تفسير سفر صفنيا – المقدمة للقمص تادرس يعقوب

مقدمة

الله في حبه للبشرية ينشغل بكل إنسانٍ،كما ينشغل بالبشرية كجماعةٍ. يود أن يقيم منها أيقونة حيَّة للقدوس، تتأهل للتمتع بالشركة في الأمجاد الأبدية، وتنعم بالفرح السماوي الذي لا ينقطع.

هذه الأيقونة لن تتحقق فينا ما لم نتمتع بالحياة المقدسة التي طريقها التوبة أو الرجوع إلى القدوس!

هذا هو غاية الكتاب المقدس كله، وغاية الخلاص الإلهي، وغاية هذا السفر، حيث يتجلى الله بكونه الإله القدوس الغيور. فهو يؤدب ليس إلاَّ لكي يُقدس، حتى لا يخلط الإنسان بين شركته مع الله وشركته مع الشر، الأمر الذي يستحيل تحقيقه أو قبوله من القدوس.

يفرح الله بالتوبة الجماعية، فكما يبسط يديه ليضم العالم كله كعروسٍ واحدةٍ مقدسةٍ، يود أن يفتح المؤمن قلبه ليتسع لكل إخوته، وتنعم البشرية كلها بالحياة الجديدة في الرب.

مسرة الله أن تتحول كل الشعوب إلى شفةٍ نقيةٍ تُسبح معًا بروحٍ واحدٍ، وتبتهج بالله مخلصها بفرحٍ دائمٍ، في حرية صادقة.

اَلأصحاح الأَوَّلُ (يوم الرب العظيم)

اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي (محاكمة الأمم)

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ (أورشليم المتهللة)

صفنيا:

اسم عبري يعني “يهوه يستر أو يخفي أو يحمي”، ربما كان اسمه في ذهنه حين كتب: “اطلبوا التواضع. لعلكم تُستَرون في يوم سخط الرب” (2: 3). وأيضًا تعني “الذي فيه خوف الرب”.

بدأ عمله النبوي في بداية حكم يوشيا بن آمون ملك يهوذا. وهو نفسه من سبط يهوذا. عاصر إرميا النبي في بدء خدمته، واتفق معه في الهدف وطريقة الكتابة، وكان له دوره الرئيسي في الإصلاح الذي قام به يوشيا.

لا نعرف عن حياة صفنيا النبي شيئًا سوى ما ورد في هذا السفر. وقد نسب نفسه للملك حزقيا، لهذا يُظن أنه من نسل الملك الصالح حزقيا. وُلد في اليهودية، ولكن لا تُعرف بلدة مولده.

الظروف المحيطة به:

خلف حزقيا الملك ثلاثة من نسله بالتسلسل (2 مل 20-21). اثنان منهم كانا شريرين وعابدين للأوثان، فامتلأت أرض يهوذا بالعبادة الوثنية وانتشرت الرجاسات من كل صنفٍ. حلٌ الفساد الأخلاقي والظلم الاجتماعي في كل موقعٍ، فكان الأغنياء يستغلون الفقراء بصورةٍ بشعةٍ، وإذ جاء الملك الصالح يوشيا الذي جلس عل العرش وهو في السادسة عشر من عمره تعهد بالقيام بحركة إصلاحٍ وتجديدٍ، فصار من أكثر ملوك يهوذا المحبوبين.

إذ عاصر فترة الإصلاح في يهوذا، في أيام الملك يوشيا انقسم الشعب إلى أكثر من فريق:

  1. الغالبية العظمى سايروا حركة الإصلاح، لكنهم اهتموا بالمظهر الخارجي دون إصلاح النفس والحياة الداخلية وسلوكهم. وقد وصفهم إرميا النبي في الأصحاحات الأولى من سفره، حيث كان كل ما يشغلهم هو وجود الهيكل في وسطهم، دون الاهتمام بتمتعهم بسكنى الرب وحلوله وسط شعبه.
  2. بقية قليلة جدًا أمينة في إصلاح حياتها، تتمسك بكلمة الله، وتطلب مجده. هذه البقية كانت موضع سخرية الأغلبية.

تاريخ كتابته:

 واضح أن صفنيا النبي بدأ خدمته قبل سقوط نينوى وظهور دولة بابل، ولم يكن إصلاح الملك يوشيا قد بدأ، هذا الإصلاح الذي لعب فيه صفنيا النبي دورًا هامًا. لهذا يرى البعض أن خدمته النبوية غالبًا ما بدأت حوالي عام 640 حتى سنة 625 ق.م. وأن هذا السفر سجله في أواخر هذه الفترة(1).

بدأ صفنيا النبي خدمته بعد حوالي خمسين عامًا من نبوة ناحوم.

مفتاح السفر:

 “الرب إلهك في وسطك جبار، يخلص، يبتهج بكِ فرحًا. يسكت في محبته. يبتهج بكِ بترنمٍ” (3: 17).

سماته:

  1. غايته الحث على التوبة كطريقٍ للخلاص، موبخًا القادة على جميع مستوياتهم والشعب، معلنًا قرب حلول الضيق، أي سبي يهوذا بواسطة البابليين أو الكلدانيين. لكنه على الأرجح غاب عن المشهد قبل أن يحل الخراب الذي تنبأ به عن أورشليم.
  2. بدأ السفر بالويلات وانتهى بالتسبيح، كغالبية الأنبياء الذين ينذرون مؤكدين تأديبات الله، ثم يفتحون باب الرجاء خاصة بالإعلان عن مجيء المسيا. هكذا يمثل السفر قطعة موسيقية لأغنية الحب الإلهي الجاد، ففي حزن يبدأ السيمفونية ليعلن محبته الجادة، وبتهليلٍ يختم السيمفونية، منشدًا إياها في عذوبة رائعة. إنها من أعذب التسابيح المفرحة في العهد القديم.
  3. يحمل هذا السفر اتجاهًا مسكونيًا، فإن كانت مملكة يهوذا تسقط تحت تأديبٍ سريعٍ بعد طول أناة الله عليها إلى أجيالٍ، فإن الأمم أيضًا تدخل تحت المحاكمة لشرها نحو الله ونحو شعبه. ولكن ينتهي السفر بأورشليم الجديدة التي تضم الشعوب لتصير شعب الله المسكوني. فالسفر هو دعوة البشرية كلها لتستيقظ من نومها، وتتمتع بالشركة مع الله والحياة الجديدة الفائقة.
  4. واضح من السفر أن النبي قدم أحاديث كثيرة، وأنه في آخر حياته جمع بعض هذه الأحاديث بوحي الروح القدس في هذا السفر.
  5. ككثيرٍ من أسفار الأنبياء حمل في نهايته لغة إنجيلية مفرحة، وبشارة للأمم أنهم سيدركون الحق الإلهي ويتمتعون به. وقد سجل ذلك بطريقة سهلة، بسيطة، مفهومة جدًا ومباشرة.
  6. بكونه من السلالة الملكية يعرف ما قد حلّ بالقصر الملكي من خطايا وآثام، فكان في مركزٍ يسمح له بالحديث معهم عن أخطائهم بكل صراحة.
  7. تكررت كلمة “يوم” سبع مرات في هذا السفر. إذ سبق اليوم رقم معين غالبًا ما يقصد به 24 ساعة، أو سنة كاملة، أما إذا لم يسبقه رقم فيُقصد به وقت معين. وذلك كالقول الاحتفال بيوم رئيس معين، فيقصد به تذكار كل حياته. فالقول “يوم الرب”، يعني عمل الرب، سواء في مجيئه للتأديب أو يوم الدينونة أو يوم الخلاص.

أقسامه:

1.     يوم الرب العظيم

 

[ص 1].

2.     محاكمة الأمم

 

[ص 2].

3.     أورشليم المتهللة

 

[ص 3].

 

تمثل هذه الأصحاحات الثلاثة أساس الشركة مع القدوس، وهو “الإيمان والرجاء والمحبة“. ففي الأصحاح الأول يتجلى الإيمان، فبه ننال غفران الخطايا، إذ نؤمن بالله المحب العادل. في حنوه الشديد حازم لأجل بنياننا وشركتنا معه. وفي الأصحاح الثاني يعلن عن فتح باب الرجاءلكل الأمم والشعوب، فينتقل بنا من التأديب لأجل تقديسنا إلى قلبه المتسع المترقب خلاص العالم. وأخيرًا في الأصحاح الثالثتحول المحبة الإلهية قلوبنا إلى أورشليم المتهللة، إلى سماء مقدسة موضع سرور الله. إنه يقيم ملكوت السماوات في داخلنا، ويبتهج الله بنا حيث نحمل اسمه، ونتمتع بعمله الإلهي المفرح.

يوم الرب العظيم أو التأديب ص1:

*    يعتبره بعض الدارسين السفر التقليدي للإعلان عن محاكمة الله للأمم في العهد القديم.

*    الله في غيرته النارية [18] لا يطيق أن يرى الإنسان ملتصقًا بالشر: “نزعًا انزع الكل عن وجه الأرض” [2]، بسبب شر الإنسان لا يحتمل حتى الخليقة غير العاقلة التي خلقها من أجل الإنسان.

*    ينزع الكل عن وجه الأرض، فإن صِرتَ سماءً لا ينزع عنك شيئًا، بل يُقيم في داخلك مع ملائكته. أما إذا صرت أرضًا، فتفقد نفسك (الإنسان) وجسدك (الحيوان) وفكرك (الطيور) ومواهبك (أسماك البحر) [3].

*    يؤكد الرب أن يوم التأديب سريع جدًا [7، 14].

*    لا يطيق الله الخلط بين كهنة الله وكهنة البعل.

*    يريد القدوس قداسة شعبه، فيرفض حتى الثياب الغريبة غير المقدسة [7، 8].

*    يتنبأ صفنيا عن سبي يهوذابواسطة الكلدانيين [15].

محاكمة الأمم أو التوبة طريق الخلاص ص 2 :

*    جاء الأصحاح الثاني مشرقًا في أكثر بهاءٍ، حيث ينتقل من التأديب إلى الرجاء في مراحم الله خلال التوبة الجماعية. “اطلبوا الرب يا جميع بائسي الأرض” (2: 3).

*    يفرح الله بالتوبة الجماعية: “تجمَّعي واجتمعي أيتها الأمة غير المستحية” [1]. على أن يقدم كل عضو توبته كعلاقةٍ شخصيةٍ تمس أعماقه مع الله.

*    هذه التوبة الجماعية تضم الرعاة مع الرعية. فالكل محتاج للتوبة، يسند كل أحدٍ الآخر.

*    أيضًا يحتاج المؤمن إلى توبة شاملة، تمس نفسه في الداخل، وجسده ليكون مقدسًا بالتمام.

*    التوبة في إيجابيتها هي تحول نحو الله، نطلب الرب وبرَّه وتواضعه، يسكن فينا ويهبنا سماته.

*    أخطر عائق للتوبة هو الاستكانة وعدم الشعور بالحاجة إلى الله، فإن نفس الإنسان تصير مربضًا للحيوان [15] أي يلتقي بها كل فكرٍ حيوانيٍ شهوانيٍ.

أورشليم المتهللة أو عودة الأمم للرب ص3:

*    يُقدم الأصحاح الثالث أروع صورة للرجاء في العالم كله، لإسرائيل مع كل البشرية، حيث يتمتع الكل بمراحم الله وخلاصه العجيب.

*    الله وهو يوبخ شعبه يقدم التوبة كطريقٍ لخلاصهم، فاتحًا باب الرجاء للبشرية كلها خلال المسيا المخلص: “لأني حينئذٍ أحول الشعوب إلى شفةٍ نقيةٍ، ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوهُ بكتفٍ واحدةٍ…” [9-10].

*    ماذا يعنى “يعبدوهُ بكتفٍ واحدةٍ” إلاَّ أن يحمل الكل صليب ربنا يسوع المسيح معًا كما بكتفٍ واحدةٍ.

*    ما هي التقدمة التي تقدمها الشعوب [10] سوى تقدمة المسيح ربنا الواحدة؟!

*    تنتهي نبوته بالفرح: “ترنمي يا ابنة صهيون.. الرب إلهكِ في وسطكِ جبار. يخلص. يبتهِج بكِ فرحًا“.

*    إذ تحمل الكنيسة اسم عريسها وتصير حياتها تسبحة فرح يقول: “لأني أصيركم اسمًا وتسبيحة في شعوب الأرض كلها حين أرد مسبييكم قدام أعينكم قال الرب” [20].

من وحي سفر صفنيا

ردنيّ إليك، فأصير تسبحة لك!

 

*    أرى ذراعيك مبسوطتين ليّ أنا الخاطي.

أرجع إليك، فتحملني في أحضانك،

تقدسني بنعمتك يا أيها القدوس وحده.

أرجع إليك في مخدعي،

أتوب معترفًا بخطاياي وخطايا كل إخوتي.

التقي بك خفيةً كعريسٍ عجيبٍ،

والتقي بك مع إخوتي يا محب كل البشرية.

*    أؤمن أنك غافر الخطايا،

لا ترد نفسًا تأتي إليك،

بل تغسلها بدمك، وتطهرها، وتقدسها.

تبتر كل شرٍ فيها،

فإنك لن تقبل الشركة مع الشر والفساد!

*    أبواب الرجاء فيك مفتوحة،

من يقدر أن يغلقها أمامي؟!

لأدخل بالإيمان مملوء رجاءً وفرحًا وتهليلًا.

*    لتقم بحبك أورشليمك السماوية في داخلي.

ولتسكن أيها العريس الجبار في أعماقي.

تحول حياتي إلى عرسٍ لا ينقطع.

وتقدم ليّ عربون الأبدية هبة سماوية.

فأفرح مع إخوتي،

وأسبح معهم بشفةٍ واحدةٍ،

بك نصير جميعًا سيمفونية حب فريدة!

فاصل

فاصل

فهرس تفسير سفر صفنيا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر صفنيا 1
تفسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى