تفسير سفر أعمال الرسل ٢٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن والعشرون
رحلة القديس بولس إلى روما
الآن قد اقترب وقت وصول الأسير بولس إلى روما، وبالرغم من كثرة المتاعب التي لحقت به في هذه الرحلة، لكن ما كان يشغله هو ووصوله إلى روما للشهادة هناك، وشهادته للسيد المسيح أمام رفقائه في السفينة أيّا كان دورهم أو مركزهم أو علاقتهم به، وأيضًا الشهادة لإنجيل المسيح أينما حلّ.
- في مليطة 1.
- إحسان أهل مليطة 2.
- نشوب أفعى في يد الرسول 3-6.
- شفاء أبي بوبليوس 7-10.
- في سفينة إسكندريّة 11-15.
- تحديد إقامة في روما 16.
- لقاء مع وجوه اليهود 17-22.
- سهرة حول إنجيل المسيح 23.
- انشقاق بين اليهود 24-29.
- كرازته لمدّة سنتين 30-31.
- في مليطة
“ولمّا نجوا وجدوا أن الجزيرة تُدعى مليطة”. [1]
جاءوا إلى جزيرة مالطة؛ لم يكن في حسبان الرسول بولس أن يذهب إليها ويشهد لإنجيل المسيح، لكن الله سمح بالعاصفة لكي ما يذهب هو ومن معه في السفينة ليشهد للكل.
مالطة أو مليطة، غالبًا مشتقة من الكلمة اليونانية التي معناها “عسل”، حيث كانت قبلاً مصدرًا غنيًا لإنتاج العسل. ويرى البعض أن اصل الكلمة كنعاني معناها “ملجأ Refuge” قطنها الفينيقيون.
طول الجزيرة حوالي 17 ميلاً تمتد من الشرق إلى الغرب، وعرضها 10 أميال من الشمال إلى الجنوب. محيطها حوالي 60 ميلاً. تبعد حوالي 60 ميلاً من ساحل سيسلياSicily .
توجد جزيرة أخرى كانت تدعى مليطة Meleda ، حاليًا في البحر الأدرياتيكي بجوار ساحلIlluricum .
إذ نجوا إلى البرّ ووجدوا أنفسهم في مليطة، لم ينشغل القدّيس بولس كيف يُسرع بالذهاب إلى روما، بالغم من شوقه للخدمة هناك، لكنّه حسب أن الله قد بعث به إلى الجزيرة لرسالة إنجيليّة، كما نلمس في هذا الأصحاح.
لم يكن القدّيس بولس يخطط للعمل، لكن في تسليمٍ كاملٍ كان الله يعمل به، بكل وسيلة. كانت حياته ملتهبة بالشهادة والعمل لحساب ملكوت الله ليلاً ونهارًا.
v كان بولس يقضي بعض الليالي بلا نوم باختياره، وبعضها كان يلتزم بها عن ضرورة. عندما كان في متاعب مريرة كان يلتزم أن يسهر يطلب عون اللَّه. مرّة أخرى كان يُعًّلم ليس فقط في وقت النهار بل وأيضًا بالليل. كان في بردٍ ومعرض للخطر عند انكسار السفينة عند جزيرة مالطة عندما جاء الشعب المحلي لينقذوه.
أمبروسياستر
- إحسان أهل مليطة
“فقدّم أهلها البرابرة لنا إحسانًا غير المعتاد،
لأنهم أوقدوا نارًا،
وقبلوا جميعنا من أجل المطر الذي أصابنا،
ومن أجل البرد”. [2]
كان سكان مالطة بلا شك متحضرين، لكنهم كانوا يًدعون برابرة بالنسبة لليونانيين والرومانيين، لأن لغتهم لم تكن مفهومة لهم. فكلمة “برابرة” هنا تقابل “أجانب”. خضعت للفينيقيّين واليونان والقرطاجنيّين والرومان. يرى البعض أنه إذ سكنها بعد الفينيقيين جالية من قرطاجنة، فكانت لغة المالطيين من أفريقيا مع خليطٍ من لغات أخرى.
أية ضيافة لجماعة يبلغ عددها 276 فردًا عانوا كل هذا الزمن من رياحٍ باردةٍ وأمطارٍ غزيرةٍ، مع أمواجٍ عاتيةٍ هددت حياتهم، وظلمة سوى إيقاد نارٍ لتدفئتهم وتجفيف ملابسهم. أي منظر هذا لهذا الحشد وقد التفوا حول النار كمن هم حول وليمة ثمينة أثمن من الطعام والشراب في مثل هذه الظروف. لم يسأل البرابرة عن جنسيات القادمين ولا عن دياناتهم، لكنهم أظهروا حنوًا فائقًا، وقبلوا الجميع.
نقف في دهشة أمام أهل مالطة الذين لم يسألوا شيئًا عن أخبار الرحلة، ولا استخفوا بالمسجونين، لكنّهم وهو وثنيّون بذلوا كل الجهد لخدمة الجميع بلا تمييز بين قائد جيش وسجين؛ وقائد سفينة ومسافر. ولعلّ الله أعطى للقدّيس بولس دفعة جديدة للعمل بين الأمم، فرأى في قائد المائة لطفًا وحبًّا واهتمامًا، الأمر الذي افتقد إليه في اليهود بني جنسه. وها هو يرى البرابرة في الجزيرة يقدّمون إحسانًا بسخاءٍ عظيمٍ دون مقابل.
لقد نال ذات خبرة يونان النبي في البحر، حيث أظهر النوتيّة الوثنيّون تقوى، وطالبوا النبي بالصلاة إلى إلهه، وعندما اكتشفوا أنّه هو سرّ كارثتهم بذلوا كل الجهد لإنقاذه بالرغم من طلبه منهم أن يُلقوه في البحر. لكن شتّان ما بين نبيٍ هارب من خدمة الأمم لتعلّقه بشعبه، وبين رسول يتّسع قلبه بحب كل إنسان، أيّا كانت جنسيّته!
v ليخزى القائلون: “لا تحسنوا إلى الذين في السجن”. ليت هؤلاء البرابرة يجعلوننا في خزي، فإنهم وهم لا يعرفون من هم هؤلاء الناس، لكن في بساطة لأنهم كانوا في ضيقة، أدركوا أنهم بشر، واهتموا بهم من أجل بشريتهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- نشوب أفعى في يد الرسول
“فجمع بولس كثيرًا من القضبان،
ووضعها على النار،
فخرجت من الحرارة أفعى،
ونشبت في يده”. [3]
كانوا في حاجةٍ شديدةٍ إلى نيران كثيرة، فمن جانب إذ سبح أغلبهم أو جاءوا على ألواح خشبية، امتلأت ثيابهم ماءً، خاصة مع غزارة المطر وشدة الرياح العاصفة الباردة. لذا كان الكل محتاجين إلى النار أكثر من الطعام والشراب، خاصة وأنهم قد أكلوا وشبعوا كمشورة القديس بولس قبل مغادرتهم السفينة. لم يميز الرسول بولس نفسه عنهم بكونه كان السبب في نجاتهم، لكنه انهمك بكل سرورٍ في جمع قضبان الخشب لراحة الكل.
مع اهتمام القديس بولس بانتهاز كل فرصة للشهادة للسيد المسيح، مهما تكن الظروف، فقد اتسم بروح النشاط والعمل لخدمة الآخرين، فمع كونه مقيدًا ظلمًا لم تتحطم نفسيته، بل “جمع كثيرًا من القضبان، ووضعها على النار” [3].
كانت الأفعى وهو حية قاتلة في حالة سبات أشبه بمن قد تخدر بسبب البرد القارص، لكن ما أن استدفأت بالنار حتى انطلقت تنشب في يد القديس بولس لتنفث فيها يده.
“فلما رأى البرابرة الوحش معلقًا بيده،
قال بعضهم لبعضٍ:
لابد أن هذا الإنسان قاتل،
لم يدعه العدل يحيا،
ولو نجا من البحر”. [4]
في حسبان هؤلاء البرابرة أن من نجا من مخاطر عاصفة كهذه وجاء إلى البر، فتنشب في يده حية سامة، حتمًا إنسان ارتكب جريمة خطيرة. إنه سفاح أو قاتل، لهذا لم يفلت من يد العدالة الإلهية. ولعلهم فكروا هكذا، لأنهم اعتقدوا بأن العدل الإلهي يأخذ مجراه، فإذ امتدت يده للقتل لحق به الموت خلال هذه اليد السافكة للدماء. نال العقوبة من ذات صنف الجريمة التي ارتكبها، وخلال ذات العضو الآثم. هذا ما تلقنوه خلال الناموس الطبيعي، لكنهم تعجلوا في الحكم، لأن ما حدث للرسول بولس لم يكن ممكنًا لأحد في مثل هذه الظروف أن يتوقعه.
“العدل” كان تمثله عند بعض الوثنيين ابنة الإلهةJupter جوبيتر التي عملها هو الانتقام من الظالمين، والحكم على مرتكبي الجرائم.
يخطئ الوثنيون إذ يظنون إن العدل الإلهي حتمًا يتحقق في هذا العالم، مع أن بعض القتلة يعيشون إلى زمنٍ طويلٍ ويتمتعون بصحة جيدة وقوة، ولا يؤمنون بيوم الرب العظيم، حيث يسقطون تحت الدينونة. كما يخطئون إذ يحسبون أن كل من يصيبهم أذى حتما هم تحت عقوبة عادلة، فكل مرض أو تجربة إنما تسقط على الخطاة.
ولماذا نتحدّث عن الوثنيّين، فإنّه حتى الأنبياء يقفون أحيانًا في دهشة إذ يظنّون أن العدالة الإلهيَّة تأخذ مجراها حالاً في هذا العالم، فيدهشون حين يروا الأشرار ناجحين. فيقول المرتّل: “قد رأيت الشرّير عاتيّا وراقًا مثل شجرة شارقة ناضرة” (مز 37: 35)… لكن لن يبقى الحال هكذا، إذ “عبر فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد” (مز 37: 36).
تحدثوا عن القديس بولس كمن قد مات فعلاً، فإنه لا يمكن لمن تنشب به مثل هذه الحية أن يحيا.
“فنفض هو الوحش إلى النار،
ولم يتضرر بشيءٍ رديءٍ”. [5]
“نفض الوحش“: سمح الرب بذلك لكي يكرز لهم القديس بولس بالسيد المسيح الذي يهبنا سلطانًا على الحيات، فلا تقدر أن تبث سموم الموت فينا.
نفض الرسول الأفعى دون أي انزعاج أو اضطراب، ودون طلب أية معونة، لأن السيد المسيح واهب الحياة وغالب الموت هو في داخله.
v “تطأ الحية والصل، وتدوس الأسد والتنين” (مز 91: 13). اختار أقوى الحيوانات والمهلكة أكثر من الكل، إذ أراد أن يقدم العمل الشيطاني بكل صور الشر، فبذكر الأسد والتنين أشار إلى القوة، فإن هذه الحيوانات جميعها معًا عنيفة، أما بالإشارة إلى الحية والصل فيلمح إلى التطرف في الشر. الأولى تبث سمًا قاتلاً، والأخيرة تسبب موتًا بالتطلع إليها. بالطبع كثيرون ممن وثقوا في الله أكدوا ذلك حتى في علاقتهم بالوحوش المفترسة. هكذا دانيال المشهور سدّ أفواه الأسود. وبولس الملهم لم تضره الحية، ولكي نضع ذلك في إيجاز، فلنرجع إلى نوح الذي عاش بين الحيوانات وكان محفوظًا من أي ضرر. هكذا توجد أعداد لا حصر لها من الناس الذين احتضنوا الحياة الزاهدة مع الوحوش، وكانوا محميين من أي ضرر يصيبهم، وذلك خلال رجائهم في الله.
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
v لهذا كان ولسببٍ معقول أن يصير الرب أيلاً، حتى تعد كلمة الرب مثل تلك الأيائل لنفسه؛ التي يقول عنها: “يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة (لغات) جديدةٍ، يحملون حياتٍ، وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم” (مر 16: 17-18). وقد حملوا حياَّتٍ فعلاً وذلك حين طرح رسله قوة الشر الروحية (قابل أف 6:12) من أماكن خفية في أجسادهم، حين نفخوا فيها، ولم ينلهم ضرر من سمومها المميتة. وحينما قفزت أفعى من حزمة عصى ولدغت بولس، وإذ رأى الأهالي تلك الأفعى، وهي تتدلى من يده، ظنوا أنه ميِّت لا محالة (أَع 28: 3-6). لكنه وقف دون فزعٍ، ولم يتأثرْ بالجُرح، ولم يسرِ السُم فيه. لهذا نظروا إليه معتقدين أنه ليس من بني البشر، إن جاز التعبير. لكنه مولود حقًا بنعمة الله، وأنه يفوق البشر. تأملوا الأيل وهو يطرح الأفاعي من أماكن اختبائها، كما قال: “بروح الله الذي في أنفه” (أَي 27:3)، “والتفت بولس بالروح، وإذ نظر خلفه، قال في حزن للروح العَّراف: “أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها، فخرج في تلك الساعة” (أع 16: 18). انظروا إلى الأيل حينما جاء إلى المعمودية (مز 41 [42]: 2)، التي صارت طاهرةً بالغسل الذي من النبع المقدس، فطرحت كلَ سموم الاضطهاد، انظروا إلى الأيل الرب يسوع، حينما أتى إلى يوحنا المعمدان. فقال له يوحنا: “أنا محتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي إليَّ (مت 3:14)، فأجابه: “اسمح الآن!” [أو حرفيا ليكن الآن] (مت 3:15). وحين قال ذلك، نزل بكل شوقٍ إلى المياه، لأنه عطش إلى خلاص البشرية.
القديس أمبروسيوس
v ليس للأرواح الشريرة سلطانًا أن تضر أحدًا، يظهر ذلك بوضوح في حالة الطوباوي أيوب، حيث لم يتجاسر العدو أن يجربه إلا حسبما سمح الله به… وقد اعترفت الأرواح نفسها بذلك كما جاء في الإنجيل إذ قالت: “إن كنت تُخرِجنا فَأْذَنْ لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير” (مت 31:8). فإن كان ليس لديهم السلطان أن يدخلوا الحيوانات النجسة العُجم إلا بسماح من الله، فكم بالأحرى يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق علي صورة الله؟!
لو كان لهؤلاء الأعداء (الشياطين) سلطان علينا والإضرار بنا وتجربتنا كما يشاءون لما كان يستطيع أحد أن يعيش في الصحراء بمفرده… ويظهر ذلك بأكثر وضوح من كلمات ربنا ومخلصنا الذي احتل آخر صفوف البشر، إذ قال لبيلاطس: “لم يكن لك عليَّ سلطان البتَّة لو لم تكن قد أُعطِيت من فوق” (يو 11:19).
v واضح أن الأرواح النجسة لا تقدر أن تجد لها طريقًا في أجساد من اغتصبتهم بأي وسيلة ما لم تملك أولاً علي عقولهم وأفكارهم فتسلب منهم مخافة الرب وتذكره والتأمل فيه، وبهذا تتجاسر فتتقدم إليهم كمن هم بلا حصانة إلهية، وتقيدهم بسهولة وتجد لها موضعًا فيهم، كما لو كان لها حق الملكية عليهم.
الأب سيرينوس
أمران متكاملان يشغلان قلب الكارز بإنجيل المسيح: التمتّع بالشركة مع الله، وتحطيم قوّات الظلمة. قدر ما ينفتح القلب لسكنى الله، ويتمتّع بالمصالحة معه، ويحمل الطبيعة الجديدة، لا يكون لعدو الخير سلطان على المؤمن. هذه هي كرازتنا: النصرة بالرب على إبليس وكل جنوده!
وأمّا هم فكانوا ينتظرون أنه عتيد أن ينتفخ أو يسقط بغتة ميتًا،
فإذ انتظروا كثيرًا ورأوا أنه لم يعرض له شيء مضرّ،
تغيروا، وقالوا: هو إله”. [6]
ما يراه الناس نقمة يراه الله نعمة، وما أثاره عدو الخير إبليس ليضيف إلى آلام الرسول آلامًا بل وموتًا يتحول إلى مجد لله وتكريم بولس الرسول. فبهذه الحية التي كان العدو يود أن يخلص بها من الرسول بولس في فضيحةٍ وعارٍ انفتح له باب الكرازة والشهادة، وبقي بولس في هذه الجزيرة لا يكف عن خدمة شعبها.
يُقال أن الرسول بولس لعن الحية، فاختفت كل الحيات، ولم يعد في مالطة حيات أو ثعابين.
حسب خبرتهم العملية كانوا يتوقعون انتفاخ جسم بولس وموته فورًا، وإذ لم يتحقق ذلك حسبوه إلهًا قادرًا أن يحطم الموت. كانوا يعبدون آلهة مجهولة، ولم يكونوا يتوقعون في آلهتهم أعظم مما لمسوه في بولس.
إن كان السيد المسيح قد انتهر الشيطان، قائلاً له: “ابعد عني شيطان”، فقد وهب تلاميذه روح النصرة والغلبة. لهذا في غير افتخار ولا تردد ألقى الحية في النار لتحترق. أعطانا سلطانًا أن نُلقى بالتجارب كما في نار ولا نخشاها.
- شفاء أبي بوبليوس
“وكان في ما حول ذلك الموضع ضياع لمقدم الجزيرة الذي اسمه بوبليوس،
فهذا قبلنا، وأضافنا بملاطفة ثلاثة أيام”. [7]
وجد في حفائر هذه المنطقة حجر منحوت عليه اسم بوبليوس مقدم الجزيرة.
يذكر القديس لوقا إن بوبليوس مقدم الجزيرة، لكننا لا نعرف إن كان من أهل الجزيرة أو كان مندوبًا عن قيصر بروما، ربما كان حاكم الجزيرة.
“فحدث أن أبا بوبليوس كان مضطجعًا مُعترى بحمى وسحج،
فدخل إليه بولس وصلّى،
ووضع يديه عليه فشفاه”. [8]
كان والد بوبليوس مريضا بحمى ونزف دم bloody flux.
“فلما صار هذا كان الباقون الذين بهم أمراض في الجزيرة،
يأتون ويشفون”. [9]
“فأكرمنا هؤلاء اكرامات كثيرة،
ولمّا أقلعنا زوّدونا ما يحتاج إليه”. [10]
تطلع أهل الجزيرة وقادتهم إلى بولس الرسول ومن معه كرجالٍ قد بعثت بهم السماء إليهم، فتمتعوا ببركات كثيرة وتعزيات سماوية مع آيات وأشفية، لهذا قدموا للجميع كرامات، أي هدايا، كما زودوهم بما تحتاج إليهما الرحلة.
v انظروا كيف أن هذا كله قد حدث من أجل بولس، بقصد أن يؤمن المسجونون والعسكر وقائد المائة. فلو كانوا جامدين كالحجارة تمامًا، فمن المشورة التي قدمت لهم، والنبوة التي سمعوه يتنبأ بها، والمعجزات التي علموا أنه قد صنعها، ومن أجل الزاد الذي تمتعوا به من أجله، تصير لهم نظرة سامية من نحوه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- في سفينة إسكندريّة
“وبعد ثلاثة أشهر أقلعنا في سفينة إسكندرية موسومة بعلامة الجوزاء،
كانت قد شتّت في الجزيرة”. [11]
انكسرت السفينة في النصف الأول من شهر نوفمبر، وبعد ثلاثة أشهر، أي في منتصف فبراير بدأت نسمات موسم الربيع المبكر حيث يكون الإبحار فيه آمان. وجدوا سفينة قادمة من الإسكندرية إلى روما حيث قضت فترة الشتاء في الجزيرة.
كانت السفن تسمى حسب العلامة التي توسم بها. كانت علامة هذه السفينة هي الجوزاء.
“الجوزاء” ترجمة للكلمة اليونانية ديوسقورس Dioscuri، وتعنى “أبناء زيوس Zeus” وتشير إلى أخوين توأمين يعتبران شبه إلهين، شفيعا البحارة، يدافعان عنهم ضد العواصف الخطيرة. اسم التوأمين Castor. Pollux وهما ابنا الإله جوبتر وليدا زوجة تينداروس ملك سبارتا، بعد موتهما رحلا إلى السماء، وعهد بهذين الأخين كرامات إلهية، وتسلما إدارة شئون البحارة والالتزام بحمايتهم.
“فنزلنا إلى سراكوسا ومكثنا ثلاثة أيام”. [12]
إذ أبحرت السفينة نحو الشمال جاءت إلى سراكوسا Syracuse، أهم مدينة في Sicily تقع جنوب شرقي الجزيرة.
“ثم من هناك درنا وأقبلنا إلى ريغيون،
وبعد يومٍ واحد حدثت ريح جنوب،
فجئنا في اليوم الثاني إلى بوطيولي”. [13]
إذ كانت الريح غير مواتية التزموا بأن يطوفوا على شكل دائرة أو يرجعوا إلى الوراء ليبلغوا إلى ريغون.
ريغون: مدينة في إيطاليا في مواجهة ميسينا Messina في Sicily، وهي تتبع مملكة نابلس أو Calabria، تُدعى حاليًا Reggio.
قضوا في هذه المدينة يومًا واحدًا، وقد جاء في الروايات الرومانية أن بولس الرسول كرز في هذا اليوم، وأن سمكة جاءت إلى الشاطئ تسمع له، وقد دُهش الشعب لعمل معجزات صنعها فقبلوا الإيمان واعتمدوا، فسام أحد رفقائه في الرحلة يُدعى استفانوس أسقفًا عليهم، هذا كله تحقق في يومٍ واحدٍ.
بعد يوم إذ هبت ريح مواتية، فأمكن بسهولة أن يبحروا إلى بوطيولي.
“بوطيولي” معناها “الآبار”، ميناء بحري قريب من نابس Naples، قد عرفت بالحمامات الساخنة، حاليًا تُدعى Pozzuoli أو بوزالانا Pozzolana على بعد 8 أميال شمال غرب نابلس.
“حيث وجدنا إخوة،
فطلبوا إلينا أن نمكث عندهم سبعة أيام،
وهكذا أتينا إلى رومية”. [14]
جاء إليهم إخوة مسيحيون، لم نعرف كيف بلغ إليهم الإيمان، لكن ما نعرفه أن الله يعمل في كل مكان، وله شهود مجهولون. هل سمعوا عن الرسول بولس، فجاءوا يلتقون به، ويتعزون أم سمع هو عنهم فاستدعاهم ليتمتع الكل بالشركة معًا؟ لقد ساد روح الحب بين المسيحيين في العالم، فكان كل مؤمنٍ يجد تعزيته في الشركة مع اخوته في المسيح يسوع.
طلبوا من الرسول بولس أن يمكث معهم سبعة أيام، ربما لكي يشتركوا معه في العبادة في يوم الرب، وقد توقعوا ألا يلتقوا به ثانية. والعجيب أن قائد المئة الذي كان في عهدته الرسول بولس والمساجين وافق على ذلك، ربما لأنه كان له أصدقاء في بوطيولي، أو له عمل معين، ولعله وجد في ذلك فرصة للاستماع للرسول بولس قبل أن يسلمه في روما.
“ومن هناك لمّا سمع الإخوة بخبرنا،
خرجوا لاستقبالنا إلى فورن أبيوس والثلاثة الحوانيت،
فلما رآهم بولس شكر اللَّه وتشجّع”. [15]
لعل أهل بوطيولي أرسلوا إلي روما، يخبرونهم بقدوم الرسول بولس.
خرجت كنيسة روما تستقبل السجين بولس، فذهب البعض إلى فورن أبيوس، وهي تبعد أكثر من 50 ميلاً من روما، وآخرون ذهبوا إلى الثلاثة حوانيت، وهي تبعد أكثر من 30 ميلاً من روما. لم تخجل الكنيسة من الخروج لتكريم السجين العجيب الشاهد للحق الإنجيلي، ولم يخشوا السلطات، بل حسبوا قيوده كرامة مضاعفة.
فورن أبيوسApii Forum مدينة مشهورة بفنادقها ذات الطابق الواحد، وسوق للبحارة، وهي مركز تجمع هائل للآتين من أنحاء العالم. فيها وجد المسيحيون فرصة للتقابل والتعارف بالآتين من مشارق الأرض ومغاربها، حيث كانوا يستضيفون الغرباء، ويقيمون ليتورجيا الإفخارستيا (خبز الشكر).
إذ كان خبر مجيء القديس بولس قد انتشر، تقاطر عليه كثيرون كانوا قد التقوا به في رحلاته السابقة، وتتلمذوا على يديه، حيث ولدهم في إنجيل المسيح، كما جاء إليه من سمعوا عنه ولم يروه من قبل. ولعل أول المستقبلين له بريسكلا وأكيلا اللذين كتب عنهما في رسالته إلى أهل رومية: “سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي، اللذين لست أنا وحدي أشكرهما، بل أيضا جميع كنائس الأمم، وعلى الكنيسة التي في بيتهما” (رو 16: 3-5).
وقد جاء الإصحاح الأخير من رسالته إلى أهل رومية يكشف عن وجود جماعات مقدسة، أو كنائس كثيرة، ولم تكن توجد كنيسة متمركزة في روما، وكان لهذه الجماعات علاقات قوية مع الرسول بولس، دون وجود انشقاقات أو تحزبات فيما بينهما كما كان الحال في كورنثوس. وقد ذكر الرسول خمس جماعات:.
- الكنيسة التي في بيت بريسكلا وأكيلا (رو 16: 5).
- الكنيسة التي من أهل ارستوبولوس (رو 16: 10).
- الكنيسة التي من أهل نركيسوس (رو 16: 11).
- الإخوة الذين مع اسينكريتس وفليغون وهرماس وبتروباس وهرميس (رو16: 14)
- القديسون الذين مع فيلولوغس وجوليا ونيريوس وأخته وأولمباس (رو 16: 15).
كما ذكر في هذا الإصحاح أسماء أفراد يبدو أنهم لم يكونوا بعد قد التصقوا بكنيسة معينة، ولم تكن توجد كنيسة مركزية تجمعهم، فذكرهم أفرادًا.
الثلاثة حانات: مدينة تبعد حوالي عشرة أميال من مدينة فورن أبيوس.
هكذا تجمع المسيحيون في المدينتين وانطلقوا مع الرسول بولس إلى روما، يتحدثون عن عمل الله المفرح وسط الآلام طوال سبعة عشر ميلاً حتى دخلوا روما، وقد تهللت نفوسهم بأعمال الله الفائقة، وخبرة الجميع لقوة قيامته وسط شركة الصلب معه.
v استقبلته روما مقيدًا، صاعدًا من البحر، وقد خلص من انكسار السفينة، وخلصت روما من انكسار السفينة الذي للخطأ. دخل المدينة الإمبريالية العظمى كإمبراطور قام بمعركة حربية وغلب. الآن صار أكثر قربًا من إكليله. استقبلته روما مقيدًا، ورأته متوجًا، وأعلنت عن نصرته. هكذا قال: سأستريح معكم، لكن هذا كان بداية حلقة أشد ليضيف نصرات إلى نصرات، إنه إنسان لا يُغلب!
القديس يوحنا الذهبي الفم
تعزى الرسول بولس بلقائه مع الإخوة المؤمنين، ولم يكن يشغله شيء بالرغم مما عُرف عن نيرون من طغيان، لكن لمس محبة الله الفائقة طوال الرحلة الخطيرة، كما لمسها في شعب كنيسة روما، فقدم ذبيحة شكر لله الذي يعمل على الدوام لبنيان ملكوته. ولعله تعزى لما رأى جماهير المؤمنين، فشكر الله العامل في كل موضع، خاصة في عاصمة الإمبراطورية التي كانت تسود العالم. لقد سبق أن سمع عنهم فشكر الله على إيمانهم (رو 1: 8)، وها هو الآن يراهم في دفء الإيمان.
“وتشجع” : تعبير عجيب يسجله القديس لوقا عن القديس بولس الذي قدم ذبيحة شكر لله. هل كان الرسول العجيب في خدمته يحتاج إلى من يشجعه على العمل؟ لقد دخل روما متهللاً، وإذ تلاقى مع نفوس متهللة بالروح، لا تنشغل بقيوده، بل بإنجيل المسيح تشجع للعمل أكثر. وجدهم أحباء أصدقاء يتباحث معهم. كرفقاء له في رحلته إلى السماء في طريق الصليب المفرح.
- تحديد إقامة في روما
“ولمّا أتينا إلى رومية،
سلّم قائد المائة الأسرى إلى رئيس المعسكر،
وأمّا بولس فأذن له أن يقيم وحده مع العسكري الذي كان يحرسه”. [16]
“وهكذا أتينا إلى رومية“: هكذا تحقق الوعد الإلهي لبولس رسول الأمم، أن يشهد للسيد المسيح أمام قيصر، في عاصمة العالم الأممي. لقد جاء كأسير، لكن لم يكن يشغله الدفاع عن نفسه، وإنما العمل لحساب ملكوت المسيح. شعر رسول بأنه قضي رحلة ممتعة، وإن كان في مظهرها رحلة عذاب، لكن في داخلها رحلة أمجاد سُجلت في السماوات، وحررت كثيرين من قيود الظلمة، ودخلت بكثيرين إلى النور. اختبر فيها شركة الآلام مع المسيح، كما تمتع بقوة قيامته الغالبة للموت.
جاء الرسول بولس إلى نهاية رحلته، وكم كان شوقه أن يكرز في روما، وقد حقق الرب له أمنيته، لكنه دخلها كأسير بين المسجونين. لم يدخل العاصمة كما يدخلها كثير من الأباطرة والعظماء تتقدمهم مواكب فخمة، إنما دخلها ليقيم من شعبها موكبًا سماويًا متهللاً بالروح.
أعطاه الله نعمة في عيني قائد المائة، كما سبق فأعطى السجين يوسف نعمة في عيني حافظ السجن (تك 39: 21).
سلم قائد المائة الأسرى إلى رئيس المعسكر، كان رئيس المعسكر يدعى بارهوس أفرانيوس Burrhus Afranius. أما بولس فقد وهبه الله نعمة في قلوب آسريه، لكي يأسر قلوب الناس بحب المسيح. فقد انفتحت القلوب له، وسمح له المسئولون أن يقيم وحده مع العسكري الذي كان يحرسه. أقام بالقرب من المعسكر العام في قلب روما المدعو البريتوريومPraetorium بجوار قصر البالاتين Palatine الذي كان يقيم فيه قيصر، وقد بقي فيه لمدة عامين. لقد كسب كثيرين للمسيح من بيت قيصر، فقد جاء في رسالته إلي أهل فيلبي: “يسلم عليكم جميع القديسين، ولاسيما الذين من بيت قيصر” (في 4: 22)، كما كتب: “حتى أن وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية، وفي باقي الأماكن أجمع” (في 1: 13). وجاء في التقليد الكنسي أنه عمد زوجة نيرون التي قتلها نيرون فيما بعد. وعن طريقها اجتذب كثيرين من أسرة نيرون “كل دار الولاية“.
يرى البعض أن القديس بولس جاء إلى روما ليشجع الكنيسة وهي تعاني من اضطهاد نيرون. يروي لنا القديس يوحنا الذهبي الفم أن إحدى النساء في قصر نيرون قبلت الإيمان على يدي بولس الرسول، فتركت حياة الفساد التي عاشت فيها في القصر. اغتاظ نيرون فأمر بسجنه ثم قتله.
تحولت كل متاعب الرسول بولس لصالحه، لحساب ملكوت الله، فقد كسب قائد المائة كما كسب الكثيرين ممن في السفينة، وفي روما لم يُودع في السجن العام كسائر المسجونين، بل سُمح له أن يبقى في مسكن خاص يقيم فيه ومعه حارس. وجود الحارس يعطي شيئًا من الحصانة حتى لا يعتدي عليه أحد. هكذا اختبر الرسول بولس يد الله التي تحول كل الأمور للخير للذين يحبونه (رو 8: 28). وجود بولس الرسول في روما وتحت حراسة خاصة مع إعطائه حرية لمن يزوره يقدم له فرص للكرازة في جوٍ آمن، إذ لا يمكن قيام ثورة ضده في العاصمة حيث الإمبراطور مقيم.
v الأمور التي تبدو أنها لإماتننا، بل وبما يضادها، الكل يعمل لصالحنا. ولكي تتعلموا هذا فقد أمر فرعون بطرح كل الأولاد في النهر (خر 1: 22). لو لم يكن الأمر قد صدر بطرحهم ما كان قد خلص موسى، ولما نشأ في القصر. لم يكن مكرمًا حين كان في آمان، ولكن إذ طُرح نال كرامة. لقد فعل الله ذلك لكي يٌظهر غنى مصادره ووسائله. لقد هدده اليهودي: “أمفتكر أنت بقتلي؟!” (خر 2: 11). هذا أيضًا كان لنفعه، فقد كان ذلك بعناية الله لكي يتمتع بالرؤيا في البرية، ولكي يتم الوقت المعين ليتعلم الحكمة (الفلسفة) في البرية ويعيش فيها في آمان. وفي كل مكائد اليهود ضده حدث له نفس الشيء، فصار أكثر شهرة… ها أنتم ترون أن كل المحن في كل حالة تقدم لنا صلاحًا عظيمًا في هذه الحياة، وما هو أعظم في الحياة العتيدة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لقاء مع وجوه اليهود
“وبعد ثلاثة أيام استدعى بولس الذين كانوا وجوه اليهود،
فلما اجتمعوا قال لهم:
أيها الرجال الإخوة،
مع أني لم أفعل شيئًا ضد الشعب أو عوائد الآباء،
أُسلمت مقيدًا من أورشليم إلى أيدي الرومانيين”. [17]
اليهود في روما: أول من وطأت أقدامهم روما هم من اليهود المكابيين عام 168 ق.م، تبعهم كثيرون كوَّنوا لأنفسهم أول مجمع هناك، وكان يمثلهم في أورشليم مجمع الليبرتينيينLibertines، أي الأحرار، أو المحررين، لأنهم أُخذوا إلى روما كأسرى بواسطة بومبي Pompey في غزوته للشرق سنة 63 ق.م، نالوا بعد ذلك الحرية، وتزايد عددهم خلال التجارة، إذ انضم إليهم تجار أغنياء كثيرون، وكانوا يهتمون بإرسال معونات إلى وطنهم بانتظام. كثيرون منهم نالوا المواطنة الرومانية مثل يوسيفوس المؤرخ. وكان لهم أثرهم على روما. وكما قال سنيكا الفليسوف: “إن المقهورين أعطوا الذين قهروهم القوانين”. هذا وقد تهود كثير من الرومانيين. مع هذا فكانت إيطاليا تكره اليهود، وزادت الكراهية حتى طردوهم، لكن سرعان ما عادوا وصارت لهم حظوة وتمتعوا بالحرية والمساواة في الحقوق وصارت لهم سبعة مجامع.
حتى في روما عاصمة العالم الأممي في ذلك الحين أخلص الرسول لمبدأه وهو الكرازة “لليهودي أولاً ثم اليوناني”، لذلك بدأ الرسول شهادته أولاً أمام وجهاء اليهود، ومع ما سبق أن سمعوه قبلاً اقتنع بعضهم بما قيل [24].
v كانت هكذا غيرة الإخوة، حتى أنهم لم يضطربوا لأن بولس كان مقيدًا.
v بعد ثلاثة أيام استدعى وجهاء اليهود… لكي ما لا يصل إلى مسامعهم (أمرًا مخالفًا للحقيقة). وما شأنه بهم؟ فإنهم لم يكونوا يودون تقديم اتهامات ضده. ومع هذا فإن هذا الأمر لم يكن يشغله، إنما دعاهم لكي يعلمهم بما يشغله، وأن ما ينادي به لا يعارضهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
استدعى الرسول بولس وجوه اليهود للأسباب التالية:
- ليوضح لهم أنه لا يزال يعتز بانتسابه لهم، وأنه لن يأخذ موقفًا مضادًا لشعبه، مهما كان الأمر.
- أنه وإن كان قد طلب رفع قضيته أمام قيصر، لكنه كان ملزمًا إذ سلموه للرومان، وكان في خطر حيث وجدت محاولات لقتله.
- كان كعادته يود أن يبدأ كرازته بين اليهود ثم ينتقل بعد ذلك إلى الأمم. فإن كان قد جاء مقيدًا إلى روما، فهو يعلن لليهود هناك الحق الإنجيلي. إنه يؤكد أن إنجيل المسيح هو غاية التقليد اليهودي السليم، فهو لم يأخذ موقفًا مضادًا للآباء والأنبياء والناموس كما اتهموه كذبًا.
تحدث معهم بروح الأخوة كصديق لهم وواحد منهم، “أيها الرجال الإخوة“.
“الذين لمّا فحصوا كانوا يريدون أن يطلقوني،
لأنه لم تكن فيَّ علّة واحدة للموت”. [18]
أوضح الرسول براءته، فإنه لم يرتكب جريمة تستحق الموت، وقد شهد الحكام الرومان أنفسهم بذلك. لم يهاجم الرسول الناموس ولا الأنبياء، إنما ينصب كل اتهامهم له في صداقته مع الأمم وفتح الباب لهم للخلاص، لأنهم يحملون كراهية للأمم (غل 2: 12). هنا يحدث يهودًا يعيشون في دار الأمم، في روما عاصمة العالم الأممي.
“ولكن لمّا قاوم اليهود،
اضطررت أن أرفع دعواي إلى قيصر،
ليس كأن لي شيئًا لأشتكي به على أُمتي”. [19]
بروح مسيحي يحمل كل محبة لمقاوميه، فهو لم يرفع شكواه إلى قيصر ليهاجم من يهاجمه، إنه يؤكد بأنه لن يشتكي بشيء على أمته.
v انظروا تعبيره الودود “أمتي“، إذ لم يتطلع إليهم كغرباء عنه. إنه لم يقل: “لا اشتكي” بل “ليس كأن لي شيئًا لاشتكي به” (أي ليس من حقه أن يشتكي) مع أنه عانى شرورًا كثيرة من أيدهم. لم يقل شيئًا من هذا، ولا جعل حديثه هجوميًا، ولا كمن يستجدي منهم إحسانًا. فإن النقطة الرئيسية أن يظهر أنهم سلموه سجينًا لروما هؤلاء الذين كان يجب أن يقوموا هم بمحاكمته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فلهذا السبب طلبتكم لأراكم وأكلمكم،
لأني من أجل رجاء إسرائيل موثق بهذه السلسلة”. [20]
كان يتحدث معهم وهو موثق بالسلاسل مع العسكري المرافق له. إنه لا يبالي بهذا، فقد وضع الآلام تحت قدميه. وها هو يعلن لهم أنه موثق بهذه السلسلة من أجل الكرازة بالمسيا الذي طالما كان الآباء والأنبياء يترجون ظهوره، وقد جاء.
“فقالوا له:
نحن لم نقبل كتابات فيك من اليهودية،
ولا أحد من الإخوة جاء فأخبرنا،
أو تكلم عنك بشيءٍ رديءٍ”. [21]
“ولكننا نستحسن أن نسمع منك ماذا ترى،
لأنه معلوم عندنا من جهة هذا المذهب أنه يُقاوم في كل مكان”. [22]
يرى بعض الدارسين أن هؤلاء القادة لم يقولوا الحقيقة كاملة؛ فقد صدقوا في القول بأنه لم تصلهم رسائل ولا مندوبون من أورشليم لمهاجمة الرسول. لكنهم دون شك قد احتكوا بالمسيحيين في روما، وأدركوا فكر القديس بولس منهم، إذ كثير من قادة الكنيسة هناك التصقوا بالرسول، وتعرَّفوا عليه في مدن أخرى أو قبلوا الإيمان على يديه. لعل القادة اليهود أخفوا هذا لكي يسمعوا بآذانهم فكر الرسول بولس.
حتى ذلك الحين كان اليهود كما الرومان يتطلعون إلى المسيحية إنها أحد المذاهب اليهودية، وليست ديانة مستقلة عن اليهودية.
- سهرة حول إنجيل المسيح
“فعيّنوا له يومًا،
فجاء إليه كثيرون إلى المنزل،
فطفق يشرح لهم شاهدًا بملكوت اللَّه،
ومقنعًا إيّاهم من ناموس موسى والأنبياء،
بأمر يسوع من الصباح إلى المساء”. [23]
يكشف لنا القديس لوقا دور الرسل وعملهم، وهو الشهادة للسيد المسيح من خلال العهد القديم، والكشف عن حقيقة ملكوت الله.
كان كصاحب سلطان، يعمل الروح القدس به، وإذ لم يكن قادرًا على الذهاب إلى المجامع والالتقاء مع اليهود في أماكن عامة، وكانوا يأتون إليه جماعات، حددوا يومًا كاملاً لا عمل له فيه سوى الكرازة بملكوت الله، وتأكيد أن يسوع هو المسيا المنتظر.
v مرة أخرى انظروا كيف أنه أبكمهم لا بالمعجزات وإنما بالناموس والأنبياء، وكيف أننا نجده دائمًا يفعل هذا. ومع هذا ربما صنع آيات أيضًا، لكنها لم تكن عندئذ موضوع إيمان. بالحقيقة هذا عينه هو آية عظيمة: حواره معهم من الناموس والأنبياء.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يعلّمنا أن خلاصًا واحدًا من الأنبياء إلى الإنجيل يحقّقه الرب الواحد عينه.
القدّيس إكليمنضس السكندري
v يقال عن الأنبياء الطوباويين أنهم عيوننا، إذ سبق فرأوا خلال الإيمان أسرار الكلمة، وصاروا خدامًا لتلك الأمور الخاصة بالأجيال المتعاقبة، فلا يتحدثون فقط عن الأمور الماضية، بل ويعلنون الحاضر والمستقبل…
لأن هؤلاء انتعشوا بالروح القدس، وتكرّموا كثيرًا بالكلمة ذاته، وهكذا كانوا كآلات موسيقى، وكانت لهم الكلمة دائمًا مثل آلة plectrum يعملون معًا في انسجام، وإذ كان الكلمة (المسيح) يحثهم يعلنون إرادة اللَّه، لأنهم لم يكونوا يتكلمون من ذواتهم، ولا حسب أهوائهم.
الأب هيبوليتس
- انشقاق بين اليهود
“فاقتنع بعضهم بما قيل،
وبعضهم لم يؤمنوا”. [24]
تحدث الرسول بولس معهم بكل وضوح، لكنهم لم يتفقوا معًا، فقد حدث بينهم شقاق، وكما قال السيد المسيح أنه جاء ليلقي نارًا (لو 12: 49، 51). وكما يقول الرسول بولس أن إنجيل المسيح يحمل رائحة حياة لحياة، ورائحة موت لموت (2 كو 2: 16). قبل البعض النور، بينما أغلق الغالبية أعينهم الداخلية عن معاينته.
“فانصرفوا وهم غير متفقين بعضهم مع بعض،
لمّا قال بولس كلمة واحدة،
أنه حسنًا كلم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي”. [25]
“قائلاً اذهب إلى هذا الشعب،
وقل ستسمعون سمعًا ولا تفهمون،
وستنظرون نظرًا ولا تبصرون”. [26]
“لأن قلب هذا الشعب قد غلظ،
وبآذانهم سمعوا ثقيلاً،
وأعينهم أغمضوها،
لئلاّ يبصروا بأعينهم،
ويسمعوا بآذانهم،
ويفهموا بقلوبهم،
ويرجعوا فاشفيهم”. [27]
سرّ عدم سماعهم للحق وعدم رؤيتهم للنور الإلهي هو إرادتهم الشريرة؛ فإنهم لا يريدون أن يسمعوا ولا أن يروا (زك 7: 11-12). إنهم يسدون آذانهم ويغمضون أعينهم، فيسمعون بآذانهم الجسدية، ولا تستطيع آذان قلوبهم أن تصغي، ويرون بأعينهم الجسدية، وتبقى أعين قلوبهم مصابة بالعمى. لقد أحبوا المرض الروحي وعشقوه وخشوا لئلا يشفيهم الله. إنهم كبابل التي أراد الله أن يشفيها، لكنها رفضت ذلك (إر 51: 9)، فلن يلزمها بالشفاء قسرًا.
اقتبس الرسول بولس ما نطق به إشعياء النبي بالروح القدس (إش6: 9-10).
“فليكن معلومًا عندكم أن خلاص اللَّه قد أرسل إلى الأمم،
وهم سيسمعون”. [28]
هنا بلغ سفر الأعمال إلى الذروة، إذ غايته تأكيد أن السيد المسيح قد جاء لخلاص العالم كله، وليس قاصرا على اليهود.
كما أن اليهود رفضوا يسوع ولم يقبلوه مسيحًا لهم، بل خرجوا به إلى الصليب للخلاص منه، إذا بالقادة حتى بعد قيامته، سواء في أورشليم أو روما يحملون ذات الاتجاه ويصرون على رفضه، فانفتح باب الإيمان على مصراعيه أمام الأمم.
هنا يعلن رسول الأمم أن تمرد اليهود على السيد المسيح وإنجيله قد كمل، فصار للإنجيل أن يعبر إلى الأمم ليجد فيهم مسكنًا له.
لا يعرف الرسول بولس اليأس، فإن رفضت فئة ما الخلاص اتجه إلى فئة أخرى. إنه يؤمن بإن يسوع لم يُصلب باطلاً، وأن عمله حتمًا سيأتي بثمرٍ كثير. ليس من مقاومة تقدر أن تثبط همته أو تفقده غيرته على الكرازة.
v من هي هذه التي كانت قبلاً عاقرًا ومستوحشة؟ واضح أنها كنيسة الأمم، إذ كانت قبلاً محرومة من معرفة الله. من هي هذه التي لها زوج؟ واضح أنها مجمع اليهود. لكن أولاد العاقر صاروا أكثر منأولادها، لأن الأخيرة ضمت أمة واحدة أما أبناء الكنيسة فملأوا مدن اليونانيين والبرابرة، والأرض والبحر وكل المسكونة.
لاحظ كيف قدمت سارة بأعمالها (إنجاب اسحق) والأنبياء بنبواتهم ما قد تحقق معنا (تمتع الكثيرين بالبنوة للَّه). لاحظ كيف أن الذي دعاها إشعياء عاقرًا برهن بولس أن لها أولادًا كثيرين، الأمر الذي حدث رمزيًا مع سارة، فمع كونها عاقرًا صارت أمًا لأبناء كثيرين.
على أي الأحوال هذا لم يكفِ بولس، بل تتبع بدقة الطريقة التي بها صارت العاقر أمًا، إذ جاء الرمز مطابقًا للحق. لهذا أضاف “وأما نحن أيها الإخوة فنظير اسحق أولاد الموعد” [28]… لقد قصد بذلك الكنيسة التي لم تعرف اللَّه، لكنها ما أن عرفته حتى فاقت المجمع الذي كان مثمرًا.
v إن كان إله الكل فإنه يعتني بالكل وبالتالي يخلص الكل بذات الطريق، أي طريق الإيمان.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولمّا قال هذا مضى اليهود،
ولهم مباحثة كثيرة فيما بينهم”. [29]
اشتد الحوار بين الفريقين، بين الذين قبلوا الإيمان والذين رفضوه.
- كرازته لمدّة سنتين
“وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره لنفسه،
وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه”. [30]
بقي الرسول لمدة عامين يكرز بلا عائق، لم يكن ممكنًا للسلسلتين، ولا للعسكر، أن يقيدوا بولس عن عمله. لم يكن ملتزمًا أن يعمل بيديه المقيدتين، بل كان الطعام والشراب يصل إليه بمقتضى القانون. صارت القيود علة لنجاح الكرازة إذ كتب: “ثم أريد أن تعلموا أيها الاخوة أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل، حتى أن وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية، وفي باقي الأماكن أجمع” (في 1: 12-13).
v هنا تظهر الحرية التي صارت له دون أي عائق في روما، هذا الذي وجدت عوائق لخدمته في اليهودية، وقد بقي عامين يعلم هناك.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنه يدخل إلي روما في قيود لكي يحرر الذين هم في قيود الخطأ والخرافات. سكن لمدة سنتين في بيت أستأجره لكي يعطينا بيتًا أبديًا تحدث عنه العهدان (القديم والجديد).
القديس جيروم
“كارزًا بملكوت اللَّه،
ومعلمًا بأمر الرب يسوع المسيح،
بكل مجاهرة بلا مانع”. [31]
تركنا القديس لوقا في نهاية السفر دون أن يسجل لنا مصير القديس بولس، لأن ما يشغله ليس تأريخ حياة بولس الرسول، بل الكشف عن خدمته وكرازته، فقد قضى العامين لا يمارس الحرية الكاملة، إذ لم يكن يستطيع أن يتحرك، لكنه يستقبل كل من يرغب في اللقاء معه، وذلك في حضرة الحارس الروماني.
غالبًا ما كتب الرسول رسائله إلى أهل فيلبي وأفسس وكولوسى وفليمون وتيموثاوس (الثانية) وربما إلى العبرانيين وهو في السجن أو أثناء الاعتقال في روما في خلال هاتين السنتين.
جاء أيضًا في التقليد أنه إذ نال براءة انطلق من إيطاليا إلى أسبانيا ومنها إلى كريت، وبعد ذلك ذهب مع تيموثاوس إلى اليهودية. افتقد بعد ذلك الكنائس في أفسس، وأخيرا جاء إلى روما للمرة الثانية حيث نال إكليل الشهادة في أيام نيرون ربما عام 64م أو بعدها بقليل. يرى القديس كيرلس الأورشليمي أن القديس بولس قام بالتبشير في أسبانيا.
v ذهب من روما إلى أسبانيا وأخذ إليهم معه أيضًا الإنجيل، ثم عاد وفي وقت متأخر قطعت رأسه.
الآب ثيؤدورت أسقف كورش
شهد الرسول بولس أن هاتين السنتين في روما كانتا مشحونتين بالثمار، فآمن كثيرون حتى من داخل القصر (في 1: 12-14).
v أود أن أرى تراب هذا القلب. إن أراد شخص أن يدعوه قلب العالم كله فهو لا يخطئ. هذا القلب كان يحتضن الكل، فيضم كل المدن والشعوب، وكانت الأمم تجتمع معًا فيه. “قلبنا متسع لكم” (٢ كو ٦: ١١). ومع كونه عظيمًا هكذا، فإن الحب الذي يصدره كان يسبب حزنًا لبولس يملأ قلبه. يقول: “أكتب إليكم في حزنٍ ووجع قلبٍ” (٢ كو ٢: ٤). كان قلب المسيح هو قلب بولس. إنه حديث عن الحب!
v من يهبني الفرصة أن أحتضن جسد بولس، وألتصق بقبره، وأتطلع إلى رماد هذا الفم الذي من خلاله تكلم المسيح؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
ختم القديس يوحنا الذهبي الفم عظاته على سفر الأعمال بالحديث عن القديس بولس قائلاً:
[رأيتم أعماله جزئيًا، هكذا كانت كلها محتشدة بالمخاطر.
كان سماءً فيها شمس البرّ، ليس كالشمس التي نراها؛ فإن هذا الإنسان هو أفضل من السماء عينها…
لا يخطئ إنسان أن دعا قلب بولس بحرًا وسماءً. إنه بحر فيه رحلات لا تبحر من مدينة إلي مدينة، بل من الأرض إلى السماء؛ وأن أبحر إنسان في هذا البحر فستكون رحلته مزدهرة. في هذا البحر لا توجد رياح بل عوض الرياح الروح القدس الإلهي يسوق النفوس التي تبحر فيه. ليس فيه أمواج ولا صخرة ولا حيوانات مرهبة، كل شيء في هدوء… من يرغب في أن يبحر في هذا البحر لا يحتاج إلى غواصين، ولا إلى رتب، بل الحب المترفق يفيض، يجد كل الصالحات التي في ملكوت السماوات. يصير أيضًا قادرًا أن يكون ملكًا، ويملك العالم كله، ويكون في أعظم الكرامات. من يُبحر في هذا البحر لن يعاني من انكسار سفينته، بل كل الأمور تسير حسنًا…
ليتنا نحاكي بولس، ونتمثل بسموه، تلك النفس الماسية، فنتقدم في إثر خطوات حياته، حتى يمكننا أن نبحر في بحر هذه الحياة الحاضرة، ونبلغ الميناء حيث لا أمواج، وننال الصالحات الموعود بها، والحب لله بنعمة ورحمة ربنا يسوع المسيح له المجد مع الآب والروح القدس والقدرة والكرامة الآن وإلى أبد الأبد. آمين.]
من وحي أع 28
كازر أينما وجد!
v نجا كل من كانوا في السفينة،
تحقّقت رؤيا قدّيسك بولس،
وفي تواضع لم يتفاخر أنّه علّة خلاصهم من الدمار.
بل بروح الحب جدًا صار يجمع حطبًا ليتمتّع الكل بالتدفئة.
كانت أعماله، حتى البسيطة للغاية،
تتناغم مع كلماته وتعاليمه.
شهد لك بحبّه العملي، كما بكلماته.
v نشبت في يده أفعى ولدغته.
حكم عليه البرابرة في أنفسهم،
أنّه قاتل، سافك دماء.
اليد التي امتدّت للقتل نشبت فيها أفعى.
انتظر الكل أن يتم فيه العدل الإلهي بموته.
حسبوه قاتلاً لن يفلت من يد الله,
وإذا به ينفض الوحش بكل يقين واطمئنان.
حسبوه إلهاً قديراً لن يقدر سم الأفعى أن يقتله.
كشف عن سرّ السيد المسيح الساكن فيه.
v شهد لمسيحه أمام حاكم الجزيرة بشفاء أبيه.
تحولت الجزيرة إلى مستشفى,
وصار بولس طبيباً يقدم السيد المسيح دواءً للنفس والجسد.
v دخل روما بفرحٍ وتهليلٍ.
رآه الإخوة في القيود,
فطوَّبوه من أجل شركة الصلب مع مسيحه.
v اهتم بإخوته اليهود,
وإذ رفضوه كما رفضوا سيده,
بدأ يكرز بكل قوة بين الأمم.
v طوباك يا أيها العجيب في الكرازة.
لم تعرف للكرازة حدود!
ترى في كل إنسان مسيحك مخلص النفوس.
وتشتهي أن تحمل بالحب كل البشر,
تحتضنهم لتحمل بروح الله القدوس إلى أحضان الآب!
ملحق للأصحاح الثامن والعشرين
عن
خراب أورشليم
ختم سفر الأعمال بأسر القديس بولس في روما، حيث قضى عامين خلالها قام بالشهادة في القصر الإمبراطوري وكسب نفوسًا للسيد المسيح، علامة انطلاق الخدمة إلي قلب العاصمة، وانفتاح باب الإيمان للأمم علي مصراعيه، هنا نقدم موجزًا للأحداث في أورشليم حتى تم خراب المدينة في عام 70.
دمار الهيكل
إذ رفض اليهود الإيمان بيسوع بكونه المسيا المخلص، ظهرت بعض الشخصيات المخادعة التي إدعت الرسالة من الله لإنقاذ أمة اليهود من الاستعمار الروماني، الأمر الذي في نظر اليهود لم يشغل ذهن يسوع. اجتذب هؤلاء كثير من اليهود حولهم، ولكنهم قُتلوا هم وأتباعهم.
اشتد التنافر بين اليهود والولاة الرومان، إذ شعروا بالمذلة أن يدفعوا جزية لدولة غريبة، كما أهان بعض القادة الرومان الهيكل حين أدخلوا بعض التماثيل فيه. ثار الشعب علي الولاة، وحلّ الفساد بين كل الطبقات وسادت الفوضى البلاد.
تعاقب الولاة الواحد علي الآخر بسرعة، وكان هدفهم جمع الثروات علي حساب الشعب، وأخيرًا ففي عام 66 م صار ظلم جسيوس فلوروس وسلبه الأموال علة قيام جميع الأمة بالحرب علي الرومان. بدأت الحرب في قلعة مسَّدا بالقرب من البحر الأحمر حيث دخل جماعة من الجنود اليهود علي العسكر الرومان وقتلوهم جميعًا بالسيف. عندئذ أعلن رؤساء اليهود عصيانهم علي الدولة الرومانية ورفض كهنة اليهود تقديم ذبائح لإنجاح الإمبراطور الروماني، وقام الشعب علي العسكر الرومان أينما وجدوهم وقتلوهم. انضم السريان إلي الرومان كطرفٍ، واليهود طرف آخر وانتشبت الحرب بين الفريقين.
إذ سمع سستيوس كالوس والي سوريا بالأمر انطلق بجيش عظيم إلي أورشليم، فخرج إليهم اليهود، وقتلوا كثيرين، غير أن الرومان دخلوا القسم السفلي من المدينة وحرقوه.
رجع سستيوس إلي معسكره، فتشجع اليهود وانطلق عدد كبير إلي المعسكر، وقتلوا كثيرين من جندِه، وحصلوا علي كميات ضخمة من الأسلحة الحربية شجعتهم علي التمادي في المعركة. في ذلك الوقت انطلق البعض إلي الجبال من بينهم المسيحيون حسب وصية السيد المسيح (مت 24: 15-16)، هؤلاء نجوا من الحرب التالية عندما حوصرت المدينة.
أخبر سستيوس نيرون بما حدث فأرسل سباسيانوس أعظم قواده في ذلك الزمان؛ انطلق ومعه 60 ألفًا من الجند لاسترداد الحصون من أيدي المتمردين. وقد دافع اليهود عنها مستميتين، وكان من بينها مدينة جوتباتا، فحماها يوسيفوس المؤرخ الكاهن اليهودي من العائلة الأسمونية، أقامه اليهود واليًا للجليل. وإذ فتحت المدينة سجل يوسيفوس تاريخ أمته وسقوطها المّر. أسقط الرومان بقية حصون الجليل بالرغم من البسالة التي أظهرت اليهود في الحصار.
في شتاء وربيع 68/69م فتحوا بيريا وأيدوميا وجنوب اليهودية، ولم يسرع فسباسيانوس في السير نحو أورشليم، فأخبر قادته أنه متمهل علي المدينة حيث حدث انشقاق بين اليهود في أورشليم، وصاروا يقاتلون بعضهم البعض، حيث انقسموا إلي أحزاب، واستولى كل حزب علي قسمٍ من المدينة. تحولت المدينة إلي شبه حرب أهلية أفسدت قوتهم وبردت طاقتهم.
رجع فسباسيانوس إلي روما بسبب قيام الفتن التي سبقت ارتقائه العرش، وفوَّض قيادة الحرب لابنه تيطس. حاصر تيطس أورشليم في عيد الفصح سنة 70م، حيث كان قد اجتمع فيها حوالي مليوني يهوديًا للاحتفال بالعيد. وإذ فرغت المئونة حدث جوع شديد فتمت النبوة الخاصة بالمجاعة الواردة في (تث 28: 48) الخ. قيل أن حوالي 600 الفًا قد هلكوا، وحاول تيطس ان يقنعهم بالتسليم لكن رؤساء الأحزاب رفضوا، وقتلوا كل من أبدى ميلاً للاستسلام.
بسبب حصانة المدينة طبيعيًا وجد الرومان صعوبة شديدة في اقتحامها فدخلوا أولاً أطرافها، ثم القسم السفلي منها، ثم الهيكل الذي كان قلعة حصينة، وأخيرًا بعد خمسة أشهر من بدء الحصار فتحوا المدينة العليا. إهتم تيطس بالاحتفاظ بالهيكل كقطعة فخمة يفتخر بها، لكن جنديًا أشعل فيه النار خلافًا للأوامر الصادرة، فاحترق الهيكل كله، ولم ينجُ منه سوى الأواني الذهبية المقدسة. قُتل الكثيرون وبِيع الكثيرون عبيدًا وأرسل البعض للعمل في المناجم بمصر وغيرها.
إذ تحققت كلمات السيد المسيح عن خراب أورشليم والهيكل، وسقطت دولة إسرائيل تمامًا استقلت الكنيسة في العالم كله عن اليهود، وأدرك كثير من المسيحيين ضرورة التحرر عن الطقس اليهودي الحرفي.
سفر أعمال الرسل : 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 –27 – 28
تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7– 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 –15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 –25 – 26 –27 – 28