برج بابل

 

بعد أن هدأ الطوفان وخرج نوح وأبنائه من المُلك.‏ كانت الأرض خالية من أي كائن بشري حيّ سواهم؛ فكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة (تك١:١١) ‏ وبعدها اتجهوا إلى الشّرق؛ ووطدوا العزم على الإستقرار هناك؛ لبناء مدينة وبرج لثلا يتبدّدوا على وجه الأرض. ولكي يعرقل الله خطتهم بلبل السنتهم؛ بحيث عجزوا عن فهم لغة بعضهم؛ وهذا يفسَّر لغاتٍ عديدة ل العالم اليوم.

يحدّد الكتاب المقدّس واقعة برج بابل تاريخيًا بأنها حدثت في أيام فالج (ومعنى اسمه قسمة) و سمي هكذا لأنّ في أيامه قُسّمت الأرض؛ أي تفرّقت الشّعوب في أنحاء الأرض.

كما يوضح الكتاب أيضًا أن شعوب الأرض الذين كانوا لساناً واحدًا قد ارتحلوا شرقًا وسكنوا في أرض شنعار الخصبة الغنية بالمياة. ولكننا نلاحظ في الإصحاح السابق (تك 10‎)‏ أن نمرود بن كوش أسس مملكته ” ابْتِدَاءُ مَمْلَّكَتِهِ بابل وَأَرَكَ وَأَكَدَ وَكَلْنَةٌ ؛ في أَرْضٍ شِنعارٌَ؛ وآن أشور بن سام خرج من تلك الأرض؛ بعد أن طغى عليه نمرود وهزمه؛ وآن آشور ” بَنى نِينَوَى وَرَحُوبُوتَ عَيْرٌَ ؛ فيتبين من ذلك أن نمرود ونسله هم أصحاب فكرة بناء البرج الذي رأسه بالسماء. فهم أهل المشورة الشريرة وبداية السيطرة والاستعمار الذي لابد أن يؤدي في النهاية إلى الخصومات فالانقسام فالتشتت على وجه الأرض.

كان طبيعيًا أن ينطق الناس لغةٌ واحدة، وقد ظنٌ بعض العلماء أن هذه اللغة هي العبريّة: ويدللون على ذلك بأنّ الأسماء الأولى؛ مثل آدم وحواء وعدن… إلخ عبريّة. ونادى فريقٌ آخر بآنٌَ اللغة الأولى للعالم هي الكلدانيّة (السريانيّة)؛ ويعللون ذلك بأنّ اللغات الشرقيّة كلها مشتقة من مصدر واحد ، وأنّ العبريّة ليست إلا فرعًا من فروع هذه اللغة؛ خاصة وأنَ الآباء الأوّلين سكنوا في منطقة دجلة والفرات (مقر الشّعب الكلداني)، على كلّ حال؛ يصعب تحديد لغة العالم الأولى؛ إنّما ما نعرفه آنّ العالم كان يتكلّم بلغةٍ واحدة.

كانت لغة الإنسان الأول هي لغة الحب؛ الذي لا يعرف الانقسام؛ تخاطب بهذه اللغة مع الله والملائكة وجميع السمائيين… وخلال لغة الحب كان الإنسان منسجمًا حتى مع الخليقة غير الناطقة فينطق الكل معاً بروح الشكر لله والتسبيح له. أما وقد سقط الإنسان في العصيان خسر لغة الحب والوحدة؛ ولم يستطع إنسان أن يتحدث مع الله بفرح وبهجة ولا أن يشترك مع السمائيين في ليتورجياتهم ولا أن ينسجم حتى مع الخليقة غير الناطقة.

مر على إقامة الإنسان على الأرض؛ بعد طرده من جنة عدن وحتى قضاء الله عند برج بابل؛ فترة طويلة وهي الفترةٍ التي اختص بسرد أحداثها الأساسية الإصحاحات العشرة الأولى من سفر التكوين؛ والتي لاحظنا فيها سرعة تفاقم الخطية التي أخرجت آدم من الفردوس.

هذه الحالة لم تلبث أن عمت الأرض كلها؛ فمازال الإنسان هو الإنسان قبل الطوفان وبعد الطوفان؛ ومازال مرض الخطية يستشري في جسم البشرية.

إن كان الله قد تدخل لتجديد العالم بمياه الطوفان. فعوض أن يستجيب الإنسان لمحبة الله له؛ أراد أن يقيم لنفسه برجاً من صنع يديه يحتمى فيه من قرارات الله نحوه. وكأن هذا البرج يمثل الفلسفات المعاصرة – خاصة الوجودية – التي ترى في الله أنه يكتم أنفاس الإنسان ويحرمه حريته؛ وكأن مجد الله يقوم على مذلة الإنسان؛ وقوة الله على حساب كرامة بنى البشر، فحسبوا أنه لا مناص من التخلص من هذا الإله إلا بتأليه الذات والهروب من الله للتمتع بكمال الحرية.

كانت البشرية مجتمعة في أرض شنعار في مكان واحد؛ كشعب واحد، له لسان واحد ؛ وذلك لفترة غير محددة (تك 11: 1-9)، ‏ولكنهم قاموا بمشروع إنشائي ضخم؛ في بقعة أرض “شنعار”؛ لبناء برج بابل؛ الذي يرمز لكبرياء الإنسان؛ وافتخاره بإنجازاته؛ وتحديه للأمر الإلهي. فهذا البرج هو رمزٌ لقوَّة الشر والأنانيّة التي ستخدم مصالحهم، وهو بمثابة تحد، يتحدون به الله حتى يصنعوا لأنفسهم اسما لثلا يتبددوا على وجه كلّ الأرض. هذه هي باختصار قصة بناء برج بابل التي وردت ‏ (تك ‎1:11‏ -9).

وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. (تك 11: 2). غالبًا للبحث عن مراعي للماشية. أو للإمتداد لباقي الأماكن لتعميرها. شرقاً نحو أرض شنعار: وأرض شنعار هي سهل دجلة والفرات. أو أن جزء منهم اتجه شرقًا وهم الذين حاولوا بناء البرج.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا». فَكَانَ لَهُمُ اللِّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ. وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ».

لم يكن الشر في إقامة المدينة في ذاتها أو الرغبة في بناء برج شاهق وإنما غاية هذا العمل هو: نصنع لأنفستا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض: وكأنهم لم يثقوا في ميثاق الله مع أبيهم نوح وحسبوا الله غير آمينًا في مواعيده.

وهناك رأي آخر يقول: كانت لهم غايتان الأولى: أن يكون لهم منارة يهتدون بها في رجوعهم من رحلاتهم. أمَا الغاية الثانية: أن يبقوا أمةٌ واحدةٌ تقوى على توالي السنين فيشتهرون بذلك (ويصنعون لأنفسهم اسمًا).

وهناك رأي آخر يقول: إن القصد من بناء المدينة والبرج الذي رأسه بالسماء؛ فهو تأمين الحياة ضد كوارث الدهر. فقد سمعوا من أجدادهم عن الطوفان وكيف كانت المياه ترتفع حتى أخفت جميع قمم الجبال العالية وأنهت على كل حياة على الأرض. فظنوا في غرورهم أنهم بتكتلهم وتعلقهم بالأرض وبنائهم لبرج شامخ يناطح السحاب؛ يستطيعون النجاة من طوفان قادم. وكان الأجدر بهم أن يتحاشوا ما تسبب عنه الطوفان وهو شرّهم الذي أبعدهم عن الربّ الإله وهكذا يحظون بالنجاة.

ويرى آخرون أنه قد تم تصميمه ليكون مقرًا للحكومة؛ آو كمدينة كبرى. من أجل منع التشتت العام. وهذا ضد إرادة الله؛ لأن قصده هو آن يملا البشر كل الأرض؛ وبالتالي استخدم نفس الوسيلة التي كانوا يستخدمونها لمنع إرادته؛ استعملها هو لتنفيذ إرادته.

ويذكر الخوري بولس الفغالي سببان لبناء البرج فيقول: كان للناس هدفان اثنان؛ الهدف الآول: أن يقيموا لهم اسماً؛ أي أن تدوم ذكراهم فلا ينساهم اللاحقون. هكذا فعل ابشالوم بن داود لما بنى نصبا ليتذكره الناس بعد موته (2صم 18:18؛ إش 56: 5).
وهكذا فعل الملوك الوثنيون من رعمسيس ملك مصر إلى الإسكندر المقدوني إلى أنطيوخس ملك أنطاكية. الهدف الثاني : أن يبنوا برجاً يصل رأسه إلى السماء. وفي سبيل هذا الهدف تضافرت قواهم وظنوا أنهم يقدرون على الوقوف بوجه الله ومعارضة مقاصده ومخططاته (يبني المحارب البرج بوجه المدينة ليصل إلى مستوى أسوارها ليحتلها). ونتساءل هنا: لماذا لم يرض الله عن مشروع البشر في بناء مدينة وبرج؟
أتراه يخاف من الناس؟ كلا؛ بل لأنه رأى أنهم يريدون أن يقيموا اسمًا لا يزول ولا يمحى؛ متناسين أن الله وحده باق وكل ما عداه زائل. إن الله يعاقب البشر لآنهم يمسون صفة يختص بها دون غيره من الخلائق؛ آلا وهي الخلود.

ولكن هيهات للشرير أن يحس بالأمان: فحياته كلها مهددة بالمخاطر وكلْ تصرفاته نابعة من تخوّفاته وأوهامه. ولكن العجيب أنّ الربّ في رحمته وتحننه لم يتركهم يتمادون في غيّهم.

إن الإنسان السالك بالاستقامة يجد الأمان والأطمئنان» بينما الشرير يظل يعيش في خوف دائم. كتب سليمان الحكيم قائلاً”اَلشِّرِّيرُ يَهْرُبُ وَلاَ طَارِدَ، أَمَّا الصِّدِّيقُونَ فَكَشِبْل ثَبِيتٍ.” (أم 28 :1)، إن الشرير يحاول دائمًا الهروب من أمر لا يعرف ما هو، لأنه لا يشعر بالأمان والاطمئنان. بينما ثقة الصديق بالرب الإله تكون قوية؛ ولهذا يكون مقدامًَا شجاعًا في حياته.

حاول الله أن يعالج تعاليهم بتنازله كما يقول الكتاب: “فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا.” كناية عن تتازله إلى ضعف الإنسان لينتقذه من مصيبة تكاد تودي بحياته متغاضيًا عن شر الإنسان وكبريائه وجهله.

ولم يهتم الذين بدأوا في بناء البرج بمجد الله. فلقد سعوا لمجدهم الشخصي فقط. فلم يكن لاسم الخالق أي قيمة عندهم. وبالتأكيد ؛ كان الكثيرون منهم متدينين؛ ولكنهم تجاهلوا كلمة الله. وظنوا أن باستطاعتهم أن يصلوا إلى السماء بطريقتهم.

وهكذا؛ نرى كيف أن الله أفسد خطة نمرود وأتباعه الذين بدأوا في بناء مدينة عظيمة لمجدهم. فحتى ذلك الحين؛ كان جميع الناس يتكلمون لغة واحدة. ولكن في ذلك اليوم؛ بلبل الله السنتهم حتى أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا بعضهم البعض.

ونتذكر أن الله أمر نسل نوح أن يملأوا الأرض وينتشروا في العالم. إلا أن نمرود وآتباعه آرادوا أن يتبعوا طريقهم؛ ويجمعوا الناس في مكان واحد. لكن الله هزم نواياهم؛ وخيب آمالهم؛ عندما أعطاهم لغات مختلفة. وهكذا؛ بددهم الله على وجه الأرض. وهذا هو سبب وجود مئات من الشعوب؛ وألوف من اللغات اليوم.

حقًا؛ إن الله صنع عملاً محسوبًا بكل معنى الكلمة عندما بلبل آلسنة ولغات العالم. فتأمل كم لغة موجودة بين أبناء الشعب الواحد في الكثير من بلاد العالم. حقًا؛ لا يستطيع أحد أن يعصى الله ويزدهر. وينبغي على الضعيف أن لا يصارع القوي. فلقد حاول الإنسان أن يصارع الله؛ وخسر.

هل تعلم ماهو اسم المدينة التي حاول أن يبنيها الإنسان في تمرده على الله، نعم؛ إن المدينة اسمها “بابل”. وهي مشتقة من باب إيل أو باب الله. هذا هو التفسير العلمي؛ أما التفسير المأخوذ من اللغة العبرانية فهو البلبلة من فعل “بلبل” ومعناه “مزج وخلط” وقال البعض آن الكلمة تعني التشويش والارتباك والحيرة. فالحياة بعيدًا عن الله وكلمته؛ هي حياة مشوشة ومرتبكة ومتحيرة… هذه هي قصة بابل؛ والناس الذين حاولوا أن يمجدوا أسماءهم.

فاصل

من كتاب تاريخ بني إسرائيل – الراهب أولوجيوس البرموسي

فاصل

الطوفان تاريخ العهد القديم برج بابل

 

زر الذهاب إلى الأعلى