تفسير رسالة كورنثوس الثانية 5 للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح الخامس

 

«لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ.»(ع١) .

قول بولس الرسول « بيت خيمتنا الأرضى » أى هذا العالم على حسب رأى البعض ، أما أنا فبالحرى أقول : إن بولس الرسول أشار بذلك إلى الجسد.
إمعن نظرك كيف أن بولس الرسول أثبت سمو العتيدات على الحاضرات لأنه قال « بيت خيمتنا الأرضى » ووضع مقابلها « فلنا فى السموات بناء » وحيث إنه قال « بيت خيمتنا » وضعقباله «أبدى ».

«لفَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ.»(ع2) .

ولماذا نئن الآن ؟! لأن ذلك هو أفضل كثيراً أن ننتظر الأمور التى من السماء أى الأبدية ، إذا لا يجب الحزن بسبب المحن الجزئية.

«وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً.»(ع3) .

أى وإن كنا نترك الجسد فلا نقف هناك خلواً من جسد ، بل بالجسد نفسه صائراً عديم الفساد ، فإن لبسناه لن نوجد عراة وعندما نلبس عديم الفساد ونأخذ جسداً غير بالٍ لا نوجد عراة من المجد وعدم الفساد.

«فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ.»(ع4) .
المقصود من قول بولس الرسول « لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها » أى أننا لا نشاء أن نخلعها ، لكننا نسرع لأن ننعتق من الفساد الذى فيها ثم فسر ذلك بقوله « لكى يبتلع المائت من الحياة » من حيث إن ترك الجسد قد يبدو لكثيرين صعباً، لذلك لسنا نقول إننا نتنهد لنطرح الجسد بل إننا نلبس فوقه عدم الفساد لأن الحياة تزيل الفساد وتبدده ، ولكن كيف يكون هذا ؟! إننا لا نسأل عن ذلك ، الله هو الذى يفعل ، فلا نبحث.

«وَلكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ هُوَ اللهُ، الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضًا عَرْبُونَ الرُّوحِ.»(ع5) .

إن الله منذ البدء خلقنا من الأرض فصنع آدم ولم يخلقه ليموت بل ليجعله غير مائت.

«فإِذًا نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ. فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.»(ع6-8).

 

قول بولس الرسول « ونحن مستوطنون فى الجسد فنحن متغربون عن الرب » أى فلنثق ونتمنى كثيراً أن نغيب عن الجسد لنحضر عند الرب.
أما قوله « ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب » أى لا تخف بل ثق ولو قطعت قطعاً، لأنه لا يعتقك من الفساد فقط ، لكنه يرسلك إلى الرب سريعاً إذ بحضورنا فى الجسد نتغرب عن الرب.
رأيت كيف أن بولس الرسول أخفى الأسماء المحزنة أى اسم الموت والوفاة ووضع عوضاً عنها الأسماء المرغوبة جداً فسمى ذلك استيطاناً عند الرب ، وقد فعل هذا لكى لا يكترث أحد بالحاضر وإن سمع عن الموت لا يحزن بل يفرح كأنه ينطلق إلى خيرات عظيمة.

«لِذلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضًا مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ­ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ.»(ع9).

لأن هذا هو المطلوب ، إن كنا هنا أو هناك أن نعيش حسب إرادة الله هذا هو الأمر المفضل .

«لأَنَّهُ لاَبُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا.»(ع10).

قول بولس الرسول « أننا جميعا نظهر أمام كرسى المسيح » إذ خوَّف السامع وأزعجه بذ كر الكرسى.
وقوله « لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع » ليُنهض بالرجاء المتفوقين أما المتوانون فيصيرهم حريصين بالخوف.
أكد بولس الرسول هنا معنى القيامة فأظهر أن الذى يخدم فى هذا الأمر هو الجسد ، وذاك لا يكون خارج المكافأة بل مع النفس يكلل أو يعذب ، إلا أن بعض الهراطقة يقولون بأنه قد يقوم جسد أخر ، من أين قل لى ، جسد يُخطى وجسد أخر يُعذب جسد كمل الفضيلة وجسد آخر يكلل ، بماذا تقولون لبولس الرسول القائل « نحن الذين فى الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكى يبتلع المائت من الحياة ٢ (٢ كو٤:٥ ) فهذا يتم وقتئذ عندما يقوم الجسد نفسه ، فلا يترك ذلك الجسد ويقتنى جسدا آخر.

«فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ الرَّبِّ نُقْنِعُ النَّاسَ. وَأَمَّا اللهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ، وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ فِي ضَمَائِرِكُمْ أَيْضًا.»(ع11).

أى أننا نفعل كل شىء لكى لا نعطيكم حجة أو عثرة أو أمراً كـاذباً فى أن نشكوا فينا بفعل ردئ .
رأيت الحرص فى السيرة واجتهاد النفس المعتنية .

«لأَنَّنَا لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضًا لَدَيْكُمْ، بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلافْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا، لِيَكُونَ لَكُمْ جَوَابٌ عَلَى الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِالْوَجْهِ لاَ بِالْقَلْبِ.»(ع12).

قول بولس الرسول «لأننا لسنا نمدح أنفسنا أيضاً لديكم بل نعطيكم فرصة للافتخار انظر كيف أنه يداوى متواتراً ما يظن به أنه يمدح نفسه متشامخاً.

«لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّهِ، أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ فَلَكُمْ.»(ع13).

قول بولس الرسول «إن صرنا مختلين فلله » أى أن هذا نفعله من أجل الله لكى لا تظنوا بنا أننا حقار وتزدرون بنا فتهلكوا ، وإن قلنا قولاً متواضعاً فلأجلكم لتتعلموا التواضع.

«لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ، فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا.»(ع14).

قول بولس الرسول « محبة المسيح تحصرنا» أى لا تدعنا نتكاسل أو ننام حيث تنهضنا إلى الأتعاب التى من أجلكم وتدفعنا نحوها.

«وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ. »(ع15).

أى إن كنا نعيش بالمسيح كونه مات ، فـيجب علينا أن نعـيش له ، الذى به نعيش ، وحيث إنه لأجلنا مات فإننا نعيش لأجله.

«إِذًا نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ.»(ع16).

قول بولس الرسول « إذا نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد » لأن ما عساها تكون المعرفة بما يخص الجسد سوى أن تلك العيشة التى بالجسد بادت وولدنا من فوق بالروح ورأينا عيشة أخرى.
أما قوله « قد عرفنا المسيح حسب الجسد » أى أن أمور السيد المسيح التى تخص الجسد وجوده فى آلام الطبيعة ، أعنى فى العطش وفى الجوع وفى التعب وفى النوم ، لكنه لم يفعل خطية ولا وجد فى فمه غش.

«إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا.»(ع17).

قول بولس الرسول « إذا إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة » لأنه ولد من فوق بالروح ، ولذلك يجب أن نحيا بالسيد المسيح ، لا لأنه مات من أجلنا ولا لأنه أقام طبيعتنا فقط ، بل لأننا أتينا إلى حياة أخرى.
والمقصود من قول بولس الرسول « الأشياء العتيقة » أى الخطايا وأمور الكفر والأمور اليهودية ، هذه الأشياء كلها قد صارت جديدة .
أما قول بولس الرسول « هوذا الكل قد صار جديداً» أى نفس جديدة لأنها تطهرت ، وجسد جديد وعبادة جديدة ومواعيد جدد وعهد وحياة ومائدة وحلة ، فالأشياء كلها جديدة مطلقاً، لأننا عوض أورشليم الأرضية أخذنا أورشليم السمائية ، وعوض الهيكل الحسى شاهدنا الهيكل الروحانى وعوض الألواح الحجرية اعطينا اللحمية وعوض الختان أخذنا المعمودية وعوض المن اعطينا الجسد الإلهى وعوض الماء من الصخرة وهبنا دما من الجنب السيدى ، وعوض عصا موسى النبى أو هرون وهبنا الصليب ، وعوض أرض الميعاد اعطينا ملكوت السموات ، وعوض الكهنة الكثيرين أعطينا رئيس كهنة واحداً، وعوض الخروف الحيوانى أعطينا حملاً روحانيا .

«وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، »(ع18).

قول بولس الرسول « ولكن الكل من الله » لأنه لا يكون شيء منا ؛ لأن مغفرة الخطايا والبنوة والمجد الذى لا يضمحل اعطيت لنا هبة.
وقوله « الله الذى صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة » فعندما أقول إن السيد المسيح هو سبب الصلح قد أعنى الآب أيضا وعندما أقول إن الآب أعطى قد أعنى الابن أيضاً؛ لأن الكل به كان وهذا أيضاً هو سببه ، لأننا نحن لم نسع نحو الله بل هو دعانا ؛ كيف دعانا ؟ بذبح السيد المسيح إذ أعطانا خدمة الصلح.

«أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ.»(ع19).

قول بولس الرسول «إن الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه » رأيت المحبة التى تعلو كل نطق وتسمو على كل عقل ، إن الله هو الذى جاء للصلح أولاً، حيث أرسل ابنه .
وقوله « فى المسيح » أعنى بواسطة المسيح ، وقوله « غير حاسب لهم خطاياهم » لأن الله لو شاء أن يحاسب على الخطايا لهلكنا كلنا ، ولما كانت الخطايا كثيرة هكذا فلم يطالب بها فقط بل وصالح ، وليس تركها فقط بل ولم يحسبها ، هكذا علينا أن نترك لأعدائنا خطاياهم لكى نحظى أيضا بالمصالحة .

«إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ.»(ع20).

قول بولس الرسول «نسعى كسفراء عن المسيح » أى أننا اقتبلنا بالتوسط ، فعوض السيد المسيح وعوض الأب نتوسل إليكم حيث أرسلنا رسلاً من أجلكم لأننا تسلمنا أموره وكأن الله يتوسل بنا .

«أَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ.»(ع21).

أى أن الذى لم يعرف خطية حيث اهمل وادين كخاطئ ومات كملعون «لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة « (غل٣ :١٣) لأن الموت على هذا الوجه هو أبشع بالحرى كثيراً من الموت .
فتفطن إذا فى كم خيرات منحك الله لأنه أمر عظيم أن يموت السيد المسيح من أجلك وأنت خاطئ لا أن يموت فقط ، بل ويمنحنا بذلك الخيرات العظيمة.

فاصل

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 4 تفسير رسالة كورنثوس الثانية تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 6
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى