلَمْ تُشْفِقْ [43].
إن كان الله قد التحف بالغضب، واستخدم تأديبًا حازمًا، فذلك مقابل التمرد والعصيان من جانب إسرائيل.
* يستطيع التضرع أن يحل كلمات التهديد ويغيرها. وعندما يسمعون أنه يعد بالخيرات لا يحتقرون محبته، ويحسبونه متراخيًا بلا غيرة، ويسمحون لأنفسهم فعل الشرور. يعلمنا إرميا بكلماته (إر 18: 7-9) أنه يحب عندما يهدد، وأنه يضرب عندما يغري، ولا يعني هذا أن مواعيده غير صحيحة مع الكبار [54].
القديس مار يعقوب السروجي
الْتَحَفْتَ بِالسَّحَابِ حَتَّى لاَ تَنْفُذَ الصَّلاَةُ [44].
كثيرًا ما يشير العهد القديم إلى احتجاب الله عن الأعين البشرية كما بالسحاب والظلام (خر 20: 21؛ 40: 34-35؛ لا 16: 2؛ 1 مل 8: 10، 12)، لكن لم يستخدم ذلك قط لصد الصلاة كما جاء هنا.
* كيف أؤمن أنني أنال طلبتي؟ بعدم سؤالي شيئًا يضاد ما هو مستعد أن يهبه، أو سؤال شيء غير لائق بالملك العظيم، أو شيء زمني، بل أطلب البركات الروحية كلها، وأيضًا إن كنت أقترب إليه بدون غضبٍ وبأيدٍ طاهرة، أيدٍ مقدسة، أيدٍ تُستخدم في العطاء المقدس، اقترب إليه هكذا فتنال طلبتك دون شك [55].
القديس يوحنا الذهبي الفم
جَعَلْتَنَا وَسَخًا وَكَرْهًا فِي وَسَطِ الشُّعُوبِ [45].
تصوير أليم لآلامهم التي نجمت عن خطاياهم، وسخرية أعدائهم بهم (1 كو 4: 13). هنا أيضًا تصوير لآلام السيد المسيح، وسخرية اليهود به.
يتطلع الرب من السماء في حزنٍ على بنات أورشليم، كما فعل السيد المسيح وهو حامل الصليب، وطلب منهن ألا يبكين عليه، بل على أنفسهن وعلى أولادهن.
* الإنسان الذي يعيش في لذة ميت وهو حي. إنه يعيش من أجل بطنه، ولا يحيا لبقية أحاسيسه (المقدسة). فهو لا ينظر ما كان ينبغي أن ينظره، ولا يسمع ما كان يجب أن يسمعه، ولا ينطق بما يلزم أن يتكلم به، ولا يتمم أعمال الأحياء… إنه ميت! [56]
* ماذا إن كان الإنسان غنيًا، وإن كان من الأشراف، فإنه عندما تسبيه خطية ما يصير أكثر فسادًا من كل فساد. فإن كان الإنسان ملكًا قد أسره البرابرة يصير أكثر الناس بؤسًا، هكذا بالنسبة للخطية، إذ هي بربرية، والنفس التي تصير أسيرة لا تعرف كيف تتخلص من الأسر، فتقوم الخطية بدور الطاغية لتحطم كل من يلتصق بها [57].
القديس يوحنا الذهبي الفم
فَتَحَ كُلُّ أَعْدَائِنَا أَفْوَاهَهُمْ عَلَيْنَا [46].
اعترف الشعب بعدم استحقاقه أن يسمع الله لصلاته. وفي نفس الوقت جاء ثمرة ذلك احتقار أعدائه له، دون إمكانية يهوذا الدفاع عن نفسه. لقد فقد علاقته بالله، كما فقد صداقته مع الأمم.
صَارَ عَلَيْنَا خَوْفٌ وَرُعْبٌ هَلاَكٌ وَسَحْقٌ [47].
سَكَبَتْ عَيْنَايَ يَنَابِيعَ مَاءٍ عَلَى سَحْقِ بِنْتِ شَعْبِي [48].
في كل هذه المرثاة لم يشر الكاتب إلى خراب أورشليم سوى في العبارات 48-51.
* فلنتذكر نحن هذه الدموع، ولنأتِ نحن ببناتنا وكذا أولادنا ونبكي نحن حين نراهم في شر.
* هكذا الدموع ليست مؤلمة، أجل، الدموع التي تنهمر بسبب مثل هذا الحزن هي أحلى من الدموع المنسابة بسبب اللذة العالمية. اسمعوا النبي يقول: “سمع الرب صوت بكائي، سمع الرب صوت تضرعي” (مز 6: 8-9).
القديس يوحنا الذهبي الفم
عَيْنِي تَسْكُبُ وَلاَ تَكُفُّ بِلاَ انْقِطَاعٍ [49].
يصر النبي ألا يكف عن البكاء على شعبه حتى يستجيب الله له؛ ينظر من السماء ويرى ما يعانيه النبي من مرارة بسبب ما حلّ بشعبه.
* حينما نعامل إنسانًا خاطئًا، يجب أن نبكي حزانى ومتنهدين، وإذا ما نصحنا أحدًا ولم يستجب، بل يمضي إلى الهلاك، يجب أن نبكي. فهذه هي دموع الحكمة السماوية، وحينما يكون إنسان في فقرٍ، أو في مرض جسماني، أو ميتًا، لا نبكي، لأن تلك أمور لا تستحق الدموع.
القديس يوحنا الذهبي الفم
حَتَّى يُشْرِفَ وَيَنْظُرَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ [50].
يشتاق ربنا يسوع أن يقيم من نفوسنا سماءً جديدة، أو أورشليم جديدة، وقد وعدنا: “توبوا، لأنه قد اقترب منكم ملكوت السماوات”. بالتوبة يقيم ملكوته فينا، ويتطلع إلينا وهو ساكن في أعماقنا!
* لست أنكر أن أورشليم الأولى قد خُربت بسبب شر سكانها، لكنني أتساءل: ألا يليق بك البكاء على أورشليمك الروحية؟!
إن أخطأ أحد بعد قبوله أسرار الحق، فإنه يُبكي عليه، لأنه كان من أورشليم ولم يعد بعد…
ليُبك على أورشليمنا، لأنه بسبب الخطية يحيط بها الأعداء (الأرواح الشريرة) بمترسة ويحاصرونها، ولا يتركون فيها حجرًا على حجرٍ، خاصة لو أن هذا الإنسان كان قد سبق فمارس العفة زمانًا والطهارة سنوات طويلة، فتثور فيه شهوات الجسد ويفقد نقاوته وعفته ليسقط في الزنا، ولا يُترك فيه حجر علي حجر كقول حزقيال: “كل بره الذي عمله لا يُذكر” (حز 18: 24).
العلامة أوريجينوس
عَيْنِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِي لأَجْلِ كُلِّ بَنَاتِ مَدِينَتِي [51].
صَّور لنا كاتب سيرة القديس أفرام السرياني المنسوبة للقديس غريغوريوس النيسي كيف كان مهتمًا أن يسكب الدموع من أجل التمتع بالخلاص الأبدي.
[عندما بدأت أتذكر فيضان دموعه، بدأت أنا نفسي أبكي، إذ كان يصعب جدًا أن أعبر بعيون جافة خلال محيط دموعه.
لم يوجد قط نهار أو ليل أو جزء من النهار أو الليل، أو أية لحظة، مهما كانت قصيرة، لم تظهر فيها عيناه الساهرتان تسبحان في الدموع.
وكما قال، إنه أحيانًا كان يبكي من أجل شقاء الكل وغباوتهم بصفة عامة، وأحيانًا كان يبكي من أجل رذائل معينة.
تجده باكيًا ونائحًا ليس فقط عندما كان يتكلم عن الندامة والأخلاقيات وضبط الحياة، بل وحتى أثناء صلوات التسبيح [58].]
* الدموع هي الفيضان الذي يسقط على الخطايا، وهي تطهر العالم [59].
القديس غريغوريوس النزينزي
قَدِ اصْطَادَتْنِي أَعْدَائِي، كَعُصْفُورٍ بِلاَ سَبَبٍ [52].
لم يكن ممكنًا تصوير حاله بتشبيه واحد، فاستخدم ثلاث تشبيهات. الأول عصفورلم يصطده إنسان عادي، بل عدو يحمل عداوة بلا سبب، فيجد مسرة في تعذيبه. والثاني إلقاؤه في جب، لا ليسدوه بحجر كما هو معتاد، إنما عدة حجارة حتى يفقد كل رجاءٍ في خروجه منه حتى يموت. والثالث تيارات المياه التي تطفو فوق حتى يتحقق غرقه تمامًا.
قَرَضُوا فِي الْجُبِّ حَيَاتِي،
وَأَلْقُوا عَلَيَّ حِجَارَةً [53].
كان يمكنه أن يهرب من هذا الوحْل إن تراجع عن نبواته، وتخلّي عن كلمة الله ورسالته… لكنه رفض! ألقوه في جبٍ ليموت جوعًا دون سفك دمه، ولم يدركوا أنهم يقتلون أنفسهم إذ حرموا أنفسهم من خبز الملائكة، كلمة الله. قَبِلَ أن يموت جسديًا بجوع من خبز العالم، ولا يموت جوعًا من خبز الملائكة!
* تُرك إرميا وحده يسبح الله؛ ألقوه في جب مملوء وحلًا، أما نفس هذا الرجل فكانت أثمن من كل الشعب.
أتريد أن تعرف ماذا يمكن لإنسانٍ واحدٍ أن يفعل؟ كان يشوع بن نون وحده، بينما كان العالم كله مسكونًا. هناك كانت توجد جماهير بلا عدد، أما هو فكان وحده بمفرده وأمر الشمس والقمر فتوقفا. أعطى إنسان أمرًا، فاهتمت السماء! أنصتت السماء إليه، لأنه كان ينصت للرب…
ماذا يقول (إرميا)؟ “جلست وحدي، لأنك قد ملأتني غضبًا” (15: 17). كيف كنت وحدك في المدينة؟ أقول كنت وحدي، لأنه لم يكن أحد معي يشاركني هدفي [60].
القديس جيروم
ألقوا حجارة على باب القبر: “ثم دحرج حجرًا كبيرًا على باب القبر ومضى” (مت 60:27).
لقد سبق فأعلن الأنبياء عن دفنه أيضًا، فيقول إشعياء النبي: “ضُرب من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره، ومع غنى عند موته” (إش 53: 8-9). كما يقول: “انظروا إلى الصخرة الذي منه قُطعتُم” (إش 51: 1)، أمّا عن باب القبر فيقول إرميا النبي: “قرضوا في الجُب حياتي، وألقوا عليّ حجارة” (مرا 3: 53).
* فتأمّل كيف أن حجر الزاوية المختار الكريم يرقد قليلًا خلف الحجارة، وهو حجر العثرة لليهود، وصخر الخلاص للمؤمنين. لقد زُرعت شجرة الحياة في الأرض، حتى أن الأرض التي لُعنت تتمتّع بالبركة وقيامة الأموات [61].
القديس كيرلس الأورشليمي
* اختار أن يمشى في جميع طرق البشر حتى دخل في باب الموت ليحل آدم! بدأ بالميلاد، وكمل الطريق حتى التقى بالموت!
سار بتواضعٍ بوطأة آدم، إلى حيث سقط آدم في أعماق الهاوية، فدخل هو وسقط من أجله وجذبه وخرج.
القديس يعقوب السروجي
طَفَتِ الْمِيَاهُ فَوْقَ رَأْسِي.
قُلْتُ: قَدْ قُرِضْتُ! [54].
يصور الموت بالمياه التي طفت فوق رأسه.
كان اليهود يعتقدون أن مملكة إبليس تقوم في أعماق المياه حيث التنين العظيم، وفي البرية حيث لا حياة بسبب القفر، وفي الهواء حيث لا استقرار. لذلك كثيرًا ما يشار إلى المياه في العهد القديم كرمزٍ للمتاعب.
5. تعزية للمؤمنين 55 – 63
دَعَوْتُ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ مِنَ الْجُبِّ الأَسْفَلِ [55].
لقد ألقى رجال القصر إرميا في جبٍ (إر 38: 4-6). في الجب السفليّ تحولت حياته إلى صلاة، فصرخ إلى الله قائلًا:
“دعوت باسمك يا رب من الجب الأسفل،
لصوتي سمعت،
لا تستر أذنك عن زفرتي عن صياحي،
دنوت يوم دعوتك،
قلت: لا تخف.
خاصمت يا سيد خصومات نفسي…
رأيت يا رب ظلمي.
أقم دعواي…” (مرا 3: 55-59).
حين أُغلقت كل الأبواب في وجهه وجد أبواب الله مفتوحة. وجد أذني الرب تميل إليه وهو في الجب، لتسمع صرخات قلبه الداخلية. يؤكد له الرب وعوده السابقة منذ لحظات دعوته: “لا تخف!”؛ ويشاركه آلامه، فيحسب الخصومات ضد إرميا كأنها خصومات ضد الله نفسه. يصير الله هو القاضي، وهو المحامي الذي يقيم دعوى إرميا ضد مضطهديه.
إن كان سفر إرميا (الأصحاح 38) قد كشف عن دور عبد ملك الكوشي في خلاص إرميا، فإن مراثيه تكشف عن الذي قام بالدور الحقيقي هو الله سامع صلوات المظلومين. تحرك بالحب لينصت إلى أنينه، وحرَّك عبد ملك بالحنان، ودبّر خلاص إرميا من الجب!
أما بالنسبة للسيد المسيح فيصور النبي السيد وقد نزل إلى الجحيم – الجب السفلي – ليحمل الأسرى إلى الفردوس.
لِصَوْتِي سَمِعْتَ.
لاَ تَسْتُرْ أُذُنَكَ عَنْ زَفْرَتِي عَنْ صِيَاحِي [56].
لقد قبل الآب ذبيحة الصليب، واستجاب لشفاعة المسيح الكفارية عن الخطاة.
إذ طُرح يونان في المياه المالحة، دخل إلى جوف الحوت لا ليرى الموت بعينيه، وإنما ليشاهد خلال الظل السيد المسيح نفسه وقد انطرح إلى الضيق معنا وعنا، حتى إذ يصرخ بحياته التي بلا عيب يستجيب له الآب، فيرفعنا معه فوق الضيق. نزل إلى انحطاطنا ذاك الذي بلا عيب، لكي نصير فيه موضع سرور الآب، يسمع لنا في ضيقتنا ويرفعنا إليه. وكما يقول القديس چيروم: [لقد نزل الرب، من أجلنا تواضع، لكي نصعد نحن في أمان وثقة [62].]
لقد دعا يونان الرب في ضيقته وتمتع بالاستجابة فورًا، إذ رأى نفسه صاعدًا لا من جوف الحوت، بل من جوف الجحيم في المسيح يسوع المصلوب! هنا يتحدث بصيغة الماضي لا المستقبل “استجابتي، سمعت صوتي”، صيغة التمتع الحقيقي خلال الرمز، وصيغة اليقين الذي لا يحمل شكًا.
حمل إرميا النبي ذات المشاعر وأدرك ذات المفاهيم عندما أُلقي في الجب، إذ قال: “دعوت اسمك يا رب من الجب الأسفل، لصوتي سمعت لا تستر أُذنك عن زفرتي عن صياحي” (مرا 3: 55-56).
دَنَوْتَ يَوْمَ دَعَوْتُكَ. قُلْتَ: لاَ تَخَفْ! [57]
أرسل الله عبد ملك ليخلص إرميا من الجب (إر 38: 7-13). واستجاب الآب لطلبة رئيس الكهنة الأعظم السماوي، ربنا يسوع ليفتح لتا أحضانه الإلهية.
* لماذا تخافون أيها المسيحيون؟
المسيح يتحدث: “أنا هو لا تخافوا”. لماذا تنزعجون لهذه الأمور؟ لماذا تخافون؟
لقد سبق فأخبرتكم بهذه الأمور أنها ستحدث حتمًا… “أنا هو لا تخافوا. فرضوا أن يقبلوه في السفينة”.
إذ عرفوه وفرحوا تحرروا من مخاوفهم. “للوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها“. وُجدت نهاية عند الأرض، من المنطقة المائية إلى المنطقة الصلدة، من الاضطراب إلى الثبات، من الطريق إلى الهدف [63].
القديس أغسطينوس
خَاصَمْتَ يَا سَيِّدُ خُصُومَاتِ نَفْسِي.
فَكَكْتَ حَيَاتِي [58].
ما هي هذه الخصومات إلا تلك التي مع إبليس عدو الخير، فقد وقف المسيح خصمًا ضد إبليس الذي يطلب هلاكنا الأبدي، مقدمًا لنا النصرة عليه.
* نتمتع في آلام الرب وقيامته بالعبور من هذه الحياة القابلة للموت إلى الحياة الأخرى الخالدة، أي من الموت إلى الحياة[64].
القديس أغسطينوس
* شدة عظيمة هكذا وحزن جسيم حلّ بالشياطين وجنودهم في يوم صلب إلهنا، لأنه عند موته ونزوله إلى الجحيم صنع فيهم ما صنعه بفرعون والمصريين، وعتق بني آدم من حبسهم كما عتق بني إسرائيل من أرض مصر [65].
القديس أمبروسيوس
رَأَيْتَ يَا رَبُّ ظُلْمِي.
أَقِمْ دَعْوَايَ [59].
يرى السيد المسيح أن الشياطين قد خدعتننا، فيقف بنفسه محاميًا عنا.
* [“اذهب عني يا شيطان” (مت 4: 10)]
إنها منحة يقدمها السيد المسيح لمؤمنيه… إذ يستطيعون كمن لهم سلطان أن ينطقوا ذات الكلمات بالمسيح الذي فيهم، إذ يقول: “ليخزَ الشيطان بواسطتنا”… لأن ما يقوله الرب إنما هو لأجلنا، لكي إذ تسمع الشياطين كلمات كهذه منا تهرب خلال الرب الذي انتهرها بهذه الكلمات.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
رَأَيْتَ كُلَّ نَقْمَتِهِمْ كُلَّ أَفْكَارِهِمْ عَلَيَّ [60].
* جاء يسوع قويًا في المعركة ليُهلك جميع أعدائنا وينقذنا من حبائلهم، ويحرِّرنا من أعدائنا وجميع مبغضينا [66].
العلامة أوريجينوس
سَمِعْتَ تَعْيِيرَهُمْ يَا رَبُّ،
كُلَّ أَفْكَارِهِمْ عَلَيَّ [61].
عبر كل العصور لا يكف عدو الخير عن تعيير الله على لسان أتباعه المتكبرين والجهال وعبدة الأصنام، حيث يوجهون التعيير للمؤمنين.
“لأن غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيريك وقعت علي” (مز 69: 9)
“قم يا الله، أقم دعواك، أذكر تعيير الجاهل إياك اليوم كله” (مز 74: 22)
“تعيير الأحمق مكروه، وعطية الحاسد تكل العيون” (سيراخ 18: 18)
“الاستهزاء والتعيير شأن المتكبرين،والانتقام يكمن لهم مثل الأسد” (سيراخ 27: 31)
“اسمعوا لي يا عارفي البرّ، الشعب الذي شريعتي في قلبه. لا تخافوا من تعيير الناس، ومن شتائمهم لا ترتاعوا” (اش 51: 7)
“سمعت تعييرهم يا رب، كل أفكارهم عليّ” (مرا 3: 61)
“قد سمعت تعيير موآب، وتجاديف بني عمون، التي بها عيروا شعبي وتعظموا على تخمهم” (صف 2: 8)
“فكان عند الشعب سرور عظيم جدًا، وأزيل تعيير الأمم” (1 مك 4: 58)
“لأن المسيح أيضًا لم يرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليّ” (رو 15: 3)
“من جهة مشهورين بتعييرات وضيقات ومن جهة صائرين شركاء الذين تصرف فيهم هكذا” (عب 10: 33)
* كيف يمكننا أن نصير مقتدين بالمسيح؟ بممارسة كل شيءٍ من أجل المصلحة العامة، وليس لمجرد نفعنا الخاص. يقول بولس: “لأن المسيح أيضًا لم يُرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليَّ” (رو 15: 3). ليته لا يطلب أحد شيئًا لنفسه. بالحق يطلب الإنسان ما هو لخيره، عندما يتطلع إلى خير قريبه. ما هو لخير الأقرباء هو خيرنا نحن، فنحن جسد واحد، وأعضاء لبعضنا البعض [67].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* في المزمور الثامن والستين (LXX) يقول المخلص إنه لم يأتِ لأجل مسرته، بل لأجل مسرة الله الآب. إذ يقول: “لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني”. (يو 6: 38)، اعترض اليهود وحكموا عليه بالموت كخاطئ. لذا يضع المرتل نفسه في موضع المسيح، ويقول: “تعييرات معيريك وقعت عليَّ” (مز 69: 9) [68]
الأب أمبروسياستر
كَلاَمُ مُقَاوِمِيَّ وَمُؤَأمَرَتُهُمْ عَلَيَّ الْيَوْمَ كُلَّهُ [62].
يصور لنا القديس مار يعقوب السروجي كيف لا يطيق إبليس خلاص الإنسان، فإذا ما رأى خاطئا يسلك طريق التوبة يطلب من جنوده أن يكثفوا جهودهم لتحطيمه بالأفكار الشريرة والمجد الباطل، وبكل وسيلة ممكنة. لقد كتب القديس إلى زانيتين تدعيان لانطيا وماريا، تابتا وصارتا حبيستين يحذرهما من حروب إبليس ومقاومته لهما بكل عنفٍ.
* الآن يأمر قائد جند اليسار المؤذية (يأمر إبليس جنوده) بسبب عدائه لكما:
لا تحاربوا الطاهرين ولا الكاملين، ولا أحد أعدائي الأقوياء، لكن هاتين اللتين هما من خاصتي، واحتقرتاني، وسخرتا مني. وهما قائمتان في درجة القديسين.
أجلبوا عليهما قطع الرجاء، املأوهما بالكسل.
ازرعوا فيهما الحسد لبعضهما البعض لتخضعا للضعف، وتحترقا بشهوة الطعام.
أيقظوا أفكارهما ليحبا أعمالهما الأولى. أقلقوهما بأفكار الزنى.
أعيقوا صلواتهما، لئلا تكون قوية لتكمّلا عهودهما…
أوقفوهما على جرف العظمة، واربطوهما بمحبة المجد…
احملوهما على الظن أنهما صارتا صالحتين.
أرسلوا المرضى عندهما لتصليا عليهم، واحملوا الآخرين ليقولوا: إننا شُفينا بصلواتكما، اخدعوهما بأنهما ليستا تائبتين بل هما فاضلتان [69].
القديس مار يعقوب السروجي
اُنْظُرْ إِلَى جُلُوسِهِمْ وَوُقُوفِهِمْ،
أَنَا أُغْنِيَتُهُمْ! [63].
يود عدو الخير أن يسخر بنا، ويجعلنا أغنيته ليلهو بنا، لكننا بالمسيح يسوع الغالب لقوت الظلمة نترنم مع المرتل، قائلين: “انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيَّادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا، عوننا باسم الرب الصانع السماوات والأرض” (مز 123: 7).
* في اللحظة التي فيها لا نزال وسط المعركة نُحارب ونُجرح، نسأل أنفسنا: من الذي يغلب؟
الغالب أيها الإخوة هو ذاك الذي يعتمد علي الله الذي يسنده وهو يحارب، ولا يعتمد علي قوته. للشيطان خبرته في الحرب، لكن إن كان الله معنا فسنغلبه. يحارب الشيطان بذاته، فإن حاولنا أن نفعل ذات الأمر، فسيغلبنا. إنه مُحارب مُختبر، لهذا يليق بنا أن نستدعي القدير ليقف ضده.
ليقطن فيك ذاك الذي لا يُغلب، فستغلب ذاك الذي اعتاد أن ينتصر. من هم الذين يغلبهم؟ أولئك الذين قلوبهم فارغة من الله [70].
* يعرف الله سعيكم وإرادتكم الصالحة، وينتظر جهادكم، ويسند ضعفكم، ويكلل نصرتكم [71].
القديس أغسطينوس
* إن كانت القوات والقوى ورؤساء عالم الظلمة والأرواح الشريرة تجربنا، فلا يُفترض فينا أن ندخل معهم في حوار،ٍ أو نقيم معهم مصالحة، إنما يلزم محاربتهم. وعندما نُخضعهم وننال سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب (لو 10: 19)، عندئذ يكون وقت للسلام. هكذا يلزم أولًا سحق الشيطان تحت أقدام القديسين. عندما يكون وقت للحرب يليق بالإنسان أن يطأ على قوة العدو. وعندما نهزمهم يمكننا أن نعيش في سلامٍ ثابت، ويتحرر تفكيرنا من الارتباك ويكون لنا وقت سلام [72].
القديس ديديموس الضرير
6. هلاك العدو 64-66
اُستجيبت هذه الصلاة بسقوط بابل (إش 46: 47؛ إر 50-51؛ دا 5). وتتحقق بصورة أعظم في نهاية الأزمنة وسقوط مملكة إبليس، بابل العظيمة أم الزواني (رؤ 20: 11-15).
رُدَّ لَهُمْ جَزَاءً يَا رَبُّ حَسَبَ عَمَلِ أَيَادِيهِمْ [64].
يعلق القديس جيروم على قول السيد المسيح أنه جاء إلى العالم لا ليلقي سلامًا بل سيفًا (مت 10: 34)، أنه يشير بهذا إلى ما حدث للشيطان، لوسيفر. فقد انطرح عدو الخير بالصليب، وانحدر إلى أسفل (إش 14: 15)، هذا الذي اعتاد أن يشرق في الفجر (إش 14: 13)، ووُجد في فردوس النعيم [73].
* اتبع العريس السماوي، لتصمد أمام الأعداء غير المنظورين، لتثر حربًا ضد الرئاسات والسلاطين (أف 6: 12)، فتسحبهم أولًا عن نفسك فلا يكون لهم نصيب فيك، وبعد ذلك تطردهم عن أولئك الذين يطيرون إليك طالبين الحماية بمشورتك. اطرحهم تحت قدميك كقائدٍ لهم ومدافع عنهم. لتجحد تلك المجادلات التي ضد الإيمان بالمسيح.
حارب بكلمة التقوى ضد المشورة الشريرة الرديئة. وكما يقول الرسول: “هادمين ظنونًا وكل علوٍ يرتفع ضد معرفة الله” (2 كو 1.: 5). ضع ثقتك، فوق الكل، في ذراع الملك العظيم، الذي بمجرد رؤيته يخاف أعداؤه ويرتعدون [74].
القديس باسيليوس الكبير
أَعْطِهِمْ غَشَاوَةَ قَلْبٍ،
لَعْنَتَكَ لَهُمْ [65].
يقصد هنا أن يبدد الله مشورتهم الشريرة.
اِتْبَعْ بِالْغَضَبِ وَأَهْلِكْهُمْ مِنْ تَحْتِ سَمَاوَاتِ الرَّبِّ [66].
يريد الشيطان أن يتشبه بالله في كل شيء، فكما يريد الله أن يقيم من البشرية سفراء له، وكلاء السماء، يحملون شركة الطبيعة الإلهية؛ هكذا يقيم إبليس من الخاضعين له وكلاء له وسفراء عنه، يحملون سماته من عنفٍ وظلمٍ وفسادٍ، غايتهم تحطيم ملكوت الله على الأرض.
* مخاوف المجاهد تصير له علة حياة لخلاصه، وعلى العكس تصير لعار أعدائه والسخرية بهم. يرد كل هجماتهم ويجعلها باطلة، ويصد كل إغراءاتهم… يقدم العدو معركة لأيوب ضد (شيطان) في الهواء، يتحرك بطريقة رهيبة بين السماء والأرض. فقد سقط (لوسيفر) من السماوات (إش 12:14)، ولم يدعه القديسون الذين على الأرض يستريح عليها، مع أنه يرغب في أن يتمتع بدمارنا. فإنه إذ هزمه أيوب مرارًا لم يوقف المعركة، دون انتظار إلى النصرة الحاسمة، بل يتطلب مرارًا أن ينهك البار.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
من وحي مرا 3
لأترنم عند أقدام صليبك!
* هل لي من موضع تستريح فيه نفسي،
سوى أن استجمع كل طاقاتي،
لأرنم عند أقدام صليبك؟
اسمح لي أيها الحبيب أن أتحدث عن ألآمك المحيية،
وأرنم بسرّ صليبك المفرح!
على الصليب ارتفعتَ عوضًا عني!
في مذلة انحنيتَ أمام الغضب الإلهي تحمله عني.
في الخارج جراحات وانسحاق ومذلة،
وفي الأعماق حب وقيامة وخلاص وبهجة لكل مؤمنٍ!
تُرى هل صليبك كان لك مذلة أم هو إعلان عن أسرار مجدك؟
* ماذا أدعوك يا مخلصي الصالح؟
أنت شمس البرّ،
لم تخشَ أن تدخل إلى الظلمة،
تبحث عني، اللؤلؤة الثمينة جدًا في عينيك، وتتهلل بي!
بددتَ ظلمتي، وسكبت بهاءك عليَّ.
وقدمتني، أنا اللؤلؤة المفقودة، لأبيك محب البشر!
سمرَّتَ العداوة،
وأقمت مني ابنًا لأبيك.
لا أعود أعطي الآب القفا،
بل بك أدخل إلى أحضانه.
* لقد دخلت إلى الموت من أمرّ أبوابه،
على الصليب صار جسدك كله جراحات،
من الرأس حتى أخمص القدمين.
ما كان يلزم أن يحل بي قبلته بإرادتك ومحبتك.
سمرتَ إنساني القديم لأتمتع بالإنسان الجديد،
ويجمِّلني روحك القدوس مع كل صباح،
لأصير أيقونتك الحيّة.
عوض الجسد الهزيل وهبتني فيه الحياة المقُامة.
* قبلت المشقة في أبشع صورها،
وشربت المرّ عوضًا عني.
وقدمت لي جسدك ودمك لي حياة أبدية.
حولت مرارة حياتي إلى عذوبة الشركة معك.
* بسلطانك وحبك دخلت إلى الهاوية.
ارتجفت أساساتها، وتحطمت متاريسها، واهتز كل كيانها.
لم تستنكف من الرقاد بين الموتى،
لتحملهم سبايا،
وتحررهم من عبودية إبليس والموت،
وتدخل بهم إلى فردوسك المفرح.
* كاد إبليس وجنوده أن يرقصوا،
الكل يتطوع ليحمل القيود،
ليدخل بك إلى الهاوية.
ظنوا أنك مُقيد وتُسحب كما إلى سجنٍ أبدي.
سيِّجوا حولك حتى لا تفلت،
فحللت قيودي،
وحرَّرتني من سبيهم،
لأتمتع بحرية مجد أولاد الله!
* لأجل خلاصي صرتَ إنسانًا حقيقيًا.
صرخت على الصليب كمن تركك الآب.
سخَّر إبليس بك ومعه كل قوات الظلمة، وقالوا:
ليصرخ، هل له من مخلص ينقذه من أيدينا؟
استهزأ الهشيم بنارك، وظن القش أنه يحرق النار!
نصبوا فخ الموت،
وحسبوا أنهم أخفوه عنك لكي يصطادوك.
لم يدركوا أنه في سلطانك أن تضع حياتك وأن تأخذها.
سقطوا هم في الفخ الذي نصبوه لك،
وانطلقت يا أيها الطريق الحق تفتح أبواب السماء لمحبيك!
* اعتاد الأسد المهلك أن يجول فلا تفلت نفس منه.
صار كل بني البشر فريسته،
وحسبك أنك لن تفلت من بين أسنانه.
هشَّمت بموتك أسنانه،
وحوَّت لنا الموت إلى رحلة ممتعة إلى السماء في رفقتك!
صار الأسد (إبليس) فريسة،
والحمل الإلهي أسدًا واهب القيامة!
* حسبك إبليس قد ضللت الطريق،
لا موضع لك بين الأحياء،
فإذا بك تحملنا فيك طريقًا فريدًا،
يدخل بنا إلى الأحضان الإلهية.
ظن العدو أن باتهاماته الكثيرة ضدك يستطيع الخلاص منك،
عوض الاتهامات صرت برّنا، وقداستنا، وحياتنا الأبدية.
* ظنّ العدو أن أباك السماوي حطمك،
والموت مزقك ودمَّر كل كيانك، فصرت خرابًا!
في سخرية غنى، قائلًا:
هوذا السهم الإلهي يقتله كمخادعٍّ!
لم يدرك المخادع أنه قد خدع نفسه.
أي سهم للآب سواك:
يصوبك نحو قوات الظلمة، وبنورك تبددهم.
يصوبك نحو البشر، فتجرح قلوبهم بجراحات الحب الفائق.
حولت قلبي من اللعنة إلى التطويب الأبدي.
غرست فيه صليبك، عوض الشوك والحسك.
عوض التراب، أقمت سماواتك فيه.
عوض الخراب والقفر،
يشتهي السمائيون التطلع إليه.
* أخبرني: كيف ظن العدو أنك بالصليب تدمَّرت،
وأنت بصليبك حولت أعماقي إلى سماء ثانية،
أتيت مع أبيك وروحك القدوس لتقيم فيها!
مرحبًا بك أيها المصلوب،
فقد صار قلبي جنّتك،
غرسَتها يمينك، ورواها دمك،
فحملت ثمر روحك القدوس.
* لأقف مع أيوب البار الذي رأى صليبك خلال الظلال.
رأى ذاك الذي أراد أن يجعل منك ضحكة للجميع،
قد صار هو ألعوبة،
يسخر به كل طفلٍ مؤمن.
لأرنم مع أيوب، قائلًا:
“أتلعب معه كالعصفور، أو تربطه لأجل فتيانك؟” (41: 5)
لقد استنكف أن يلعب به كعصفورٍ،
فربطه بخيطٍ، وسلّمه للصبية يلعبون به!
صار إبليس بالصليب أتفه من أن يسخر به مؤمنٍ!
سقط من قلبه كما من السماء،
وصار تحت قدميه!
* ذقت المرّ يا أيها العذب في كل كلماتك ووعودك!
فصرت بك استعذب كل ألمٍ معك،
وتحولت المرارة عينها إلى قوات الظلمة.
* في المحاكمات الدينية والمدنية أراد العدو أن تجرش الحصى.
ليفعل ما يشاء، فإنك تحول الحصى إلى خلاص أبدي،
فأتغنى: “حلقه حلاوة، وكله مشتهيات” (نش 5: 16).
* ظن العدو أن فيك يتحقق الحكم الإلهي لآدم الأول:
“لأنك تراب، وإلي تراب تعود” (تك 3: 19).
بدفنك أقام حراسة مشددة،
حتى يطمئن أنك صرت ترابًا كسائر البشر.
عوض هذا الحكم، صدر حكم جديد لمن يؤمن بك:
“أنت سماء، وإلي سماءٍ تعود!”
بصليبك المحيي قدمت قيامتك رصيدًا لكل مؤمنٍ حقيقي!
فتحت أبواب الرجاء على مصاريعها.
تهللت قوات جميعها لاستقبالك يا رب المجد!
صار للطغمات السمائية تسبحة جديدة!
إنها تصرخ لتسرع بمجيئك الأخير،
فترحب بعروسك التي جمعتها من آدم إلى آخر الدهور!
في غيرة متقدة يترقبون يوم عرسك الأبديّ.
* الآن أرنم بأغنية صلبوتك، قائلًا:
انحنت نفسك بالصليب لتحمله عوضًا عنا،
فوهبتني الاستقامة عوض انحناء كياني،
لا تعود عينايَ تتطلعان إلى الأرض كسائر الحيوانات،
بل تتركَّزان على العلويات السماويات!
لك المجد يا من وهبتني تسبحة الصلبوت العذبة!
تفسير مراثي إرميا 2 | تفسير مراثي إرميا القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مراثي إرميا 4 |
تفسير العهد القديم |