تفسير سفر العدد ٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث
اللاويّون فدية عن الشعب
إن عدم إحصاء سبط لاوي مع بقية الأسباط كرجال حرب لا يعنى إعفاءهم عن العمل أو سلوكهم بروح أرستقراطي متشامخ، إنما التزامهم بالعمل الروحي عوض أبكار الشعب. لقد خصّص الوحي عدة أصحاحات للحديث عنهم تبدأ بمعاقبة بعضهم بالموت من أجل شرهم.
عقاب الأشرار منهم 1-4:
سقط ابنا هرون ناداب وأبيهو في تقديم نار غريبة أمام الرب فماتا ولم يكن لهما أولاد، فكهن الأخوان الصغيران ألِعازار وإيثامار أمام هرون أبيهما.
كلمة “ناداب” تعني “كريم”، و”أبيهو” تعني “أبي هو”. مع عذوبة اسميهما وبالرغم من كونهما من القلائل جدًا الذين سمح لهم الرب أن يصعدوا على جبل سيناء (خر 24: 1) وكرسوا كهنة للرب (خر 28: 1)، لكنهما سقطا تحت غضب الله واللعنة وفقدا حتى حياتهما الزمنيّة لأنهما كسرا الوصيّة (لا 10: 1-7، عد 26: 6). لقد ابتدأا بالروح لكنهما كملا بالجسد فلم يشفع فيهما اسميهما ولا لقبهما ولا انتسابهما لهرون ولا اختيار الرب لهما للعمل الكهنوتي… الخ، بل بالعكس صارت هذه الأمور كلها سرّ دينونة لهما، فبقدر ما يتمتع الإنسان من عطايا إلهيّة ويدخل تحت نير المسئوليّة وتصير له معرفة يُطالَب بأكثر!
يرى البعض أنهما كانا في حالة سُكْر حينما فعلا هذا، لذلك حَرَّم الله على الكهنة دخول خيمة الاجتماع بعد شرب الخمر (لا 10: 9). ويرى البعض أن سرّ انحرافهما أنهما خدما بإرادتهما الخاصة دون مشورة أبيهما، لهذا أمر الرب أن يقف اللاويّون أمام هرون الكاهن ليخدموه كما كهن الأخوان الصغيران أمامه (ع 4-5)، أي صار الكهنة واللاويّون يخدمون بروح التلمذة. ولعله أراد منذ بدء تاريخ الكهنوت الموسوي إعلان خطورة العمل الكهنوتي إن دخل فيه روح الكبرياء والاعتداد بالذات وسلك كل منهم بهواه الشخصي بغير تلمذة. أقول أيضًا ما أحوج الكنيسة في كل عصر إلى مثل هرون الذي يحمل روح الأبوة لا للشعب فحسب بل وللكهنة يتتلمذون على الرب نفسه بين يديه!
أخيرًا كان اللاويّون في الحقيقة يمثلون دور الشمامسة، هم يذبحون والكهنة يرشون الدم ويحرقون الشحم، هم يعدون البخور والكهنة يقدمونه للرب. إن الشماس معين للكاهن في كل خدمته الروحيّة وعمله الرعوي.
اللاويّون عِوَض الأبكار 5-13 :
ما أعذب العبارة الإلهيّة القائلة عن اللاويّين: “إنهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيل” [9]. فإن الله في حبه للإنسان يريد أن يدخل دومًا في معاملات معه، فيها عطاء وأخذ، فكما يعلن الله حبه لنا بالعطاء يهبنا فرصة لردّ الحب بالحب بأن يأخذ من أيدينا. لقد أعطى لهذا الشعب وجوده وحياته، وأخرجهم من أرض العبوديّة، فصاروا جميعًا مدينين له بكل حياتهم، لهذا ترك لهم مجال التبادل في الحب فتقبل منهم هذا السبط هبة الشعب لله! إنه يعلن على الدوام- في كل جيل- أنه محتاج وعطشان يطلب عطيّة الإنسان له، لا لعجز في الإمكانيات الإلهيّة إنما للدخول مع الإنسان في علاقة حب مشترك. إنه لا يقبل مطلقًا أن يعطي دون أن يأخذ لئلا يشعر الإنسان بصِغَر نفسه وعجزه عن التعبير عن حبه لله.
كثيرًا ما تحدث في الأسفار السابقة عن البكور والعشور والنذور، والآن يعلن قبوله بكور الشعب بقبوله “سبط لاوي” هبة الشعب له. والآن، لماذا اختار هذا السبط؟ وماذا يقصد باعتباره بكور الشعب؟
لماذا اُختير سبط لاوي عِوَض بكور الشعب؟
“كلَّم الرب موسى قائلاً” وها إني قد أخذت اللاويّين من بين بني إسرائيل بدل كل بكر فاتح رحم من بني إسرائيل فيكون اللاويّون لي. لأن لي كل بكر…” [11-13].
لم يكن لاوي الابن البكر ليعقوب بل الابن الثالث بعد رأوبين وشِمْعون. وكأن الله أراد أن يؤكد لشعبه منذ البداية أن البكوريّة لا تقوم على أساس جسدي، أي حسب العمر، وإنما حسب الاستعداد والاستحقاق. لقد جاء السيد المسيح بكر البشريّة كلها مع أنه تجسد في ملء الأزمنة، وفقد آدم الأول بكوريته إذ جلب للبشريّة الموت عِوَض البركة. هكذا كما تخطى لاوي أخويه رأوبين وشِمْعون تخطى آدم الثاني- السيد المسيح- آدم الأول كما تخطى أيضًا مستلم الشريعة موسى النبي كأول قائد للشعب… ويقدم السيد بكرًا للبشريّة المؤمنة بكونه الابن الوحيد المحبوب لدى الآب.
في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [ألا يعلمنا هذا بأن الذين اعتُبِروا أبكارًا أمام الله ليسوا هم الأبكار حسب الميلاد الجسدي إنما اختارهم الله بسبب حسن استعدادهم. هذا ما حدث بالنسبة ليعقوب الرجل الثاني إذ حسبه الله بكرًا ونال بركات البكوريّة (تك 27: 11) بفضل إصابة أبيه بالعمى بسماح إلهي، وذلك لحسن استعداد قلبه الذي رآه فيه الله، إذ قيل “وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرًا أو شرًا… مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو” (رو 9:11-12، ملا 1: 2-3). هكذا لم يكن اللاويّون أبكارًا حسب الجسد لكنهم ثبتوا كأبكار[17]…].
وقد سبق لنا الحديث عن البكور كرمز للسيد المسيح البكر، وكيف ظهرت الوصيّة بالبكور كأول وصيّة بعد خروج الشعب مباشرة[18] (خر 13: 1)… ويلاحظ هنا أن الله يتحدث عن اللاويّين الذين هم أبكاره أنهم “من بين (وسط) بني إسرائيل” (ع 11). لقد قبلهم كهبة من الشعب، وهم في وسط البشريّة كواحدٍ منهم، إذ يقول الكتاب “في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه” (يو 1: 26).
بكوريّة السيد المسيح تختلف عن بكوريّة الناس، ففي القديم حين تمتع يعقوب بالبكوريّة حرم أخاه عيسو منها، وحين صار اللاويّون أبكارًا فقد رأوبين بكوريته… أما السيد المسيح إذ جاء إلى العالم بكرًا فتح الباب أمام كل البشريّة لكي تنعم بالبكوريّة خلاله أو بالاتحاد معه. لقد أسس “كنيسة الأبكار” وحسب مؤمنيه أبكارًا… إننا لسنا كعيسو نحزن ونبكي لأن يعقوب اغتصب منه بكوريته بل بالحري نفرح ونتهلل لأن يسوعنا فتح لنا باب البكوريّة.
أخيرًا، فإن قول الرب “تأخذ اللاويّين لي، أنا الرب، بدل كل بكر” [41]. يكشف عن مركز الخادم كفدية عن مخدوميه، قَبِله الرب عوض البكر لكي يخدم شعب الله ويحمل أتعابهم وآلامهم وضعفاتهم، لكي يبلغ بهم في المسيح يسوع إلى الحضن الإلهي. إنه فدية يشتهي أن يموت ويحيا الكل!
تقسيم العمل 14 – 38:
قَسَّم الله بني لاوي إلى ثلاث رتب بجانب الكهنة، وحدّد مواقعهم وعملهم. فقد أحاطوا- كما سبق فقلنا- بالخيمة على شكل صليب. من جهة الشرق هرون وكهنته مع موسى النبي، ومن الجنوب (الجناح الأيمن) يسكن بنو قهات، ومن الشمال (الجناح الأيسر) يسكن بنو مراري، وفي القاعدة (الغرب) يسكن بنو جرشون، هذا هو الصليب المحيط بالخيمة والذي يقع في منتصف الجماعة كلها والتي تكمل صليبًا ضخمًا.
هنا نرى في رأس الصليب (الشرق) موسى وهرون وكهنته إشارة إلى السيد المسيح رأس الكنيسة الذي هو كلمة الله (يرمز لها بموسى مستلم الشريعة) والكاهن الأعظم (هرون). أو بمعنى آخر خلال الصليب نتلامس مع السيد المسيح الذي قدَّم لنا الوصيّة الإلهيّة منقوشة بالحب العملي خلال الدم الطاهر وشفاعته الكفاريّة خلال كهنوته الأبدي. أما قاعدة الصليب فيقطنها بنو جرشون أي أبناء “المطرودة” أو “المنفي” أو “الغريب”، فقد تحقق الصليب وصار “لليهود عثرة ولليونانيّين جهالة” (1 كو 1: 23). أما الجناح الأيمن فيقطنه بنو قهات أي أبناء “المجمع” حيث تتحطم العداوة وتحل الشركة مع الله والناس، فيتحد السمائيّون مع الأرضيّين، وتجتمع الأمم والشعوب معًا. وفي الجناح الأيسر يسكن بنو مراري إشارة إلى المرّ الذي احتمله السيد من أجلنا!
قسم العمل بين رتب اللاويّين الثلاثة هكذا:
أولاً- بنو جرشون: مع أن جرشون هو البكر للاوي لكنه جاء بعد قهات، إذ صار للأخير أفضلية حسب استعداد قلبه لا حسب الميلاد الجسدي. ولا يُعتَبر بنو جرشون كهنة بل مساعدين لهم يحرسون المسكن والخيمة وغطاءها وسجف (ستارة) باب خيمة الاجتماع وأستار الدار… الخ. كان عددهم 7500 من الذكور، وقد عيَّن لهم عجلتان وأربعة ثيران لمساعدتهم أثناء الرحيل. تفرَّعوا إلى قبيلتين هما اللبنيّين والشمعيّين، وأُعطيت لهم ثلاث عشر مدينة في أرض الموعد (يش 21: 27-33).
ثانيًا- بنو قهات: خرج منهم موسى وهرون الذي تسلم الكهنوت هو وبنوه. وقد تسلَّم البقية العمل لمساعدة الكهنة، لهم أفضلية على الرتب الأخرى، يقومون بحراسة التابوت والمائدة والمنارة والمذبحين وأمتعة القدس التي يخدمون بها والحجاب وكل خدمته. أثناء الرحيل يحملون هذه المقدَّسات على أكتافهم بعد أن يغطيها الكهنة، لهذا لم يوهب لهم عجلات وثيران. كان عددهم 8600 من الذكور، أكثر من القسمين الآخرين، انقسموا إلى أربعة عشائر: العمراميّون واليصهاريّون والحبرونيّون والفريئيليّون. كان لبني هرون القهاتيّين في كنعان ثلاث عشرة مدينة (يش 21: 4)، ولبقية بني قهات عشر مدن (يش 21: 5، 21). وكانوا من جملة الفرق التي رتبها داود للتسبيح (1 أي 25-26) والذين ساعدوا في جلب التابوت إلى أورشليم (1 أي 15: 5)، وقد حصلوا على شرف وغنى.
ثالثًا- بنو مراري: التزموا بحراسة ألواح المسكن وعوارضه وأعمدته وفرضه وكل أمتعته وأعمدة الدار… الخ. وإذ كانت هذه الأشياء ثقيلة الوزن أعطى لهم أربعة عجلات وثمانية ثيران، كان عددهم 6200 من الذكور، انقسموا إلى عشيرتين: المحليّون والموشيّون، وفي كنعان عيَّن لهم اثنتا عشر مدينة ( يش 31: 7، 34: 40، 1 أي 6: 63، 77: 81).
رأى العلامة أوريجينوس[19] في هذه الرتب الثلاثة مع هرون وكهنته صورة للرتب الأربعة السماويّة، إذ جاء في الرسالة إلى العبرانيّين: “قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماويّة وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات” (عب 12: 22-23). وكأن السماء في رأيه أربع رتب (جبل صهيون، مدينة الله أورشليم السماويّة، ربوات هم محفل ملائكة، كنيسة أبكار مكتوبين في السموات). يقول: [اجتهد بكل قوتك أن تنمو وتتقدم في أعمالك وحياتك وعاداتك وإيمانك وطريقة تصرفاتك حتى تبلغ كنيسة الأبكار المكتوبين في السموات. فإن لم تستطِع فلتبلغ درجة أقل… إن كنت لا تقدر أن تقترب من الربوات الذين هم محفل ملائكة وتصعد هذه الدرجة فعلى الأقل تبلغ مدينة الله الحيّ أورشليم السماويّة، وإن كنت غير قادر على بلوغ هذه فحاول على الأقل أن تتجه نحو جبل صهيون لكي تخلص على الجبل[20] (تك 19: 17)].
إحصاء اللاويّين 39 – 43:
أمر الله بإحصاء اللاويّين من الذكور من ابن شهر فصاعدًا فكان عددهم 22000 نسمة، ويرى العلامة أوريجينوس أن رقم 22 هو عدد الحروف العبريّة كما أنه عدد الآباء من آدم إلى يعقوب أصل الأسباط. ولما كان رقم 1000 يشير للحياة السماويّة أو الروحيّة، بهذا يكون اللاويّون بهذا الرقم يمثلون اللغة (22 حرفًا) الروحيّة، خلال خدمتهم يجد جميع الأسباط بإمكانيّة كتابة أسمائهم في السمويات. إنهم يمثلون جميع الحروف فلا يجد أحد عذرًا في عدم تسجيل اسمه. ومن ناحية أخرى فهم يمثلون الآباء الروحيّين الذين من صلبهم جاء شعب الله.
دفع الفدية عن الزيادة 44 – 51:
إذ أُحصي الأبكار في الشعب وجد عددهم 22.273 نسمة أي يزيدون 273 نسمة عن اللاويّين المحصيّين، فالتزموا بتقديم خمس شواقل فدية عن كل نسمة، تقدم لهرون وبنيه.
غالبًا هذا الرقم من الأبكار 22.273 يمثلون الأبكار الذين وُلدوا بعد الخروج، أما الزيادة “273” فتشير إلى التسعة شهور التي يقيم فيها الجنين في أحشاء أمه (9×30=270) مضافًا إليها 3 أيام رمز القيامة من الأموات كما رأينا في تفسيرنا لسفر الخروج[21]. كأن هؤلاء المفديّين هم جمهور البشريّة التي جاءت إلى العالم بعد أن تشكلت في الأحشاء وتمتعت بالقيامة مع السيد المسيح أي تُولد جسديًا وتُولد روحيًا. ويرى العلامة أوريجينوس[22] أن رقم 273 هو حصيلة جمع 270 مضافًا إليها 3، قائلاً بأن الجنين يبقى في الأحشاء تسعة شهور وغالبًا ما ينزل في اليوم الثالث من الشهر العاشر.
أما الخمس شواقل التي تُدفع كفدية فتشير إلى تقديس كل الحواس الخمس، لكي يصير الكل عذارى حكيمات يدخلن مع العريس إلى الفرح الأبدي (مت 25).