تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ٢ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح الثاني
“وأنا لما أتيت إليكم أيها الإخوة أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة منادياً لكم بشهادة الله . لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بینکم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً” (ع۲،۱).
يقصد بولس الرسول من كلامه هذا أنه جاء لا لتأليف قیاسات ولا سفسطة أي مغالطات ولا قائلاً لهم شيئاً آخر سوى أن المسيح صلب ؛ الأمر الذي هو علامة قوة الذي يكرز به.
“وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة” (ع۳)
بالطبع كان بولس الرسول يخاف المخاطر ، ويرتعب جداً، لأنه وإن كان هو بولس إلا أنه كان إنساناً، وهذا ليس نقصاً يخص بولس بل هو ضعف الطبيعة البشرية.
والذين يقولون إن بولس الرسول لم يكن يخاف الجراح ، هؤلاء لم يكرموه فقط بل وقد يحطون من قدره كثيراً ، لأنه إن كان لا يخاف فأين جلادته وأين الفلسفة في احتمال التجارب .
“وكلامی وکرازتی لم يكونا بكلام الحكمة ( الإنسانية) المقنع بل ببرهان الروح و القوة. لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله” ( ع 4 ، 5).
أي ليس فيهما الحكمة العالمية.
وبولس الرسول لم يقل القوة فقط بل ذكر الروح أولاً وبعده القوة موضحاً أن ما يأتي هي أمور روحانية.
” لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا عظماء هذا الدهر الذين يبطلون. بل نتكلم بحكمة الله في سر الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا » ( ع 6 ،7)
“بحكمة” هنا تعني الخلاص الكائن بالصليب ، و “الكاملين” تعني هنا المؤمنين الذين عرفوا أن الأمور البشرية ضعيفة جداً.
ولكن لماذا قال بولس الرسول هنا “سر الحكمة” ؟ لأنه قبل أن تصير على الأرض لم يعرفها لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا قوة أخرى مخلوقة ، وقد اعتاد الكتاب أن يسمى الأشياء التي تفوق الأفكار البشرية سراً.
فالناتج إذا أن الذي يكرز به بولس الرسول في كل مكان هو سر.
“التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” ( ع8)
يقول الكتاب عن بيلاطس إنه لم يعرف ووجب ألا يعرف ذلك ولا هيرودس لأن هذين يمكن أن نسميهما عظماء هذا الدهر.
وإن قال أحد إن هذا القول قيل عن اليهود والكهنة أيضاً لا يخطئ .
“بل كما هو مكتوب[1] ما لم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه” ( ع ۹).
أي أن الأذن التي سمعت لم تكن أذناً بشرية بل كانت الأذن النبوية ، لأنهم لم يسمعوا كأناس بل كأنبياء.
” فاعلنه الله لنا نحن بروحه لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه . هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. و نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله ” ( ع 10 -12).
إن إعلان الله لنا لم يكن عن طريق ملائكة بل أعلنه بروحه ، فلو لم يكشفها لنا بالروح العارف مكتومات الله ما كنا عرفناها هكذا.
والفحص هنا ليس هو إثبات الجهل بل المعرفة البليغة وهذا التعبير استعمله الكتاب عن الله حين قال : “فإن فاحص القلوب والكلى الله البار” ( مز ۹:۷ ) .
“التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات » ( ع ۱۳ ) .
لقد أصعدنا بولس الرسول إلى منزلة المعلمين ، لكننا نحن أحكم منهم بما لا يقاس أي بمقدار الفرق بين أفلاطون[2] والروح القدس لأن الأفلاطونيين معلموهم خطباء ، أما نحن فمعلمنا الروح القدس.
ومعنى قول بولس الرسول “قارنين الروحيات بالروحيات” أي أنه متى كانت المشكلة روحانية نقدم الشهادات من الأمور الروحية ، أعني بقولی هذا إذا كنت أريد إثبات أن السيد المسيح ولد من البتول وقام ، فإني أقدم هنا شهادات وبراهين إقامة يونان في بطن الحوت وانعتاقه منه بعد ذلك ، ولولادة العواقر سارة ورفقة وهكذا.
وعلى هذا الوجه أقارن الأمور الروحانية بالروحانية ولا حاجة لي قط إلى الحكمة البشرية ولا إلى القياسات .
“ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحياً” ( ع 14).
إن الإنسان النفساني لا يقبل أقوال الروح ، كما أنه ليس أحد يمكنه أن يعرف بهاتين العينين ما في السموات ، هكذا والنفس وحدها لا تعرف أقوال الروح ، وما لي أقول عن التي في السموات لأننا نحن في الأرض قد نرى من بعيد برجاً مربعاً فنظنه مدورة ، وقد يكون السبب في ذلك هو خدعة البصر.
“وأما الروحى فيحكم في كل شيء و هو لا يُحكم فيه من أحد ” ( ع 15).
أي أن الإنسان الروحاني عرف أن العتيدات لا تزول وعرف أيضاً ما يتكبده الإنسان النفسانی عندما يمضي إلى الأبدية ، وما هو الذي يستمده المؤمن إذا ما انتقل من هنا إلى الأبدية كما أن هذه الأشياء لا يعرف الإنسان النفسانی عنها شيئاً.
“لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه وأما نحن فلنا فكر المسيح” ( ع 16).
أي إننا عرفنا ما في فكر المسيح والأشياء التي شاء فكشفها ، فنحن لنا فكر المسيح أي لنا فکر روحانی إلهی خال من البشريات ، أي لا يكون لنا عقل أفلاطون أو عقل فيثاغورس[3] بل المسيح وضع فكره في أذهاننا.
- إش 64: 4
- أفلاطون ( 428- 347 ق.م ) فیلسوف یونانی .
- فيثاغورس ( 580- 500 ) ریاضی و فیلسوف یونانی
أقرأ أيضاً
تفسير 2 كورنثوس 1 | تفسير رسالة كورنثوس الأولى | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 3 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى | تفاسير العهد الجديد |