تفسير رسالة العبرانيين أصحاح 3 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الأصحاح الثالث

العظة الخامسة (عب3: 1-10)

“ومن ثم أيها الأخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته يسوع المسيح. حال كونه أميناً للذي أقامه كما كان موسي أيضا في كل بيته” (عب 3: 1-2).

لقد توجه بالكلام إلى ناموس رئاسة الكهنوت، لأنه أراد أن يقارن بين المسيح له المجد وبين موسي، نظرًا لأن الجميع كانوا يكرمون موسى كرامة عظيمة. ويشير مقدماً إلى سمو المسيح. بالطبع يبدأ من الجسد ، ولكنه يصعد إلى الألوهية، حيث لا يمكن بعد أن تعقد مقارنة.

بدأ أولاً من الجسد ، ليضع (مبادئ) المساواة، ويقول: «كما كان موسي أيضاً أميناً في بيته». ولم يظهر الإمتياز في البداية، لكي لا يُبعد المستمع، ويغلق أذانه على الفور. لأنه وإن كانوا مؤمنين، إلا أنهم كانوا يقدرون موسى تقديرًا كبيرًا. والذي يقول عنه أميناً للذي أقامه». ماذا أقامه؟ أقامه «رسول ورئيس كهنة». لم يذكر أي شيء هنا عن الجوهر ولا عن الألوهية، بل تكلم أولاً عن الرتب البشرية، كما كان موسي أيضاً أميناً في بيته». أي للشعب، والهيكل. ولكنه يقول هنا في بيته، مثلما يمكن للمرء أن يتكلم عن الذين هم في بيته. وعلى مثال الشخص الذي يكون مدبراً لبيته، هكذا كان موسي بالنسبة للشعب. إذا فهو يتكلم هنا عن الشعب باعتباره «بيت»، وأضاف بيته نحن»، أي نحن داخل بناءه. ثم بعد ذلك يتحدث عن الإمتياز.

” فإن هذا قد حسب اهلاً لمجد أكثر من موسي” (عب 3: 3).

هنا أيضاً يتكلم عن الجسد بمقدار ما لباني البيت كرامة أكثر من البيت». وذاك، كما يقول، كان ابن البيت ولم يقل هذا عبد، وذاك سيد، لكنه أعلن عن ذلك بطريقة غير مباشرة. إذاً إن كان البيت هو نحن، وكان موسى واحداً من الشعب، إذاً فهذا أيضاً كان ابن البيت لأننا نحن أيضاً قد اعتدنا أن نتكلم هكذا، أن فلانا هو ابن بيت فلان إلا أنه لا يتكلم هنا عن البيت، أي الهيكل لأن هذا البيت لم يبنه الله بل البشر . بينما الذي خلق ذاك (موسي)، هو الله ولاحظ كيف يظهر التفوق، دون أن يصير مدركاً. يقول كما كان أميناً في بيته وذاك هو البيت أي الشعب والجاعل له كرامة أكثر من الأعمال التي يعملها ، بل ولباني البيت كرامة أفضل من البيت.

” لأن كل بيت يبنيه إنسان، ولكن باني الكل هو الله” (عب 3: 4).

أرأيت أنه لا يتكلم عن الهيكل، بل يتكلم عن كل الشعب؟.

” وموسي كان أميناً في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلم به ” (عب 3: 5).

ها هو امتياز آخر للابن على العبيد أرأيت كيف أنه يمتدح مرة أخرى الأصل النبيل من خلال صفة الابن؟

” وأما المسيح فكابن على بيته (كان أميناً) ” (عب 3: 6).

أرأيت كيف أنه يميز بين المخلوق، والخالق بين العبد وبين الابن؟ الابن يدخل إلى البيت الأبوي كسيد ، بينما موسي يدخل كعبد. وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية». هنا أيضاً يحثهم على أن يقفوا بشجاعة، وألا يسقطوا لأننا، كما يقول، سنصير بيت الله تماماً كما كان موسي، إن تمسكنا بالطبع بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية وبناء على ذلك، فمن يحزن في التجارب ويسقط لا يفتخر ومن يستحي ومن يختبئ، لا يعتبر شجاعًا، ومن يتضايق كثيراً، لا يفتخر بعد ذلك يمتدحهم قائلاً إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية، مبيناً أنهم بالفعل قد بدأوا . ولكن يجب أن يتمسكوا بثقة الرجاء) حتى النهاية، وليس فقط أن يقفوا ثابتين، بل أن يكون رجاؤهم ثابتا ، بالإيمان الواثق دون أن يتزعزعوا من التجارب.

ولا تتشكك، حين تسمع “تألم مجرباً” لأن هذه العبارة قد قيلت عن الجسد. لأنه إن كان بالنسبة للآب الذي لم يُصلب، يقول الكتاب “الآب من السماء أشرق على بني البشر”، أي علم بكل شيء بشكل تام، وأنزل وأري هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الأتي إليَّ، وأيضاً “لا يقدر الله أن يتحمل خطايا البشر” (هكذا يظهر الكتاب المقدس حجم الغضب)، فبالأكثر جداً من الممكن أن ثقال هذه العبارات البشرية عن المسيح الذي تألم بالجسد. لأن كثيرا من الناس يعتبرون أن الخبرة هي التي تقود إلى المعرفة الأكثر أماناً من كل شيء، فالرسول بولس يريد أن يظهر أن ذاك الذي تألم، يعرف جيداً آلام الطبيعة الإنسانية. يقول “من ثم أيها الأخوة القديسون”. عبارة “من ثم ” ، يقولها بدلا من “لهذا”.

«شركاء الدعوة السماوية». إذاً لا تطلبوا شيئاً هنا، بعدما دعيتم إلى هناك (السماء). لأن هناك يكون الأجر والمكافأة، هناك يكون التعويض. ماذا إذا؟ لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته حال كونه أمينا للذي أقامه «كما كان موسي أيضاً في بيته». ماذا تعنى عبارة «حال كونه أميناً للذي أقامه»؟. تعني ذاك الذي يهتم، الذي يعتني بأموره، ولا يتركها تبقي بلا ثمر وبلا فاعلية، وأن تسير هكذا: «كما كان موسي أيضا في بيته». أي أعرفوا مَنْ كان رئيس الكهنة، ومن أين ينحدر، ولن تحتاجوا إلى نصيحة أخرى ولا عزاء أخر يدعوه «رسول»، لأنه مرسل، ورئيس كهنة لاعترافنا»، أي رئيس كهنة إيماننا بالصواب قال كما كان موسي ، لأن الشعب وضع ثقته في موسي، كما في المسيح حماية للشعب، رغم أنه كان عظيما، وأقيم لأشياء عظيمة. لأن موسي كان عبدا ، بينما المسيح ابن، وموسي إهتم بأمور غريبة، بينما المسيح بأمور الله.

«كخادم شهادة للعتيدين أن يتكلم به». ماذا تقول؟ هل يقبل الله شهادة إنسان؟ بالتأكيد (يقبل). لأنه إن كان الله يستدعي شهادة السماء، والأرض، والجبال، قائلاً بفم النبي «اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب تكلّم ، اسمعي صوت الرب أيتها الجبال ويا أسس الأرض الدائمة فإن للرب خصومة مع شعبه ، فبالأكثر جدا سيستدعي شهادة البشر. ماذا يعني كخادم الشهادة؟ لكي يكونوا شهوداً، عندما يسلك هؤلاء اليهود بوقاحة . «وأما المسيح فكابن». لأن موسي اهتم بالأمور الغريبة بينما المسيح اهتم فيما لله.

«بثقة الرجاء وافتخاره». بالصواب قال «الرجاء» لأن كل الخيرات تعتمد على الرجاء. لكن يجب أن يكون لنا رجاء مثل هذا ، حتى نفتخر، كما لو كان الأمر يتعلق بأشياء قد حدثت بالفعل. ولهذا قال «ثقة الرجاء وافتخاره»، وأضاف «إن تمسكنا بهذه الثقة ثابتة وإلى النهاية»، لأننا خلصنا بالرجاء.

إذا طالما أننا خلصنا بالرجاء، وانتظرناه بصبر، فلا ينبغي أن نحزن من جهة الأمور الحاضرة ولا تطلب من الآن الخيرات العتيدة التي وعدنا بها. لأنه يقول: «الرجاء المنظور ليس رجاء». لأن الخيرات هي خيرات عظيمة، ولا يمكننا أن نأخذها هنا في هذه الحياة المؤقتة. ولأي سبب سبق وأخبرنا بهذه الأمور، طالما أنه لا ينوي أن يعطيها لنا في هذه الحياة؟ لكي يشدّد نفوسنا بالوعد ، لكي يقوي رغبتنا بالعهد، ولكي يشجع ويجذب انتباهنا (لهذه الوعود). ولهذا صارت كل هذه الأمور.

4- إذاً يجب ألا نقلق. ينبغي ألا يقلق أحد، عندما يري أن الأشرار ينعمون. فالتعويض ليس هنا، لا بالنسبة للشر، ولا بالنسبة للفضيلة. وإن حدث مرة رد للشر أو تعويض للفضيلة ، فإنها لا تحدث بعدل، بل تحدث فقط كاختبار حتى يمكن لأولئك الذين يشككون في حقيقة القيامة أن يتعقلوا بواسطة هذه الأمور، التي تحدث هنا (في هذه الحياة). إذاً حين نري أن أحد الأشرار صار غنياً، فلا ينبغي أن نقلق. لأن المكافآت والعقوبات هي هناك في الدهر الآتي. كذلك فإنه من غير الممكن أن يكون الشرير شريراً في كل شيء، بل يمكن أن يتصف ببعض الأمور الحسنة، ولا الإنسان الصالح يمكن أن يكون صالح تماماً، فقد يكون لديه بعض الزلات.

إذاً عندما يتنعم الشرير، فيجب أن تعرف أن تنعمه سيأتي بالضرر عليه هو، لأنه أخذ التعويض عن تلك الأمور التي يعتبرها جيدة، وقد تمتع بها في هذه الحياة الحاضرة، لكنه سيعاقب بشكل قاطع في الدينونة الأخيرة. وعلى كل حال مطوب هو ذاك الذي يُعاقب هنا في هذه الحياة الحاضرة ، لأنه يترك كل الخطايا ، ويرحل من هذه الحياة، مُكرّمًا، نقيًا، وبارا. هذا ما يعلمنا به ق بولس، قائلاً: من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون ، وأيضاً أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب”. ويقول النبي قد قبلت (أورشليم) من يد الرب ضعفين من كل خطاياهم. أيضاً يقول داود النبي «أنظر إلى أعدائي لأنهم قد كثروا وبغضا ظلما ابغضوني». وأغفر جميع خطاياي ” . وأيضاً يقول آخر :« يا رب تجعل لنا سلاماً لأنك كل أعمالنا صنعتها لنا» إن هذه الأمور تعتبر دليلا على أن الصالحين ينالوا عقابهم عن خطاياهم هنا في هذه الحياة.

ولكن حيث إن الأشرار يتمتعون بالخيرات هنا ألا يعاقبون بشكل قاطع هناك، اسمع إبراهيم الذي يقول للغني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا عن أي الخيرات يتحدث؟ لأنه فيما يتعلق بالخيرات في هذه الحياة يستخدم كلمة “تمتعت” وليس كلمة “أخذت”، مظهراً أن الاثنين (الغني والفقير)، عانيا من تلك الأمور التي كان ينبغي أن يجتازانها ، لأن الغني عاش في رفاهية، والفقير عاش في بؤس. ومن أجل هذا يقول والآن هو يتعزى (لأنك تراه نقياً من الخطايا). وأنت تتعذب». إذا يجب ألا نحزن عندما نرى أن الخطاة يتمتعون هنا في هذه الحياة الحاضرة، بل لنفرح عندما نعاني نحن أنفسنا، لأن هذه المعاناة تمثل نصرة على خطايانا. لا يجب أن نطلب الراحة، لأن المسيح وعد تلاميذه بالضيقة في العالم سيكون لكم ضيق». ليس هذا فقط، بل والرسول بولس يقول: «وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون».

لا يوجد رياضي شجاع يطلب أن يغتسل ويستحم ، ويطلب مائدة مملوءة بالأطعمة والنبيذ خلال فترة المنافسات هذا ليس من سمات الرياضي، بل هي سمة إنسان أحمق. لأن الرياضي يصارع والتراب والزيت عالق بجسده، ويقف منتصبا تحت شمس ملتهبة باذلا جهداً وفيرا ومتحملاً تعب وألم المنافسة.

هذا هو الوقت لكي نصارع وننزف دما ونتألم اسمع ماذا يقول المطوب بولس: هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء . . فلتعتبر كل حياتنا مليئة بالصراعات وأننا لن نطلب الراحة أبداً ، ولن تُبَاغَت بأحزاننا وآلامنا ، هكذا هو المصارع عندما يضارب ولا يباغت إن زمن الراحة هو زمن آخر، فيجب أن نصير كاملين بواسطة الضيقات. على الرغم من أنه لا توجد الآن اضطهادات، ولا ضيقات، إلا أنه توجد ضيقات أخرى نتعرض لها كل يوم. فإن لم نعانِ من هذه الضيقات، فسيكون تحملنا لتلك الضيقات أضعف بكثير. يقول ق. بولس: «لم تصيبكم تجربة إلا بشرية.

إذا فلنصلي إلى الله حتى لا نقع في تجربة، ولكن إذا حدث ذلك علينا أن نتألم ولكن بشجاعة. لأن سمة البشر المتعقلين، هي أنهم لا يلقوا بأنفسهم في الأخطار، بينما الشجعان والحكماء يقفون منتصبين عندما يقعون في تجربة ولا أن نسقط بلا منطق لأن ذلك دليل على الوقاحة، ولا أن نتراجع أمام قسوة الظروف (لأن هذا دليل على الخوف)، ولكن إن دعتنا البشارة، فلا يجب أن نرفض. وبشكل عام إن لم يوجد سبب أو داع أو التزام يدعو (للجهاد) من أجل التقوى، فلا يجب علينا أن نركض، وإلا فسيكون ذلك بمثابة استعراض وكرامة زائدة. أما إن حدث شيء من تلك الأمور التي تضر بالتقوى، حتى وإن كان يجب أن نجوز أخطار مهلكة ولا حصر لها، فلا ينبغي أن نرفض أبداً (الخوض فيها). لكن لا ينبغي أن تستدعي التجارب، حين تتقدم في تقواك كما تشتهي. لماذا تجلب عليك أخطار، لا يوجد من ورائها أي ربح؟

5. أقول هذه الأمور، لأنني أريد أن تحفظوا وصايا المسيح، الذي يُوصينا أن نصلي، حتى لا نقع في تجربة وأن نتبعه حاملين الصليب، لأن هذه الأمور ليست متناقضة، بل هي متوافقة للغاية فيما بينها. إذاً فلتستعد هكذا مثل جندي شجاع، وأن تكون دائماً متسلّحاً، وهادئا، ويقظا مستعدا لهجوم العدو. لكن يجب ألا تستدعي الحرب، لأن هذه ليست سمة جندي، بل سمة العاصي والمخالف. أما إذا دعاك بوق التقوى، فتجند على الفور، احتقر الحياة، انطلق إلى الجهاد الروحي برغبة كبيرة، حطم فيلق الأعداء، اقطع وجه الشيطان، وأقم نصب الانتصار. لكن إن لم تضار التقوى مطلقاً، لم يحارب أحد عقائدنا ، أي تلك التي تختص بحياتنا، إن لم يجبرك أحد أن تفعل شيئاً مما لا يرضي الله، فلا ترهق نفسك أكثر من اللازم.

حياة المسيحي يجب أن تكون مخضبة بالدماء، بالطبع ليس أن يُريق دماء الآخرين، بل أن يكون مستعدًا أن يُراق دمه هو. إذا لنريق دماءنا، عندما يكون هذا لأجل المسيح، بنفس القدر من الرغبة الطبيعية التي بها يمكن للمرء أن يصب ماء لأنه في الحقيقة الدم هو ماء ينساب في الجسم، ولننسلخ عن جسدنا بنفس السهولة التي نخلع بها .ملابسنا وهذا سيحدث إن لم نكن مقيدين بالمال، وبالبيوت، وإن لم نكن منجذبين للأمور الحاضرة بكل هذه الشهوة. أي أنه إن كان الجنود يتبرأون من كل شيء بطيب خاطر بالأكثر جداً يجب أن نستعد نحن جنود المسيح هكذا ، ونصطف من أجل محاربة الشهوات ومقاومتها. لا يوجد الآن اضطهاد، ويا ليت لا يحدث أبداً. ولكن هناك حرب أخرى، حرب شهوة المال، حرب شهوة الجسد، حرب الشهوات عموما.

هذه الحرب يصفها ق بولس قائلاً: إن مصارعاتنا ليست مع دم ولحم “. هذه الحرب موجودة على الدوام من أجل هذا يجب أن نثبت دوما متسلحين فأثبتوا ممنطقين أحقائكم ، الأمر الذي يعني أن هذا أيضاً يتعلق بالحياة الحاضرة، وقد أظهر أنه يجب علينا أن نكون مسلحين على الدوام. لأن الحرب التي تدار باللسان هي حرب كبيرة وكبيرة أيضا هي الحرب التي تنشب بالأعين، لنمنع هذه الحرب إذا. شرسة هي حرب الرغبات، وانطلاقاً من هذا يجب أن يتسلح جندي المسيح. «فأثبتوا إذا ممنطقين احقائكم»، وأضاف «بالحق». لماذا يقول «بالحق»؟ لأن الشهوة هي هزؤ وكذب، كما قال داود النبي في موضع لأن خاصرتي قد امتلأت. هذا الأمر ليس لذة أو شهوة، بل هو ظلال شهوة. ولهذا يقول «ممنطقين أحقائكم بالحق، أي بالشهوة الحقيقية، بتعقل وبلياقة لأنه يعرف لامعقولية الخطية، وأراد أن تكون كل أعضائنا مُصانة. لأنه يقول: “غضب الأثيم لا يمكن أن يُبرر”. يريد أيضا أن نرتدي درعا وترسا. لأن الغضب وحش يندفع بسهولة، ولكي ننتصر عليه ونضبطه نحتاج لسياج وحواجز. ولهذا السبب تحديداً، هذا الجزء أى الأحقاء، قد خلقه الله لنا من العظام، كما لو كانت مخلوقة من صخر ما، واضعاً هذه العظام حولها كدعائم، حتى لا يتحطم الإنسان كله بسهولة إذا ما كسرت مرة أو قُطعت لأنه إذا حدث هذا ، سيسبب ألما لا يحتمل، وأي عضو آخر لن يمكنه أن يحتمل هذا العنف. ليس هذا فقط، بل أن الأطباء يقولون أنه لهذا السبب وضعت الرئتين تحت القلب، حتى أن القلب يوجد فوق شيء لين ويترضض كما لو كان على أسفنج، ويسترح ، ولا يتحطم بقفزاته المستمرة على عظم قاس، يترضض فوقه. إذا نحن نحتاج لدرع قوي، حتى يظل هذا الوحش هادئ على الدوام. لكننا نحتاج أيضاً إلى خوذة.

لأن الأمر هنا مرتبط بالفكر، وعلى هذا الفكر يعتمد كل شيء، فإما أن نخلص إن فعلنا ما ينبغي فعله وإما أن نهلك إذا فعلنا عكس ذلك، ولهذا يقول وخذوا خوذة الخلاص » . لأن المخ بطبيعته لين، ولهذا يُغطي من الجزء الأعلى، كما من قشرة ما ، من خوذة عظيمة. وهذا المخ، هو المسئول عن كل ما هو حسن وشرير سواء عرف الصواب أو عرف العكس (الأمور المخالفة). بل وأيدينا وأرجلنا تحتاج إلى أسلحة ليست بالطبع الأيدي والأرجل الجسدية، بل أيضاً تلك التي للنفس الأيدي لتفعل تلك الأمور التي ينبغي فعلها، والأرجل لكي تذهب إلى حيث يجب أن تذهب.

إذاً لنسلح أنفسنا هكذا، وسنستطيع أن ننتصر على الأعداء، ونرتدي تاج النصرة بمشيئة ربنا يسوع المسيح، الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين

العظة السادسة (عب3: 7-18)

” لذلك كما يقول الروح القدس اليوم إن سمعتم صوته. فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر. حيث جربني آباؤكم. أختبروني وأبصروا أعمالي أربعين سنة. لذلك مقت ذلك الجيل وقلت أنهم دائماً يضلون في قلوبهم ولكنهم لم يعرفوا سبلي حتى أقسمت في غضبي لن يدخلوا راحتي” (عب 3: 7-11).

6- بعدما تكلم ق بولس عن الرجاء، وقال وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية يُظهر بعد ذلك، أن رجائنا يجب أن يكون ثابتا. لكن لاحظ، لماذا صاغ هذا الأمر بصورة أكثر تعقيداً، وصعبة الإدراك. ولهذا يجب أولاً أن أتكلم معكم وأعرفكم بالموضوع كله بإيجاز لأنكم لن تحتاجون لي بعد ، إن عرفتم هدف الرسول بولس كلمته كانت عن الرجاء، وإذ ينبغي أن نترجي خيرات الدهر الآتي وأنه على كل الأحوال ستكون هناك مكافئة ثم راحة من الأتعاب التي نجوزها هنا في هذه الحياة الحاضرة. هذا إذاً ما يوضحه من كلام النبي. ماذا يقول؟ يقول: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة مثل يوم مسة في البرية. حيث جربني آباؤكم. اختبروني. أبصروا أيضاً فعلى أربعين سنة مَقَتُ ذلك الجيل وقلت هم شعب ضال قلبهم وهم لم يعرفوا سبلي. فأقسمت في غضبي لا يدخلون راحتي» ” . يتكلم عن ثلاثة أنواع من الراحة الأولى: هي راحة السبت، والتي فيها توقف الله عن عمله الثانية: الخاصة بأرض فلسطين والتي عندما دخلها اليهود استراحوا فيها من الأتعاب الكثيرة، والمشقة التي تعرضوا لها. الثالثة تتعلق بالراحة الحقيقية وهي ملكوت الله، والذي كل من يناله، يرتاح من الأتعاب والمشقات. إذا فهو هنا يذكر ثلاث راحات. فلماذا يذكر الثلاث راحات أيضاً وهو يتكلم عن واحدة ؟ لكي يظهر كلام النبي الذي يتكلم عن هذه الراحة. بالطبع لم يتكلم عن الراحة الأولى، فكيف سيتكلم عن هذه الراحة التي حدثت قديماً؟ ولا يتكلم عن الراحة الثانية التي حدثت في فلسطين. وكيف سيتكلم بعد ذلك عن الراحة الثالثة. لكن هناك حاجة أن أروي التاريخ أيضاً، حتى أجعل الكلام أكثر وضوحاً. 

فبعدما خرج اليهود من مصر، وساروا في طريق طويلة، وأخذوا براهين عديدة على قوة الله في مصر وفي البحر الأحمر وفي البرية قرروا أن يرسلوا جواسيس ليتجسسوا طبيعة الأرض (أرض كنعان). هؤلاء الجواسيس ذهبوا آنذاك ورجعوا بإعجاب شديد بطبيعة هذه الأرض، قائلين إنها أرض الثمار الغنية الخصبة ولكنها موطن لا يمكن محاربته وذو أناس أشداء ولكن اليهود الجاحدين معدومي الإحساس، بينما كان ينبغي عليهم أن يتذكروا إحسانات الله، وكيف أنهم حين كانوا محاصرين بجيوش مصرية بهذا القدر الكبير، فإن الله ليس فقط قد أنقذهم من الأخطار، بل جعلهم يسودون على غنائمهم، وكيف أنه شق لهم الصخر في البرية ومنحهم ماءً ،وفيراً وكيف أعطاهم المن، وكان ينبغي عليهم بعدما يتذكرون كل هذا، والمعجزات الأخرى التي صنعها أن يؤمنوا به، إلا أنهم لم يفكروا في أي شيء من هذه الأمور، بل خافوا جداً، وكأن شيئا لم يحدث، أرادوا أن يعودوا لمصر مرة أخرى قائلين: لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف تصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة ” . الله إذاً في ملء غضبه، أقسم أن هذا الجيل، الذي قال هذا الكلام لن يدخل إلى أرض الراحة، لأنهم قد نسوا بهذه السرعة جميع المعجزات التي حدثت، ولذلك هلك الجميع في البرية.

إذا لماذا تكلّم داود بعد هذا الجيل، قائلاً اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة؟ لكي لا تعانوا نفس المعاناة التي عاناها أجدادكم وتُحرموا من الراحة. أي أنه قال هذه الأمور، كما لو كانت توجد راحة. لأنه إن كانوا قد نالوا الراحة، فلماذا يقول لهم أيضاً اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة إذا هل هناك راحة أخرى غير ( راحة) ملكوت الله، والتي يُعتبر السبت صورة سابقة ورمزاً ونموذجاً لها؟ وبعد ذلك ذكر أولاً تلك الخطية الكبيرة، وهي اليوم أن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط مثل يوم التجربة في القفر، حيث جربني آباؤكم. اختبروني وأبصروا أعمالي أربعين سنة. لذلك مَقَتُ هذا الجيل وقلت أنهم دائماً يضلون في قلوبهم ولكنهم لم يعرفوا سبلي. حتى أقسمت في غضبي لن يدخلون راحتي حينئذ أضاف

” أنظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلبا شريرا بعدم إيمان في الارتداد عن الله” (عب 3: 12).

هكذا ينتقل من الكلام عن القسوة، إلى الكلام عن عدم الإيمان ومثل الأجساد التي بلا إحساس والمتيبسة التي لا تستجيب لأيدي الأطباء، هكذا الأنفس التي تقست، لا تستجيب لكلمة الله لأنه من الطبيعي ألا يؤمن البعض، كما لو كانت الأمور التي حدثت غير حقيقية. ولهذا يقول أنظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلباً شريرا بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي». لأن الكلام عن أمور الدهر الأتي، ليس مقنعاً ، بقدر الكلام عن الأمور التي مضت، فيذكرهم بقصة تظهر مدى الاحتياج إلى إيمان لأنه إن كان آباؤكم لأنهم لم يترجوا كما ينبغي لهم أن يترجوا ، قد أصابهم ما أصابهم فبالأكثر جداً ستعانوا أنتم، لأن هذا الكلام موجه إلى هؤلاء أيضاً. لأن كلمة «اليوم»، تعني دائماً، أي بقدر ما سيوجد المرء في هذا العالم.

“بل عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يُدعى اليوم لكي لا يقسي أحد منكم بغرور الخطية ” (عب 3: 13).

2. أرأيت كيف أن الخطية تسبب عدم الإيمان؟ لأنه كما أن عدم الإيمان ينشئ الحياة الشريرة، هكذا النفس أيضاً عندما تنغمس في الشرور، تحتقر كل شيء، وفي هذه الحالة، لا تقبل الإيمان أيضاً، حتى تتخلص من الخوف. يقولون الرب لا يبصر واله يعقوب لا يلاحظ. وأيضاً “شفاهنا معنا. من هو سيد علينا”. وأيضاً “لماذا أهان الشرير الله”. وأيضاً قال الجاهل في قلبه ليس إلها. فسدوا ورجسوا بأفعالهم .. وأيضاً ليس خوف الله أمام عينيه لأنه ملق نفسه لنفسه من جهة وجدان إثمه وبغضه . والمسيح يعلن نفس الأمر، قائلاً «لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور. ثم يضيف 

“لأننا صرنا شركاء المسيح” (عب 3: 14).

ماذا تعني عبارة شركاء المسيح ؟ تعنى أننا شركاء طبيعته، فهو الرأس ونحن الجسد ، فنحن شركاء في الميراث، متحدين في جسد واحد نحن جسد واحد ، من لجمه ومن عظامه، كما يقول ق بولس إن تمسكنا ببداءة الثقة ثابتة إلى النهاية. ماذا تعني عبارة بداءة الثقة تعني الإيمان الذي بواسطته وجدنا وولدنا، ثم بعد ذلك يضيف:

” إذ قيل اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط” (عب 3: 15).

وهذه الأمور قيلت بشكل مجازي، لأنه يكمل بعد ذلك قائلا: « لنخف، أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يُري أحد منكم أنه قد خاب منه. لأننا نحن أيضاً بشرنا (بالخبر المفرح) كما أولئك. عندما يقول اليوم إن سمعتم صوته». لأن كلمة «اليوم» تعني بصفة دائمة. بعد ذلك قال “لكن لم تنفع كلمة الخبر أولئك إذ لم تكن ممتزجة بالإيمان في الذين سمعوا موضحاً كيف لم تنفعهم الكلمة. ولماذا لم تنفعهم كلمة الخبر؟ لأنهم لم يقبلوها بإيمان وهكذا لم ينتفعوا بعد ذلك، فقد أراد أن يُخيفهم، فبيّن نفس الشيء مقتنعاً تماماً بما يقول:

” فمن هم الذين عندما سمعوا أسخطوا أليس جميع الذين سمعوا صوته؟ الذين خرجوا من مصر بواسطة موسي؟ ومن مقت أربعين سنة؟ أليس الذين أخطأوا والذين سقطت جثثهم في القفر؟ ولمن أقسم لن يدخلوا راحته إلا للذين لم يطيعوا ؟ فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان ” (عب 3: 16-18).

وبعدما أشار مرة أخرى إلى الشهادة أضاف أمر آخر يجعل كلامه أكثر وضوحاً. فيقول «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط». من هم هؤلاء الذين ذكرهم، كما يقول ق بولس، أنهم تقسوا ، ومن هم هؤلاء الذين لم يطيعوا ؟ أليس هم اليهود؟ فما يقوله يعني الآتي: إن أولئك قد سمعوا ، كما نحن أيضاً، إلا أنهم لم ينتفعوا مطلقاً. فلا ينبغي أن تتصوروا إذا وأنتم تسمعون البشارة أنكم ستنتفعون، لأن أولئك قد سمعوا أيضاً، لكنهم لم ينتفعوا قط، لأنهم لم يؤمنوا إذا فكل مَنْ كان مع كالب ويشوع بن نون نجوا من العقاب الذي فرض على أولئك الذين لم يؤمنوا ، لأنهم لم يخالطوهم، أي لم يوافقوهم. ولاحظ شيئاً مدهشاً، فهو لم يقل لم يتفقوا ، بل قال لم يخالطوا. أي أنهم اختلفوا معهم بدون موقف، حين كان لكل هؤلاء نفس الرأي يتضح لي هنا أنه يقصد موقف ما.

تفسير رسالة العبرانيين 2 رسالة العبرانيين 3 تفسير رسالة العبرانيين تفسير العهد الجديد تفسير رسالة العبرانيين 4
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير عبرانيين 3 تفاسير رسالة العبرانيين تفاسير العهد الجديد
 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى