تفسير رسالة العبرانيين اصحاح 10 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح العاشر
الدخول إلى الأقداس

يكمل الرسول بولس مقارنته بين خدمة الهيكل الأول وخدمة الهيكل الجديد السماوي، ليؤكد لهم أن ما قد حُرموا منه بطردهم من الهيكل اليهودي إنما ظلال يلزم أن تخدم ما هو حق، تفتح المجال للخدمة السماوية. فما فقدوه من خدمة الكهنوت اللاوي لا يقارن بجانب خدمة السيد المسيح نفسه رئيس الكهنة السماوي، الذي وحده يقدر أن يدخل بنا إلى الأقداس.

1. عجز الذبائح الحيوانية ١ – ١١.

لأَنَّ النَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ،

لاَ نَفْسُ صُورَةِ الأَشْيَاءِ، 

لاَ يَقْدِرُ أَبَدًا بِنَفْسِ الذَّبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ، الَّتِي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ، 

أَنْ يُكَمِّلَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ [١].

يؤكد الرسول بولس عجز الناموس الموسوي عن تكميل الذين يقدمون الذبائح الحيوانية، فإن هذا الناموس لا يقدم عربونًا للسماويات أو الحياة العتيدة بل ظلاً لها، وبالتالي لا يقدر على تطهير الضمير الداخلي وتحويل النفس إلى سماءً وملكوتًا لله. يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الناموس الموسوي برسام يمسك بالقلم ليضع الخطوط الأولى للمنظر. هو بلا شك عمل ضروري ونافع بدونه لا تكتمل الصورة، لكنه لا يدخل بنا إلى ملامح الصورة ولا يكشف عن جمالها. أما العهد الجديد ففي رأيه يمثل رسامًا قدم لنا بألوانه الزاهية ملامح قوية للصورة صادقة وجذابة، توضح لنا تفاصيل كثيرة عن السماء. كأن العهد القديم بكل طقوسه التعبدية أشار إلى الطريق، لكن ملامحه لم تكن واضحة ولا جذابة، أما ذبيحة العهد الجديد فدخلت بنا إلى الطريق بعينه لنبلغ الكمال السماوي. 

العهد الأول ضروري ونافع لكنه يقف عاجزًا، يدفعنا للتمتع بالكمال في العهد الجديد الذي قدم لنا السماء حقيقة واقعة داخل القلب، يجعل من أعماقنا الداخلية أيقونة حية للحياة الخالدة. قدم الرسول دليلين على عجز ذبائح الناموس القديم:

الدليل الأول

لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ الخَطَايَا” [٤]. يستحيل لدم حيوانات غير عاقلة أن تطهر الإنسان جسدًا وروحًا من الخطايا؛ إنها في ذاتها لا تحمل قوة للتطهير، إنما تستمد فاعليتها مما تحمله من طاعة لمشيئة الله التي أُعلنت عن هذه الذبائح كرموزٍ. لهذا يرفض الله هذه الذبائح إن قُدمت كعملٍ روتيني في غير طاعة لله. فهو لا يُسر باللحوم ولا يطلب الشحوم ودم الحيوانات، لكنه يطلب الطاعة. هذا ما يؤكده الرسول بقوله: “لِذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ… ثُمَّ قال: هَنَذَا أَجِيءُ. لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ” [٥-٧]. كأن الله لا يشتهي الذبائح الحيوانية، وإنما يطلبها كرمزٍ للابن المتجسد، الذي صار جسدًا، مقدمًا الطاعة لمشيئة الآب بالتمام حتى الموت موت الصليب متقدس في الابن القدوس. “فَبِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً [١٠].

الدليل الثاني: 

وهو مكمل للسابق، حيث يعلن الرسول تكرار الذبائح الدموية الحيوانية يوميًا كعلامة العجز: “وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَارًا كَثِيرَةً تِلْكَ الذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ الْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ الْخَطِيَّةَ. وَأَمَّا هَذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ، مُنْتَظِرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُوضَعَ أَعْدَاؤُهُ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْهِ. لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ [١١-١٤].

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا النص، قائلاً: [اخبرني ما الحاجة إلى ذبائح لو أن ذبيحة واحدة كافية؟! فتقديم ذبائح كثيرة على الدوام يؤكد أن (العابدين) لم يتطهروا قط، وذلك كالدواء متى كان قويًا وجالبًا الصحة يحطم المرض تمامًا، وأن ذلك يتم بعد استخدامه مرة واحدة دون تكرار… فإعادة طلب الدواء باستمرار برهان أكيد على ضعف مفعوله. الدواء الممتاز يستخدم مرة واحدة ولا يتكرر. هكذا أيضًا في هذا الأمر لماذا يُعالج هؤلاء باستخدام الذبائح عينها باستمرار؟ فلو أنهم كانوا قد تحرروا من كل خطاياهم لما كانت الذبائح تتكرر كل يوم. لقد رسم لهم أن يقدموا ذبائح دائمة مساءً ونهارًا. هذا لا يعني حدوث تحرر من الخطايا إنما اتهام وتأكيد لوجودها. ما يحدث ليس استعراضًا لقوة الذبائح بل اتهام لضعفها. فالذبيحة الأولى لا تخمل قوة فتقدم الثانية، والثانية بلا فاعلية فيقدم غيرها، هذا كان شهادة عن وجود الخطايا. بحق كانت التقدمات شهادة عن الضعف، استمرارها دليل ضعفها. أما بالنسبة للسيد المسيح فكان الأمر مختلفًا.]

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم عن ذبيحة الإفخارستيا اليومية، هل ذبائح للصليب متكررة، ويجيب: [إنها ليست ذبيحة أخرى كما كان رئيس الكهنة يفعل؛ إنما نقدم على الدوام ذات الذبيحة، أو بالأحرى نتمم تذكار (أنامنسيس) الذبيحة.] وقد سبق لنا في دراستنا عن سرّ الإفخارستيا تأكيد هذه الحقيقة أن ذبيحة الإفخارستيا ذبيحة حقة، لكنها ليست تكرارًا بل ذات ذبيحة الصليب القائمة والتي لا تقدم ولا تتكرر.

2. قوة الذبيحة الفريدة ١٢ – ١٨.

يقابل الذبائح المتكررة ذبيحة السيد المسيح الواحدة الفريدة: “وَأَمَّا هَذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ، مُنْتَظِرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُوضَعَ أَعْدَاؤُهُ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْهِ. لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ [١٢-١٤]. جلوس السيد المسيح كذبيحٍ عن يمين الآب في السماوات منتظرًا وضع أعدائه تحت قدميه شهادة حية عن قوة الذبيحة المحيية التي تعمل على الدوام لمصالحة البشرية لكي يدخل بالمؤمنين إلى حضن الآب معلنًا النصرة على الشيطان وكل أعماله النجسة خلالهم. فالسيد ليس بمحتاج أن يعلن عن جلوسه عن يمين أبيه إذ هو واحد معه، لكن ما صنعه إنما يتحقق باسم كنيسته عبر العصور.

إنه “القربان” الواحد الجالس عن يمين الآب لا يتكرر، يعمل بغير انقطاع لنصرتنا وتحررنا من الخطية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [مادام قد غفر الخطايا خلال الذبيحة الواحدة فلا حاجة إلى ذبيحة ثانية.]

مرة أخرى يؤكد الرسول بولس أنه حيث تستطيع ذبيحة العهد الجديد أن تدخل إلى القلب وتعمل في الذهن لتطهير الأعماق فلا حاجة بعد إلى ذبيحة أخرى. “هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَهُمْ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ. وَإِنَّمَا حَيْثُ تَكُونُ مَغْفِرَةٌ لِهَذِهِ لاَ يَكُونُ بَعْدُ قُرْبَانٌ عَنِ الْخَطِيَّةِ [١٦-١٨].

3. الدخول إلى الأقداس ١٩ – ٢٣.

فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ، 

طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، 

وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ [١٩-٢١].

يحدثهم الرسول كإخوة ارتبطوا معًا بروح الأخوة بثبوتهم في المسيح يسوع الكاهن والذبيحة، إذ صارت لهم ثقة أو دالة للدخول إلى الأقداس باستحقاقات دم المسيح، خلال عضويتنا في جسده المقدس، الحجاب الذي انشق بالموت لكي يدخل بنا إلى قدس الأقداس، والكاهن القادر وحده أن يقدمنا إلى سماواته.

يحدثنا القديس أثناسيوس الرسولي عن هذا الجسد المبذول كطريق لعبورنا إلى الأقداس، قائلاً: [إذ بسط يديه على الصليب طرح رئيس سلطان الهواء الذي يعمل الآب في أبناء المعصية (أف ٢: ٢) مهيئًا طريق السماوات لنا.]

بذبيحة الصليب المحطمة لسلطان إبليس وهادمة للخطية صار لنا الثقة أو الجسارة في التمتع بالسماء، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من أين الجسارة؟ ان كانت الخطية تجلب خزيًا فإن غفرانها وتمتعنا بشركة الميراث وبالحب العظيم يجلب لنا الدالة (أو الجسارة).]

إذ قدم الله الناموس بذبائحه القديمة إنما مهَّد الطريق لتقبل ذبيحة جسد السيد المسيح الذي وحده يرفع قلوبنا إلى السماوات، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [بالناموس نحصد محصول الأسرار كسلم نصعد به من السفليات إلى العلويات، ونرتفع به من الأرضيات إلى السماويات. الآن لتصعد – ما استطعت – فوق الأفكار الأرضية خلال التأمل والبصيرة الداخلية التي للقلب. لتنسى الأرض وتصعد إلى سحب السماء… لتبحث عن خيمة الله (الكنيسة) حيث دخل يسوع ليعد لنا طريقنا، فيظهر أمام وجه الله يشفع لأجلنا.]

صار لنا الثقة أو الجسارة للدخول إلى “الأقداس“، أي مقدسات الله. هنا لا يقول “قدس الأقداس” أو “القدس”، إذ انفتح الاثنان معًا ولم يعد بعد بينهما حجاب يفصلهما عن بعضهما البعض. في استحقاقات الدم انفتحت حياتنا السماوية هنا أي على الأرض على الحياة السماوية المستقبلة؛ انفتح القدس (عبادتنا الحاضرة) على قدس الأقداس (العبادة الأبدية).

أما الطريق الذي انفتح فهو جسده بكونه الحجاب الذي انشق على الصليب وارتفع جسد الرب فانشق حجاب الهيكل الفاصل بين القدس وقدس الأقداس، صار جسده هو سرّ انفتاح الأقداس علينا أو انطلاقنا نحن إليها، إذ صار لنا فيه موضع كأعضاء جسده المقدس، لنا حق التمتع بالسماويات، جسده هو الحجاب الذي اختفى وراءه اللاهوت حتى نقدر أن نلتقي به ونتعرف على أسراره الإلهية. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حين رُفع جسده إلى العلى ظهرت الأمور التي في السماء.] كما يقول أنه في العهد القديم كان رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس بينما يبقى الكل خارجًا، أما الآن فإننا ندخل مع رئيس كهنتنا. دخول رئيس الكهنة وحده قدس الأقداس دون الشعب كان علامة انغلاق طريق الأقداس أمام البشرية، أما الآن فدخول السيد المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين العظمة حاملاً طبيعتنا هو إعلان عن انفتاح طريق الأقداس بالنسبة لنا.

يحدثنا البابا أثناسيوس الرسولي عن جسد السيد المسيح المرتفع على الصليب كمن هو في الهواء حتى يحطم رئيس سلطان الهواء إبليس (أف ٢: ٢)، فاتحًا الطريق لنا نحو السماوات، إذ يقول: [إن كان الشيطان عدو جنسنا قد سقط من السماء وتحوّل إلى مجالنا السفلي فقد صار له سلطان على الأرواح زملائه الذين يستخدمهم كأتباعه يعملون بالخداعات لأجل المعصية. لا يعملون فقط في الذين ينخدعون وإنما يحاولون إعاقة المرتفعين إلى فوق، وكما يقول الرسول: “حسب رئيس سلطان الهواء، الرب الذي يعمل الآن في أبناء المعصية” (أف ٢: ٢). لقد جاء الرب ليطرد الشيطان ويطهِّر الهواء منه، مهيئًا الطريق إلى السماء وذلك “بالحجاب أي جسده” (عب ١٠: ٢٠). كقول الرسول: أي نوع من الموت يقدر أن يحقق هذا، إلاَّ الموت الذي يتم في الهواء، أقصد بالصليب!… لقد لاق جدًا أن يحتمل الرب هذا الموت، فبرفعه (على الصليب) طهر الهواء من شر إبليس وكل أنواع الشياطين، إذ يقول: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو ١٠: ١٨)، بهذا صنع افتتاحًا جديدًا لطريق السماء، إذ يقول أيضًا: “ارفعوا أبوابكم أيها الرؤساء ولترتفع الأبواب الدهرية” (مز ٢٤: ٧ – السبعينية). فإن الكلمة لم يكن في حاجة إلى فتح الأبواب إذ هو رب الكل، ولا يُغلق شيء من أعماله أمامه، إنما نحن الذين في حاجة إلى فتح الأبواب، إذ حملنا في جسده. لقد قدم الموت لحسابنا، ممهدًا لنا الطريق إلى السماوات.]

يرد القديس أثناسيوس على الأريوسيين الذين يدعون أن السيد المسيح مخلوق بسبب جسده، قائلاً بأن هذا الجسد الذي أخذه الكلمة يخلص البشر من الموت، ويفديهم من الخطايا، ويفتح لهم أبواب السماء. [الذين لا يريدون أن يعبدوا الكلمة الذي صار جسدًا يجحدون تأنسه… لا يمكن فصل الكلمة عن الجسد.] كأنه إذ يقول الرسول أن طريق الأقداس قد فتح بجسده، لا يمكن أن تعزل الجسد عن الكلمة، إذ هو شخص واحد، كلمة الله المتجسد.

هذا الطريق المفتوح لنا ننعم به في مياه المعمودية حيث نتحد مع مسيحنا كأعضاء في جسده، إذ يقول: “لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ” [٢٢].

4. الجهاد المستمر ٢٤ – ٣٩.

إيماننا بدم السيد المسيح هو الطريق الذي يهبنا الرجاء اليقين لدخولنا الأقداس، هذا الرجاء ينبغي أن يكون ملتحمًا مع ضميرنا الصالح بعيدًا عن الشر، مع الالتزام بالجهاد المستمر في حياة البرّ خاصة المحبة. وكأن الإيمان ليكون حيًا وفعّالاً يلزم أن يكون ملتحمًا بالرجاء مع المحبة، إذ يقول: “لنتقدم في يقين الإيمان… لنتمسك بإقرار الرجاء راسخًًا… ولنلاحظ بعضنا بعضًا للتحريض على المحبة” [٢٢-٢٤]. الإيمان يهبنا الدخول إلى الطريق، والرجاء يفتح القلب لمعاينته بفرح، والمحبة هي سمة الطريق ذاته!

من أعمال المحبة: “وَلْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضًا لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ [٢٤]. أي يسند أحدنا الآخر خلال المحبة وأعمال الخير. فالجهاد يكون قانونيًا باجتماعنا معًا بروح المحبة كأعضاء بعضنا لبعض، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بهذا يكون اجتماع الكنيسة كلها قويًا، إذ ما لا يستطيع الإنسان أن يفعله بمفرده يقدر أن يتممه خلال التصاقه ببقية الكنيسة. لهذا فالصلوات (الجماعية) المرتفعة هنا عن العالم وعن الكنيسة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها لأجل سلام الذين هم في ضيقة أمر ضروري.]

يعود فيؤكد الرسول ضرورة الجهاد بروح جماعية، قائلاً: “غَيْرَ تَارِكِينَ اجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ، بَلْ وَاعِظِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَبِالأَكْثَرِ عَلَى قَدْرِ مَا تَرَوْنَ الْيَوْمَ يَقْرُبُ [٢٥]. وقد استخدم القديس يوحنا الذهبي الفم هذه العبارة في مدح الكنيسة الجماعية ونبذ روح العزلة عن الجماعة، قائلاً: [ليس شر عظيم هكذا مثل العزلة وبقاء الإنسان خارج الجماعة بلا اتصال.] حقًا ما أنفع الروح الجماعية، فإنها تسند كل عضو دون أن تفقده علاقته الشخصية مع إلهه!

أخيرًا يحذرنا الرسول نحن الذين تمتعنا بفاعلية دم السيد المسيح من السقوط في العصيان، لأن: “مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟! [٢٨-٢٩] ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا النص بقوله: 

[كيف تدوس ابن الله؟… 

الذين يخطئون لا يعطون المسيح اعتبارًا… 

لقد صرت جسد المسيح، فهل تسلم نفسك للشيطان، ليطأ عليك تحت قدميه؟!]

كما يقول: [مثل هذا الإنسان يستحق عقابًا أعظم، ومع هذا فإن الله يفتح له أبواب التوبة ويقدم له وسائل كثيرة لغسل معاصيه.]

إن كان السيد المسيح بدمه فتح لنا باب الرجاء على مصراعيه، فلا يعني هذا استهانتنا بالمراحم الإلهية وطول أناة الله علينا. وكما يقول الرسول بولس: “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة؛ ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تدخر لنفسك غضبًا في يوم الغضپ وإستعلان دينونة الله، الذي سيجازي كل واحدٍ حسب أعماله” (رو ٢: ٤ – ٦).

بعد أن قدم الوصايا كشف لهم جانبًا من جوانب جهادهم لأجل تشجيعهم، كعادة الرسول الذي يقرن توبيخاته بالمدح، وحزمه بالحب وشدته بالرجاء، إذ يقول: “وَلَكِنْ تَذَكَّرُوا الأَيَّامَ السَّالِفَةَ الَّتِي فِيهَا بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ صَبِرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ [٣٢]. بعدما نالوا المعمودية أي سرّ الاستنارة صبروا على الجهاد في آلام كثيرة خاصة من بني جنسهم اليهود، وقد قبلوا الآلام ليس بجهادٍ وصبرٍ فحسب، وإنما بفرح روحي، إذ يقول: “لأَنَّكُمْ رَثَيْتُمْ لِقُيُودِي أَيْضًا، وَقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ، عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالاً أَفْضَلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَبَاقِيًا” [٣٤]. 

علامة تقدمهم الروحي أنهم قبلوا الآلام بفرح وكما يقول العلامة أوريجينوس: [الفرح هو أحد ثمار الروح الواردة في الكتاب المقدس؛ ففي الرب تبتهج نفسي؛ إذ تبتهج نفسي بالرجاء، تبتهج باحتمال الظلم لأجل اسمه في كل المناسبات، مقدمًا باكورة الفرح لله بواسطة الكاهن الأعظم الحقيقي.]

أما سرّ فرحهم في احتمال الظلم وسلب أموالهم فهو التمتع بالمكافأة السماوية. لقد وضعوا ثقتهم بإيمان في الأقداس السماوية متمسكين بإقرار الرجاء راسخًا إلى النهاية. لقد احتملوا آلام الحب الحاضرة بصبرٍ وفرحٍ، منتظرين سرعة مجيء السيد المسيح الآتي ليأخذهم معه إلى الأقداس.

تفسير عبرانيين 9 عبرانيين 10  تفسير رسالة العبرانيين
تفسير العهد الجديد تفسير عبرانيين 11
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير عبرانيين 10  تفاسير رسالة العبرانيين تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى