تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ٩ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح التاسع
“ألست أنا رسولاً ألست أنا حراً أما رأيت يسوع المسيح ربنا ألستم أنتم عملي في الرب ، ( ع ۱).
انظر كيف مدح بولس الرسول ذاته بهذا المقدار ، ليس كما كان يعرف ذاته ، بل بمقدار ما دعت الحاجة إليه في الأمر الحاصل.
المقصود من قول بولس الرسول “أما رأيت يسوع المسيح ربنا” إذ أن هذا لم يكن منزلة صغيرة لأن أنبياء كثيرين اشتهوا أن يروا ولم يروا ، فبولس الرسول هنا كان رسولاً وحراً وقد رأى السيد المسيح .
ومعنى قوله : “أنتم عملی” لأن هذا هو الأمر الأعظم لأنه بدونها لا يستفيد شيئا لأن يهوذا أيضاً كان رسولاً واحداً ورأى السيد المسيح ، لكن إذ لم يكن له عمل رسول لم ينفعه ذلك شيئاً ولذلك وضع هذه الأشياء مشهداً إياهم .
أما معنى “في الرب” أي أن هذا العمل هو عمل الله وليس عملی.
“وإن كنت لست رسولاً إلى آخرين فإنما أنا إليكم رسول لأنكم أنتم ختم رسالتي في الرب » ( ع ۲ ) .
رأيت كيف أن بولس الرسول لم يكن فضلة زائدة مع أن كان له أن يقول إنه رسول المسكونة والأمم البربرية والأرض والبحر إلا أنه لم يذكر منها شيئاً.
“هذا هو احتجاجی عند الذين يفحصونني ” (ع۳) .
احتجاج بولس الرسول عند الذين يفحصون أموره هو أن كثيرين يطلبون أن يعرفوا من أين هو رسول ، أو الذين يذمونه بأنه أخذ أموالاً أو الذين يسألون عن سبب عدم أخذه أو الذين يرون أنه ليس رسولاً.
” ألعلنا ليس لنا سلطان أن نأكل ونشرب . ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل وإخوة الرب وصفا . أم أنا وبرنابا وحدنا ليس لنا سلطان أن لا نشتغل”( ع 4 -6 ) .
يشرح بولس الرسول هنا أنه لا يأكل ولا يشرب مما يأخذه من المتتلمذين له مع أن له السلطان أن يأخذ ، وإذ له السلطان امتنع.
ولما كان إخوة الرب لم يصلوا إلى منزلة الرسل ولذلك وضعهم بولس في الوسط.
“من تجند قط بنفقة نفسه ومن يغرس كرماً ومن ثمره لا يأكل أو من يرعی رعية ومن لبن الرعية لا يأكل” ( ع۷ ) .
شبه بولس الرسول هنا الخدمة بالجندية أي الأسلحة والحروب لأن هكذا هي الرسالات وأعظم منها بالحرى كثيراً ، لأن الرسل كانوا جنوداً لا للحروب التي لا عقل فيها بل كانوا جنوداً للنفوس الناطقة والمبارزة للشياطين.
ولم يقل يقطف ثمره كله بل قال : “ومن ثمره لا يأكل” كما أنه لم يقل من يرعی رعية ولا يتاجر بالغنم بل قال : “ومن لبن الرعية لا يأكل” أي ليس من الخراف بل من اللبن ؛ موضحا أن على المعلمين أن يكتفوا بما هو للقوت الضروري ، هذا ما قاله بولس الرسول نحو الذين يريدون أن يأكلوا الكل ويجنوا الثمر بأسره.
وهنا أثبت بولس الرسول كيف يكون الكاهن ، إذ يجب عليه أن يمتلك شجاعة الجندي واجتهاد الفلاح واعتناء الراعي ، وبعد ذلك لا يطلب إلا الأشياء الضرورية .
“ألعلى أتكلم بهذا كإنسان أم ليس الناموس أيضا يقول هذا ” ( ع۸ ) .
قدم بولس الرسول كلامه بصيغة الاستفهام ، فأراد أن يوضح فيه أن أقواله ليست خاصة من إنسان بل إن هذا ما تقوله الشريعة .
” فإنه مكتوب في ناموس موسى لا تكم ثوراً دارساً ألعل الله تهمه الثيران” (ع۹).
قل لي : أما يهتم الله بالثيران ؟ ! نعم يهتم ، لكن ليس هكذا حتى إنه يضع لأجلها شريعة ، فإن الله أشار بذلك إلى أمر كهذا ليحس اليهود على الاهتمام بغير الناطقين ، فيكونوا متعطفين ، وبهذا يخاطبهم في شأن المعلمين حتى إنه يكتب في الشريعة ألا يكموا الثيران.
فالناتج إذا أن عدم تكميم فم هذا الحيوان لا يدل على أن المعلمين الذين يتعبون ينبغي لهم أن ينالوا جزاءهم.
هذا وكل ما يقال في العهد القديم عن الاعتناء بغير الناطقين إنما ينطبق بالأولى على الناس.
“أم يقول مطلقاً من أجلنا أنه من أجلنا مكتوب لأنه ينبغي للحراث أن يحرث علی رجاء وللدارس على الرجاء أن يكون شريكاً في رجائه” ( ع ۱۰).
أي أن المعلم ينبغي له أن ينال جزاءه من حيث أتعاب المعلمين الكثيرة أي أنهم . من من يفتحون ويدرسون
“إن كنا نحن قد زرعنا لكم الروحيات أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديات » ( ع 11 ).
ولكي لا يتعالى الذين يعطون المعلمين ، أوضح بولس الرسول أنهم يأخذون أكثر مما يعطونه ، لأن الأشياء التي يزرعها الفلاحون يتناولونها وأما المعلمون فيزرعون في مخدوميهم الروحيات ويحصدون منهم الجسديات لأن القوت الذي كانوا يعطونه هو هكذا.
“وإن كان آخرون شركاء في السلطان عليكم أفلسنا نحن بالأولى لكننا لم نستعمل هذا السلطان بل نتحمل كل شيء لئلا نجعل عائقاً لإنجيل المسيح » ( ع 12) .
لم يذكر هنا بطرس الرسول ولا الرسل بل قال : “إن كان آخرون” والمقصود من ” نتحمل كل شيء” قد تعني الجوع والضيقات الكثيرة والأمور الأخرى كلها.
“ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح . هكذا أيضا أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون” ( ع 13، 14 )
لم يقل بولس الرسول إن الذين يعملون في الأشياء المقدسة يأخذون مما يقدم لكنه قال : “الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون” لأن الأشياء التي تقدم لا تكون فيما بعد لمقدميها بل للهيكل والمذبح ، فلم يقل إنهم يأخذون التقدمات وإنما قال “من الهيكل يأكلون”.
” أما أنا فلم أستعمل شيئاً من هذا ولا كتبت هذا لكي يصير في هكذا . لأنه خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخرى ، ( ع 15 ) .
قول بولس الرسول “من أن يعطل أحد فخرى ” لكي لا يدعى أحد أن بولس يفعل هذا ليس بفرح بل بألم ، فإذ قصد إيضاح فرط سروره وزيادة اجتهاده سمی ذلك فخراً لأنه كان يفتخر بذلك ويختار الموت ويفضله عن السقوط من هذا الافتخار.
“لأنه إن كنت أبشر فليس لي فخر إذ الضرورة موضوعة علىَّ فويل لي إن كنت لا أبشر . فإنه إن كنت أفعل هذا طوعاً فلى أجر ولكن إن كان كرهاً فقد إستؤمنت على وكالة . فما هو أجرى إذ وأنا أبشر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة حتى لم أستعمل سلطاني في الإنجيل ” ( ع 16 – 18)
ما هو قولك يا بولس ؟ قل لي : إذا بشرت ليس لك إلا إذا كنت تضع البشارة بغير نفقة فهذا الأمر إذا هو أعظم من ذاك.
“فإني إذ كنت حرا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين” ( ع۱۹)
قول بولس الرسول “استعبدت نفسي للجميع ، أي ليس لشخص واحد ولا لأمر ملزم مضطر بل للمسكونة كلها وإذ استعبد بولس نفسه لأنه يكرز ويبشر بما أؤتمن عليه.
“فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس” ( ع ۲۰ )
بولس الرسول لم يقل إنه يهودي بل قال کیهودی ، الأمر الذي كان سياسة.
والمقصود باليهود هنا الذين كانوا قديمةاً ومن البدء هكذا ، أما المقصود بعبارة “وللذين تحت الناموس” أي الذين صاروا مؤمنين ويتمسكون بالناموس أيضاً، لأنهم ما كانوا يهوداً بعد ، بل كانوا تحت الناموس.
“وللذين بلا ناموس کأنی بلا ناموس مع إني لست بلا ناموس لله بل تحت ناموس للمسيح لأربح الذين بلا ناموس” ( ع ۲۱)
معنی قول بولس الرسول “بل تحت ناموس المسيح ” أي أنه ممتلك الشريعة العالية بالحرى كثيراً على القديمة أعني بذلك شريعة النعمة والروح.
“صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوماً” ( ع ۲۲ ) .
وإن كان ليس من الممكن أن يخلص الزرع كله ، إلا أنه غير ممكن أن يضيعه كله ، ولذلك بكل وجه لابد وبالضرورة أن الذي يجتهد هكذا بنشاط فلا يخيب .
“وهذا أنا أفعله لاجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه » ( ع ۲۳ ) .
المقصود من قول بولس الرسول “لأكون شريكاً فيه” لأنه كما قال “من الإنجيل يعيشون ” ( ع 14 ) أي من الذين يؤمنون ، هكذا وقوله هنا لأكون للإنجيل شريكاً أي ليمكنه أن يشارك الذين آمنوا بما في الإنجيل.
رأيت تواضع بولس الرسول كيف جعل ذاته في المكافأة بالثواب واحدة مع كثيرين ، إذ تعب أكثر من الكل ؛ فمن ذلك يتضح أنه وفي المكافآت يأخذ أكثر ، لكنه لا يطلب أن يأخذ النصيب الأكبر بل أن يأخذ مع الجميع الأكاليل المعدة .
“ألستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون ولكن واحدا يأخذ الجعالة هكذا اركضوا لكي تنالوا ” ( ع 24) .
لأنه كما أن هناك كثيرين ينزلون إلى الميدان ولا يكلل الكثيرون بل يستقر الإكليل على واحد .
وقول بولس الرسول لا يعني أن الواحد يخلص دون الجميع ، حاشا ، بل يجب علينا أن نقدم حرصاً كثيراً ، أي أنه لا يكفي أن نؤمن ونجاهد كيفما اتفق بل وأن نسرع هكذا حتى النهاية .
“وكل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء أما أولئك فلکی يأخذوا إكليلاً يفنى وأما نحن فإكليلا لا يفنى “( ع 25) .
معنی عبارة “من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء” أي لا أن يبتعد عن شيء ويخطئ في غيره بل أنه ينضبط من الشره والسكر والخطايا الأخرى كلها ، وبولس الرسول يوضح هنا أن هذا الأمر يحدث أيضا في الجهادات التي في العالم ، لأن المجاهدين لا يحل لهم السكر وقت الجهاد ولا أن يزنوا لئلا تنحل قوتهم ولا يتفرغوا لشيء آخر ، بل عليهم أن يبعدوا ذواتهم من كل الأشياء ويصغوا للأمور المختصة بموضوع اهتمامهم وجهادهم .
“إذا أنا أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء” ( ع ۲۹ )
ولكون بولس الرسول أخجلهم من الأمثلة العلمانية قدم بعد ذلك نفسه مثالاً ، الأمر الذي هو أسلوب التعاليم الفاضلة.
ومعنی عبارة “أضارب كأني لا أضرب الهواء” أي ما ليس باطلاً ولا عبثاً ، لأن لي من أصدمه ضارباً وهو الشيطان
“بل أقمع جسدى وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً” ( ع ۲۷ ) .
بولس الرسول يثبتهم هنا مضبوطين من شهوة البطن ، لأنه وإن كانت الشهوة صعبة المراس ، واغتصاب البطن شديد ، ولكن بولس ألجمه ولم يسلم ذاته للداء بل قد احتمل كل وجع .
وقول بولس الرسول “حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً” يعنى إن كان بولس خشى هذا الذي وعظ ناسا هذا مقدارهم وخشی بعد أن كرز إلى المسكونة ، فماذا نقول نحن؟!
أقرأ أيضاً
تفسير 2 كورنثوس 8 | تفسير رسالة كورنثوس الأولى | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 10 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى | تفاسير العهد الجديد |