تفسير رسالة غلاطية 2 – أ/ حلمي القمص يعقوب
تفسير غلاطية – الأصحاح الثاني
في الأصحاح السابق تحدَّث بولس الرسول عن استقلالية رسالته، فهو رسول ليس من الناس ولا بإنسان بل بيسوع المسيح واللَّه الآب، وهنا يستكمل الموضوع، إذ يتابع سرد جزء من تاريخه لأولاده من أجل إجلاء الحقائق وفضح الإخوة الكذبة الذين ينادون بالتهود ويطعنون في إرسالية بولس الرسول وفي إنجيله، ولم يكن هذا الطعن بالأمر الهين، لأن الشك في رسوليته وإنجيله يعني الشك في إيمان جميع الأمم الذين آمنوا بواسطته، ومن هؤلاء الأمم أولاده في غلاطية.
وبدأ بولس الرسول هذا الإصحاح بزيارته إلى أورشليم للمرة الثانية بعد أربعة عشر عامًا من ظهور الرب يسوع له أو من زيارته الأولى لهذه المدينة المقدَّسة، وفي زيارته هذه اصطحب معه شريكه في الخدمة برنابا وهو من أصل يهودي، وتلميذه تيطس اليوناني، وهو غير مُختتن، والتقى بولس بالآباء الرسل المعتبرين بطرس ويعقوب ويوحنا وعرض عليهم إنجيله الذي كرز به للأمم والذي تسلَّمه من الرب رأسًا، ويدور حول التبرير بالإيمان بالمسيح يسوع، فوافقوه الرأي تمامًا، وأعطوه مع برنابا يمين الشركة ليكرز للأمم كما يكرز بطرس وبقية الرسل لليهود.. يكرز بولس بإنجيل الغرلة للأمم وبطرس بإنجيل الختان لليهود، وليس هما إنجيلان، إنما إنجيل واحد لليهود وللأمم أيضًا.
ثم يحكي بولس الرسول عن زيارة بطرس الرسول له في أنطاكية كعلامة على المحبة الأخوية، والود والتقدير بينهما، ويذكر موقفًا له صلة بمشكلة التهوُّد، إذ كان بطرس يأكل مع المؤمنين الذين من أصل أممي، وفجأة يحضر قوم متعصبون من أورشليم من عند القديس يعقوب، فابتعد بطرس قليلًا عن الذين كان يأكل معهم، حتى لا يتهمه هؤلاء القوم المتعصبون أنه يأكل مع أناس غير مختونين، فأراد أن يتجنَّب الدخول في حوارات ومباحثات ومجادلات معهم، فابتعد قليلًا، وكان من الممكن أن يمر الموقف مرور الكرام، ولكن بولس الرسول بالحكمة المعطاة له أدرك عمق هذا التصرف البسيط، فأنه يُخفي وراءه تقسيم وشق الكنيسة الواحدة إلى كنيستين إحداهما من أصل يهودي، والأخرى من أصل أُممي، فما كان من بولس الرسول إلاَّ أنه لام الرسول العظيم بطرس، وقاومه مواجهة أمام الجميع، فالخطية التي تُرتَكب في السرِّ تحتاج لملامةٍ في السر، أما الخطية التي تُرتَكب في العَلن فلا بد من ملامة في العَلَن، حتى لا يعثر أحد بها.. لامه بولس الرسول قائلًا له: إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميًا -في حالة أكلك مع المؤمنين الذين من أصل أممي- فلماذا تلزم الأمم أن يتهوَّدوا؟! وأكمل بولس حديثه في هذا الأصحاح عن التبرير بالإيمان بدم المسيح، وليس بأعمال الناموس، ولو كان الناموس يُبرّر الإنسان فإذًا المسيح مات بلا سبب!! ويقول “باركلي” أن بولس الرسول في هذا الإصحاح لم يرد أن يختصر الحديث لئلا يظهر وكأنه تخلّى عن مبادئه، ولا يريد أن يطيل الحديث ويفيض فيه لئلا يظن أحد أنه كان على خلاف مع قادة الكنيسة المعتبرين.
ويمكن تقسيم هذا الأصحاح إلى:
أولًا: إنجيل بولس (غل 2: 1 – 5).
ثانيًا: يمين الشركة (غل 2: 6 – 10).
ثالثًا: بولس يقاوم بطرس (غل 2: 11-14).
رابعًا: التبرير بالإيمان (غل 2: 15-21).
أولًا: إنجيل بولس (غل 2: 1-5):
” ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا. لكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ، وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا، اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ” (غل 2: 1 – 5).
في هذه الفقرة يحكي بولس الرسول عن صعوده الثاني إلى أورشليم مع شريكه في الخدمة الرسولية برنابا، مصطحبًا معه تلميذه تيطس، وهذا الصعود جاء بموجب إعلان، فبولس الرسول رجل الإعلانات السمائية، وكم من رؤية استعلنت له، وكان هدف هذه الزيارة عرض إنجيله أمام الآباء الرسل المعتبرين لئلا يكون سعيه باطلًا، وليس معنى هذا أنه كان يشك في الإنجيل الذي يكرز به، لأنه لو كان هناك شك من جهته في الإنجيل فلماذا تأخر كل هذه السنين؟! ولماذا لم يصعد للرسل منذ أكثر من عشر سنوات؟! وليس معنى هذه أيضًا أن الشك انتابه حديثًا في الإنجيل الذي يكرز به، إنما صعد بموجب إعلان إلهي لكيما يعرف الجميع أن إنجيل بولس لا يختلف عن إنجيل الآباء الرسل، وبهذا يحصل على مساندة الرسل له في تكميم أفواه الإخوة الكذبة الذين لا يكفُّون عن كيل الاتهامات له، ويذكر هنا أن تيطس رغم أنه غير مختتن إلاَّ أن الرسل قبلوه ولم يلزمونه بالاختتان، وبولس الرسول لم يذعن لهؤلاء الإخوة ولا لساعة واحدة ليظل حق الإنجيل معلنًا للجميع أن اللَّه قد قبل الأمم مثلما قبل اليهود بالسوية، دون أن يطالبهم بمطالب الناموس الثقيلة التي عجز عن تنفيذها الآباء العظماء.
” ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا. لكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ ولاَ تِيطُسُ الَّذي كان مَعِي، وهُوَ يُونَانِيٌّ أن يخْتَتِنَ” (غل 2: 1-3).
ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ.. صعد بولس الرسول في المرة الأولى لأورشليم بعد لقائه مع الرب يسوع بثلاث سنوات ليتعرَّف على بطرس الرسول (غل 1: 18) وكان المؤمنون في أورشليم يخافونه فقدمه برنابا للرسل وللمؤمنين (أع 9: 26-28) وصعد للمرة الثانية بصحبة برنابا لتقديم العطايا والتبرعات لفقراء أورشليم (أع 11: 30)، ويقول “د. وليم آدي“: “ولم يقل صعدت ثانية لأن صعوده هذا كان الثالث، وكان الصعود الثاني في سنة 45م أي بعد تسع سنين من تنصره، ولم يذكرها للغلاطيين لأنه لم يكن من غرضه فيما كتبه إليهم أن يذكر كل زياراته لأورشليم بل ما كان منها يستلزم مخالطة الرسل، وفي زيارته الثانية لم يكن له من فرصة لمخالطتهم لأنه أتى حينئذٍ مع برنابا لتقديم ما جمعه من الصدقات لفقراء أورشليم من كنيسة أنطاكية (أع 11: 30).. فالمرجح أنه وضع الصدقة التي أتى بها عند أمناء من المؤمنين ورجع حالًا آخذًا يوحنا مرقس معه بدون أن يشاهد أحدًا من الرسل فلم يكن من داعٍ لذكر هذه الزيارة في هذه الرسالة“(70).
أمّا في هذه المرة فقد صعد بموجب إعلان إلهي لمواجهة بدعة التهود وقد اصطحب معه برنابا وتيطس.. صعد إلى أورشليم بعد أربع عشرة سنة كرز خلالها للأمم وأسَّس كنائس عديدة، وهوذا تيطس يمثل ثمرة من ثمار خدمته في الأمم وقبولهم الإيمان بدون ختان.. صعد إلى أورشليم بعد أن بشر بالإنجيل خلال سعي متواصل ومضني، وبعد أن كتب رسائل عديدة، فهل بعد كل هذا يجرؤ أحد أن يقول أن بولس صعد إلى أورشليم ليتعلم الإنجيل من الآباء الرسل؟!
صعد بولس الرسول بعد أربع عشرة سنة إلى أورشليم، ومن الصعب تحديد بداية هذه المدة، هل تبدأ من تجديده أم من صعوده الأول إلى أورشليم؟! وفي سفر الأعمال جاء ذكر عدة زيارات قام بها بولس الرسول إلى أورشليم:
1 عندما قدمه برنابا للرسل فحكى لهم عن ظهور الرب له (أع 9: 26-30) وهي تقابل ما جاء في (غل 1: 18).
2- عندما حمل العطايا والتبرعات مع برنابا إلى فقراء أورشليم (أع 11: 30).
3 لحضور مجمع أورشليم (أع 15: 12).
4- عندما صعد إلى قيصرية (أع 18: 22).
5 صعوده إلى أورشليم بالرغم من نبوة أغابوس بأن اليهود سيربطونه ويسلمونه للأمم (أع 21: 10 – 15) وقد صدقت نبوته فعلًا.
صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا.. و“بَرْنَابَا“ كان اسمه يوسف وهو من سبط لاوي جاء من قبرص: “وَيُوسُفُ الَّذِي دُعِيَ مِنَ الرُّسُلِ بَرْنَابَا، الَّذِي يُتَرْجَمُ ابْنَ الوَعْظِ، وَهُوَ لاَوِيٌّ قُبْرُسِيُّ الْجِنْسِ، إِذْ كَانَ لَهُ حَقْلٌ بَاعَهُ، وَأَتَى بِالدَّرَاهِمِ وَوَضَعَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ “(أع 4: 36، 37)، واسم “بَرْنَابَا“اسم مركَّب من مقطعين، الأول “بر” وهو “ابن” باللغة الآرامية، والمقطع الثاني “نابا” أو “نبا” بمعنى النبوة والوعظ، إذًا معنى “بَرْنَابَا“ أي “ابن الوعظ”، ودُعيَ هكذا لفصاحته وبلاغته وقوة حجته، ومثل اسم “بَرْنَابَا” اسم “أرباس” أي “ابن الآب”، و”بار يشوع” أي “ابن يسوع”.. وعندما سمع الرسل أن أهل أنطاكية قبلوا الإيمان: “فَأَرْسَلُوا بَرْنَابَا لِكَيْ يَجْتَازَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. الَّذِي لَمَّا أَتَى وَرَأَى نِعْمَةَ اللَّهِ فَرِحَ، وَوَعَظَ الْجَمِيعَ أَنْ يَثْبُتُوا فِي الرَّبِّ بِعَزْمِ الْقَلْبِ لأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَمُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالإِيمَانِ. فَانْضَمَّ إِلى الرَّبِّ جَمْعٌ غَفِيرٌ” (أع 11: 22-24)، وبرنابا هو الذي أحضر بولس الرسول إلى أنطاكية فخدما معه سنة كاملة (أع 11: 25، 26) وحمل مع بولس عطايا أهل أنطاكية إلى فقراء أورشليم (أع 11: 30)، وصاحب برنابا بولس الرسول في الرحلة التبشيرية الأولى (أع 13: 2)، وفي الرحلة التبشيرية الثانية إذ اختلفا في الرأي، اصطحب بولس سيلا، واصطحب برنابا مرقس الرسول للكرازة في قبرص (أع 15: 39).
أمَّا “تِيطُسَ“ فهو يوناني الجنسية، دعاه بولس الرسول “الابنِ الصَّرِيحِ حَسَبْ الإِيمَانِ” (تي 1: 4)، وكان تيطس يتمتَّع بشخصية جذَّابة يشع بروح الفرح والبهجة والعزاء، فكان بولس الرسول يستريح له، ويفتقد غيابه: “وَلكِنْ لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاسَ، لأَجْلِ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَانْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي الرَّبِّ، لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي” (2كو 2: 12، 13).. ” لأَنَّنَا لَمَّا أَتَيْنَا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيْءٌ مِنَ الرَّاحَةِ بَلْ كُنَّا مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ، مِنْ دَاخِل مَخَاوِفُ. لكِنَّ اللَّهَ الَّذِي يُعَزِّي الْمُتَّضِعِينَ عَزَّانَا بِمَجِيءِ تِيطُسَ” (2كو 7: 5، 6)، فهناك شخص لا فرق بين حضوره وغيابه، وشخص آخَر حاضر الوجود فعندما يغيب عنك تفتقد وجوده، حتى لو كان هذا الشخص قليل الكلام، لكنه بلا شك غني المشاعر.. وكان بولس الرسول يعتمد على تيطس إذ أقامه أسقفًا لكيريت: “مِنْ أَجْلِ هذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ الأُمُورِ النَّاقِصَةِ، وَتُقِيمَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شُيُوخًا كَمَا أَوْصَيْتُكَ” (تي 1: 5)، وقال لأهل كورنثوس: “حَتَّى إِنَّنَا طَلَبْنَا مِنْ تِيطُسَ أَنَّهُ كَمَا سَبَقَ فَابْتَدَأ،َ كَذلِكَ يُتَمِّمُ لَكُمْ هذِهِ النِّعْمَةَ أَيْضًا“ (2كو 8: 6) وأعتبره شريكًا معه في الخدمة: “أَمَّا مِنْ جِهَةِ تِيطُسَ فَهُوَ شَرِيكٌ لِي وَعَامِلٌ مَعِي لأَجْلِكُمْ” (2كو 8: 23)، وكان معه في أفسس، وحمل إلى أهل كورنثوس رسالة بولس الرسول لهم الثانية.
وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ.. لم يوضح بولس الرسول طبيعة هذا الإعلان ولا تفصيلاته، لكننا ندرك تمامًا أن الروح القدس الذي عمل في الآباء الرسل بلا شك عمل في بولس أيضًا، والروح القدس كان يقود خطوات بولس الرسول ومَن معه: “وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّة،َ مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا. فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ“ (أع 16: 6، 7)، وقد أعلن اللَّه لبولس سر قبول الأمم، فقال لأهل أفسس: “قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ الْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ. أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ“ (أف 3: 2، 3)، وبموجب إعلان ذهب إلى أورشليم هذه المرة، وفي موضع آخَر يقول: “وَحَدَثَ لِي بَعْدَ مَا رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي الْهَيْكَلِ، أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ، فَرَأَيْتُهُ قَائِلًا لِي أَسْرِعْ! وَاخْرُجْ عَاجِلًامِنْ أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ شَهَادَتَكَ عَنِّي“ (أع 22: 17، 18) فبولس الرسول رجل الاستعلانات: “إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ. فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ” (2كو 12: 1). إذًا بولس الرسول صَعِدَ إلى أورشليم بموجب إعلان إلهي له، وليس بناءً على استدعاء الرسل له، فالرسل لم يرسلوا إليه ولم يستدعوه ليراجعوا إنجيله الذي يكرز به.
وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَم.. عرضت عليهم أي على الآباء الرسل والقسوس، عرضت عليهم الإنجيل: “الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (غل 1: 11، 12)، وهو إنجيل المسيح المُقدَّم للجميع: “لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللَّهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ“ (رو 1: 16)، ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “إن الرسل والمشايخ والإخوة في أورشليم.. جميعهم من اليهود المختونين الذين يرون في “ختان الجسد” امتيازًا يرفعهم فوق سائر الشعوب والأمم، ويخصهم بإله إسرائيل، ويعتبرون موسى جد الاعتبار، ويحترمون ناموسه كل الاحترام، وإلى هذه الساعة كانوا يتحاشون الاختلاط بالأمم غير المختونين، معتبرين إياهم غرلًا نجسين.. لذلك لم يكن مَن يحامي عن “إنجيل الغرلة” بغيرة وقَّادة وقوة فعالة وحجة قاطعة مقنعة غير بولس الذي أُفرز من البطن ودُعي بنعمة المسيح، وتعلَّم إنجيل الغرلة بإعلان يسوع المسيح للكرازة بين الأمم، وهو ذاته إنجيل الختان للكرازة بين اليهود“(71).. أما عن الكرازة بين الأمم ومدى نجاحها وانتشارها، فإن بولس الرسول أكدَّ وعلَّم: ” أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ” (أف 3: 6).
وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ.. وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ.. لم يعرض بولس الرسول الإنجيل الذي كرز به بين الأمم في بداية كرازته منذ أربعة عشر عامًا على أي إنسان ولم يستشر لحمًا ودمًا، أما الآن فهو يعرض هذا الإنجيل على الآباء الرسل لأن الظروف المحيطة بالكرازة قد تغيَّرت، ونبرة التهوُّد ارتفعت، وصار يوجد معاندون ومقاومون ومشكّكون، فأراد بولس الرسول أن يستعين بالآباء الرسل ليسكت تلك الأصوات المرتفعة من الهراطقة المبتدعين المتهوّدين، حتى تسير سفينة الكرازة في هدوء بعيدًا عن الأمواج المتلاطمة، فصعد إلى أورشليم بإعلان إلهي، وعرض الإنجيل الذي يكرز به والذي يدور حول التبرير بالإيمان بالمسيح يسوع وليس بأعمال الناموس، ولم يعرض إنجيله على جموع الشعب حتى يتجنب الدخول في مناقشات وحوارات ومجادلات لا طائل من ورائها، إنما عرضه على الآباء الرسل المعتبرين بطرس ويعقوب ويوحنا خلال حديث ودي هادئ وقلوب متسعة، فجميعهم على قدر المسئولية ولا هدف لهم إلاَّ مجد اللَّه، وكان هدف بولس الرسول أن يطمئن الجميع أنه سعى سعيًا صحيحًا نحو الهدف.. وسريعًا ما أُعلنت نتائج الاجتماع أن الإنجيل الذي يكرز به بولس الرسول، هو هو نفس الإنجيل الذي يكرز به الرسل، ولا يوجد أدنى اختلاف في أبسط عقيدة إيمانية، فهو إنجيل واحد لليهود والأمم.
وعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ.. هنا يظهر تواضع بولس الرسول وحكمته. ظهر تواضعه في تقديم الاحترام اللائق للآباء الرسل المعتبرين أعمدة الكنيسة بطرس ويعقوب ويوحنا، وقبِل بطيب خاطر أن يكونوا المرجع له في الكرازة، وظهرت حكمة بولس الرسول في عرضه للإنجيل على الآباء الرسل بمفردهم، ولم يطرح الموضوع أمام الشعب كله حتى لا يحدث تحزُّب أو تشويش أو اضطراب، فكان هذا الاجتماع الخاص تهيئة للاجتماع العام، وتمسَّك بولس الرسول بمبادئه في الكرازة.
ويقول “ماكدونل“: “لماذا تكلّم بولس على انفراد مع القادة الروحيين بدلًا من أن يتكلّم لكل الجماعة؟ هل أراد منهم أن يوافقوا على إنجيله فيما لو كان يكرز برسالة مغلوطة؟ لا طبعًا! لأن هذا يناقض كل ما قاله الرسول، فلقد أكد أنه تلقى رسالته بإعلان إلهي، ولم يكن لديه أدنى شك بصحة التعليم الذي كان يكرز به. لذلك لا بد من وجود تفسير آخَر للأمر.
كان ينبغي، بحسب الأصول، التحدث مع القادة أولًا. وكان من المستحسن أن يقتنع القادة كليًّا بصحة إنجيل بولس.. عندئذٍ يستطيع أن يظهر أمام الكنيسة متمتعًا بالدعم الكامل من قِبل الرسل الآخرين. عندئذٍ يكون التعامل مع عدد كبير من الناس. يزداد الخطر في أن تسيطر التهم العاطفية على الجماعة، لذلك استحسن بولس أن يعرض إنجيله على انفراد في البداية، وسط جوٍ خالٍ من حمى العاطفية الجماعية. فلو تصرَّف بولس بشكل آخَر، لنشأ خصام حاد ربما كان أدى إلى انشقاق الكنيسة إلى جناحين، أحدهما يهودي والآخَر أممي، وعند ذلك تفشل مقاصد بولس من زيارته إلى أورشليم“(72).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “هكذا كان ينظر إليهم الناس، ويرونهم شيئًا معتبرًا مجيدًا له قيمته في عيونهم، ويقدّرون كلامهم، ولذلك بالنسبة إلى مقامهم الرسولي وسلطانهم الكنسي الذي أُعطي لهم من الرب يسوع نفسه، وهذا عينه هو ما قدَّره الرسول “بولس” في عرض مشروعه عليهم بالانفراد لينال مصادقتهم، ويضمن نجاح مشروعه بين الآخرين”(73).
وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ.. لا بد أن بولس الرسول أفصح لهم عن سر المسيح الذي أعلنه له، وهو “أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ“ (أف 3: 6)، كما كشف لهم عن عمل اللَّه معه في خدمته للأمم، وهذا الأمر لم يكن غريبًا عنهم، لأن اللَّه قد أعلن هذا السر لبطرس الرسول أيضًا: ” مَا طَهَّرَهُ اللَّهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ” (أع 10: 15) فدخل بيت كرنيليوس وقال: “أَتُرَى يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ الْمَاءَ حَتَّى لاَ يَعْتَمِدَ هؤُلاَءِ الَّذِينَ قَبِلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا نَحْنُ أَيْضًا“ (أع 10: 47).. “وَلَمَّا سَمِعَ الرُّسُلُ الَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ أَنَّ السَّامِرَةَ قَدْ قَبِلَتْ كَلِمَةَ اللَّهِ، أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا” (أع 8: 14).
وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ.. يقول “الأب متى المسكين“: “هي مرَّة كانت ولم تتكرر قط في عمر الكنيسة والمسيحية، أن يتلاقى أعمدة الختان الثلاثة خلاصة الفكر الرسولي للاثنى عشر مع عملاق الأمم الرسول المعيَّن من السماء من فم المسيح مباشرة. هؤلاء الأربعة جمعهم المسيح معًا وجهًا لوجه ليحملوا هم العالم في صورته المصغرة آنئذٍ وليرسموا معًا مناطق الخدمة وحمل المسئولية ورسم خريطة المسيحية لمستقبل العالم المسيحي وحدود نمو الرسالة وتقدمها.. وكان ق. بولس يمثل الباب المفتوح على مصراعيه لدخول كل الأمم بلا مانع وعن سعة، في مقابل الانحصار الختاني فيما لليهود المتمحورين في أورشليم والمشتتين في كل بقاع العالم أقلية قليلة منغلقة على ذاتها لا ينفذ من خلالها شعاع رجاء لخلاص الأمم.. إن هذا المجمع صار من أهم وأخطر حوادث التاريخ المسيحي على وجه الإطلاق“(74).
وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ.. كان هذا الاجتماع على مستوى القادة مقدمة لعقد مجمع أورشليم، وكما أن بولس الرسول حقَّق الهدف الإلهي في هذا الاجتماع المصغَّر، فأنه حقَّق ذات الهدف في مجمع أورشليم، وقال بطرس الرسول عن هؤلاء الأمم: “اللَّهُ الْعَارِفُ الْقُلُوبَ شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِيًا لَهُمُ الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضًا. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ” (أع 15: 8، 9)، وطفق بولس وبرنابا يخبران بعظائم اللَّه في الأمم (أع 15: 12)، وأوضح القديس يعقوب قصد اللَّه في أن يقيم من الأمم شعبًا لاسمه، وأوصى أن: ” لاَ يُثَقَّلَ عَلَى الرَّاجِعِينَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الأُمَمِ” (أع 15: 19)، وكان حضور تيطس في وسطهم دليل عملي على ثمرة عمل اللَّه في الأمم، وعلى قبول الرسل الأطهار للأمم دون إلزامهم بالختان، ونجح مجمع أورشليم نجاحًا باهرًا وحقَّق الهدف من انعقاده، وحافظ على وحدة الكنيسة، وحفظ وحدانية التعليم فيها، ونجَّاها من شر الانشقاق وهي بعد في مهدها.
لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا.. وليس معنى هذا أن بولس كان يشك ولو للحظة واحدة في التعاليم التي تسلَّمها من السيد المسيح رأسًا، ولكنه هنا ينقل مشاعر الآخرين الذين قالوا أن إنجيل بولس مخالف لإنجيل الرسل، وكرازته مخالفة لكرازتهم، وإن سعيه كان سعيًا باطلًا، فالمعنى المقصود هنا: لئلا أكون سعيت باطلًا في نظر البعض، ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “قد صعدتُ وعرضتَ عليهم الإنجيل الذي أكرز به، ليس لأتعلَّم، وإنما لأُقنِع المتشكَّكين أنني لا أسعى باطلًا. إذ سبق فرأى الروح أن هذا الخلاف سيحدث، لهذا دبر أن يصعد الرسول ويتصل (بالرسل)“(75).
لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا.. استعار بولس الرسول فعل “أَسْعَى“ من الألعاب اليونانية التي يسعى فيها المتسابقون للحصول على الجائزة، وهذا ما ذكره لأهل فيلبي: “مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الْحَيَاةِ لافْتِخَارِي فِي يَوْمِ الْمَسِيحِ، بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ بَاطِلًا وَلاَ تَعِبْتُ بَاطِلًا” (في 2: 16)، وقال لتلميذه تيموثاوس: “قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ أَكْمَلْتُ السَّعْيَ حَفِظْتُ الإِيمَانَ “(2تي 4: 7) وقال لأولاده في تسالونيكي: ” أَرْسَلْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ إِيمَانَكُمْ لَعَلَّ الْمُجَرِّبَ يَكُونُ قَدْ جَرَّبَكُمْ فَيَصِيرَ تَعَبُنَا بَاطِلًا“ (1تس 3: 5)، وكم تعب كاروز الأمم وتعرّض لمخاطر جمّة، وهو يسعى سعيًا دؤبًا في طريق الكرازة، وذكر جانب من هذه المتاعب وهو يقارن نفسه بالآباء الرسل: “أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ، فَأَنَا أَفْضَلُ: فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ، فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ، فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ، فِي الْمِيتَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً..“ (2كو 11: 22 – 28)، وأوصى أولاده أن يسعوا وأن يكون سعيهم بهدف محدَّد: ” أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ. هكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا” (1كو 9: 24).
لكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي وَهُوَ يُونَانِيٌّ أَنْ يَخْتَتِنَ.. ربما كلمة “لكِنْ“ تعكس محاولات الإخوة الكذبة لختن تيطس، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، وتعتبر هذه العبارة جملة اعتراضية بين قوسين توضح أن الآباء الرسل لم يُلزموا تيطس الأممي بقيود الختان ليسدُّوا أفواه الأخوة الكذبة، ويجب ملاحظة أن بولس الرسول لا يُنكر حق اليهودي في الختان إذا أراد ذلك، ولكنه عارض بشدة ربط الختان بالخلاص، وأيضًا عارض فرض الختان على الإنسان الأممي الذي يريد أن يؤمن بالمسيح، ومع أن بولس كان يهوديًا مختتنًا وعاش فريسيًا متزمتًا، لكنه صار يمثل الباب المفتوح على مصراعيه لقبول الأمم في الإيمان المسيحي دون الالتزام بمطالب الناموس.
ويقول “دكتور وليم آدي“: ” لم يُسلّم بولس البتة بختن تيطس إجابة لطلب أولئك الدعاة الكذبة لأنهم طلبوا ذلك بناءً على أن الختان ضروري للخلاص، فأبطلوا بذلك كون التبرير بمجرد الإيمان. قبِل بولس أن يكون يهوديًّا ليخلص اليهود (1كو 9: 20-22)، ولكن ذلك تسليم حبي في أمر عرضي لم يتعلّق بشيء من مبادئ الدين الجوهرية. ولو سلَّم لهم بأن يختن تيطس لكان قد خان الإنجيل وسلب متنصري الأمم الحرية التي اشتراها المسيح لهم“(76).
لَمْ يَضْطَرَّ.. أَنْ يَخْتَتِنَ.. بالرغم من أنه ” قَامَ أُنَاسٌ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى” (أع 15: 5) لكن وقف بولس وبرنابًا سدًا منيعًا ضد هذا التيار، وإن كان للأسف الشديد أن برنابا عندما رأى بطرس يتقهقر نحو المتهوّدين تقهقر معه، حتى أن بولس الرسول يذكر هذا الموقف بآسى قائلًا عن بطرس وبرنابا: ” وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ” (غل 2: 13). أما بولس الرسول فوقف كأسد مغوار يتصدى للكل، لأنه كان قد تلقى إعلانًا إلهيًّا واضحًا وحاسمًا، بأن التبرير بالإيمان بالمسيح وليس بالختان ولا بأعمال الناموس: “لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“(غل 5: 6).. وإن احتج أحد على بولس الرسول قائلًا إن كان هذا هو إيمانه الأكيد.. فلماذا ختن تيموثاوس؟!.. عندما ختن بولس تيموثاوس لم يفعل هكذا كشرط لقبول الإيمان المسيحي، ولكن ختنه وهو في الإيمان المسيحي لأن أمه كانت يهودية وأبيه كان يونانيًا، ولأن تيموثاوس مزمع أن يخدم في وسط يهودي لذلك ختنه بولس الرسول حتى يصير مقبولًا في ذلك الوسط اليهودي، وحتى لا يثير عدم ختانه بعض المشاكل من اليهود المتعصبين، أولئك الذين بالرغم من أيمانهم بالمسيح إلاَّ أنهم لم يريدوا أن يخلعوا جلباب اليهودية، وهذا ما كشف عنه لوقا الطبيب: ” فَأَرَادَ بُولُسُ أَنْ يَخْرُجَ هذَا مَعَهُ فَأَخَذَهُ وَخَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي تِلْكَ الأَمَاكِنِ لأَنَّ الْجَمِيعَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَبَاهُ أَنَّهُ يُونَانِيٌّ” (أع 16: 3).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “لما أرد بولس أن يرسل تيموثاوس إلى اليهود ختنه أولًا لكي يقبلوا أن يسمعوه. وهكذا بدأ بالختان لكي يلغيه فيما بعد. ولكنه لم يقبل هذا للتلاميذ بل خصَّ به تيموثاوس.. ولما قبلوا تيموثاوس كإنسان يلتزم بالناموس وأحبوه بدأوا يتأثرون بكلامه ويتركون عوائدهم القديمة”(77).
“وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا. اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ” (غل 2: 4، 5).
وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً.. كلمة “وَلكِنْ“ استخدمها بولس الرسول كثيرًا في كتاباته لربط ما سبق بما يلحق. واستخدمها في الآيات (2 – 4) ثلاث مرات:
” عَرَضْتُ عَلَيْهِمِ.. وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ“ (2: 2).
” ولكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ.. أَنْ يَخْتَتِنَ” (2: 3).
” وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ” (2: 4).
هؤلاء الإخوة الكذبة خرجوا من كنيسة أورشليم وكنائس اليهودية وذهبوا إلى أنطاكية وغلاطية وغيرهما: “وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا” (أع 15: 1)، وعقب مجمع أورشليم أرسل الرسل لأهل أنطاكية قائلين: ” إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاسًا خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَال مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا النَّامُوسَ الَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ” (أع 15: 24)، فهؤلاء الإخوة الكذبة كانوا مصدر خطر على بولس الرسول وعلى كنيسة الأمم: “بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ” (2كو 11: 26).
وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً.. كيف يدعوهم بولس الرسول أنهم إخوة وهم كذبة؟ أو كيف يصفهم بأنهم كذبة وهم إخوة؟.. لقد دعاهم إخوة لأنهم يدَّعون أنهم مسيحييّن، فالفرصة قائمة أمامهم للتوبة والرجوع إلى حياة القداسة، وأيضًا دعاهم إخوة ليوضّح لهم أن الخلاف معهم ليس خلافًا شخصيًا ولكن خلافًا موضوعيًا، خلاف على الآراء الخاطئة.. دعاهم إخوة وهم في الحقيقة أشد خطورة من الأعداء السافرين، فقد اتهموا بولس بأنه يحرّف الحق، ويستخف بالناموس، ويداهن الأمم فيسهل لهم طريق الإيمان بدون ناموس. أمَّا بولس الرسول فقد أوضح في دعة وتواضع أنه قبِل رسالته هذه من الرب يسوع رأسًا، فهو سرُّ قد أُعلن له أن الأمم شركاء في الميراث بالإيمان بيسوع المسيح وليس بأعمال الناموس، وتمسَّك بهذه الحقيقة أكثر من تمسكه بالحياة، ومن أجل هذه الحقيقة تخلّى عن مبادئه كفريسي ابن فريسي متزمتًا لا يطيق أن يرى أمامه إلاَّ كل ما هو يهودي ناموسي، وأوضح القديس بولس أيضًا أن الآباء الرسل أقرَّوا كرازته للأمم بدون الالتزام بمطالب الناموس، ووضع بولس الرسول الناموس في حجمه الطبيعي، فقد كان الناموس يكشف للإنسان على خطاياه ولا يعطه المرهم الشافي، فشعر الإنسان بمدى احتياجه للفادي، فكان الناموس مؤدبنا للمسيح.
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “بدأ بولس فتحدث عن الخصوم على أنهم ” أخوة كذبة” (قابل 2كو 11: 26). هو يتحدَّث عن تعليم خاطئ وضال، لا من أشخاص بلسانين. هم لا يخفون لعبتهم، ولكن بولس لا يتحمل تدخلهم في حياة جماعته، لهذا فهو يستعمل أقسى العبارات لكي يشجب تصرفهم. أنهم جواسيس.. لم يعارض بولس يومًا حق اليهودي المرتد بأن يمارس الشريعة.. “ غَيْرَ أَنَّهُ كَمَا قَسَمَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ، كَمَا دَعَا الرَّبُّ كُلَّ وَاحِدٍ، هكَذَا لِيَسْلُكْ. وَهكَذَا أَنَا آمُرُ فِي جَمِيعِ الْكَنَائِسِ. دُعِيَ أَحَدٌ وَهُوَ مَخْتُونٌ فَلاَ يَصِرْ أَغْلَفَ. دُعِيَ أَحَدٌ فِي الْغُرْلَةِ فَلاَ يَخْتَتِنْ” (1كو 7: 17، 18).
ولكن ما لا يستطيع أن يتحمله، هو تعجرف الإخوة الكذبة الذين يريدون أن يفرضوا طريقة العيش اليهودي على مسيحيين جاءوا من العالم الوثني: الحرية المسيحية هي في خطر. هذه هي المرة الأولى التي تستعمل فيها لفظة “الوتاريا” (الحرية). سنعود إليها في (غل 5)“(78).
وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً.. كانت كراز بولس للأمم ودعوتهم للإيمان بدون الالتزام بالختان ومطالب الناموس حجر عثرة ومصدمة لهؤلاء الإخوة الكذبة: “أولئك الذين كانوا لا زالوا مخلصين للديانة اليهودية، وبدأوا في تكوين تحالف مقاومين لبولس بقوة. لقد شعروا أنه خرج ليدمّر ديانتهم من ناحيتي الشكل والطقوس. ولذلك، فقد بدأوا يشوهون سمعته ويدمرونه..
- إلقاء ظلال الشك على خلاصه ودعوته.
- إنكار أن رسوليته وخدمته كانتا من اللَّه.
- بغرس معلميهم في الكنائس التي خدم فيها بولس ليعلّموا الكنائس تعليمهم الكاذب.
وبإرسال مبعوثيهم لتعقب ومطاردة بولس بإثارة الناس ضده، وتهييجهم للشك في رسالته ودعوته.
كان يُطلَق على هؤلاء الناس لقب المتهوّدين، وهم الذين يمزجون الطقوس والناموس مع إنجيل المسيح. كان دفاع بولس أن هذا التعليم كان على النقيض تمامًا من الإنجيل الحقيقي. إن الإنسان لا يخلص عن طريق علامات جسدية ولا بالطقوس ولا بقدرته على حفظ الناموس وترتيبات وقوانين معينة. لا يستطيع إنسان أن يكسب، ويربح، أو يفعل شيئًا لكي يخلص نفسه. الخلاص بالإيمان بيسوع المسيح وحده (غل 2: 16)”(79).
وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا.. وقد دعى بولس الرسول هؤلاء الإخوة الكذبة بأنهم رسل كذبة وفعلة ماكرون يتشكَّلون: “لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ. وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ. فَلَيْسَ عَظِيمًا إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضًا يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ ” (2كو 11: 13-15).
وقول بولس الرسول ” الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً” مبني للمجهول، فمن هو الذي أدخلهم خفية ليفسدوا الخدمة؟.. أنه بلا شك لم يكن بطرس ولا يعقوب ولا يوحنا ولا أحد من الآباء الرسل، ولكن الذين أدخلوهم هم المتهوّدين بأورشليم والذين من أصل فريسي الذي قال عنهم القديس لوقا في سفر الأعمال: “وَلكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى” (أع 15: 5)، وقد يكون الذين أدخلوهم خفية هم جمهور الكهنة اليهود الذين آمنوا بالمسيحية: ” وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ الإِيمَانَ” (أع 6: 7) وكان هؤلاء المتهوُّدون غيورين على الناموس كقول القديس يعقوب لبولس الرسول: ” أَنْتَ تَرَى أَيُّهَا الأَخُ كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ جَمِيعًا غَيُورُونَ لِلنَّامُوسِ” (أع 21: 20)، وخلف كل هؤلاء كان يقف عدو الخير كقول السيد المسيح له المجد في مَثَل الحنطة والزوان: “وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى.. وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ“(مت 13: 25، 39).
وكلمة “خُفْيَةً” في الأصل اليوناني تعبر عن الاختفاء بغرض التلصُّص، ولذلك يكمل بولس الرسول القول: “الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا“.. لقد تسلَّلوا خفية بكامل إرادتهم بهدف تدمير الخدمة، وهؤلاء الأخوة الكذبة هم الذين حذر بولس الرسول تلميذه تيموثاوس منهم: “لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هؤُلاَءِ“(2تي 3: 5).
وعن هؤلاء الإخوة الكذبة قال معلمنا بطرس الرسول: “وَلكِنْ، كَانَ أَيْضًا فِي الشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضًا مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ الَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ“ (2بط 2: 1)، فهؤلاء الإخوة الكذبة الذين قال عنهم بطرس الرسول أنهم دخلوا خلسة أو اختلاسًا قال عنهم بطرس الرسول أنهم يدسون بدع هلاكٍ، فهم ذئاب خاطفة يندسون في ثياب الحملان: “اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ“ (مت 7: 15) وقال بولس الرسول: “لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ “ (أع 20: 29).. وبلا شك أن خطورة الذئاب تشتد جدًا عندما تكمن في ركن من أركان الحظيرة.
لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ.. هؤلاء الإخوة الكذبة الذين دفع بهم متهوّدي أورشليم إلى كنائس غلاطية كان هدفهم التجسُّس على المسيحيّين من أصل أممي، ومحاولة إقناعهم بأن إيمانهم باطل بدون الختان وحفظ الناموس، فهؤلاء الإخوة الكذبة هم في حقيقتهم أعداء، وكل عدو يهتم جدًا بالتجسُّس على خصمه بهدف اكتشاف نقاط ضعفه والثغرات في نظامه الدفاعي، حتى ينفذ إلى عدوه ويحطمه.
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: ” أشار إلى عدائهم بدعوتهم جواسيس، لأن هدف الجاسوس الأوحد هو أن يهيئ لنفسه ما يدمر ويخرب بمعرفته مركز عدوه المضاد، هذا ما فعله الذين أرادوا العودة بالتلاميذ إلى العبودية، هكذا يظهر كيف كان غرضهم مضادًا تمامًا لهدف الرسل. الأخيرون قدموا امتيازًا بأن يحرّروهم من عبوديتهم بالتدريج، أما الأولون فقد خططوا أن يخضعوهم لعبودية أكثر حدة“(80).
لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ.. بولس الرسول يقول قبل إيماننا بالمسيح يسوع كنا مستعبدين للناموس الذي يحكم علينا ولا يحكم لنا، ولكن لما جاء السيد المسيح حرَّرنا من نير الناموس، ولذلك قال للغلاطيين: ” فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ.. فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا” (غل 5: 1، 13).. لاحظ يا صديقي أن بولس الرسول الذين كان سابقًا يهوديًا متعصبًا متزمتًا لا يطيق الأمم، الآن يضع نفسه في صفوفهم قائلًا: ” حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ“، فشكرًا لربنا يسوع الذي وهب الحرية للجميع يهودًا وأممًا: “أَمِ اللَّهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ. أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا. بَلَى لِلأُمَمِ أَيْضًا. لأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ“ (رو 3: 29، 30).. لقد حرَّرنا من عبودية الناموس، وأيضًا حرَّرنا من الخوف من الموت: “وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّة“(عب 2: 15)، وأيضًا حرَّرنا من عبودية الخطية.
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “فالمسيح بموته الكفاري النيابي يُحرّر المؤمنين به من عبودية الخطية، وبحياة القداسة النيابية يحرّرهم من عبودية الناموس، وهذا ما أثبته الرسول في قوله { إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.. لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي (حرَّرني) مِنْ نَامُوسِ الخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ.. } (رو 8: 1 – 4)“(81).
لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا.. كي يستعبدونا أي ليعودوا بنا إلى عبودية الناموس وقيوده: “هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ” (غل 4: 2).. ” فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ” (غل 4: 9)، وقال بطرس الرسول في نفس السياق: ” فَالآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللَّهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ. لكِنْ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولئِكَ أَيْضًا” (أع 15: 10، 11).
اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ.. لم نذعن أي لم نستسلم لهؤلاء المتغطرسين الذين يريدون أن يزجوا بالأمم تحت وطأة وعبودية الناموس، أما بولس الرسول فقد وقف وقفة حازمة ضد هذه الأفكار الهدامة فلم يخضع ولم يرضخ لهم ولو لساعة واحدة، ولو لوقت قصير جدًا، ولم يوافقهم الرأي ولو لمرة واحدة، ولم يفكر بولس الرسول في أي حل من الحلول الوسط، فهو كان يدرك جيدًا ما قاله لأهل فيلبي: ” عَالِمِينَ أَنِّي مَوْضُوعٌ لِحِمَايَةِ الإِنْجِيلِ” (في 1: 17)، وبينما كان بولس الرسول مستعدًا أن يجاري كل إنسان لكي يربحه للمسيح (1كو 9: 20، 21) إلاَّ أنه تصدى بقوة لهؤلاء الأخوة الكذبة ليحافظ على تعليم الإنجيل الحقَّاني (رو 1: 17، كو 1: 5).. لقد وقف بولس الرسول داخل دائرة الإعلان الإلهي لم يقدر أحد أن يزحزحه منها، لأن الهدف كان واضحًا جدًا أمام عينيه، فاستطاع أن يحفظ حق الأمم في الإنجيل مثلهم مثل اليهود تمامًا، دون أن يقعوا تحت طائلة الناموس.. كم كان بولس الرسول بطلًا مغوارًا في هذا المضمار شجاعًا تجاه قضيته، فلم يقبل السلام مع هؤلاء المتهوّدين على حساب حق الإنجيل، ولم يفرط في الإيمان قيد أنملة، هكذا كانت فلسفة فيلسوف المسيحية، ونشكر اللَّه أنه هكذا كانت فلسفة بطرس الرسول أيضًا: ” فَبَعْدَ مَا حَصَلَتْ مُبَاحَثَةٌ كَثِيرَةٌ قَامَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ اخْتَارَ اللَّهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي يَسْمَعُ الأُمَمُ كَلِمَةَ الإِنْجِيلِ وَيُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ الْعَارِفُ الْقُلُوبَ شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِيًا لَهُمُ الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضًا. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ” (أع 15: 7-9)، وأكد نفس المنطق القديس يعقوب الذي قال: “سِمْعَانُ قَدْ أَخْبَرَ كَيْفَ افْتَقَدَ اللَّهُ أَوَّلًا الأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْبًا عَلَى اسْمِهِ. وَهذَا تُوافِقُهُ أَقْوَالُ الأَنْبِيَاءِ.. لِكَيْ يَطْلُبَ الْبَاقُونَ مِنَ النَّاسِ الرَّبَّ وَجَمِيعُ الأُمَمِ.. ” (أع 15: 14-19).
ثانيًا: يمين الشركة (غل 2: 6-10):
“وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ مَهْمَا كَانُوا لاَ فَرْقَ عِنْدِي اَللَّهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ. فَإِنَّ هؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ. بَلْ بِالْعَكْسِ إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ. فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضًا لِلأُمَمِ. فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ” (غل 2: 6 – 10).
في هذه الفقرة يوضح بولس الرسول أن الآباء الرسل المعتبرين قبلوا إنجيل بولس بالتمام والكمال، لم يشر أحد منهم عليه بشيء جديد، بل تأكدوا أن اللَّه قد ائتمنه على إنجيل الغرلة كما أؤتمن بطرس الرسول على إنجيل الختان، وبلا شك أن الإنجيل واحد لكل من الأمم واليهود، والروح الذي عمل في بولس هو الذي عمل في بطرس، وأعطى الآباء الرسل يمين الشركة لبولس وبرنابا ليكرزوا للأمم، وهم يكرزون لليهود، كما أوصوهما بأن يذكروا الفقراء، وهذا ما كان يفعله بولس الرسول من قبل.
وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ مَهْمَا كَانُوا لاَ فَرْقَ عِنْدِي اَللَّهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ. فَإِنَّ هؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ.. كان بولس الرسول يقصد يعقوب أخي الرب وبطرس الشهير في الرسول ويوحنا التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وأشار بولس لهؤلاء المعتبرين في الآيتين 5، 6 ثلاث مراث، ودعاهم في الآية (9) “أَعْمِدَةٌ“، كما دعاهم “فَائِقِي الرُّسُلِ“ (2كو 11: 5)، ولكن كيف يقول بولس الرسول عن هؤلاء العظماء: “مَهْمَا كَانُوا لاَ فَرْقَ عِنْدِي“؟.. هل هذا كبرياء وعجرفة كاذبة من رسول الأمم؟!.. هل قصد أن يستهين بالآباء الرسل أو يحط من شأنهم ويحتقرهم؟!.. بالقطع لا هذا ولا ذاك، ولو كان هذا هو قصده فلماذا صعد إلى أورشليم خصيصًا ليتعرَّف على بطرس الرسول؟! ولماذا صعد إلى أورشليم تارة أخرى ليعرض عليهم إنجيله؟!.. وكيف بعد أن أعترف الآباء الرسل بإنجيله وسلطانه الرسولي وأعطوه يمين الشركة أن يستهين بهم؟!.. كل ما قصده بولس الرسول أن يبطل حجج الإخوة الكذبة الذين كانوا يدَّعون أن الآباء الرسل في أورشليم يشترطون الختان وحفظ الناموس، فأراد بولس أن يقول لهم أن الإيمان عنده فوق كل شيء، وأنه لن ينساق وراء أي إنسان مهما كان، ولن يجامل أي إنسان على حساب حق الإنجيل، فبالرغم من تقديره الشديد لهم، فإننا لو افترضنا أنهم خالفوه الرأي فيما تسلَّمه فلن يستطيع أن ينصاع إليهم.
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: ” ليس هذا هجومًا على الرسل بل يقول هذا لمنفعة الضعفاء، إذ يقصد أنهم (المعتبرين) سيعطون حسابًا أمام اللَّه إن كانوا يجيزون الختان، وأن اللَّه لن يغير موقفه منهم بسبب مركزهم العظيم.. لكن الرسول لا يعلن الأمر بوضوح بل بحذر فلا يقول أنهم سينالون عقابًا صارمًا إذا أحبوا هذا التعليم“(82).
والدليل على صدق قول بولس الرسول هنا “مَهْمَا كَانُوا لاَ فَرْقَ عِنْدِي“ أن بطرس الرسول عندما لمح بعض الأخوة القادمين من أورشليم وهو يأكل مع المؤمنين الذين من أصل أممي ولم يختتنوا ابتعد عنهم قليلًا، فلم يصمت بولس الرسول إنما قاومه مواجهة ولآمه أمام الجميع، وفي هذا يظهر أنه مساوٍ للآباء الرسل، فلو لم يكن مساويًا لبطرس الرسول ما كان يتجرأ أن يلومه، وهذا ما أوضحه عندما قال: “لأَنِّي أَحْسِبُ أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ” (2كو 11: 5).. “قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ إِذْ لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئًا” (2كو 12: 11)، فبولس الرسول يؤكد هنا على حقيقتين: الأولى: أنه ليس دون الرسل بل هو مساوٍ لهم فلا يصح أن يطعن أحد في رسوليته وإنجيله، والثانية: أنه يعرف أنه ليس شيئًا، فهو الذي اضطهد كنيسة اللَّه بإفراط.
ويقول “الأب متى المسكين“: “ليحترس القارئ من أن يحسب أن ق. بولس هنا ينتقص من كرامة الرسل، ولكن في الحقيقة هو يوازن بين ما للرسل وما له باعتبار أنه رسول مثلهم وعلى مستواهم، وإن كان يعتبر نفسه أفضل منهم من وجهة أنه تألم من أجل الإنجيل أكثر منهم.. يؤكد القديس بولس أن خدمته وكرازته لا تحتاج إلى دعم من رسل أو غيرهم فهو في نفس مستوى خدمة الرسل يخدم ويكرز بل يرى أنه في ذلك يَفْضُلهُم جميعًا”(83).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “هذا يؤكد لنا أن بولس بهذا التعبير.. لم يقصد أن يغمط حقهم، ولا أن ينقص سلطانهم، وأن يحد من اعتبار الناس لهم، بل بالعكس قصد أن ينبّه الغلاطيين إلى وجوب احترام ما قرره أولئك المعتبرون.. على أنه شعر بوجوب الاحتياط للأمر، والتحفُّظ في القول فاستدرك في الحال قائلًا: {مَهْمَا كَانُوا لاَ فَرْقَ عِنْدِي} أي مهما كان أولئك وفي تقديرهم من البشر، كرسل ذوي سلطان، لهم كلمة نافذة ومقام رفيع، فإن هذا السمو إلى هذه الدرجة بين الناس، لا يمس بولس الرسول بشيء ما، بوصف كونه رسولًا، ولا يحط من درجة مقامه الرسولي بالنسبة لهم.. كأنه يقول: لا فرق بيني وبينهم لا في مقام سموهم ولا في درجة رفعتهم، كما صرح في قوله مرة { لأني أحسب أنني لم أنقص شيئًا عن فائقي الرسل وإن كانت عاميًا في الكلام فلست في العلم.. }“(84).
اَللَّهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ.. قال موسى للشعب: “لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ.. لاَ يَأْخُذُ بِالْوُجُوهِ وَلاَ يَقْبَلُ رَشْوَةً” (تث 10: 17)، وعندما ذهب صموئيل إلى بيت يسى البيتلحمي ورأى أليآب القوي البنية “فَقَالَ إِنَّ أَمَامَ الرَّبِّ مَسِيحَهُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ لاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْظَرِهِ وَطُولِ قَامَتِهِ لأَنِّي قَدْ رَفَضْتُهُ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ” (1صم 16: 6، 7)، وعندما رفع البعض من سلطان الرسل أكثر من سلطان بولس الرسول أراد أن يَرُدْ عليهم القديس بولس وهو يعرف أن اللَّه قد ائتمنه وأعلن له سر قبول الأمم في الإيمان فأكد أنه: ” لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ مُحَابَاةٌ” (رو 2: 11)، وهذا ما أكد عليه بطرس الرسول أيضًا وهو في بيت كرنيليوس: “فَفَتَحَ بُطْرُسُ فَاهُ وَقَالَ بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ“ (أع 10: 34، 35)، وقال القديس يعقوب: “يَا إِخْوَتِي لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّ الْمَجْدِ فِي الْمُحَابَاةِ. وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ“ (يع 2: 1، 9).
فَإِنَّ هؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ.. أي أنهم قبلوا رأيي وفكري وإنجيلي وكرازتي، ولم يضيفوا إلى منهجي شيئًا، فلم ينقصني شيء قط حتى يضيفوه، ولم أزد شيئًا حتى يحذفوه، فإن إنجيلي كامل وكرازتي كاملة وإيماني قويم بشهادة الآباء الرسل، فالإنجيل واحد والفكر واحد والإيمان واحد والمنهج واحد، وإن كان الآباء الرسل بحكم كرازتهم وخدمتهم في أورشليم معقل اليهودية، لم يمنعوا الختان والعبادة في الهيكل.. إلخ، ولكن لم يجعلوا هذا شرطًا لنوال الخلاص.
“بَلْ بِالْعَكْسِ إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ. فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضًا لِلأُمَمِ“ (غل 2: 7، 8).
بَلْ بِالْعَكْسِ.. يقول “دكتور وليم آدي“: “أي أنهم بدلًا من أن يعلموني شيئًا جديدًا اكتفوا بتثبيتهم وتصديقهم ما عُلّمته وسلَّموا بما قبلته بالوحي وهو أن أبشر الأمم بالإنجيل دون أن أوجب عليهم الختان أو غيره من الرسوم اليهودية”(85).. وأيضًا جرت الأمور بالعكس بالنسبة للمتهوّدين الذي منُّوا أنفسهم بأن قادة الكنيسة في أورشليم سيقفون بجوارهم ويرفضون إنجيل بولس، فإذ بالدائرة تدور عليهم، وينتهي الأمر ضد أمالهم العريضة.
إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ.. كيف رأى التلاميذ هذا وهم لم يكونوا مع بولس في كرازته؟!.. لقد لمسوا هذا عندما حدثهم برنابا وبولس عن عمل اللَّه معهما: “وَكَانُوا يَسْمَعُونَ بَرْنَابَا وَبُولُسَ يُحَدِّثَانِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ اللَّهُ مِنَ الآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ فِي الأُمَمِ بِوَاسِطَتِهِم“ (أع 15: 12)..
أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ.. ائتمن اللَّه بولس الرسول على إنجيل الغرلة، وهذا ما كان يدركه بولس الرسول جيدًا: “بَلْ كَمَا اسْتُحْسِنَّا مِنَ اللَّهِ أَنْ نُؤْتَمَنَ عَلَى الإِنْجِيلِ هكَذَا نَتَكَلَّمُ لاَ كَأَنَّنَا نُرْضِي النَّاسَ بَلِ اللَّهَ الَّذِي يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا“ (1تس 2: 4)، فقد قبِل هذا القديس هذه النعمة وتلك الرسالة من الرب يسوع رأسًا ليحملها لجميع الأمم في شتى بقاع الأرض: “يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا الَّذِي بِهِ لأَجْلِ اسْمِهِ قَبِلْنَا نِعْمَةً وَرِسَالَةً لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ“ (رو 1: 4، 5)، وكان القديس بولس يعتز ويفتخر بخدمته للأمم: “أَيُّهَا الأُمَمُ. بِمَا أَنِّي أَنَا رَسُولٌ لِلأُمَمِ أُمَجِّدُ خِدْمَتِي “(رو 11: 13)، وقال باعتزاز لأهل فيلبي الأمميين: “إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ وَالْمُشْتَاقَ إِلَيْهِمْ يَا سُرُورِي وَإِكْلِيلِي“ (في 4: 1)، وقال لتلميذه تيموثاوس عن شهادته أمام الأمم: “الَّتِي جُعِلْتُ أَنَا لَهَا كَارِزًا وَرَسُولًا. اَلْحَقَّ أَقُولُ فِي الْمَسِيحِ وَلاَ أَكْذِبُ مُعَلِّمًا لِلأُمَمِ فِي الإِيمَانِ وَالْحَقِّ“ (1تي 2: 7)، فقد صار القديس بولس رسول يسوع المسيح للأمم: “حَسَبَ إِنْجِيلِ مَجْدِ اللَّهِ الْمُبَارَكِ الَّذِي اؤْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيْهِ” (1تي 1: 11).. “الَّذِي جُعِلْتُ أَنَا لَهُ كَارِزًا وَرَسُولًا وَمُعَلِّمًا لِلأُمَمِ“ (2تي 1: 11).
لقد تحمَّل بولس الرسول مسئولية الكرازة لجميع الأمم، ويقول “الأب متى المسكين“: “فالآن نحن نتوسَّل لدى القارئ أن يحس بمشاعر ق. بولس عندما يرى نفسه كرسول وحيد أستؤمن من اللَّه ليبشر بانفتاح البر والقداسة أمام كل الأمم في كل العالم وقبول الخلاص مجانًا والدخول إلى الحياة الأبدية وشركة مجد اللَّه كأقدس يهودي أكمل كل الناموس وفرائضه وأعماله! هذا الإحساس الغامر جعله يقول بلا تحفُّظ: “أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ: فَأَنَا أَفْضَلُ” (2كو 11: 23). والأفضلية التي يقصدها ق. بولس هنا ليست أفضلية شخصية بل أفضلية خدمة”(86).
إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ.. قال الروح القدس: “أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ“ (أع 13: 2)، وذهب بولس الرسول في رحلات تبشيرية إلى أقاصي الأرض، فإن كان الرسل قد اقتنعوا أن بولس الرسول أؤتمن على الكرازة للأمم، لماذا لم يسلكوا مسلكه؟.. لأنهم انشغلوا بالكرازة لليهود، ومع هذا في ظروف معينة لم يمتنعوا عن خدمة الأمم، مثلما كرز بطرس الرسول لكرنيليوس قائد المئة الأممي، كما ذهب مع يوحنا للسامرة، وأيضًا عندما كان بولس الرسول يتوجَّه للكرازة كان يبدأ بمجمع اليهود أولًا (أع 13: 46، 47).
أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ.. أليس هذا اعترافًا واضحًا وصريحًا من الآباء الرسل بمساواة بولس الرسول لهم، فليس بولس أقل من بطرس في الرتبة الرسولية أو الكرامة، وليس بطرس أفضل منه في شيء، بل أن كرازة بولس كانت أشق كثيرًا من كرازة بطرس الرسول.
ويقول “الأب متى المسكين“: “إن ق. بولس قد أؤتمن على إنجيل الغرلة مثل ق. بطرس الذي أؤتمن على إنجيل الختان إلاَّ أنه شتان بين مريض يُطرح بين يدي طبيب، وميت يقدَّم محمولًا ليقبل الحياة من فم اللَّه. كذلك إذًا شبهنا عمل ق. بطرس بعمل المسيح في الإنسان ذي الثماني والثلاثين سنة مُلقى على سريره، يكون عمل ق. بولس كعمل المسيح في لعازر بعد موت استبد به إلى أربعة أيام في القبر.
ولكن البديع حقًا ومن واقع ما جاء هنا في رسالة غلاطية أن كليهما يقبل رسالة الآخَر، فالقديس بطرس ومعه الأعمدة أعطوا يمين الشركة للقديس بولس، والقديس بولس اعترف بأنهم أعمدة الخدمة والرسالة في أورشليم واليهودية“(87).
إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ.. إِنْجِيلِ الْخِتَانِ.. هل هناك إنجيلان؟.. بالقطع لا، فما دام اللَّه واحد فكتابه لا بد أن يكون واحدًا.. كتاب واحد يحكي قصة خلاص الإنسان، وإن كانت كلمة “إِنْجِيلِ” تعني: “بشارة مفرحة” فإن “إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ“ هو البشارة المفرحة لأصحاب الغرلة أي الأمم الذين لم يهتموا بالختان، و” إِنْجِيلِ الْخِتَانِ” هو أيضًا ذات البشارة المفرحة لأصحاب الختان أي اليهود الذين كانوا يهتمون بالختان بحسب الوصية الإلهيَّة، حتى أن كل ذكر لا يختتن يُقطع من الشعب، أي لا يُحسب مع شعب اللَّه. إذًا إنجيل الغرلة هو هو إنجيل الختان.. إنجيل بولس هو هو إنجيل بطرس.. إنجيل أنطاكية هو هو إنجيل أورشليم، وللأسف أن بعض الليبراليين اليوم يدعون أن كرازة بولس اختلفت عن كرازة السيد المسيح، فادّعوا أن مسيح بولس غير مسيح الأناجيل، وهم يتجاهلون أن المسيح واحد والإنجيل واحد لليهود وللأمم على السواء: ” لأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ” (رو 3: 30).
أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ.. ومما يلفت النظر أن هذه هي المرة الأولى التي جاء فيها ذكر ” إِنْجِيلِ الْخِتَانِ“، وقد ائتمن الرب يسوع بطرس على إنجيل الختان عندما سأله: ” يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي. ارْعَ خِرَافِي.. ارْعَ غَنَمِي” (يو 21: 15-17)، وفي عظته الأولى جذب بطرس للإيمان ثلاثة آلاف شخص من اليهود، وعندما كتب رسالته الأولى كتبها لليهود الذين في الشتات الذين نالوا الإيمان الأقدس.
فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ.. الذي عمل هو بلا شك اللَّه العامل مع بطرس وبولس على السواء، وفعل “عَمِلَ“ الذي استخدمه بولس الرسول هنا في الأصل اليوناني يعبر عن قوة فعَّالة، فالعمل هنا هو طاقة إلهيَّة تعمل في الإنسان: ” لأَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ” (عب 4: 12).. ” اللَّهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ” (في 2: 13).. لقد عمل اللَّه في بطرس وبولس الرسولين: “شَاهِدًا اللَّهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ حَسَبَ إِرَادَتِهِ“ (عب 2: 4)، عمل مع بطرس الرسول حتى أنهم: “كَانُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى خَارِجًا فِي الشَّوَارِعِ وَيَضَعُونَهُمْ عَلَى فُرُشٍ وَأَسِرَّةٍ حَتَّى إِذَا جَاءَ بُطْرُسُ يُخَيِّمُ وَلَوْ ظِلُّهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ“ (أع 5: 15)، وعمل اللَّه مع بولس الرسول أيضًا: ” وَكَانَ اللَّهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ. حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى الْمَرْضَى فَتَزُولُ عَنْهُمُ الأَمْرَاضُ وَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ الشِّرِّيرَةُ مِنْهُمْ“ (أع 19: 11، 12).
عَمِلَ فِيَّ أَيْضًا لِلأُمَمِ.. عمل اللَّه في شاول الطرسوسي، ومن عمل اللَّه في شاول ظهوره المجيد له على مشارف أبواب دمشق، وقوله لحنانيا: “هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ” (أع 9: 15)، كما قال اللَّه لبولس وهو في هيكل أورشليم: “اذْهَبْ فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى الأُمَمِ بَعِيدًا“(أع 22: 21)، ووعد اللَّه بولس أن يكون معه يحفظه من جميع المخاطر التي يتعرَّض لها: ” مُنْقِذًا إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ. لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ.. ” (أع 26: 17، 18) وقال بولس الرسول في هذه الرسالة موضع دراستنا: “وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ. أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ“ (غل 1: 15، 16)، فقد أفرز اللَّه بولس واختاره من بطن أمه وائتمنه على الكرازة للأمم، ومن أجل هذا تعب بولس وجاهد كثيرًا: “الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَتْعَبُ أَيْضًا مُجَاهِدًا بِحَسَبِ عَمَلِهِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ” (كو 1: 29).
“فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ” (غل 2: 9، 10).
فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي.. المقصود بالنعمة التي أعطاها اللَّه لبولس هو اختياره للكرازة للأمم، وهذا الأمر كان واضحًا تمامًا أمام عيني بولس الرسول، فدعى هذه النعمة إنجيل مجد اللَّه: ” إِنْجِيلِ مَجْدِ اللَّهِ الْمُبَارَكِ الَّذِي اؤْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيْهِ” (1تي 1: 11)، وقال بولس الرسول لأولاده في روما: ” يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا. الَّذِي بِهِ لأَجْلِ اسْمِهِ قَبِلْنَا نِعْمَةً وَرِسَالَةً لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ” (رو 1: 4، 5).. “فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي“ (رو 12: 3).. “وَلكِنْ بِأَكْثَرِ جَسَارَةٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ.. كَمُذَكِّرٍ لَكُمْ، بِسَبَبِ النِّعْمَةِ الَّتِي وُهِبَتْ لِي مِنَ اللَّهِ” (رو 15: 15)، وكتب لأولاده في كورنثوس: “وَلكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أَنَا مَا أَنَا وَنِعْمَتُهُ الْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلكِنْ لاَ أَنَا بَلْ نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي مَعِي“ (1كو 15: 10) ونبَّه أولاده في أفسس: “بِالإِنْجِيلِ. الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِمًا لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ” (أف 3: 7).
يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ.. ذكر اسم يعقوب أولًا لأنه أكبرهم سنًا، وهو أخو الرب وأسقف أورشليم، وصفا هو بطرس الرسول مقدام مشيعة الناصريين، ويوحنا التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وإن كانت الكنيسة هي “بِنَاءُ اللَّهِ“(1كو 3: 9) وهي “كَنِيسَةُ اللَّهِ الْحَيِّ. عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ“ (1تي 3: 15)، فإنها بنيت على إيمان الآباء الرسل بالرب يسوع، وهذا ما قاله السيد المسيح لبطرس الرسول الذي اعترف بألوهيته: “وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا” (مت 16: 18)، كما قال بولس الرسول: “مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ” (أف 2: 20)، وقال السيد المسيح: ” مَنْ يَغْلِبُ فَسَأَجْعَلُهُ عَمُودًا فِي هَيْكَلِ إِلهِي” (رؤ 3: 12).. “وَسُورُ الْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْخَرُوفِ الاثْنَيْ عَشَرَ“ (رؤ 21: 14).
أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ.. لم يسفر لقاء العمالقة في أورشليم عن أي تغيير في تعاليم بولس الرسول، والدليل على أنهم قبلوا بولس الرسول وكل تعاليمه أنهم أعطوه يمين الشركة، وليس معنى يمين الشركة أنهم منحوه رتبة الرسولية، أو منحوه تصريحًا لمزاولة الخدمة، وأنه صار تلميذًا ومُرسَلًا من قِبل هؤلاء الآباء الرسل، لأن الذي اختار بولس الرسول وأفرزه من بطن أمه هو اللَّه الآب، والذي أعلن له ذاته اللَّه الابن، والذي دعاه للخدمة هو اللَّه الروح القدس (أع 13: 2)، ويقول “ماكدونل“: ” وأدرك يعقوب وصفا ويوحنا أيضًا المعتبرون أنهم أعمدة في الكنيسة أن اللَّه هو العامل من خلال بولس، فأعطوه وبرنابا يمين الشركة في حمل البشارة إلى الأمم. لم يكن هذا الأمر سيامة رسمية، بل كان تعبيرًا عن اهتمامهم المقترن بالمحبة لخدمة بولس”(88).
أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ.. يمين الشركة هنا علامة على التكافؤ بين الطرفين، ونوع من توزيع المسئولية بينهم، فلا فرق بين بطرس وبولس، وليس بينهما علاقة تبعية، وليس كما ادعى أولئك الإخوة الكذبة أن بولس هو تلميذ ورسول بطرس وقد خالف منهجه الكرازي، وبموجب يمين الشركة تخصَّص بولس وبرنابا وتيطس في خدمة الأمم، ويعقوب وبطرس ويوحنا في خدمة اليهود، وفي يمين الشركة لم يضع الآباء الرسل أيديهم على برنابا وبولس كما حدث في أنطاكية: ” فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا” (أع 13: 3)، بل هو مصافحة باليد اليمنى علامة إتمام الاتفاق، فاليد اليمنى تستعمل للسلام والتحية والتصافح والاتفاق.
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: ” وينتهي الخبر بفعلة رمزية، بالقبلة الأخوية علامة السلام والمسالمة يقول النص: مدوا يمناهم علامة الاتحاد والشركة. الكلمة المستعملة هنا (كوينونيا) غنية بالأصداء اللاهوتية.. إنها تعبّر عن المشاركة وعن المسئولية.. وهكذا تعني كلمة “كوينونيا” اللمة من أجل القديسين في أورشليم (2كو 8: 4، 9: 13)“(89).
غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ.. ولا سيما فقراء أورشليم.. ولماذا هؤلاء؟.. لأن بعضهم كان قد باع ممتلكاته ووضعها تحت أقدام الرسل: “وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ“ (أع 2: 45)، والبعض الآخر سُلبت ممتلكاته: “قَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالًا أَفْضَلَ فِي السَّمَوَاتِ وَبَاقِيً“ (عب 10: 34)، حتى أن من الأسماء التي تسمى بها المسيحيون في أورشليم: “الفقراء” والفقراء في الفكر اليهودي إشارة للبقية التقية من شعب اللَّه، وقال بولس الرسول: ” كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ ” (2كو 6: 10).. “فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ“ (2كو 8: 9)، وأيضًا دُعيَ المسيحيون باسم “الجليليين“ (أع 2: 7) و“الناصريين“ (أع 24: 5)، و“القديسين“ (أع 9: 32)، و“الإخ-وة“ (أع 9: 30)، و“التلاميذ“ (أع 9: 26).
وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ.. عندما تنبأ أغابوس في أنطاكية بالمجاعة المزمعة أن تحل بالمسكونة بدأ المؤمنون جمع ما تيسر لإرساله لفقراء أورشليم واليهودي: “فَفَعَلُوا ذلِكَ مُرْسِلِينَ إِلَى الْمَشَايِخِ بِيَدِ بَرْنَابَا وَشَاوُلَ“ (أع 11: 30)، وقال بولس الرسول لفيلكس الوالي: “وَبَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ جِئْتُ أَصْنَعُ صَدَقَاتٍ لأُمَّتِي وَقَرَابِينَ“ (أع 24: 17)، وقال لأولاده في روما: “وَلكِنِ الآنَ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَخْدِمَ الْقِدِّيسِينَ لأَنَّ أَهْلَ مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ اسْتَحْسَنُوا أَنْ يَصْنَعُوا تَوْزِيعًا لِفُقَرَاءِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ.. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الأُمَمُ قَدِ اشْتَرَكُوا فِي رُوحِيَّاتِهِمْ، يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْدِمُوهُمْ فِي الْجَسَدِيَّاتِ أَيْضًا“ (رو 15: 25 – 27)، وأوصى أولاده في كورنثوس أن يجمعوا العطايا لأجل القديسين مثل كنائس غلاطية (1كو 16: 1، 2)، وفي الرسالة الثانية حثهم على جمع العطايا (2كو 8: 1-15، 9: 12 – 15) قائلًا لهم: “مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ.. لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللَّهُ“ (2كو 9: 6، 7).. لقد قام بولس الرسول بجهد رائع في جمع العطايا والتقدمات من الأمم ولاسيما الأثرياء منهم، وأيضًا الجاليات اليهودية التي عاشت في الشتات حنَّت أحشاؤهم على أخوتهم في أورشليم الذين طحنتهم المجاعة فمدوا لهم يد العون، وتحمل بولس الرسول مسئولية حمل هذه الأموال والعطايا أكثر من مرة إلى أورشليم، فالإيمان القويم والتعاليم الصحيحة لا تغني أبدًا عن أعمال الرحمة الصالحة: “إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ. فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ امْضِيَا بِسَلاَمٍ اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا وَلكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ فَمَا الْمَنْفَعَةُ. هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ“ (يع 2: 15-17).. أليس هذا يبكّتنا عندما نسمع عن الأطفال الذين يهلكون جوعًا نتيجة نقص الغذاء والدواء.. فماذا فعلنا لأجلهم؟!
ثالثًا: بولس يقاوم بطرس (غل 2: 11-14).
“وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا. لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ. لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا” (غل 2: 11 – 14).
كانت الكنيسة الأولى تقيم ولائم المحبة (الأغابي) للمؤمنين، وعلى المائدة يجتمع جميع المؤمنين سواء من أصل يهودي أو أصل أممي، فقراء كانوا أم أغنياء، عبيد أم أحرار يأكلون معًا، يشعرون بالإخوَّة وأنهم جميعًا أعضاء مقدَّسة في جسد المسيح الواحد، ويبدو أن ما بدر من القديس بطرس هنا إذ أفرز نفسه عن الأمم رغم إيمانهم بالمسيح قد حدث بعد مجمع أورشليم، وهذا يعني أن مشكلة التهوُّد لم تنتهي بزيارة بولس وبرنابا وتيطس إلى الرسل المعتبرين يعقوب وبطرس ويوحنا أعمدة الكنيسة، وانعقاد مجمع أورشليم، وما بدر من بطرس الرسول ربما يراه البعض تصرُّفًا بسيطًا ولكن بولس بالحكمة المعطاة له أدرك أن هذا يمثل بذرة الانشقاق في الكنيسة، ولهذا فإن التاريخ الكنسي سيظل يذكر الدور الجبَّار الذي قام به كاروز الأمم ليُجنّب الكنيسة خطورة الانشقاق وهي في مهدها، سواء بسعيه الدؤوب في لقاء رسل أورشليم، أو في مجمع أورشليم، أو في مقاومة بطرس مواجهة.
وتكمن بذرة التهوُّد في نظرة الإنسان اليهودي للأممي على أنه نجس وخاطئ، لا يصح التعامل معه ولا الأكل معه، ولا السفر معه، حتى عندما كان اليهودي يعود من السوق كان يسرع بغسل يديه والتطهُّر بالماء لئلا يكون قد سلَّم على إنسان أممي، ويرى اليهودي أن الأمم هم كلاب نجسة، وقد خُلقوا كوقود لجهنم النار، وللأسف الشديد فإن بعض اليهود المتزمتين الذين آمنوا بالمسيح لم يستطيعوا أن ينزعوا أنفسهم من تلك الاعتقادات، ولذلك عندما بدأ بطرس أن يؤخّر ويفرز نفسه عن المؤمنين من أصل أممي إنساق وراءه المؤمنين من أصل يهودي، بل أن برنابا إنقاد إليهم.
ويقول “الأب متى المسكين“: “إذ قسَّمنا اليهود المتنصرين بالنسبة للإيمان المسيحي نجدهم كالآتي:
1 قسم تنصَّر ولا يزال على يهوديته وتقييمه الشديد للناموس وأعمال الناموس وهؤلاء هم الذين كانوا يُدعَون “جماعة الغيورين على الناموس” وقد تكون غيرتهم غير مفتعلة ولكن يستحيل أن يُحسبوا من المؤمنين تمامًا، لأن الناموس لن يخلّصهم ولن يعتقهم من الدينونة المزمعة.
2 قسم تنصَّر وآمن بالمسيح ولكن يتظاهر بالغيرة على الناموس خوفًا من الاضطهاد الذي كان يشنه اليهود ورؤساء الهيكل، وعلامتهم أنهم لا يَلزمون أنفسهم بالناموس عن حق.. هؤلاء ما حصَّلوا اليهودية وما حصَّلوا المسيحية.
3 قسم تنصَّر وآمن بالمسيح ولكن يظل يرائي فلا مانع من أجل المجاملة أن يأكل مع الأمم فإذا حضر اليهود المتنصرون الغيورون على الناموس أفرزوا أنفسهم، والنموذج لهذا القسم هو بطرس الرسول نفسه.. (غل 2: 11-13).
4 قسم تنصَّر وآمن بالمسيح وأسقط الناموس من إيمانه نهائيًا، بشجاعة وإصرار مفتخرًا بصليب المسيح، والنموذج هو ق. بولس.. (غل 6 : 14). وهؤلاء دفعوا ضريبة الاضطهاد حتى الموت!!“(90).
“وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا” (غل 2: 11).
وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ.. أنطاكية مدينة عظيمة في سوريا بناها “سلوقس “ودعاها بِاسم ابنه “أنطيوخس”، وهي غير “أنطاكية بيسيدية” وكانت مدينة أنطاكية بسوريا تمثل مركزًا تجاريًا هامًا، وعدد كبير من سكانها من اليونانيين، وبعد الكرازة فيها صارت مركزًا للمسيحية، ودُعيَ المسيحيون مسيحيّين في أنطاكية أولًا (أع 11: 26)، وإن كانت أورشليم تمثل مركز ومقر المسيحيين من أهل الختان، فإن أنطاكية صارت تمثل مركزًا ومقرًا للمسيحيّين من أصل أممي، وفيها دعا الروح القدس برنابا وشاول للكرازة بين الأمم، ومنها انطلقت جميع رحلات بولس الرسول التبشيرية، وفي الرحلة التبشيرية الأولى نحو سنة 52م يقول الكتاب: “أَمَّا بُولُسُ وَبَرْنَابَا فَأَقَامَا فِي أَنْطَاكِيَةَ يُعَلِّمَانِ وَيُبَشِّرَانِ مَعَ آخَرِينَ كَثِيرِينَ أَيْضًا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ“ (أع 15: 35)، وغالبًا خلال هذه الفترة قام بطرس الرسول بزيارته إلى أنطاكية، وما أجمل أن يزور رسول الختان الأمميين في أنطاكية، وبلا شك أن هذه الزيارة قد هزّت المدينة، فدخول رسول الختان إلى بيوت هؤلاء المؤمنين والأكل معهم بدون فحص كان مبعث فرحة عظيمة لسكان أنطاكية.. إنها لفتة رائعة من بطرس الرسول أفرحت قلوب الأمم، وكم كانت فرحتهم عندما اقترب منهم وأكل معهم وسادت المحبة وفاضت المودة، ورفرف السلام، وامتلأت القلوب بالفرح بهذه العائلة الكبيرة التي ضمن الأمم واليهود معًا، وبلا شك إن هذه السعادة الغامرة قد أثارت حفيظة عدو الخير الذي استغل دخول وفد من المتهودين من أورشليم وحدث ما حدث، ولكن روح اللَّه القدوس قد حرّك كاروز الأمم ليصحح الأوضاع ويعيد الحق إلى نصابه.
لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ.. قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا.. ليس معنى هذا أن بولس وبطرس احتدا وتراشقا بالألفاظ وتشابكا بالأيدي، وليس معنى هذا أن بولس اغتاب بطرس، أو أن بطرس طعن بولس طعنة غادرة من الخلف.. ليس هكذا الاختلاف في الكنيسة، إنما هو اختلاف في جو من المحبة والهدوء والتفهُّم، فما فعله بولس كان عتابًا شديدًا لبطرس مواجهة أمام الجميع، وقد يتساءل أحد: كيف يجرؤ بولس الذي دخل في الإيمان بعد بطرس بسنوات عديدة، أن يقاومه مواجهة؟!.. كيف يواجه المؤتمن على إنجيل الغرلة المؤتمن على إنجيل الختان؟!.. كيف يواجه بولس بطرس أحد أعمدة الكنيسة الثلاثة وهو واحد من المعتبرين، ومن فائقي الرسل؟!.. لقد فعل بولس هكذا لأنه رأى رياح الانقسام تهب بعنف على الكنيسة، فتصدى لبطرس حتى لا ينهار المعبد على رؤوس الجميع.. بولس لم يجد مناصًا من هذا ولم يجد حلًا غير هذا، فلو صدر هذا التصرُّف من إنسان عادي ما كان له خطورته مثلما يصدر من بطرس الرسول العظيم، أما بولس فقد تمسّك بالحق، مع التشديد بأن معلمنا بولس الرسول سلك سلوكًا مسيحيًا في منتهى اللباقة والأدب والاتضاع والكياسة، ولم ينقل الاختلاف في الرأي إلى خلاف شخصي، فلم يطعن في شخصية بطرس الرسول ولم ينل من رتبته الرسولية، ولم يقلّل من احترامه وتقديره له، وأيضًا قابل بطرس مقاومة بولس بحب كبير واتضاع شديد، فلم تهتز محبته له ولا قيد أنملة.. لم تتحرك داخله مشاعر الغضب، ولم تتغير ملامح وجهه، ولم تتمكن منه أية مشاعر سلبية، فقد أحب بطرس بولس من كل قلبه، وعندما كتب رسالته الثانية أشاد به كثيرًا فدعاه بالأخ الحبيب وأشاد بالحكمة المُعطاة له (2بط 3: 15، 16).
قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا.. لماذا ذكر بولس الرسول لأولاده في غلاطية هذه القصة غير المريحة؟.. لقد ذكر بولس الرسول هذه القصة بإرشاد ووحي الروح القدس ليظهر لهم رفضه الكامل لبدعة التهوُّد حتى لو صدرت من رسول عظيم في قدر بطرس الرسول، وبهذا يرد على القائلين أن بطرس ورسل أورشليم يتمسَّكون بالختان وحفظ مطالب الناموس وتجنب مخالطة الأمم، وأيضًا لكي يُعلّم أولاده أن الجميع تحت الضعف، فالرسل مع ارتفاع قدرهم وكرامتهم وقامتهم الروحية، إلاَّ أنهم من نفس عجينة البشرية، ولم يأتوا إلينا من كوكب آخَر، ولنفس السبب ذكر الروح القدس على لسان لوقا الإنجيلي قصة مشاجرة بولس مع برنابا بسبب الاختلاف على مارمرقس فيما إذا كان سيصحبهم في الرحلة التبشرية الثانية أم لا؟.. إن الكتاب يعلّمنا كيف نختلف؟ وبأي طريقة يكون الخلاف بيننا؟ وما هي نتائج الخلاف التي يجب أن تكون على كل حالٍ لمجد المسيح.. أليس هذا ما حدث مع بولس وبرنابا إذ اصطحب بولس وسيلا، واصطحب برنابا مرقس، وخرجوا للكرازة فريقين عوضًا عن فريق واحد.
“لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ” (غل 2: 12).
لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ.. من هم هؤلاء القوم؟ ولماذا لم يفصح بولس الرسول عن أسمائهم أو أسماء أشهرهم؟ وهل آتوا من ذواتهم وادَّعوا أن يعقوب أرسلهم؟ أم أن القديس يعقوب أرسلهم فعلًا؟ ولماذا أرسلهم؟.. كل هذه أمور جانبية، وكل ما كان يهم بولس الرسول أن ينفذ سريعًا للب الموضوع، لذلك لم يهتم بمثل هذه التفصيلات، ولا ننسى أن القديس يعقوب الذي ترأّس مجمع أورشليم (سواء كانت هذه الحادثة بعد مجمع أورشليم أو قبله) لم يكن موافقًا هؤلاء المتهوَّدين على آرائهم، بل أنه كتب مع الرسل والمشايخ عقب المجمع إلى كنيسة أنطاكية قائلًا: “إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاسًا خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَال مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا النَّامُوسَ، الَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ” (أع 15: 24)، فمن دعاهم القديس يعقوب: ” أُنَاسًا خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا.. ونَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ” هم هم الذين قال عنهم بولس الرسول هنا: “أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ“. فمجمع أورشليم قد أعفى الأمم من الختان وحفظ مطالب الناموس لأن هذه كانت: “قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ، مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ الإِصْلاَحِ“ (عب 9: 10)، ووقت الإصلاح قد حلَّ بمجيء المخلص، فصار الإيمان به يكفي للخلاص بدون الالتزام بمطالب الناموس، وأيضًا مجمع أورشليم لم يمنع اليهود الذين يريدون أن يقبلوا للإيمان من الختان بل ترك لهم الحرية، فإذا كان هؤلاء القوم الذين جاءوا من عند يعقوب يريدون أن يحتفظوا بالختان وغيره فلهم هذا، ولكن ليس لهم أن يُكفّروا الأمم القادمين للإيمان لأنهم لم يختَّتنوا ولم يحفظوا ناموس موسى.
كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ.. كان بطرس قبل أن يأتي هؤلاء القوم من أورشليم كان يأكل مع الأمم، وهذا ليس أمرًا جديدًا عليه، فمن قبِل دخل بيت كرنيليوس القائد الأممي بناء على رؤية سماوية وقال لهم: “أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَيْفَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى رَجُل يَهُودِيٍّ أَنْ يَلْتَصِقَ بِأَحَدٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَرَانِي اللَّهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ“ (أع 10: 28)، وعندما عاتبه رسل أورشليم والإخوة: “قَائِلِينَ إِنَّكَ دَخَلْتَ إِلَى رِجَال ذَوِي غُلْفَةٍ وَأَكَلْتَ مَعَهُمْ” (أع 11: 3) شرح لهم الأمر بالتفصيل، وذهب مع يوحنا إلى السامرة وأقام هناك وقتًا من الزمن، فكان من الطبيعي أن يأكل مع أهل أنطاكية، ولكن الأمر العجيب هو انفصاله عنهم فجأة عندما لمح ظهور هؤلاء القوم، وكأن سكان أنطاكية الذين أكرموا وفادته وفرحوا جدًا بحضوره قد صاروا أناسًا أنجاسًا بُرصًا، فلم يراعِ مشاعرهم.. تُرى هل تبدَّلت مشاعر الأنطاكيين تجاه بطرس الرسول الذي لفظهم على حين غرة؟!.. تُرى هل صفحوا عنه؟!.. وما بالك لو حدث ما حدث ليس في الأغابي وليمة المحبة إنما حدث عند كسر الخبر وتقديم الأسرار المقدَّسة؟!.. هل كان بطرس سيحرم هؤلاء الأنطاكيين من التناول من الأسرار المقدَّسة وينفرد هو وطائفته بهذه الأسرار؟!.. حقًا قال لسان العطر: “إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ” (1كو 10: 12).
وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ.. رأى العلامة ترتليان والقديسون أغسطينوس وكبريانوس وأمبروسيوس والبابا كيرلس الكبير أن القديس بطرس سلك هذا تحت تأثير الضعف البشري، بينما رأى القديسان جيروم ويوحنا ذهبي الفم أن بطرس سلك هذا المسلك لئلا يتهمه هؤلاء القوم بأنه قد غيَّر سلوكه في أنطاكية، فبعد أن كان يحترم الختان في أورشليم لم يعد يهتم به في أنطاكية بسبب تأثير بولس الرسول عليه، ويبلغون تلاميذه بهذا فيسقط في نظرهم، ولهذا أفرز نفسه من الأمم ليهيئ الفرصة لبولس الرسول أن يوضح أن التبرير بالإيمان بالمسيح وليس بحفظ مطالب الناموس، فيخضع بطرس الرسول ويخضع معه تلاميذه (راجع تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 25، 26، والقمص تادرس يعقوب – رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 34، 35)، ولكن يقف ضد هذا الرأي قول الكتاب عن بطرس الرسول أن كان: “خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ“، وأيضًا لم نتعوّد من الآباء الرسل هذا الأسلوب، إنما تعودنا منهم الصراحة والشفافية.
كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ.. ويقول “لا يتفوت“: ” إن الكلمات اليونانية تحمل معنى: “الانسحاب الحذر لإنسان خائف، منطو على ذاته، يخشى أن يلاحظه الناس وينتقدونه“(91)، فإذا كان بطرس ينسل بهدوء حتى لا يلحظه أحد، فإذ ببولس عين الصقر يلمحه، ويدرك جيدًا مغزى هذا التصرُّف، الذي ربما لا يجذب أنظار الآخرين، بينما ينطوي على:
(1) رفض طعام الأمميين، مع أن الكتاب حلَّل جميع الأطعمة ما عدا ما ذُبِح للأوثان.
(2) إن الإيمان لم يُطهّر الأمميين الذين تنصّروا.
(3) إن المؤمنين من أصل أممي هي أقل قدرًا وقداسة وطهارة من الذين هم من أصل يهودي.
ويقول “ماكدونل“: ” يقول فندلَي Findlay : “أثبت بطرس ضمنيًا برفضه أن يأكل مع رجال ذوي غلفة أنهم كانوا بالنسبة له ما يزالون “دنسين ونجسين” رغم كونهم مؤمنين بالمسيح، وأوحى أيضًا أن طقوس موسى تضفي على الإنسان قداسة أسمى من بر الإيمان“(92).
ويقول “دكتور وليم آدي” عن بطرس الرسول: ” أَبَىَ أن يأكل مع مؤمني الأمم وبذلك عرَّض بأنهم نجسون وغير مساوين لمؤمني اليهود وأن الشريعة الموسوية من جهة تمييز الأطعمة لم تزل قائمة وواجبة وهذا يمنع من اشتراك الفريقين مؤمني اليهود ومؤمني الأمم في العشاء الرباني وولائم المحبة وتناول الطعام المعتاد في بيوتهم“(93).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “أما الترتيبات المتعلّقة بالطعام الذي يأكله اليهود مع الغرباء، فالشريعة لا تقول عنها شيئًا، إلاَّ أن كتاب اليوبيلات (كتاب منحول دُوّن حوالي سنة 125 ق. م) فيبدو قاسيًا متشددًا. قال إبراهيم ليعقوب: “انفصل عن الأمم ولا تؤاكلهم. لا تعمل مثل أعمالهم ولا تكن مشاركًا لهم. فأعمالهم غير طاهرة، وكل طرقهم نجاسة ورجس وقذارة” (22: 16)، وستقول “الرسالة إلى أرستبس”: “أراد المشترع أن يحمينا من كل اتصال نجس، فمنع التعامل مع الأشخاص الساقطين من أن يفسدنا. فأحاطنا بسلسلة من فرائض الطهارة: الطعام، الشراب، اللمس، السماع، النظر”.
وما نلاحظه ثانيًا هو أهمية جماعة أنطاكية التي تألفت منذ بدايتها من يهود ووثنيين فقد كانت أنطاكية نقطة انطلاق رسولية بالنسبة إلى بولس، وأي فشل له في تلك المدنية سيكون له انعكاسات قاسية لا تُحصى. من أجل هذا، اتخذ بولس ما اتخذ من موقف عنيف“(94).
كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ.. هل تغافل بطرس الرسول الرؤيا السماوية وصوت اللَّه له: “مَا طَهَّرَهُ اللَّهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ” (أع 10: 15)؟!.. وهل تناسى أقواله في مجمع أورشليم: “وَاللَّهُ الْعَارِفُ الْقُلُوبَ شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِيًا لَهُمُ الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضًا.. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ” (أع 15: 8، 9)؟!.. وهل تصرَّف ضد ما رآه الروح القدس والرسل الأطهار وهو واحد منهم.. وكيف تصرَّف هكذا؟!.
الحقيقة أن الإجابة بسيطة، وقد أوضحها بولس الرسول في نفس الآية عندما قال عنه أنه كان: “خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ“.. والخوف من إنسانٍ يُسقط الإنسان في المحظور: ” خَشْيَةُ الإِنْسَانِ تَضَعُ شَرَكًا وَالْمُتَّكِلُ عَلَى الرَّبِّ يُرْفَعُ” (أم 29: 25)، وبلا شك أن الخوف هو الذي أورث بطرس خطية الإنكار ولولا افتقاد سيده له لضاع وهلك، بينما بطرس الرسول في شجاعته واجه اليهود قائلًا لهم عن السيد المسيح: “وبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ” (أع 2: 23)، وواجه رؤساء الكهنة والقيادات الدينية قائلًا لهم: “الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ“ (أع 3: 13).. “يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ“(أع 4: 10).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “فلما أتى هؤلاء الذين من الختان خاف منهم بطرس لئلا يعيّروه مخاصمين إياه، كما خاصمه الذين من أهل الختان في أورشليم قائلين: “إِنَّكَ دَخَلْتَ إِلَى رِجَال ذَوِي غُلْفَةٍ وَأَكَلْتَ مَعَهُمْ” (أع 11: 1-3) فقد كان بطرس يحرص كل الحرص على أن لا ينظر إليه اليهود نظرة احتقار كشخص خائن ليهوديته لذلك لما أتى أولئك اليهود إلى أنطاكية كان يؤخِّر ويفرز نفسه خائفًا من تعييرهم له ومخاصمتهم إياه“(95).. حقًا أن الخوف خطية تقود صاحبها لسلسلة من الخطايا، حتى أن الكتاب قال: “وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ.. فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي” (رؤ 21: 8).
“وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي اليَهُودِ أَيْضًا حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ” (غل 2: 13).
وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا.. الرياء رذيلة حيث يُظهِر الإنسان غير ما يبطن، ويصبح للإنسان وجهان أحدهما ظاهر والآخَر خفي، وهذا لا يطابق ذاك، يُظهِر الإنسان الحب والود والصداقة بينما يُبطن مشاعر سلبية من حقد وبغضة وكراهية، هكذا كانت القبلة الغاشة التي طبعها يهوذا الإسخريوطي على جبين السيد المسيح، ويقول ” الأب متى المسكين “عن الرياء: ” اسم الفاعل من هذا الفعل في اليونانية “مرائي” ( كما تُنطق في الإنجليزية هيبوكريت hypocrite) بمعنى يسلك سلوكًا يُرضي الآخَرين على تزييف وكذب. ويسميها العالِم بروس: playacting وتعني يلعب على الصفين، أو يسلك بعدم لياقة أو بدون ذوق، آخذين موقف ق. بطرس.. لأن ق. بطرس كان يأكل في ذات المائدة الواحدة مع الأمميين عن اقتناع ومسرَّة“(96).
وبسبب هذه الخطية صبَّ السيد المسيح ويلاته على الكتبة والفريسيين المراؤون (مت 23: 27، 28)، وللأسف الشديد أن مُعلّمنا بطرس الرسول الذي دافع بشرف عن قضية الأمم لم يشأ أن يتحمَّل تبعية هذا القرار للنهاية، فسقط في خطية الرياء، وكان من ثمار هذه الخطية إيذاء شعور الأنطاكيّين الذين اهتزت قلوبهم فرحًا بقدومه، وقد فتحوا له قلوبهم قبل بيوتهم، وأطعموه خبز المحبة، وأيضًا من ثمار هذه الخطية عدم السلوك باستقامة بحسب حق الإنجيل، فالإنجيل قد أعلن بوضوح تام أن اللَّه يحب ويقبل الجميع، فهو يشأ خلاص الجميع، وكل من يأتي إليه لا يُخرجه خارجًا.
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: ” ثلاثة أفعال مستعملة مع “سون” (مع): أكل مع، تظاهر مع، انجرَّ مع.. تراجع بطرس، فتبعه المسيحيون المتهودون، وتركوا غذاء الجماعة الكنسية. هنا ترد كلمة “رياء” (هيبوكريسيس)، فالمرائي لا يخفي فقط شخصيته، بل هو ضحية “تمثيلية” يلعبها، وفي النهاية، هو يخطئ حول تصرُّفه الخاص. هذا هو وضع الكتبة والفريسيين في الإنجيل، وكانت ذروة انزعاج بولس حين رأى برنابا، رفيقه في رسالته، يجاري الآخرين في ريائهم. أجل، لم يكن ينتظر بولس أن يفعل برنابا ما فعل، وهو الذي عرف التجرُّد في رسالته (1كو 9: 6).. وإذ أراد بولس أن يندد بسلوك بطرس، استعمل فعلًا يعني: تعرجون بين الجانبين، تميلون تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، وهكذا تعرضون للخطر حقيقة الإنجيل.. أنها أساس وحدة المؤمنين وينبوع حريتهم، فالحقيقة التي يشكّل وحيها الإنجيل، هي أن يسوع هو مخلص جميع البشر، فلم يعد هناك يهودي ولا يوناني (غل 3: 28). لم يعد هناك إلاَّ شعب تدلُّ على وحدته مشاركته في الحياة وفي المائدة. هل نسى بطرس هذا الوحي الذي تلقاه في قيصرية (أع 10: 28)..
اعتبر بولس أن بطرس أخطأ، أنه خان حقيقة الإنجيل. تدل النهاية (آية 14) بوضوح أن بطرس كان يعيش “كالأمم”، أي لم يكن يمارس فرائض الطهارة اليهودية في علاقته مع الأمميين، ولكن حين بدَّل رأيه، جرَّ وراءه سائر المتهودين فابتعدوا، بل جرَّ أيضًا المسيحيين الأمميين الذين تأثروا ببطرس والمتهودين، فأخذوا يمارسون الفرائض اليهودية الطقسية“(97).
ويقول “القس غبريال رزق اللَّه“: “هنا يتجلى الخطر الداهم الناشئ من سقطة بطرس، أنها سقطة قائد عظيم وشيخ محنَّك، لا شيخ أيام فحسب بل شيخ مشايخ الكنيسة الأم في أورشليم، شيخ ينظر إليه الناس، ويرون في تصرفه حجة لا غبار عليها فيتبعون خطواته، ويسيرون في طريق سيره، فلا غرابة إذا راءى معه باقي اليهود.. وكم يزداد الخطر فداحة إذا كان هؤلاء اليهود هم اليهود المتنصرين في كنيسة أنطاكية، فيرون في تصرف بطرس تشجيعًا لعدم الاختلاط بالمتنصرين من الأمم، الأمر الذي يتفق مع تربيتهم اليهودية وعوائدهم وطقوسهم التي معها كانوا يشعرون بأن التزامهم بمخالطة الأمم يضعهم تحت ثقل لا يحتملونه، ويدخلهم في ضيق يطبق على أنفسهم، فما لبثوا أن وجدوا في تصرف بطرس منفذًا من هذا الضيق فراءوا معه. وهذه هي الداهية الدهماء في تصرف بطرس الذي عنه ينشأ ولابد انقسام خطير وتفريق مخيف بين جماعة المتنصرين من اليهود وجماعة المتنصرين من الأمم، فتنشق الكنيسة ويقضى على وحدتها“(98).
حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ.. برنابا الذي سبق أن أوفدته كنيسة أورشليم إلى أنطاكية إلى اليونانيين الذين آمنوا، فجاء ورأى نعمة اللَّه ففرح بإيمانهم ووعظهم ليثبتوا في الرب بعزم القلب (أع 11: 13).. برنابا الذي أفرزه الروح القدس ليكرز للأمم مع بولس الرسول (أع 13: 2).. برنابا الذي صَعد مع بولس إلى أورشليم ليحفظ للأمم حقهم في الإيمان دون أن يختتنوا ويمارسوا مطاليب الناموس (غل 2: 1).. برنابا الذي أعطاه الآباء الرسل المعتبرون يمين الشركة مع بولس ليكرزا للأمم (غل 2: 9).. برنابا العظيم هذا عندما رأى بطرس يراءى راءى معه، فإن رسول عظيم كبطرس الرسول له تأثيره القوي على الآخَرين سواء بالسلب أو بالإيجاب، وهكذا إنقاد برنابا في ذلك التيار الدافق الذي يتفاخر بأعمال الناموس.. وإذا أحسنا الظن جدًا فإن برنابا يكون قد آثر السلام فإنقاد إلى بطرس الرسول مؤقتًا، على أمل أنه بعد أن يغادر بطرس الديار الأنطاكية يعود هو إلى سابق عهده، ولكنه إذ سلك مع السالكين في درب الرياء سقط في المحظور، وهذا يُظهر لنا خطورة قبول الحلول الوسطى، وإمساك العصى من المنتصف في الأمور العقائدية واللاهوتية. أمَّا بولس الشجاع فلم يشترِ خاطر برنابا الذي أحضره من طرسوس ليخدم معه في أنطاكية (أع 11: 25)، ولا خاطر بطرس الرسول الذي منحه مع يعقوب ويوحنا يمين الشركة، ولم يجامل هذا أو ذاك على حساب الحق، فكان في الموقع الصحيح تمامًا.
وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ.. يقول البعض: إن كنا نقبل سقوط بطرس في خطية الإنكار قبل حلول الروح القدس، فمن الصعب قبول سقوطه في رذيلة مثل الرياء بعد حلول الروح القدس عليه والكرازة بِاسم يسوع وصنع المعجزات الفائقة، ولكن الحقيقة أننا لا نعترف بعصمة أي إنسان، وطالما الإنسان على قيد الحياة فأنه معرَّض للسقوط في الخطية، ولا عصمة لأي رجل من رجال اللَّه إلاَّ في حالة تسجيله الأسفار المقدَّسة، ومهما ضرب الإنسان بجذوره في الحياة الروحية فإن لكل جوَّاد كبوة ولكل عالِم هفوة.
ويتبقى هنا سؤالًا يطرح نفسه وهو: لماذا وجَّه بولس الرسول حديثه لبطرس فقط ولم يوجَّه أي كلمة لبرنابا ولا للآخَرين مع أنهم سقطوا في ذات الخطأ؟.. لأن بطرس هو كبير الجلسة، وهو الذي بدأ التصرف الخاطئ أولًا، فالكلام الذي وجَّهه بولس لبطرس هو موجه لكل من سلك مسلك بطرس، بل وكل من له فكر بطرس في هذا الأمر، هذا من جانب ومن جانب آخَر يجب الانتباه إلى أن بولس الرسول كان وظل يحترم ويوقّر ويجل بطرس الرسول، ولم يسئ إلى شخصية بطرس الرسول ولم ينتقد جميع تصرفاته، إنما انتقد بروح المحبة والتواضع سلوك معين سيتسبب في زرع بذور الانشقاق في الكنيسة، ويقول “القمص د. كامل وليم“: ” فإن حادثة أنطاكية أو الصدام بين بولس وبطرس لم يكن اختلافًا بين شخصيتين أو قوتين، لقد كان بطرس وبولس متفقين على المبادئ، وكان الصراع يدور حول إحدى النتائج أو إحدى خلفيات تصرفاته بما أنه لم يتفجر إلاَّ مع وصول “أتباع يعقوب”. لاحظ أن بولس يصف طريقة بطرس في التصرُّف دون أن يوجّه أي نقد ضد شخصه أو ضد رسالته.. يعترف بولس بسلطة كنيسة أورشليم بما لا يقبل الجدال”(99).
“لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا فَلِماذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا“(غل 2: 14).
لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ.. انظر لقول بولس الرسول “رَأَيْتُ“ وكأن الرياء شيء مرئي ومحسوس وملموس، فقد رأى القديس بولس بشاعة تلك الخطية التي هي ضد السلوك بالاستقامة وضد الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وضد الوصية الإلهيَّة: “وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ“ (مز 19: 8).. وقال الرب ليشوع بن نون: “إِنَّمَا كُنْ مُتَشَدِّدًا وَتَشَجَّعْ جِدًّا لِكَيْ تَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَكَ بِهَا مُوسَى عَبْدِي. لاَ تَمِلْ عَنْهَا يَمِينًا وَلاَ شِمَالًا لِكَيْ تُفْلِحَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ” (يش 1: 7)، وهذه الخطية بلا شك هي ضد حق الإنجيل الذي لم يفرق بين إنسان يهودي وآخر أممي، وقال بولس الرسول أنه لم يخضع لآراء هؤلاء المتشددين ولو لساعة واحدة حفاظًا على حق الإنجيل: “لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ“ (غل 2: 5).
قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ.. قدّام الجميع.. لماذا؟.. ألم يعرض بولس إنجيله على الآباء الرسل المعتبرين على انفراد؟.. ألم يوصي السيد المسيح: “وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا” (مت 18: 15)؟.. فلماذا قاوم بولس بطرس مواجهة قدام الجميع؟.. هل قصد التشهير به والإنقاص من قدره أمام الناس؟.. بالقطع ليس الأمر هكذا، وبولس الرسول عندما عرض إنجيله على إنفراد لكيما يتجنّب التصادمات والمزايدات التي كثيرًا ما تحدث في المؤتمرات الشعبية، وأن يتحاشى التعصُّب والكبرياء والغضب والفشل، وأيضًا عندما أوصى السيد المسيح بمعاتبة المخطئ على إنفراد فذلك يتعلَّق بالأخطاء الشخصية، وليست الأخطاء الإيمانية. إن الخطأ الذي ارتكبه رسول عظيم مثل بطرس علانية أمام الجميع يحتاج لمواجهة علنية أمام الجميع، ولهذا أوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس قائلًا: “اَلَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَبِّخْهُمْ أَمَامَ الْجَمِيعِ لِكَيْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَاقِينَ خَوْفٌ” (1تي 5: 20)، وما زالت الكنيسة تتبع نفس المسلك في محاكمة رجال الاكليروس، فالأخطاء التي اُرتكبت في السر يكون الحُكم عليها في السر ويستحيل على الكنيسة، مهما اشتد الهجوم عليها، أن تنشرها في العلن لأنها مثل سيدها تستر على خطايا الآخَرين، أمَّا إذا كانت الأخطاء قد ارتكبت في العلن فهذا يُوجِب على الكنيسة أن تكون المحاكمة وكذلك الحكم في العلن، وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “لا تخف أن تعلن الحق مهما كانت مكانة المقاومين خاصة لو كان تصرُّفهم يعثر غيرهم. اطلب معونة اللَّه لتعطيك حكمة في الكلام فتكسب الكل. وإن تضايق أحد تكسبه بالمحبة بعد حين ولكن لا تتنازل عن الحق من أجل اللَّه”(100).
إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا.. قول بولس الرسول “إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ“، يريد أن يقول له: ما دمتَ أنت يهوديًا أبًا عن جد، متمسكًا بالناموس، حتى أنك رفضت الرؤيا السمائية ثلاث مرات وأنت تقول: ” كَلاَّ يَا رَبُّ لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئًا دَنِسًا أَوْ نَجِسًا” (أع 10: 14)، فالجزء الأول من العبارة مفهوم، ولكن متى عاش بطرس اليهودي أمميًّا؟.. لقد عاش أمميًّا عندما دخل إلى بيت كرنيليوس بناءً على توجيهات السماء، وعاش أمميًّا عندما كرز في بعض مدن الأمم مثل السامرة ولدة وقيصرية.. ومتى ألزم بطرس الأمم لكي يتهوَّدوا؟.. عندما أخَّر وأفرز نفسه عن الشعب الأنطاكي وهو يأكل معهم لمجرّد أنه لمح قدوم قوم من أورشليم من المتهوّدين، وهو لم يلزمهم هنا إلزام القوة والجبر، إنما إلزام الاقتناع الأدبي كما ألزم السيد المسيح تلاميذه: “وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ“ (مت 14: 22) فقال له بولس الرسول: لقد قبلت أن تجلس مع الأمم غير المختونين على نفس مائدة الطعام التي أعدّوها لك وأكلت معهم طاعة لوصية سيدك (لو 10: 7).. فلماذا تراجعت عن مبدئك؟!.. ولعل ما كتبه بولس الرسول بالروح القدس قائلًا: “وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكُمْ وَتُرِيدُونَ أَنْ تَذْهَبُوا فَكُلُّ مَا يُقَدَّمُ لَكُمْ كُلُوا مِنْهُ غَيْرَ فَاحِصِينَ مِنْ أَجْلِ الضَّمِيرِ” (1كو 10: 27) يكون صدى لهذه الحادثة، وتأكيدًا على الثبات على المبدأ.
ويقول “الأب متى المسكين“: “واضح أن ق. بولس يؤنّب ويراجع ويؤاخذ معًا ق. بطرس لأنه كان يعيش سابقًا في أنطاكية بل وفي قيصرية أيضًا مهملًا العوائد اليهودية التي وُلِد فيها وتاركًا كل الفرائض اليهودية أيضًا، فالآن بتركه للأمم كأنهم أنجاس وإفراز نفسه عن الاختلاط بهم كخطاة ممتنعًا عن كسر الخبز معهم يفرض على الأمم التزامًا بالناموس ويضع فرائضه وعوائده عليهم حتى يحق لهم الشركة مع اليهود المتنصرين وكسر الخبز معهم! هذا السلوك يقود ق. بولس في الآية (18) ويُعبّر عنه تعبيرًا شديد النقد: “فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا (الناموس وعوايده وفرائضه) هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا” (غل 2: 18). بمعنى أنه إن كان قد أهمل الناموس والفرائض وداس على كل العوايد اليهودية وعاش وأكل مع الأمم ثم عاد ثانية خوفًا من اليهود إلى الناموس يكرم فرائضه وعوايده من جديد فأنه بذلك يعتبر في الحال مدانًا مع عمله الأول كمخالف وخارج على الناموس”(101).
رابعًا: التبرير بالإيمان ( غل 2: 15-21 ):
” نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً. إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا. فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ حَاشَا. فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا. لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للَّهِ. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللَّهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ” (غل 2: 15 – 21).
هذه الفقرة تبدأ من الآية الخامسة عشر وحتى نهاية الإصحاح الثاني، وهي تمثل حوارًا لاهوتيًا يوضح أن التبرير للجميع سواء يهود أو أمم هو بالإيمان بيسوع المسيح وليس بأعمال الناموس، وإن كان يصعب تحديد متى انتهى الكلام الذي وجهه بولس الرسول إلى بطرس الرسول، ومتى بدأ التعليم اللاهوتي، وقد بدأ بولس الرسول حواره اللاهوتي بطرح فكر المتهودين الذين يدَّعون أنهم مميزين عن الأمم، وهذا ما سبق ورد عليه الرب يسوع في لقائه مع المرأة الكنعانية، فبعد أن قال لها ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب معبرًا عن وجهة النظر اليهودية للأمم، عاد وامتدح إيمانها: “وَقَالَ لَهَا يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ“(مت 15: 28). ثم يؤكد بولس الرسول على:
1 إنه من المستحيل أن يتبرَّر الإنسان بأعمال الناموس.
2 أن الإنسان يتبرَّر بالإيمان بالسيد المسيح.
3 مَن يرجع إلى أعمال الناموس كأنه يبني ما سبق وهدمه.
4 لو كان الناموس يُبرّر الإنسان، إذًا السيد المسيح مات بلا داعٍ وبلا سبب.
وقد استخدم بولس الرسول كلمات أساسية في هذه الفقرة مثل “الخطية“، و“الأعمال“، و”التبرير“، و”النعمة“، و”الصليب“، و”الإيمان“، وهذه الكلمات تعبّر عن الوحدة في المسيح وهي روح الإنجيل وجوهره.
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “إذا أردنا التوقُّف عند بنية النص وجدنا قسمين متمايزين، أن (آية 15-17) قد دوّنت في صيغة المتكلّم الجمع (نحن)، وكأني ببولس يتابع جدالة مع بطرس ليصلا إلى الاتفاق على النقاط الجوهرية، وفي (آية 18-21) يكلّمنا بولس بصيغة المتكلّم المفرد (أنا)، فيشركنا في خبرة إيمانه الخاصة“(102).
” نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً. إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا” (غل 2: 15، 16).
نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً.. هذه العبارة موجهة من بولس الرسول إلى بطرس الرسول وليس للغلاطيين الذين هم من أصل أممي، فيضم بولس نفسه إلى بطرس وأهل الختان قائلًا: ” نَحْنُ” وربما أراد بولس بهذا أن يخفّف أسلوب النقد الموجه لبطرس الرسول، وكأنه يريد أن يقول له نحن الأثنان في خندق واحد، فلا ينبغي أن ننظر لأنفسنا كيهود على أننا أفضل من الأمم قائلين أننا ولدنا في اليهودية ونعرف اللَّه، ولسنا مثل هؤلاء الأمم الخطاة الذين لم يعرفوا اللَّه، فهم يأكلون ما هو نجس ودنس مثل الخنازير والأرانب، ولم يلتزموا بالناموس، مع أن اللَّه أراد بهذا المنع من بعض الأطعمة أن يُعلّم الإنسان الأمور الصحيحة التي ينبغي أن يفعلها الإنسان، والأمور الخاطئة التي ينبغي أن يتوقف عنها، ومع أن الناموس كان يمثل ثقلًا علينا نحن اليهود، وحتى أنك يا بطرس قلت في مجمع أورشليم: ” فَالآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللَّهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ. لكِنْ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولئِكَ أَيْضًا” (أع 15: 10، 11).. نعم لقد كان هؤلاء الأمم غرباء بدون مسيح: “أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ” (أف 2: 12)، ولكننا الآن نثق أن اللَّه أفتقدهم، وأن خلاصهم وميراثهم للملكوت كان سرًا أعلنه اللَّه لي وأنا متمسّك به إلى النفس الأخير.
نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً.. نحن بالطبيعة يهود ونتميز بأن لنا الناموس ولكن هذا الناموس لم يبرّرنا، بل حكم علينا بأننا خطاة. إذًا نحن خطاة كالأمم، ولذلك التجأنا للمسيح ليبرّرنا، وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “يستكمل بولس حديثه مع بطرس فيقول له: إن كنا ونحن وُلدنا يهودا، وليس كالأمم وثنيين لم نستفيد من هذا الامتياز، إذًا لم نتبرر بأعمال الناموس مثل الختان وحفظ السبت، بل الناموس حكم علينا بالموت. فنحن إذًا خطاة كالأمم، ولذلك التجأنا إلى الإيمان بالمسيح لأن المسيح هو مصدر التبرير، والإيمان به هو الوسيلة لنوال التبرير.. أبعد ما التجأنا للإيمان بالمسيح لنتبرر، نرجع إلى الناموس مرة أخرى؟!“(103).
إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ.. فعل “نَعْلَمُ“ هنا المقصود به “علم اليقين”، وقد استخدمها بولس الرسول في مواضع أخرى، مثلما قال: “ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ” (رو 8: 28).. “لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلى ذلِكَ الْيَوْمِ” (2تي 1: 12)، فالعلم هنا ليس مجرَّد العلم البسيط السطحي مثل المثل القائل: ” العلم بالشيء ولا الجهل به“، وليس هو العلم الكاذب الآثم “الَّذِي إِذْ تَظَاهَرَ بِهِ قَوْمٌ زَاغُوا مِنْ جِهَةِ الإِيمَانِ” (1تي 6: 21)، بل هو علم اليقين.
إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ.. تساءل أيوب الصديق قديمًا: ” فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللَّهِ” (أي 9: 2)، وجاءت الإجابة في سفر حبقوق: ” وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا” (حب 2: 4)، وهذا ما أكده بولس الرسول عدَّة مرات مثل قوله: ” كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: “أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا” (رو 1: 17).. ” لأَنَّ الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا” (غل 3: 11).. “أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا وَإِنِ ارْتَدَّ لاَ تُسَرُّ بِهِ نَفْسِي” (عب 10: 38).
فما معنى كلمة “تبرير”؟.. إنها عكس كلمة “دينونة”، فالإنسان الذي تبرَّر هو الإنسان الذي رُفِع عنه حكم الدينونة، وهذا لا يعني أنه إنسان بار لم يرتكب الخطية، إنما معنى التبرير أن الإنسان قد أذنب، وقد أُثبتت عليه التهمة، ووُقِّع عليه الحكم، ولكن اللَّه برَّره.. كيف؟.. هل صفح عنه؟.. إن التبرير أمر يفوق الصفح والمغفرة، لأن المُذنب الذي يُصفَح عنه لا يعني أنه إنسان بار لم يخطئ، بل خطيته ما زالت قائمة، أما المذنب الذي يتبرَّر فهذا يعني أن اللَّه قد فداه إذ حمل عقاب خطيته في جسده على الصليب، وبهذا يكون قد محا خطاياه وآثامه بالكامل وكأنها لم تكن، فليس لها أي سلطان عليه إذ تحمل عقوبتها نيابة عنه: “طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً” (مز 32: 1، 2)، فالإنسان الذي تبرر هو الإنسان الذي لم يحسب له الرب خطية واللَّه يبرر الخطاة الذين يشعرون بخطيتهم وليس الأبرار في أعين أنفسهم: “لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى “ (مر 2: 17)، فهذه هي نعمة اللَّه المتفاضلة على الإنسان الخاطئ إذ تحكم بإدانته وبراءته في آن واحد، إدانته على خطيته وبراءته لأن المسيح مات ووفىَ العقوبة نيابة عنه، ويستحيل على الإنسان الخاطئ أن يحصل على البراءة بالجهد البشري، لأن التبرير هو عمل إلهي، وبالتبرير يحصل الإنسان على السلام: “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللَّهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رو 5: 1).
وإن كان الإنسان قد ورث الخطية والموت والدينونة من قِبَل آدم الأول، فأنه نال التبرير والنجاة والحياة من قِبَل السيد المسيح آدم الثاني: ” فَإِذًا كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هكَذَا بِبِرّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ. لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا” (رو 5: 18، 19)، ويقول: “جيمس دني” James Denny : ” إن معجزة الإنجيل هي أن اللَّه يأتي إلى الخاطئ برحمة هي البر الكامل، ويؤهّله بواسطة الإيمان، وبالرغم من حالته مهما كانت قساوتها، يؤهّله للدخول في صلة جديدة مع ذاته، تصبح فيها الأعمال الصالحة ممكنة ومتيسرة“(104).
الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ.. يشمل الناموس الموسوي:
1 الناموس الأدبي: مُمثَّلًا في الوصايا العشر، وجوهر هذه الوصايا محبة اللَّه والإنسان، وعندما سأل أحد الناموسيين الرب يسوع عن الوصية العظمى: ” فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هي الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ” (مت 22: 37-39) وهذا الناموس خالد لا غنى للإنسان عنه في كل زمان ومكان، والتغيير الذي حدث أن الإنسان المسيحي لا يلتزم بهذه الوصايا خوفًا من الناموس، بل محبة في المسيح الذي مات عنه وقام.
2 الناموس المدني: وهو متعلق بإجراء الأحكام القضائية، ومعظم قوانين الدول المدنية مقتبسة منه.
3 الناموس الطقسي: المختص بالكهنوت الهاروني وطقوس الذبائح المختلفة، وغيرهما، وهذه كلها كانت رموز انتهت بمجيء المرموز إليه.
ولنا أن نتساءل: لماذا عجز الناموس عن تبرّير الإنسان؟
1 مَن يريد أن يتبرَّر بالناموس لا بد أن يحفظ وينفّذ جميع وصاياه وفرائضه وأحكامه غير منقوصة أبدًا، وحيث أن هذا مستحيل، وحيث أن من يعثر في واحدة يصير مجرمًا في الجميع: “لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ” (يع 2: 10).
2 الإنسان غير كامل وأعماله ناقصة وغير كاملة، فهي لا ترضي اللَّه الكامل: ” لا يتبرَّر الإنسان ويكون مقبولًا عند اللَّه بإتمام أعمال الناموس وحفظها. لماذا؟.. كل شرير يعيش في حضرة اللَّه يجب أن يكون كاملًا وتامًا.. فالإنسان الذي هو ناقص وغير كامل لا يمكنه أن يقف أو يعيش في حضرة اللَّه، ولكن، هناك سؤال نحن بحاجة أن نسأله: هل هناك عمل يمكن للإنسان أن يعمله أو ناموس يمكنه أن يحفظه ليجعله كاملًا؟ يقول اللَّه: “كلا!!” لأن كل شيء يفعله الشخص الناقص وغير الكامل يكون ناقصًا وغير كامل: فالكائن غير الكامل لا يمكن أن يفعل شيئًا جيدًا تمامًا. ومن المؤكد أنه لا يكون جيدًا بما فيه الكفاية ليجعله كاملًا، الإنسان غير الكامل يعوزه كمال اللَّه“(105).
3 يتطلب الناموس من الإنسان طاعة كاملة ومستمرة بلا انقطاع، فلو عصى الإنسان وخالف الناموس مرة واحدة، وأطاع في جميع المرات الأخرى، فإن طاعته هذه جميعها لا تُكفّر عن عصيانه الواحد.
4 يعرض الناموس وصايا بحروف مكتوبة دون أن يقدم معونة لتنفيذها، أما السيد المسيح فقد أعطانا الوصية، كما وهبنا القوة لتنفيذها.
إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ.. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.. كيف يتبرَّر الإنسان أمام اللَّه؟.. أعمال الناموس لا يمكن أن تبرّر الإنسان، وقال أليفاز التيماني: “مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى يَزْكُو أَوْ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَتَبَرَّرَ. هُوَذَا قِدِّيسُوهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ وَالسَّمَوَاتُ غَيْرُ طَاهِرَةٍ بِعَيْنَيْهِ“ (أي 15: 14، 15)، فبولس الرسول يقول نحن يهود ونعلم أن أعمال الناموس لم تخلّصنا ولم تبرّرنا، فما الداعي للتمسُّك بها، ولا سيما أن باب التبرير بالإيمان بالسيد المسيح مفتوح، وفي هذا لم يخطئ بولس الرسول ولم ينتقص من قدر الشريعة والناموس، وفي مجمع أنطاكية بيسيدية قال بولس الرسول: “فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنَّهُ بِهذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا. وَبِهذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى” (أع 13: 38، 39).. أما الناموس فقد كشف للإنسان عن خطاياه وعجز عن أن يمنحه التبرير: “لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ” (رو 3: 20).
وجاء في “التفسير التطبيقي“: “إن كانت الشرائع اليهودية لا تخلصنا، فلماذا لا نزال نطيع الوصايا العشر وغيرها من قوانين العهد القديم؟ لم يقل الرسول بولس أن الشريعة رديئة، لأنه كتب في رسالة أخرى: “إن الشريعة مقدَّسة.. وعادلة وصالحة” (انظر رو 7: 12)، ولكنه قال إن الشريعة لم تقدر أن تجعلنا مقبولين أمام اللَّه. وما زال للناموس دوره إلهام في حياة المؤمن.
فالناموس: (1) يحفظنا من الخطية بتقديمه لنا معايير السلوك.
(2) يبكتنا على خطايانا ويمنحنا الفرصة لنتوافق مع اللَّه بأن نطلب منه الصفح والغفران.
(3) يدفعنا إلى الثقة الكاملة في كفاية المسيح لأننا لا نستطيع مطلقًا حفظ الوصايا تمامًا.
فالشريعة لا يمكن أن تخلّصنا، ولكن بعد أن نصبح مسيحيين، يمكن أن تصبح الشريعة مرشدًا ثمينًا للحياة المرضية عند اللَّه“(106).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “لا يقصد الرسول أن الناموس شر بل أنه ضعيف، ما دام عاجز عن تبرير الإنسان تتضح عدم أهمية الختان”(107).
ولك يا صديقي أن تلاحظ أن بولس الرسول يكرر فكرة أنه لا تبرير ولا خلاص بأعمال الناموس ثلاث مرات في هذه الآية (غل 2: 16):
(1) ” نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوس“.
(2) ” لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ“.
(3) ” بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا“.
لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.. المقصود بجسد ما أي إنسان كان من أي جنس أو لون أو لسان كقول داود النبي: ” فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ” (مز 143: 2) فما دعاه داود ” حَيٌّ ” دعاه بولس الرسول “جَسَدٌ مَا“، وهذا يتوافق مع قوله: “فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ“ (رو 7: 18)، وقوله أيضًا: ” وَيْحِي أنا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ” (رو 7: 24).
الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. قال بولس الرسول لأولاده في روما عن إنجيل المسيح: ” لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللَّهِ بِإِيمَانٍ لإِيمَانٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا” (رو 1: 17)، وأكد لهم أن الإنسان يحصل على بر اللَّه بالإيمان بيسوع المسيح: “بِرُّ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ.. إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ” (رو 3: 22، 28)، وهذا يؤكد لنا مدى تشبُّع بولس الرسول بهذا الفكر، وهو ما ناقشه في هذه الرسالة: “إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ” (غل 3: 24)، فلا يوجد طريق آخر للخلاص والنجاة والتبرير من الدينونة بعيد عن الإيمان بيسوع الفادي، وهذا التبرير الذي يعجز الإنسان تمامًا عن الحصول عليه بجهده الشخصي يحصل عليه بالإيمان مجانًا: “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رو 3: 24)، فالوحيد الذي يهب هذا الفداء المجاني هو السيد المسيح الإله المتأنس الذي أكمل كل برّ ونفذ كل مطالب الناموس، وقال ليوحنا المعمدان: ” اسْمَحِ الآنَ لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ” (مت 3: 15).
آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ.. كيف تبرَّر إبراهيم؟.. لقد تبرَّر إبراهيم بالإيمان: ” فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا” (تك 15: 6)، وهل تبرَّر قبل الختان أم بعده؟.. “فَكَيْفَ حُسِبَ. أَوَ هُوَ فِي الْخِتَانِ أَمْ فِي الْغُرْلَةِ. لَيْسَ فِي الْخِتَانِ بَلْ فِي الْغُرْلَةِ” (رو 4: 10)، وعقَّب بولس الرسول على هذا قائلًا: “لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ. بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضًا الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ. الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا“(رو 4: 23 – 25).
آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.. آمنا نحن سواء كنا يهود أو أمميين، وإن كان في العهد القديم كل من يريد أن يأتي للَّه من الأمم كان عليه أن يتهوَّد، لكن في العهد الجديد يستطيع أي إنسان أممي مهما كان وضعه أن يأتي للمسيح مباشرة بالإيمان به والمعمودية بِاسمه القدوس، ودون أن يتهوَّد، فلا حاجة بعد للختان ولا لمطالب الناموس.
آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ.. ليس الإيمان هو مصدر التبرير، ولكن الإيمان هو الوسيلة التي ننال بها التبرير، والإيمان الذي به ننال التبرير ليس هو الإيمان النظري الذي قال عنه الكتاب: ” وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ” (يع 2: 19) فالشياطين ما زالت أعمالهم شيطانية، ولكن المقصود هو “الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“ (غل 5: 6).. هذا الإيمان هو الوسيلة التي نتبرَّر بها.. كيف؟.. بالمسيح يسوع نفسه، فهو موضوع إيماننا، وهو هدف إيماننا، وهو الوحيد الذي يبرّرنا.
ويقول “ماكدونل“: “لقد عرف اليهود المخلصون أنه لا خلاص بالناموس، إذ قد حكم الناموس بالموت على كل الذين لا يطيعونه بالتمام. وأدى هذا إلى حلول اللعنة على الجميع لأن الجميع كسروا أحكامه المقدَّسة. ويَظهَر المُخلّص هنا بوصفه غرض الإيمان الوحيد. هذا ويُذكّر بولس الرسول بطرس قائلًا ما معناه: {حتى نحن اليهود استنتجنا أن الخلاص هو بالإيمان بالمسيح، لا بحفظ الناموس، فما معنى أن تحاول يا بطرس الآن وضع الأمم تحت الناموس؟} فالناموس علَّم الناس ما يجب عليهم فعله، ولكن لم يعطهم قوة للعمل، لأنه أُعطى فقط ليُظهِر الخطية وليس ليكون مخلصًا منها”(108).
“فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ حَاشَا. فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا“ (غل 2: 17، 18).
فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ.. ما زال بولس الرسول في العدد (17) يوجه حديثه إلى بطرس الرسول ومن تبعوه، ويدور الحديث هنا ليس حول مفهوم التبرير، ولكن حول كيفية الحصول على التبرير، والتبرير في المحكمة الإلهيَّة يختلف عنه في المحاكم البشرية القاصرة التي تحكم ببراءة الإنسان من تهمة معينة سواء لأنه لم يرتكب هذه التهمة بالذات، أو لتعذر الحصول على أدلة الإثبات عليه، أما المحكمة الإلهيَّة فهي تحكم على الإنسان من جهة جميع تصرفاته وأفعاله وأفكاره ونياته.. فمن يتبرَّر أمام هذه المحكمة الإلهيَّة؟!.. داود النبي الذي أدرك هذه الحقيقة صرخ قائلًا: “ولاَ تَدْخُلْ في الْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ“(مز 143: 2)، لأنه ليس إنسان بلا خطية، وفي هذه الآية محط الحديث يفترض بولس الرسول افتراضًا، وسريعًا ما يجيب عليه بقوة وعنف: إن كنا ونحن طالبون أن نتبرر في المسيح، أي أن هدفنا هو الحصول على التبرير بالمسيح، ولكننا ما زلنا نعتقد ونتمسك أنه لا خلاص ولا تبرير بدون أعمال الناموس، والتي عجزت عن تبريرنا، إذًا ما زلنا خطاة.. ما دمنا نطلب التبرير فهذا برهان ودليل كافٍ على أننا خطاة، وما دمنا خطاة فلا نختلف عن الأمم، وهنا يظهر المسيح لا ليبررنا بل يتركنا في خطايانا، فهل السيد المسيح في هذا يسهل لنا طريق الخطية؟!.. هل صار المسيح خادم الخطية؟!.. وسريعًا ما يصرخ بولس الرسول وهو مرتعب من هذا التجديف، ويجيب بقوة وعنف في أسلوب استنكاري: “حَاشَا“.. حاشا للَّه.. من المستحيل أن يحدث مثل هذا، لا يمكن أن يكون المسيح خادمًا للخطية ولا مهلّلًا لها، ولا مُسهِلًا لها، ولا مُحرّضًا عليها، فالخطية ضد طبيعة اللَّه القدوس.
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “إذًا فالالتزام بفرائض الناموس إلغاء للإنجيل، وإتهام للإيمان المسيحي بالضعف وعدم جدواه للخلاص، فإن كنا نخشى إلغاء السبت فنحن إذًا نخشى الناموس كسلطة علينا. وإن خشينا الناموس فلنخشه ككل لا كجزء، وحينئذٍ لن يكون للإيمان أدنى قيمة في تبرير الإنسان. إن كنت تحفظ السبت فلماذا لا تختتن أيضًا؟ وإن اختتنت فلماذا لا تقدم ذبائح؟ فمن يتمّم جزءًا يجب أن يتمّم الكل، ومن يحذف جزءًا يكون كمن حذف الكل. وهكذا إذا التزمنا بالناموس نسقط من طاعة المسيح، وإن أطعنا المسيح يجب ألا نلتزم بالناموس. فإن صرنا آنذاك مخطئين يكون المسيح هو السبب وبذلك يجعل هؤلاء اليهود من المسيح (خادمًا للخطية) ولهذا يصيح الرسول: “حَاشَا!” كاحتجاج صارخ لا يحتاج إلى مزيد من الشرح”(109).
ويقول “الأب متى المسكين“: “اليهودي الذي تخلَّى عن أعمال الناموس وآمن بالمسيح وتبرَّر بإيمان المسيح إذا عاد وتعبَّد لأعمال الناموس يكون كمن وضع المسيح تحت عبودية الناموس وأعماله، وجعل أعمال الناموس أعلى من بر المسيح. وحاشا”(110).
فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟!.. إن كان الإنسان الذي يطلب التبرير بالمسيح أو في المسيح، ولكنه يصر على التمسك بالختان وحفظ مطالب الناموس، ظنًا منه أنها العامل الرئيسي للخلاص والتبرير، وأن الإيمان بالمسيح يأتي في مرتبة تلي ذلك، فيفاجئ مثل هذا الإنسان بأن أعمال الناموس لا تمنحه التبرير، فيظهر في الصورة وكأن المسيح عاجز عن تبرير الإنسان، بل يظهر وكأن المسيح يُسهّل طريق الخطية للإنسان، وكأنه خادم الخطية.. أية بشاعة هذه؟!.. هذا ما أراد أن يُصوّره بولس الرسول لبطرس الرسول، إننا التجأنا إلى المسيح نطلب منه أن يبرّرنا، وبعد ذلك عدنا إلى نير الناموس الذي عجز أن يبرّرنا، فمعنى هذا أن المسيح لم يبرّرنا ولم يحرّرنا من نير الخطية، ولذلك عدنا إلى نير الناموس، ومعنى عودتنا للناموس أننا زلنا تحت الخطية، وأن المسيح لم ينجح في تبريرنا، وهذا يمثل إهانة بالغة للمسيح ولموته الكفاري عنا، ويُظهر المسيح كأنه خادم الخطية.
ويقول “ماكدونل“: “نادى بولس وبطرس وآخرون معهما بالتبرير بالمسيح، وبالمسيح وحده، ومع ذلك فقد ظهرت تصرفات بطرس في أنطاكية وكأنها توحي بأنه لم يتبرر كليًا بل كان عليه أن يرجع للناموس لتكميل خلاصه. وإن كان هذا صحيحًا، فعليه لا يكون المسيح مُخلصًا كاملًا وكافيًا. لأننا إذا توجهنا إليه للحصول على غفران الخطايا ثم التمسنا معونة من مكان آخَر أفلا يصبح المسيح عندئذٍ خادمًا للخطية، إذ يفشل في إتمام وعوده؟ لأنه إن كنا، ونحن ندَّعي الاعتماد على المسيح طلبًا للتبرير، نرجع أيضًا إلى الناموس (الذي عمله الوحيد أن يحكم علينا كخطاة).. هل نرجو أن يوافق المسيح على طريقة التصرُّف هذه التي تجعله خادمًا للخطية؟ إن جواب بولس الساخط كان حَاشَا.. “(111).
نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً.. ماذا يقصد بولس الرسول بكلمة “خُطَاةً” هنا؟.. يقصد بها خطية الرياء التي سقط في بئرها بطرس الرسول وتبعه الآخرون بما فيهم برنابا الرسول، وبولس الرسول في تواضعه يضم نفسه إليهم قائلًا: ” نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً“، وكلمة “خُطَاةً” هنا هي ذات الكلمة التي استخدمها بولس الرسول من قبل: “وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً” (غل 2: 15).. إذًا نصل إلى نتيجة أن الجميع يهود وأمم هم خطاة.
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “بمقتضى هذه النظرية اليهودية يُحسب الأمم “خُطَاةً” إذ ليس عندهم هذا الناموس الموسوي، وبمقتضى ذات النظرية يعتبر “بطرس وبولس” ونظائرهما “خُطَاةً” لأنهم لا يستطيعون أن يتبرَّروا بالناموس، والسعي للتبرير به خسارة ومضيعة للوقت، وهذا هو ما يعبر عنه بالقول: “فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً” خطاة كالأمم الذي بلا ناموس. قضية غريبة.. هل نطلب التبرير فنوجد خطاة؟!”(112).
فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ.. يجب أن يتخلى الإنسان عن اعتقاده الخاطئ بأن اللَّه يمكن إرضاءه بالأعمال الصالحة، فالإنسان لا يَخلُص بالأعمال الصالحة، وهو أيضًا لن يَخلُص بدونها ما دامت في استطاعته أن يفعلها: ” فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ” (يع 4: 17).. الخلاص والتبرير بالمسيح وفي المسيح، ويقول “الأب متى المسكين“: “إن اليهودي الذي تنصَّر إن عاد يعمل بفرائض الناموس وتعبَّد للسبت والختان وبقية عوايد الناموس ومتطلباته وأعياده، فهو يحسب نفسه بالضرورة أنه خاطئ يطلب أن يتبرَّر بأعمال الناموس.. بولس الرسول لا يتردَّد أن يقول عن ذلك الإنسان أنه يجعل المسيح خادم الخطية! فأي ضلالة هذه؟ ولكن هذا العمق من الإحسان.. يحتم أن يخلع الإنسان ما ترسَّب في ذهنه هذه السنين بل هذه الأجيال من حاجته المُلحَّة لاسترضاء اللَّه بالأعمال..
فما هي إذًا أعمال الصلاة والصوم والصدقة والسهر وقرع الصدر والسجود والتواضع والتذلل أمام اللَّه؟ هل هي أعمال خاطئة أم هي ضلالة كما يقول المتحرّرون؟ أو هي نافلة وليست بذات قيمة؟ أو هي نقص في الإيمان وضعف في المعرفة؟ اسمع إذًا ما هي هذه الأعمال:
لا يوجد إيمان مسيحي ليس له أعمال!! فأعمال الإنسان تكشف عن صدق إيمانه وحرارته ولكن الأعمال مهما صدقت ومهما عظمت حتى وإلى تقطيع الجسد فهي وحدها لا تبرّر الإنسان أمام اللَّه أو تقرّبه إليه.. ومع الإيمان بموت المسيح وقيامته لا يُحسب أي عمل يقوم به الإنسان أنه مكمّل بل يُحسب تجديفًا إن ظنَّ الإنسان أنه يبرره، وكأن موت المسيح -ابن اللَّه- يحتاج إلى إضافة من طرف الإنسان ليكمّل به خلاصه. فالأعمال في الحياة المسيحية تكشف عن بر الإنسان الذي ناله بالإيمان بالمسيح، وحرارة الإيمان تظهرها حرارة الأعمال“(113).
أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟.. كيف يربط بولس الرسول بين الناموس والخطية؟!.. وكيف يتصوَّر أن المسيح خادم الخطية؟!
عندما ربط بولس الرسول بين الناموس والخطية لم يقصد على الإطلاق أن يقول أن الناموس خطية وشر، لأنه أقرَّ مرات ومرات أن الناموس صالح: ” فَمَاذَا نَقُولُ هَلِ النَّامُوسُ خَطِيَّةٌ. حَاشَا.. إِذًا النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّامُوسَ رُوحِيٌّ.. فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ اللَّهِ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ” (رو 7: 7-22)، والأب الكاهن يصلّي في القداس الإلهي: “لأنك أعطيتني الناموس عونًا”.
1 ربط بولس الرسول بين الناموس والخطية، لأننا بالناموس عرفنا الخطية: ” لَمْ أَعْرِفِ الْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِالنَّامُوسِ. فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ الشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ النَّامُوسُ لاَ تَشْتَهِ” (رو 7: 7)، فقبل الناموس كانت الخطية موجودة في العالم، ولكن لم يكن هناك ناموس يحكم بأن هذه خطية: “فَإِنَّهُ حَتَّى النَّامُوسِ كَانَتِ الْخَطِيَّةُ فِي الْعَالَمِ. عَلَى أَنَّ الْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ” (رو 5: 13)، فمثلًا إن لم يكن هناك قانون يجرّم الإتجار في المخدرات، فإن أي إنسان يتاجر في المخدرات لا يُعاقَب، ولكن بمجرد صدور قانون يُجرّم هذا، فكل من يتاجر بالمخدرات يتعرّض للعقوبة الرادعة، فهو نفس الفعل، ولكن الاختلاف هو وجود قانون التجريم من عدمه، ولذلك قال بولس الرسول : ” لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَبًا إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ” (رو 4: 15)، فقبل الناموس كانت الخطية كلا شيء وكأنها ميتة لا تستطيع أن تورِث العقوبة لفاعلها، بل هي ميتة فعلًا: “لأَنْ بِدُونِ النَّامُوسِ الْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ. أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ النَّامُوسِ عَائِشًا قَبلًا. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ، فَمُتُّ أَنَا“ (رو 7: 8، 9)، فقبل الناموس كانت الخطية موجودة، ومن يرتكبها لا يُجازى، فكان الإنسان عائشًا في الخطية ولا يدري، ولكن عندما جاء الناموس كشف عن الخطية وبشاعتها وعقوبة من يفعلها، فظهرت الخطية وعاشت، بينما حُكِم على الإنسان الذي يرتكبها بالموت: “لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ، فَمُتُّ أَنَا“، ولذلك تجرّأ بولس الرسول ووضع مقابلة بين الناموس الذي كشف الخطية وبيّن الخطية.
2- ربط بولس الرسول بين الناموس والخطية لأن كليهما يحكم على الإنسان بحكم الموت، فالناموس يحكم على كل خاطئ أثيم بالموت ولا يرحم أحدًا، والخطية أيضًا عقوبتها الموت، فثمر الناموس والخطية واحد وهو الموت.
3 عندما انتهى بولس الرسول من مقابلة الناموس بالخطية، تساءل: هل المسيح خادم الخطية؟ وهو يقصد هل المسيح خادم الناموس؟ هل المسيح أتى في تجسده بالناموس وأكد حكم الموت على الإنسان الخاطئ؟!.. كلاَّ.. بل جاء المسيح لكيما يخلّص مَن قد هلك، ولكي يرفع حكم الموت عن الإنسان الخاطئ، فهو جاء بالنعمة المجانية للإنسان، وهذا ما أوضحه يوحنا الإنجيلي عندما قال: “لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا“ (يو 1: 17) فالمسيح لم يأتِ بالناموس، ولم يُعطى الناموس بواسطة المسيح، ولم يكن المسيح خادمًا للناموس، إنما أُعطي الناموس بواسطة موسى، فموسى هو خادم الناموس ولذلك قال الكتاب عن هذا الناموس ” ناموس موسى“، أما السيد المسيح فقد جاء بالنعمة والحق والتبرير للخاطئ، جاء حاملًا طوق النجاة لكل إنسان يوشك أن يغرق في الخطية، فقط على الإنسان أن يؤمن بطوق النجاة هذا ويتشبث به ولا يطرحه بعيدًا عنه.
أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا.. كيف نطلب أن نتبرَّر فنوجد خطاة؟ نريد أن نتبرَّر بالمسيح يسوع فنجد أنفسنا خطاة، فهل السيد المسيح بدلًا من أن يبرّرنا يدفع بنا إلى الخطية؟!.. أي هل السيد المسيح يعمل لصالح الخطية؟!.. هل هو خادم الخطية؟!.. هل صار عاملًا مساعدًا لسقوطنا في الخطية عوض تبريرنا؟!.. إن تصرُّف بطرس الرسول فيه إتهام للسيد المسيح، وكأنه خادم لخطية الرياء التي سقط فيها بطرس ورفقائه، فبطرس الرسول يتصرَّف نيابة عن سيده، فهو الوكيل الأمين الذي ينفذ وصية سيده، يكرز عن سيده تصالحوا مع اللَّه، يعمدهم بِاسم المسيح، ويقدم لهم الأفخارستيا بِاسم المسيح. إذًا من المفروض أن أي تصرُّف لبطرس يخص الخدمة يُنسب إلى سيده المسيح، فعندما أفرز بطرس نفسه عن الأمم وسقط في خطية الرياء، نظر إليه بولس الرسول وكأنه يريد أن يقول له: هل سيدك المسيح علّمك هذا الرياء؟!.. هل المسيح يخدم الرياء؟!.. أليس الرياء خطية، فهل المسيح خادم للخطية؟!.. هل المسيح يسهل طريق الخطية؟!.. أنك يا بطرس بهذا تفصل نفسك عن سيدك معلم الفضيلة، وتُلصِق نفسك بمعلم الرذيلة!!
ويقول “الدكتور غبريال رزق اللَّه“: “وهنا كأننا نرى الرسول بولس يحدق النظر في الرسول بطرس، وبالتالي في متنصري اليهود الذين معه قائلًا لهم: هذا هو منطوق عملكم بإفراز أنفسكم من متنصري الأمم، أنه عمل ناطق بصوت صارخ، وبكلمات مكتوبة بأحرف بارزة، تعلن أمام عيون الملأ بأنكم تُلصِقون بالسيد المسيح تهمة خادم للخطية، وكأنه أمام هذه التهمة الشنيعة يشعر بخوف أرعده ويصرخ قائلًا: “حَاشَا“.. فكل من يقول “حَاشَا” ينزّه المسيح عن أن يكون خادمًا للخطية.. بل يرفعه عنه ارتفاع سماء المجد عن هاوية الجحيم.. هو القدوس ابن اللَّه.. فكيف يكون خادمًا للخطية ذلك القدوس البار الذي لم يعرف خطية ولم يفعل خطية ولا في فمه غش الذي انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات؟ كيف يكون خادمًا للخطية؟ “حَاشَا“.. “(114).
فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا.. يتكلَّم بولس الرسول هنا كبناء حكيم: “حَسَبَ نِعْمَةِ اللَّهِ الْمُعْطَاةِ لِي كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ.. ” (1كو 3: 10)، والكنيسة هي ” بِنَاءُ اللَّهِ ” (1كو 3: 9)، وإن كان بولس الرسول يعاتب بطرس الرسول على تصرُّفه الخاطئ، إلاَّ أنه أدبًا منه طبَّق هذه المخالفة على نفسه، وكأنه هو الذي فعل هكذا، فيقول بعد أن هدمتُ فكرة التبرير بأعمال الناموس، واقتنعتُ أن التبرير ليس بأعمال الناموس بل بالإيمان بيسوع المسيح، ثم عدتُ ثانية إلى عقيدتي القديمة فكأني أبني ما سبق وأن رفضته وهدمته، وهذا يضعني في صورة المخطئ والمعتدي، فأنا مخطئ إما عندما تركت عقيدتي الأولى وهي التبرير بأعمال الناموس، أو عندما تركت عقيدتي الثانية وهي التبرير بالإيمان بالمسيح يسوع، وتذبذبي بين هذا وذاك يجعلني متعديًا، وهذا ما فعله بطرس الرسول بالضبط إذ بعد أن دخل بيت كرنيليوس بناءً على رؤية سماوية لقبول الأمم في الإيمان والأكل معهم، وقبوله أن يعيش مع السامريين الذين آمنوا فأكل من أكلهم وشرب من شربهم، وبعد موقفه المشرّف في مجمع أورشليم، ثم بعد هذا يتنحى جانبًا وهو يأكل مع الأمم، لأنه أبصر قومًا قادمين من أورشليم، فهو بهذا بنى ما قد هدمه، وهذا يضعه في صورة التعدي.
ويقول “متى هنري“: “انتهز الرسول بولس الفرصة ليتكلّم عن تعليم الإنجيل الرئيسي، ألا وهو التبرير بالإيمان بالمسيح وحده، وليس بأعمال الناموس، إذ كان هذا التعليم موضوع كرازته الرئيسي للغلاطيين الذي داوم على التمسُّك به، حتى أنه كان شغله الشاغل أن يؤكده في هذه الرسالة التي كتبها إليهم.. لماذا نؤمن نحن بالمسيح؟.. أليس من الحماقة الرجوع للناموس؟ ولذا اهتم الرسول بأن يعطي هذا الأمر ثقلًا، فأضاف (ع 17) “فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ” في حالة قبولنا لتعليم ما يبعدنا عن التبرير، ألاَّ يعني هذا استمرارنا في الخطية والنجاسة؟ وهذا ما قد رفضه الرسول بإصرار في قوله “حَاشَا“، وكأنه يقول أن اللَّه لم يرشدنا إلى طريقة تبرير خاسرة، وغير فعَّالة: “فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا” (ع 18)، أي إني لم أزل تحت جُرم الخطية رغم إيماني بالمسيح“(115).
ويقول “صموئيل مايكوكسكي“: ” في العدد (18) نرى بولس الرسول يُطبّق على نفسه سلوك بطرس، ولكن بحكمة، فأنه إن كان يبني بيديه جدار الناموس والفرائض الذي هدمه في السابق، فهو بالحقيقة بهذا الفعل يجعل نفسه متعديًا. إن جميع البشر بلا قيد ولا شرط، هم مدينون للمسيح بالخلاص“(116).
ويقول “ماكدونل“: “كان الرسول بطرس قد ترك كل النظام الناموسي من أجل الإيمان بالمسيح. ورفض أيضًا كل الفروقات بين اليهود والأمم بالنسبة للحصول على رضى اللَّه. والآن، برفضه الأكل مع الأمم، كان يبني ما قد سبق فهدمه0 وبفعله هذا يُظهر نفسه متعديًا، فإما كان مخطئًا بتركه الناموس لأجل المسيح، وإما يُخطئ الآن إذ يحاول ترك المسيح لأجل الناموس!“(117).
فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدّيًا.. ليس من المعروف إن كانت هذه العبارة موجهة لبطرس الرسول أم أنه أنهى الحديث معه ووجه هذه العبارة للغلاطيين.. أقرُّ بأنني قد أخطأت إما عندما تركت عقيدتي الأولى وهي التبرير بأعمال الناموس، وأنني بهذا تعديت على قدسية الناموس وكماله إذ ادعيت أنه غير كافٍ للخلاص، أو أنني تعديت عقيدتي الثانية وهي التبرير بالإيمان بالسيد المسيح، والتعدي هو الخطية: ” كُلُّ مَنْ يَفْعَلُ الْخَطِيَّةَ يَفْعَلُ التَّعَدِّيَ أَيْضًا. وَالْخَطِيَّةُ هي التَّعَدِّي” (1يو 3: 4).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “كان بولس يقول لبطرس: ألست تعلم أنك بإنفرازك عن الأمم تُظهر نفسك متعديًا؟ لأنك بذلك تعتبر الناموس أمرًا إلزاميًا جوهريًا للتبرير، وبالتالي تحكم على نفسك بأنك تعديت الناموس يوم أن دخلت بيت الأمم وأكلت وشربت معهم، فكيف وأنت متعد على الناموس تستطيع أن تتبرَّر بالناموس؟ ومن الجهة الأخرى، كيف يتبرَّر بالمسيح من يعتبر التبرير بالناموس أمرًا جوهريا،ً وبالتالي ينظر إلى المسيح كخادم للخطية؟!”(118).
فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا.. لقد هدم السيد المسيح السياج المتوسط بين اليهود والأمم، فيقول بولس الرسول للأمم: “أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ“ (أف 2: 13، 14) فعندما يعود بطرس الرسول ويفرز نفسه عن الأمم، فهو بهذا يبني ما سبق أن هدمه سيده، وفي هذه مخالفة صريحة وتعدي، فالعودة للتمسُّك بمطالب الناموس يعني العودة لبناء ما سبق هدمه، ويعني إقرار من بطرس الرسول أنه قد أخطأ عندما التجأ للمسيح ليتبرر به وحده، وأنه يريد أن يصحّح هذا الخطأ بالرجوع للناموس.
ويقول “الأب متى المسكين“: “والقديس بولس يضمر في قوله هذا حقيقة أخطر وهي أنه بعودته لأعمال الناموس إنما يهدم أيضًا الإيمان بالمسيح. ويقول في هذا المعنى العالِم بروس: أن المسيحي إن صنع ذلك فيكون على مستوى الوثني سواء بسواء، وكأنه يعود ويحسب نفسه أحد الخطاة الذين بلا مسيح. ويقول العالِم “ليتفوت” أنه لفهم الآية (18) يلزم ربطها بالآية (17) فيأتي المعنى هكذا: “حاشا” لأنه حاشا للمسيح أن يكون خادمًا للخطية. فالحقيقة أنه لا توجد خطية في تركنا للناموس إنما الخطية حقًا هي في العودة إلى الناموس مرة أخرى“(119).
” لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للَّهِ” (غل 2: 19).
لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للَّهِ.. قول بولس الرسول: “لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ“ هو تعبير عن تحرُّر الإنسان من أعمال الناموس كوسيلة للحصول على التبرير والخلاص والنجاة، ولكيما يوضح بولس الرسول هذه الحقيقة أعطى مثلًا بالمرأة المرتبطة بزوجها ما دام على قيد الحياة، ولكن إن مات زوجها فقد صارت حُرّة ترتبط بمن تشأ، هكذا الناموس يسود ويسيطر على الإنسان ما دام هذا الإنسان حيًا، لكن متى مات هذا الإنسان فلا يصبح للناموس سلطان عليه: ” أَنَّ النَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى الإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيًّا. فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَحْتَ رَجُل هي مُرْتَبِطَةٌ بِالنَّامُوسِ بِالرَّجُلِ الْحَيِّ. وَلكِنْ إِنْ مَاتَ الرَّجُلُ فَقَدْ تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ الرَّجُلِ” (رو 7: 1، 2).
لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للَّهِ.. عندما تحرَّر بولس الرسول عن الناموس وآمن بالسيد المسيح قال: ” مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ ” ومن صُلب فهو في حكم الميت، لذلك ليس للناموس سلطان عليه.. لقد حاول بولس أن يرضي اللَّه عن طريق أعمال الناموس، ولكنه فشل في هذا، “يُظهر الناموس للإنسان أنه لا توجد فرصة للقبول من قِبل اللَّه، ولا حتى الاقتراب إلى اللَّه بحفظ الناموس، فهو (الإنسان) لا يستطيع أن يحفظ الناموس، بصفة دائمة ولا بتناغم، فالإنسان يستطيع حفظ الناموس، ويعوزه مجد اللَّه. الناموس يقتل الإنسان، أنه يقتله ويدينه بحكم الموت. الرجاء الوحيد لدى الإنسان لكي يكون مقبولًا أمام اللَّه أن يموت بالنسبة للناموس، بكيفية ما“(120).
فالناموس لم يستطع أن يخلص شاول الطرسوسي الذي تمسك بتلابيبه، إنما قاده هذا الناموس إلى الدينونة وحُكِم عليه بالموت حكمًا عادلًا وشرعيًّا، وبذلك أصبح الناموس الذي من المفروض أن يكون وسيلة للحياة، صار وسيلة للموت، وصار في حقيقته يعبّر عن خدمة الموت: ” ثُمَّ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الْمَوْتِ الْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ.. ” (2كو 3: 7)، فالإنسان الذي فشل في تنفيذ مطالب الناموس صار محكومًا عليه من الناموس نفسه بالموت، ولذلك قال بولس الرسول: “لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ” أي الناموس هو الذي حكم عليَّ بالموت، ولم يقل أن الناموس مات لي، بل قال: “لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ“ أي أن الناموس هو الذي حكم عليَّ بالموت، فهو الذي أدانني لأنني عجزت عن تنفيذ وصاياه بالكامل، فالناموس كشف لي عن خطاياي حاكمًا عليَّ بالموت.
ويقول “وليم كلي“: ” فكل ما فعله الناموس هو أنه كشف له عن عجزه التام، وعندئذٍ هجر طريق الناموس فجأة وألقى بنفسه تمامًا، خاطئًا كما كان، على رحمة اللَّه. فلقد دفعه الناموس إلى اللَّه ولذلك بالعودة للناموس تعني ببساطة أن يجد نفسه قد عاد إلى ذلك الإحساس المميت بوجود فجوة بينه وبين اللَّه. ولقد كان ذلك التغيير عظيمًا جدًا لدرجة أنه لم يستطع أن يصفه إلاَّ بأن صُلِب مع المسيح وأن الإنسان الذي كان هو إياه قد مات وقوة الحياة التي تدب فيه ليست سوى المسيح نفسه، فلو كنت أستطيع أن أضع نفسي في علاقة صحيحة مع اللَّه بالطاعة التامة للناموس فما لزوم النعمة يا ترى؟ وإن كنتُ أستطيع أن أكسب خلاص نفسي بنفسي فلماذا مات المسيح؟“(121).
لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للَّهِ.. شرح بولس الرسول هذه القضية بالتفصيل في رسالته إلى أهل رومية: “كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا” (رو 6: 11)، فالإنسان يجب أن يفطم نفسه عن الخطية ويموت عنها، ليس بقوته الذاتية، إذ كيف يقاوم الجسد الجسد، ولكن بالمسيح يسوع ربنا، كما قال لهم: ” فَإِنَّ الْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ” (رو 6: 14)، أي أن الذي يعيش في ظلال الناموس هو في الحقيقة إنسان خاطئ يعيش تحت سلطان الخطية، لأن الناموس كالمرآة يكشف للإنسان عن بشاعة خطيته، ولا يبرره منها، فيظل الإنسان تحت سلطان الخطية إلى أن يؤمن بالرب يسوع القادر وحده على تطهير الإنسان الخاطئ وتبريره من جميع خطاياه. ثم يقول: ” إِذًا يَا إِخْوَتِي أَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ لِكَيْ تَصِيرُوا لآخَرَ لِلَّذِي قَدْ أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ.. وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ النَّامُوسِ إِذْ مَاتَ الَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ” (رو 7: 4، 6).. لقد مات الإنسان للناموس بجسد المسيح، فالسيد المسيح هو الذي حمل عقاب خطايانا على جسده الممزَّق على عود الصليب وقد رفع اللعنة عنا، لكيما نحيا به. فالذي يجيء إلى الرب يسوع فقد مات عن الناموس، أي لم يعد يعتمد على الناموس، وهكذا كان بولس الرسول يبذل قصارى جهده ليخرج اليهود من الجلباب الذي ارتدوه وعاشوا فيه وتمسّكوا به. وهو أن الإنسان يتبرَّر بأعمال الناموس، لقد أرادوا أن تكون المسيحية شيعة يهودية، أما بولس الرسول فقد قلب المعايير أو قل أنه عَدَلَ المعايير، إذ أوضح أن الخلاص بنعمة المسيح وليس بأعمال الناموس: “لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ“ (رو 8: 2)، فأصبح الإنسان المسيحي يعيش بناموس المسيح، ناموس روح الحياة، الناموس الذي يعلمنا أن ابن اللَّه الوحيد الجنس قد مات عنا ليهبنا بموته الحياة إلى الأبد: “وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ“ (2كو 5: 15)، فقد صرنا ملكًا للمسيح الذي حرَّرنا من عبودية الناموس، فإن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، إن عشنا أو متنا فللرب نحن: “الَّذِي مَاتَ لأَجْلِنَا حَتَّى إِذَا سَهِرْنَا أَوْ نِمْنَا نَحْيَا جَمِيعًا مَعَه” (1تس 5: 10) فقد دخلنا في مملكة المسيح فلم يعد لنا صلة بالناموس، بل صار الناموس ميتًا بالنسبة لنا، وعودتنا له ثانية بإرادتنا تشبه عودتنا للقبر.
ويقول “متى هنري“: “إن كان الرسول ميتًا بالناموس للناموس، إذ رأى أن التبرير ليس مأمولًا فيه بأعمال الناموس، وأنه لا حاجة له بعد إلى الذبائح، إذ أنها انتهت وأُلغيت بالمسيح، الذي قدَّم نفسه ذبيحة لأجلنا، ولكن مع كون الرسول ميتًا للناموس، فهو لم يعتبر نفسه بلا ناموس، حيث قد مات للناموس ليحيا للَّه.. فحين مات الرسول للناموس، أمكنه ذلك بأن يحيا حياته الجديدة للَّه وبشكل أفضل.
وإذ مات الرسول للناموس، كان حيًّا للَّه بيسوع المسيح (ع 20) فإن كان قد صُلِب، لكنه الآن حي، فالذي صُلِب هو الإنسان العتيق، وما يحيا فيه الآن هو الإنسان الجديد، وبهذا المعنى تكون الخطية مهزومة، كما تكون النعمة هي العاملة، إذ أنه يمتلك الآن تعزياتها وانتصاراتها. وهذه النعمة لم يكن هو مصدرها، بل قد أتت إليه من آخَر، فهو إذ قد صُلِب مع المسيح، فإن المسيح يحيا فيه، وبالمثل فكما أنه مات مع المسيح عن الخطية هكذا يحيا الآن مع المسيح، فيحيا للَّه بالتبعية. فما يحياه الآن في الجسد، إنما يحياه في الإيمان، حتى وإن بدا بحسب الظاهر أنه يحيا مثله كمثل أي إنسان آخَر، لكنه يمتلك إيمانه بالمسيح“(122).
“مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي” (غل 2: 20).
تعتبر هذه الآية آية مركزية وهامة للغاية في هذه الرسالة، كما تعتبر دافع قوي للإنسان ليحيا حياة القداسة والموت عن العالم، فنلتقي فيها بالموت والحياة معًا: ” فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ الْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ” (رو 6: 8)، وأيضًا مثل حجة قوية على كفاية عمل المسيح وفاعليته، وتكشف الآية عن مدى التغيير الذي حدث في حياة شاول الطرسوسي فبعد أن كان لا يطيق اسم يسوع الناصري ولا صليبه، صار هذا الصليب محور حياته وكرازته، وأن الإنسان ليتعجَّب: كيف صُلبت يا بولس مع المسيح بعد أن ملأت الدنيا صراخًا وضجيجًا ضد المصلوب وأتباعه.
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.. وفعل “صُلِبْتُ“ بالرغم من أنه جاء في صيغة الماضي إلاَّ أنه في الأصل اليوناني يفيد الاستمرارية، فبولس الرسول صُلِب وظل مصلوبًا طوال حياته على الأرض، ولذلك قال: “مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ“ (رو 8: 36).. ” الآنَ أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ المَسِيحِ فِي جِسْمِي” (كو 1: 24).. لقد مات المسيح ذات الموت الذي كان محكومًا به على الإنسان لكيما يهب الإنسان الحياة.. مات هو لكيما أحيا أنا، فلا يحق لي بعد أن مات لأجلي أن أعيش الحياة كما تحلو لي، ولا أستطيع أن أحيا الحياة المرضية للَّه بقدرتي وفكري وقوتي، بل بقوة المسيح الذي يحيا فيَّ.
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.. وقد يتساءل أحد: كيف يشارك الإنسان المسيح موته وقيامته؟.. والحقيقة أن السيد المسيح أعطانا عطاياه العظيمة في أبسط صورة ممكنة، فكما منحنا أن نأكل جسده ونشرب دمه في صورة الخبز وعصير الكرمة، هكذا وهبنا الموت والقيامة معه في صورة ماء المعمودية، فعندما يغطس الإنسان في جرن المعمودية فهو يموت ويُدفن مع المسيح، وعندما يخرج من جُرن المعمودية فهو يشارك المسيح في قيامته.
ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: إن هذه الكلمات تشير إلى المعمودية. بالشركة مع المسيح في صلبه وموته يموت الشخص عن إنسانه القديم ويتحرَّر من طاغية الماضي ومن (محبة) العالم ومن الأنا “ego” وبالشركة في قيامة المسيح يعيش الإنسان للَّه متحررًا من أجل ممارسة الحياة الملتزمة وقبول الطاعة بشكر.
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ.. الصيغة اليونانية (فعل تام) تشير إلى أن الحالة التي اكتسبها الإنسان يوم تبريره بالمعمودية لا تزال قائمة“(123).
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ.. إيماني بالمسيح المصلوب القائم يجعل موت المسيح موتًا لي وقيامته قيامة لي، فاتحاد المسيح بالإنسان يعطي الإنسان إحساسًا أنه صُلِب معه على المذبح الذي كُفِّر عليه عن خطيته، وأنه دُفِنَ معه في القبر الخاص بالإنسان، وأنه قام من موت العالم الحاضر الشرير إلى جدة الحياة.. بالمعمودية متنا ودُفنا معه وقمنا معه: “مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ” (كو 2: 12).. بالمعمودية متنا معه: “إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ الْعَالَمِ فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ“ (كو 2: 20)، وبالمعمودية قمنا معه: “فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ” (كو 3: 1).
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.. ويتساءل “القديس يوحنا ذهبي الفم“: كيف صُلِب بولس الرسول وهو ما زال حيًّا؟ فيقول: “ولئلا يسألونه: كيف أنت حي بعد؟ يجيب أن الناموس أماته ولكن المسيح أحياه، إذ بموته أبطل عز الموت، وهو يقصد هنا الحياة الأبدية، وإذ يقول “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ” يقصد المعمودية، “فَأَحْيَا لاَ أَنَا” يقصد طريقة حياته فيما بعد إذ قد أميتت أعضاؤه، “بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ” أي أنه صار العامل فيَّ، فكما أن المقصود موت الخطية، كذلك فالمقصود بالحياة الخلاص من الخطية، ونحن لا نستطيع أن نحيا للَّه ما لم نمت عن الخطية، كقول الرسول: “فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ الزِّنَا النَّجَاسَةَ الْهَوَى” (كو 3: 5)، و”إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ” (رو 6: 6)، وهذا ما حدث في جُرن المعمودية. لقد مات الرسول عن حياته الأولى فهو لا يلتزم بفرائض الناموس“(124).
فقول بولس الرسول “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ” يعتبر تعبير عن قوله السابق: ” مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للَّهِ ” (غل 2: 19).
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.. هذه العبارة تحمل معانٍ عميقة:
1 الاتحاد مع المسيح المصلوب القائم عبر مياه المعمودية المقدَّسة.
2 أن الآب ينظر إليَّ وكأنني صُلِبت مع المسيح وقُمت إلى جدة الحياة.
3- في حياتي اليومية عليَّ أن أصلب رغباتي الشريرة وشهواتي الرديئة: “الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ” (غل 5: 24).
4 في حياتي أرفض شهوات العالم وإغراءاته الباطلة العاطلة: ” وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غل 6: 14).
وجاء في “التفسير التطبيقي“: ” بأي معنى صُلِبت أنا مع المسيح؟ شرعيًا: ينظر اللَّه إليَّ كأنني مت مع المسيح، لأن خطاياي قد ماتت بموته، ولا دينونة الآن عليَّ (كو 2: 13 – 15). ومنطقيًا: لقد صرت واحدًا مع المسيح.. وقد بدأت حياتي المسيحية عندما متُّ، بالاتحاد مع المسيح، عن حياتي القديمة (رو 6: 5-11). وفي حياتي اليومية: عليَّ أن أُصلب على الدوام رغباتي الشريرة التي حاولت أن تمنعني عن إتباع المسيح، وهذا أيضًا نوع من الموت معه ( لو 9: 23، 25).
ومع ذلك فإن المحور الرئيسي للمسيحية، ليس هو الموت بل الحياة، فلأنني قد صُلبت مع المسيح، فإنني قد أُقمت معه (رو 6: 5). شرعيًا: قد صولحت مع الَّله (2كو 5: 19) وأصبحت حرًّا لكي أنمو في شبه صورة المسيح (رو 8: 25) وفي حياتي اليومية: وأنا في صراع مستمر مع الخطية، فإن قوة قيامة المسيح متاحة لي (أف 1: 19، 20)، فالمسيح يسوع يحيا فيَّ، وهذا هو سر حياتي، وأيضًا رجائي في المستقبل (كو 1: 27)“(125).
فَأَحْيَا لاَ أَنَا.. كلمة ” أَنَا ” كثيرًا ما تُعبر عن الأنانية، وإذا سقط الإنسان في بئر الأنانية فإن نعمة اللَّه تتخلى عنه، فهكذا كان لسان المتهوّدين، كل منهم يقول ” أَنَا” معتمدًا على ختانه وحفظه مطالب الناموس، وواحد منهم لم يخلص لأن أعمال الناموس لا تبرر الإنسان، وسقط الشيطان في الأنا: “وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ أَصْعَدُ إِلَى السَّموَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللَّهِ. وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ ” (إش 14: 13، 14) ففقد رتبته وطُرد من السماء، ونبوخذنصر سقط في الأنانية قائلًا: “أَلَيْسَتْ هذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ الْمُلْكِ بِقُوَّةِ اقْتِدَارِي وَلِجَلاَلِ مَجْدِي” (دا 4: 30) فطُرد من بين الناس وعاش كحيوانات البر.
بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.. فيصبح المسيح ينبوع أفكاري وأقوالي وسلوكي وتصرفاتي، وحياتي هي فيض من حياة المسيح غير المائتة، وإيماني به يهبني الحياة الدائمة كقوله الصادق الأمين: “أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا. وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ” (يو 11: 25، 26).. المسيح المصلوب يُحيي كل من صُلِب معه.
بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.. المحور الرئيسي في المسيحية الحياة وليس الموت، وموت المسيح كان بهدف الحياة لكيما نقوم معه، فالموت ليس الهدف بل القيامة، بموته تصالحنا مع اللَّه: “أَيْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ“ (2كو 5: 19)، وبقيامته أحيانا من الموت الأبدي وأقامنا معه: “وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ.. وَأَقَامَنَا مَعَهُ وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ“ (أف 2: 5، 6).
فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ.. في هذه العبارة انتقل بولس الرسول من الجانب السلبي الخاص بالموت عن الناموس في الآية السابقة: “لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ “ إلى الجانب الإيجابي الخاص بالحياة في الإيمان، فكما كان الناموس في الماضي يملأ حياته وكل كيانه وكل فكره، فالآن في الحاضر الإيمان بالمسيح يملأ كل حياته ويملُك على فكره، حتى صار كل نَفَس يتنفسه يتغنّى فيه بحب المصلوب، وصار المصلوب هو المعنى الوحيد لحياته، وهكذا يضع الرسول خلال الآيتين (19، 20) مقابلة عجيبة بين حياته قبل إيمانه وحياته بعد إيمانه، ويقول أن ما تبقّى لي من أيام في الجسد بعد إيماني ينبغي أن أعيشه لمجد المسيح.. الأيام الباقية في عمري في الإيمان الحاضر وأنا ما زلت لابسًا الجسد ينبغي أن أحمل سمات الرب يسوع: ” فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ” (غل 6: 17).
فَأَحْيَا لاَ أَنَا.. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ.. يقول “الأب متى المسكين“: “هنا ق. بولس يعبر عن “أنا” مرتين، مرَّة بالنفي ومرَّة بالإيجاب.
“أَنَا” الأولى: ماتت بموت المسيح، وهي أنا الإنسان العتيق.. وهذا تم بالإيمان بموت المسيح الكفاري.
“أَنَا” الثانية: هي أنا المسيح الذي قام من موت خطيتي وأنشأ لي إنسانًا جديدًا هو مركزه..
لذلك يقول “فَمَا أَحْيَاهُ (أنا) الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ” وواضح أن قوتين تعملان للموت والقيامة اللتين يتحتم أن نجوزهما لننتقل من الموت للقيامة للحياة بين لا أنا المائتة المنفية وأنا القائمة الحية:
القوة الأولى: الإيمان، والقوة الثانية: الحب.
الإيمان وحده يبلغ بالجسد العتيق الموت، والحُب وحده يتجاهل موت الجسد العتيق ويخلق الجديد، وبالأثنين أموت وأقوم معه. لذلك يقولها ق. بولس واضحة متلازمة: “إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ الَّذِي أَحَبَّنِي“. وأنا أستمد إيماني من إيمان ابن اللَّه وحبي من حُب ابن اللَّه.. أنه درس التأمل للعمر كله“(126).
فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ.. فمع أنني أحيا في الجسد، وبالجسد أتحرك وأظهر للعيان، لكن في حياتي الخفية حياة الإيمان التي أعيش بموجبها أسلك بالإيمان: ” لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ” (2كو 5: 7)، فحياة الإيمان الخفية والمستترة عن الأعين تظهر في السلوك والاهتمام بالسماويَّات: “اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ. لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللَّهِ“ (كو 3: 2، 3).
فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ.. ابن اللَّه الذي مات عني، ومن أجله أموت كل يوم وطوال كل يوم: “مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ” (رو 8: 36).. ابن اللَّه مات عني، فهل أعيش أنا لأجله؟: ” وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ” (2كو 5: 15).. ابن اللَّه مات عني، فهل أعيش بحسب إرادته؟: “فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ. لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضًا الزَّمَانَ الْبَاقِيَ فِي الْجَسَدِ لِشَهَوَاتِ النَّاسِ بَلْ لإِرَادَةِ اللَّهِ“ (1بط 4: 1، 2) ومن يريد أن يعيش بحسب إرادة اللَّه ينبغي أن يبتعد عن الرياء والمحاباة، بل يكون له إيمان ربنا يسوع المسيح كقول معلمنا يعقوب: “يَا إِخْوَتِي لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّ الْمَجْدِ فِي الْمُحَابَاةِ“ (يع 2: 1)، تلك الخطية التي سقط فيها معلمنا بطرس ومن تبعوه.
الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي.. أحب المسيح الكنيسة: ” كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا لِكَيْ يُقَدِّسَهَا” (أف 5: 25، 26)، وأحب المسيح خاصته: “إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى“ (يو 13: 1)، وأحبني المسيح محبة خاصة، حتى أنه لو لم يكن هناك إنسان آخَر في العالم غيري لتجسَّد من أجلي وفداني، هذا الشعور هو شعور عميق عاشه بولس الرسول بكل جوارحه وعواطفه، فصرخ من أعماق أعماق قلبه قائلًا: “الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي“.. لقد عاش بولس الرسول هذه المحبة الإلهيَّة الفيّاضة حتى عبَّر عنها قائلًا: ” لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا” (2كو 5: 14).
الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي.. أحبني وأسلم نفسه للموت لينقذني كما قال من قبل: “يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ حَسَبَ إِرَادَةِ اللَّهِ وَأَبِينَا“ (غل 1: 3، 4)، وأوصى بولس أولاده في أفسس أن يتشبثوا بمحبة المسيح الذي أسلم نفسه قربانًا وذبيحة حيَّة لأجل خلاصنا: ” وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً” (أف 5: 2)، فقد بذل السيد المسيح ذاته لكيما ينتزعنا من أنياب الموت: “الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَال حَسَنَةٍ” (تي 2: 14).
الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي.. يقول “الأب متى المسكين“: “ولكن في نهاية الأصحاح الثاني لا نستطيع أن نعبره لما بعده وضياء الآية: “أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي” قد خطف أبصارنا، هذا أول تعبير لإنسان يحتوي حب المسيح كله.. من أنت يا بولس حتى تنسب لنفسك كل حب المسيح الذي سكبه على عالم الإنسان في ماضيه وحاضره ومستقبله!! “أَحَبَّنِي“!
وكيف رأيت أن المسيح أوقف حبه لك وبمفردك؟
الحقيقة أيها القارئ العزيز أن البشرية غارت كلها من ق. بولس، وتقمَّص كل إنسان في المسيح مقولة ق. بولس هذه وبنفس الشموخ، فصارت وكأن المسيح قد أوقف كل حبه لكل إنسان على حدة وبمفرده، وفي ملء حبه هذا اقتحم كل أهوال الموت لينقذنا واحدًا فواحدًا. فلا حبه نقص ولا خطايا كل الخطاة استنفذت أعماق هذا الحب العجيب“(127).
“لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللَّهِ. لأَنَّهُ إِنْ كانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ” (غل 2: 21).
بهذه الآية يأتي ختام حديث بولس الرسول، وبعد أن صعد بولس الرسول إلى قمة جبل الجلجثة حيث قمة الحب الإلهي، وبعد أن عاش أعماق الصليب، وبعد أن التهبت عاطفته وأحشاءه بحب المصلوب، عاد يطرح قضية التبرير في ضوء العقل، وطرح سؤالًا مؤدّاه: لو كان الناموس قادرًا على تبرير الإنسان فلماذا مات المسيح إذًا؟!.. ما هي فائدة موته؟!.. هل يصنع اللَّه عملًا عظيمًا كهذا في تجسده وموته بلا داعٍ لذلك؟!
لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللَّهِ.. قول بولس الرسول “لَسْتُ أُبْطِلُ“ أي لا ألغي ولا أرفض نعمة اللَّه، لا ألغي نعمة اللَّه لا بأقوالي ولا بأفعالي، لا في حياتي الخاصة ولا في كرازتي للآخَرين، فقد اختبرتُ نعمة اللَّه بنفسي عندما افتقدني وأنا على مشارف أبواب دمشق، ولولا نعمة اللَّه التي زارتني وافتقدني لضعتُ في تعصبي ولضللتُ وتهتُ في فريسيتي وتزمُّتي: “أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلًا مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا. وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدًّا مَعَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (1تي 1: 13، 14).. لقد أراد المتهوّدون خلط النعمة بالناموس، وهذا بالطبع أمر مستحيل، لأن التمسُّك بالناموس من ختان وحفظ السبوت وغيرهما يعني تنحية النعمة جانبًا، كما أن العودة للناموس يبطل نعمة اللَّه، الهبة الإلهيَّة المجانية للخاطئ، ولا يمكن للنعمة والناموس أن يسيران معًا جنبًا لجنب، لأن حفظ الناموس مبني على الاجتهاد البشري، أما نعمة اللَّه فهي الهبة الإلهيَّة المجانية التي يتقبّلها الإنسان غير المستحق لها، فتنمو هذه النعمة وتثمر في حياته: “وَبِهذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى” (أع 13: 39).. ” وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللَّهِ بِالإِيمَانِ” (في 3: 9)، وكأن بولس الرسول يقول أنني خُيّرت بين الناموس والنعمة، وعندما كنت أعمى البصيرة اخترت الناموس، وكان ما كان. ولكن عندما صرتُ أُبصِر جيدًا اخترت النعمة بلا تردُّد، حتى عندما نحى بطرس الرسول إلى ناحية الناموس قاومته مواجهة لأنه كان ملومًا، ونشكر اللَّه من أجل إنقاذ بطرس المتضع ومن تبعه، بل أنقذ الكنيسة كلها من الانزلاق في هوة عميقة، إذ كان هناك احتمالان كل منهما أسوأ من الآخر، الاحتمال الأول أن تصبح المسيحية فرعًا وشيعة من الشيع اليهودية، وتدور في فلك اليهودية ولا نجاة، والاحتمال الثاني أن تنقسم الكنيسة إلى بولس وبطرس، إلى أمم ويهود، إلى إنجيل الختان وإنجيل الغرلة.
لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ.. ما زال بولس الرسول يطرح مشكلة التبرير وكيفية الحصول عليه، ويؤكد بولس الرسول على أن الإنسان ليس له أي طريق آخَر للتبرير سوى الإيمان بيسوع المسيح وليس بالناموس.. ادَّعى الكتبة والفريسيون أنهم أبرارًا بأعمال الناموس، واحتقروا الآخرين مدَّعين أنهم خطاة، فإذ بالسيد المسيح يرد عليهم بقوة من خلال مَثَل الفريسي والعشار.. كل من يريد أن يتبرَّر بأعمال الناموس فأنه:
(1) يبطل نعمة اللَّه التي شاءت وسعت إلى خلاصه وتبريره.
(2) يجعل موت المسيح بلا سبب.
لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ.. من الأمور القاطعة أن الإنسان يستحيل عليه أن يتبرر بأعمال الناموس، إنما يتبرر الإنسان بالإيمان بنعمة المسيح: ” فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً” (رو 11: 6)، فأعمال الناموس عجزت تمامًا عن تبرير أي إنسان، لأنه لم يستطع إنسان ما أن ينفّذ كل مطالب الناموس: “لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ“ (غل 3: 21)، والذين يصرُّون على التمسُّك بأعمال الناموس فهم في الحقيقة يتمرّدون على المسيح ويسقطون من نعمته: “قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ“ (غل 5: 4)، ويشرح بولس الرسول عجز الكهنوت اللاوي الذي جاء به الناموس: “فَلَوْ كَانَ بِالْكَهَنُوتِ الّلاَوِيِّ كَمَالٌ. إِذِ الشَّعْبُ أَخَذَ النَّامُوسَ عَلَيْهِ. مَاذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بَعْدُ إِلَى أَنْ يَقُومَ كَاهِنٌ آخَرُ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ وَلاَ يُقَالُ عَلَى رُتْبَةِ هَارُونَ” (عب 7: 11).
لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ.. إن كان الختان وحفظ مطالب الناموس يمنح الإنسان الخلاص والنجاة والتبرير إذًا لماذا مات المسيح؟!.. وما دام الإنسان قادر على تبرير نفسه بحفظ الناموس، فما الداعي للتجسد والفداء؟!.. ألم يمت المسيح لأن موته كان هو الطريق الوحيد لتبريرنا؟! فهناك علاقة وثيقة بين موت المسيح وتبرير الخاطئ، وجميعنا خطاة، فلولا أن المسيح مات ووفى الدين عنا لكنا تحت الخطية واللعنة والدينونة، لكننا نلنا البر والخلاص بدم الحمل المسفوك على عود الصليب. إذًا موت المسيح بالصليب دليل قوي وقاطع وحاسم على فشل الناموس في تبرير الإنسان، فإن أعمال اللَّه جميعها بحكمة صنعت، ولم يكن عمل الفداء عملًا طائشًا بلا هدف، إنما كان ضرورة من أجل إنقاذ البشرية.
تفسير غلاطية 1 | تفسير رسالة غلاطية |
تفسير غلاطية 3 | |
أ/ حلمي القمص يعقوب | |||
تفاسير رسالة غلاطية | تفاسير العهد الجديد |