تفسير سفر أعمال الرسل ١٧ للقس أنطونيوس فكري
الإصحاح السابع عشر
آيات (1-3):-
فاجتازا في امفيبوليس وابولونية وأتيا إلى تسالونيكي حيث كان مجمع اليهود. فدخل بولس إليهم حسب عادته وكان يحاجهم ثلاثة سبوت من الكتب. موضحا ومبينا انه كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات وأن هذا هو المسيح يسوع الذي أنا أنادى لكم به.
فإجتازا= إذاً لم يكن لوقا معهم. بل كان بولس وسيلا فقط. وربما بقى لوقا وتيموثاوس للعناية بكنيسة فيلبى. وسيعود لوقا للإنضمام لبولس فى (أع 5:20،6) ويستمر معه لحين إستشهاده (2تى 11:4)
تسالونيكى= عاصمة الإمبراطورية اليونانية الشرقية قبل القسطنطينية، وقد سميت على إسم أخت الإسكندر الأكبر. وفى هذا الوقت كانت عاصمة مقدونية.
آية (4):-
فاقتنع قوم منهم وانحازوا إلى بولس وسيلا ومن اليونانيين المتعبدين جمهور كثير ومن النساء المتقدمات عدد ليس بقليل.
كان فى تسالونيكى جالية يهودية ضخمة تقدر بثلث سكان المدينة البالغ سكانها 200.000 وكالعادة يبدأ بولس الرسول بمجمع اليهود واليونانيين الذين يحضرون المجمع. وكالعادة يهيج اليهود ويثيروا الدنيا ضد بولس.
آية(5):-
فغار اليهود غير المؤمنين واتخذوا رجالا أشراراً من أهل السوق وتجمعوا وسجسوا المدينة وقاموا على بيت ياسون طالبين أن يحضروهما إلى الشعب.
هنا نراهم يستأجرون رجال أشرار لإثارة فتنة فى المدينة. وغالباً كان بولس وسيلا يقيمان عند منزل ياسون رئيس المجمع. رجال أشراء من أهل السوق= عاطلين عن العمل ( مثيرى شغب وبلطجية )
ياسون = هو يهودى آمن بالمسيح
آية (8):-
فأزعجوا الجمع وحكام المدينة إذ سمعوا هذا.
لاحظ الخدعة التى يستعملها اليهود أن يسوع ملك ينافس قيصر، وبالطبع فالحكام والولاة يرتعبوا من وجود ثورة كهذه ضد قيصر.
آية (9):-
فاخذوا كفالة من ياسون ومن الباقين ثم أطلقوهم.
نرى هنا عدالة الحكام الرومان فهم لم يسيئوا للمتهمين زوراً، بل على العكس فهم حكموا على ياسون رئيس المجمع بدفع كفالة لضمان حسن سير سلوك بولس. وأطلقوا الإخوة، لذلك فقد غادر بولس تسالونيكى لمنع إحراج ياسون.
آيات (10-12):-
وأما الاخوة فللوقت أرسلوا بولس وسيلا ليلا إلى بيرية وهما لما وصلا مضيا إلى مجمع اليهود. وكان هؤلاء اشرف من الذين في تسالونيكي فقبلوا الكلمة بكل نشاط فاحصين الكتب كل يوم هل هذه الأمور هكذا. فآمن منهم كثيرون ومن النساء اليونانيات الشريفات ومن الرجال عدد ليس بقليل.
كالعادة يتجه بولس لمجمع اليهود الذين كانوا أكثر إستجابة له.وهنا يتجه بولس وسيلا إلى بيرية وهى مدينة غرب تسالونيكى.أشرف= أصلها أرحب صدراً
آية (13):-
فلما علم اليهود الذين من تسالونيكي انه في بيرية أيضا نادى بولس بكلمة الله جاءوا يهيجون الجموع هناك أيضا.
أشرار اليهود فى تسالونيكى يتعقبون بولس الرسول مع أن المسافة بين تسالونيكى وبيرية أكثر من 60 ميلاً.
آية (14):-
فحينئذ أرسل الاخوة بولس للوقت ليذهب كما إلى البحر وأما سيلا وتيموثاوس فبقيا هناك.
نجد هنا بولس يتجه بحراً إلى أثينا. كما إلى البحر= الترجمة الأفضل لغاية البحر. أى هم أرسلوا مع بولس بعض الإخوة ليشيعوه حتى البحر. وقد تعنى أنهم تظاهروا أمام اليهود أن بولس سيسافر بحراً ليبعدوهم عنه ثم يسافرون براً.
آية (15):-
والذين صاحبوا بولس جاءوا به إلى اثينا ولما اخذوا وصية إلى سيلا وتيموثاوس أن يأتيا إليه بأسرع ما يمكن مضوا.
هؤلاء الإخوة من محبتهم رافقوا بولس فى رحلته البحرية حتى أثينا وهو طلب منهم أن يرسلوا له سيلا وتيموثاوس.
آية (16):-
وبينما بولس ينتظرهما في أثينا احتدت روحه فيه إذ رأى المدينة مملؤة أصناماً.
أثينا كانت عاصمة الحكمة فى العالم. تتباهى بفلاسفتها وشعرائها. يودون كل يوم سماع الجديد. وبولس الذى تربى على كراهية الأصنام إحتدت روحه فيه مماً رآه من أصنام تملأ المدينة. وقيل أن أصنام أثينا كانت أكثر من كل أصنام بلاد اليونان وقيل عنها أنه الأسهل أن تجد فى أثينا إلهاً عن أن تجد إنساناً.
آية (17):-
فكان يكلم في المجمع اليهود المتعبدين والذين يصادفونه في السوق كل يوم.
كان يكلم اليهود الأتقياء فى المجمع ويذهب للسوق ليكلم الوثنيين فالسوق فى أثينا هو مكان للحوار وليس للشراء والبيع فقط.
آية(18):-
فقابله قوم من الفلاسفة الابيكوريين والرواقيين وقال بعض ترى ماذا يريد هذا المهذار أن يقول وبعض انه يظهر مناديا بإلهة غريبة لأنه كان يبشرهم بيسوع والقيامة.
الأبيكوريين= فيلسفوهم أبيكورس وُلدَ فى سنة 342 ق.م. وهؤلاء لا يؤمنون بالآلهة، ويقولون أن الآلهة حتى وإن وُجِدَتْ فهى لايهمها شىء من أمور هذا العالم. والعالم عندهم قد أوجد نفسه،أو أوُجِدَ صدفة أو إثر حادثة. والجسد والروح ينتهيان إلى لا شىء أى يفنيان ولا قيامة لا للجسد ولا للروح، لذلك كانت هذه الفلسفة توصى أتباعها بالبحث عن اللذة أينما وُجِدَت، غايتهم أن يمتعواً أنفسهم، ولهم مثل معروف لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت. وهم لا يضطربون لشىء إلاّ بهدوء أنفسهم ونموذجهم الأعلى هو الحيوانات فى إرتياحهم لأنفسهم وغرائزهم.
الرواقيون= فيلسوفهم هو زينون من مواليد قبرص وتسموا رواقيون لأنهم يجتمعون فى رواق متعدد الألوان. يؤمنون بتعدد الألهة. وكانوا يقاومون الشر من حولهم. يؤمنون أن الله هو روح أو عقل العالم. والعالم هو كيان نفسى عاقل أوجد كل شىء بنفسه. فالمادة عندهم متحدة بالروح أو الألوهة والله عندهم لم يخلق الطبيعة لكنه يدبرها فحسب. والروح عند الرواقيين مادة تحترق بالموت لتعود ويمتصها الله فى نفسه. لذلك فالقيامة التى بشًر بها بولس هؤلاء هى منافية للعقل. ويعلمون بعدم الإنفعال البشرى رغم أى أحداث، فأى مسرة ليست شيئاً صالحاً والألم فى أشد أحواله ليس شراً. وكل ما يتوافق مع العقل فهو حسن وما لا يتوافق مع العقل فهو الشر. والحكيم هو من يعيش وفق ما يقبله عقله. وهم يعتبرون أن كل إنسان هو ملك نفسه، بل هو إله … هذه الفلسفة هى مدرسة الكبرياء والتأله هذا المهذار=. حرفياً تعنى أنه سرق فلسفة إنسان آخر وينسبها لنفسه.
آية (21):-
أما الاثينويون أجمعون والغرباء المستوطنون فلا يتفرغون لشيء أخر إلا لان يتكلموا أو يسمعوا شيئا حديثا.
كانوا يتباحثون فى الحدائق والشوارع والميادين والأسواق فى العلوم والفلسفة.قال أحدَ المؤرخين انه إذا قابل شخص شخصاً فى السوق سأله هل هناك شيئاً جديداً.
آية (22):-
فوقف بولس في وسط اريوس باغوس وقال أيها الرجال الاثينويون أراكم من كل وجه كأنكم متدينون كثيرا.
أريوس باغوس= هو ساحة خاصة للقاء الفلاسفة. يطارحون فيها الأراء. وكانت أثينا مثالاً للبلد الذى فيه تحفظ حرية الرأى لذلك خرج منها بولس دون أن يهينه أحد أو يعذبه أو يسجنه. ونلاحظ أنهم يقبلون تعدد الآلهة، ولذلك قبلوا أن يعيش وسطهم اليهود. وكان لليهود مجمع وسط أثينا. واليهود ينادون بالإله الواحد ولقد إعتبر الأثينويون أن إله اليهود هو أحد الآلهة. أما المسيحية واليهودية فتقول أن هناك إله واحد لا تقبل سواه وكل ما عداه شياطين. إذاً لا تعايش مع تعدد الآلهة. والأريوس باغوس كان مكرساً لإله الحرب مارس. وكانت تعقد هناك الإجتماعات التشريعية والقضائية. إذاً كان يستخدم إماّ كمحكمة أو للإجتماعات العامة. وهم أخذوا بولس لا ليحاكموه بل ليتجادلوا معه ويسمعوا منه.
آية (23):-
لأنني بينما كنت اجتاز وانظر إلى معبوداتكم وجدت أيضا مذبحا مكتوبا عليه لإله مجهول فالذي تتقونه وانتم تجهلونه هذا أنا أنادى لكم به.
كان هناك شاعر من شعرائهم إسمه أبيمينيدس نصح بتشييد مذابح لإله مجهول فى أثينا وما حولها، وهو فى رأيه أن هناك إله مجهول لا نعرفه وراء كل ما نراه فى العالم. ولاحظ حكمة بولس الرسول أنه لم يبدأ مع هؤلاء الوثنيون بأن يهاجمهم ويشتمهم على وثنيتهم، بل يبدأ من نقطة إيجابية عندهم وهى إله مجهول ولكن وراء كل ما نراه فى العالم ويقول لهم ها أنا أبشركم بهذا الإله المجهول فأنا قد عرفته وأبشركم به. من أين هذا الذكاء لبولس ؟ واضح أنه راجع لأتحاده بالله المصدر اللانهائى للحكمة والذكاء والقوة. لكن فى اللحظة التى نتصور أن قوتنا وذكاءنا هى منا ننفصل عن الله ونقع فى حيز المحدود.
آيه (24):-
الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي.
هذا ضد رأى الفلاسفة أن الله خلق العالم. وهو أيضاً هنا نراه يهاجم فكرة إقامة هياكل مملوءة بالتماثيل الوثنية.
آية(25):-
ولا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلى شيء إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء.
نلاحظ منطق بولس الرسول، هل الإله يحتاج للبشر، وإذا إحتاج للبشر كيف يكون إلهاً… ” لست أنت المحتاج إلى عبوديتى بل أنا المحتاج لربوبيتك” وهنا بولس يرد على منطق الفلاسفة أن العالم أزلى.
آية (26):-
وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم.
صنع من دم واحد = أى من نفس الثنائى آدم وحواء. وبهذا هو يبرىء نفسه من العنصرية اليهودية. وأيضاً يهاجم اليونانيين الذين قسموا العالم إلى يونانيين وبرابرة وقالوا أنهم من تربة مختلفة.
آية (27):-
لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدوه مع انه عن كل واحد منا ليس بعيدا.
هناك حنين طبيعى وشعور طبيعى داخل كل إنسان، وضع الله هذا الشعور لنلجأ إليه ونفتش عنه، وهو ليس بعيداً، فمن يطلب سيجده ويكون هذا راحة للإنسان فهو خليقة الله ونفخة من عنده.
آية (28):-
لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بعض شعرائكم أيضاً لأننا أيضاً ذريته.
لا يوجد كلمات نظير هذه تشير لإعتماد المخلوق الكلى على الله الخالق لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد= هذه مقتبسة من شعر الشاعر أبيمينيدس الذى نصح بإقامة تمثال لإله مجهول. ولقد إقتبس بولس من هذا الشاعر وهذه القصيدة سطراً آخر فى رسالته لتيطس (تى 12:1) وفى هذه القصيدة يخاطب الشاعر الإله الأسمى المجهول قائلاً “لقد صنعوا لك قبراً أيها القدوس الأعلى والكريتيون دائماً كذابون وقتلة. وحوش ردية بطون بطالة. ولكنك لست ميتاً إلى الأبد.. أنت قائم وحى لأنه بك نحيا ونتحرك ونوجد.
أيضاً= هنا يأخذ بولس إقتباساً من شاعر أخر هو أراتس. وهذا قال لأننا أيضاً ذريته.
ونلاحظ حكمة بولس فهو حين يكلم اليهود يستخدم الكتاب المقدس وهو فى هذا ضليع وكان يثبت لليهود أن المسيح فيه تحقيق النبوات. وحين يكلم اليونانيين يستشهد بشعرائهم وهم يعتبرون شعراءهم أنبياء (تى12:1).
آية (29):-
فإذ نحن ذرية الله لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان.
كيف نكون نحن أولاد الله ويكون الله خشب أو ذهب أى أقل نبلاً من ذريته، ألم يقل نبيكم أننا ذريته أى أولاده.فهل يقبل أن يكون الله أقل من ذريته أو أن ذريته تصنعه من ذهب أو خشب.
أية (30):-
فالله الان يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضيا عن أزمنة الجهل.
هنا يتهمهم بسبب أفكارهم أنهم فى جهل بالرغم من فلسفتهم يتوبوا= بهذا يتحدى الفلاسفة القدريين فالتوبة تعنى المسئولية.
آية (31):-
لأنه أقام يوما هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عينه مقدما للجميع إيمانا إذ أقامه من الأموات.
إن لم يتوبوا فهناك دينونة وسندان أمام هذا الإله.
آية (32):-
ولما سمعوا بالقيامة من الأموات كان البعض يستهزئون والبعض يقولون سنسمع منك عن هذا أيضا.
حينما سمعوا عن القيامة البعض استهزأوا وإعتبروا كلام بولس كلاماً تافهاً وغالباً كان هؤلاء من الأبيكوريين. أماّ الروا قيون فوجدوا فى كلامه ما يثير تفكيرهم وأن كلامه مثيراً للجدل. وأن كلامه جديد على أسماعهم فطلبوا أن يسمعوه ثانية= سنسمع منك عن هذا أيضاً وربما تعنى هذه العبارة السخرية من فكرة القيامة.
آية (33):-
وهكذا خرج بولس من وسطهم.
خرج بولس من أثينا إذ وجد أن الوقت سيضيع فى مناقشات لا تنتهى وذهب إلى كورنثوس إلى حيث وجهه الله. لم يترك أثينا هرباً من إضطهاد لكن لأن أحداً لا يريد أن يسمع.
آية (34):-
ولكن أناسا التصقوا به وأمنوا منهم ديونيسيوس الاريوباغي وامرأة اسمها دامرس وآخرون معهما.
يقول التقليد أن ديونيسيوس الأريوباغى صار أول أسقف على أثينا. ويبدو أن دامرس كانت سيدة لها شأن إذ كانت من بين السامعين فى الأريوس باغوس.
وبولس توجه إلى إخائية وهى مقاطعة يونانية جنوب مقدونية عاصمتها كورنثوس. أما مقدونية فأهم مدنها فيلبى وعاصمتها تسالونيكى وإخائية جنوب مقدونية.
سفر أعمال الرسل : 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 –27 – 28
تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7– 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 –15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 –25 – 26 –27 – 28