تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ١١ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح الحادي عشر

 

“كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح” ( ع 1 )

هذا قانون الديانة المسيحية الكامل ، هذه هي الغاية السامية أي ابتغاء ما يوافق المشاع، الأمر الذي عناه بولس الرسول فقال “كما أنا أيضا بالمسيح” لأنه لا يستطيع أحد أن يقتدي بالسيد المسيح هكذا كالذي يعتني بأمر القريب.

فإن صمت وإن تواضعت ولم تهتم بأمر القريب فأنت لم تفعل شيئاً عظيماً ، لكنك تقف بعيدة عن هذه الصورة . 

“فأمدحكم أيها الإخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم “( ع ۲ ) .

إذ قال بولس الرسول ” فأمدحكم أيها الإخوة ” لأن هكذا كانت طبيعته أن يظهر مديحاً عظيماً على الصغيرات فاعلاً ذلك ليس تملقاً ، حاشا ، لأنه كيف يفعل ذلك من لا يشتاق أموالاً أو مجداً أو شيئاً آخر من أمثال هذه ، لكنه يفعل كل شيء لأجل خلاص مخدومیه.

وقول بولس الرسول “وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم” إذ أنه كان قد سلم لهم تسليمات كثيرة غير مكتوبة ، الأمر الذي أوضحه في مواضع عديدة دفعات كثيرة.

“ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح . وأما رأس المرأة فهو الرجل ورأس المسيح هو الله ، ( ع ۳ ) .

معنی قول بولس الرسول “أن رأس كل رجل هو المسيح ” إننا نحن جسد المسيح وأعضاؤه ، والمسيح هو رأسنا ، فالذين لا يوجدون في الجسد ولم يصيروا أعضاءه فلا يكون المسيح رأسهم .

 وقول بولس الرسول ” رأس المرأة فهو الرجل ورأس المسيح هو الله” إذ في هذه الآية قد ينهض الهراطقة علينا واجدين في الابن حطة ، لكنهم يسقطون من ذاتهم ؛ لأنه إن كان الرجل هو رأس المرأة والرأس مساو للجسد في الجوهر ورأس المسيح هو الله ، فالابن هو مساو للآب في الجوهر .

“كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء يشين رأسه . وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه . إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها وإن كان قبيحا بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغط » ( ع 4 – 6 ).

يلاحظ الآتي :
1 – لا يستلزم على الرجل أن يكشف رأسه دائماً بل عندما يصلي فقط
2 – يجب على المرأة أن تغطى رأسها ليس في وقت الصلاة فقط بل على الدوام .
3 – المرأة التي لم تستر رأسها فلتقص شعرها .
4 – أنه أمر مستقبح أن تحلق المرأة رأسها دائماً. 
5- أن عدم غطاء رأس المرأة دائماً يكون عاراً. 

“فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده وأما المرأة فهى مجد الرجل ” ( ع ۷ ) . 

لا يجب على الرجل أن يغطي رأسه ، لأن السيد المسيح رأسه ولأن الرئيس ينبغي له أن يتقدم نحو الملك حاوياً إشارة رئاسته ، هكذا أنت أيضاً لا تصلى لله بدون إشارات الرئاسة التي هي ألا تغطي رأسك لكي لا تهين ذاتك والذي أعطاك الكرامة وهذا الأمر لا يمكن لأحد أن يقوله في المرأة.

“لأن الرجل ليس من المرأة بل المرأة من الرجل” ( ع۸ ) .

 أي أن الذي وجوده من أحد يكون مجد من كان منه.

“ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة بل المرأة من أجل الرجل” ( ع۹).

وهذا أيضا سمو، حيث ، .
1- أن المسيح رأسنا .
2 – الرجل رأس المرأة .
3 – أننا مجد الله
4 – أننا لسنا من المرأة بل المرأة منا .
5- أننا لم نخلق لأجل المرأة بل المرأة لأجلنا

“لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها من أجل الملائكة” ( ع ۱۰ ) .

أيتها المرأة إن كنت تحتقرين الرجل احتشمی أمام الملائكة إذ أن غطاء الرأس هو خضوع ، لأن فضيلة الخاضع وكرامته أن يطيع ، لأن الرجل لا يلتزم أن يفعل مثل هذا أما المرأة فتفعل ذلك واجباً.

“غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب” . ( ع۱۱ )

من حيث إن بولس الرسول أعطى للرجل علواً إذ قال “لأن الرجل لم يخلق من المرأة بل المرأة من أجل الرجل ” ( ع ۹ ) ولكي لا يرفع الرجال أكثر من الواجب ولا يزل النساء ، انظر كيف أنه أصلح القضية فقال “غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل”.

ولأن كل من الرجل والمرأة علة الآخر ، سيما أن ولا الواحد علة الآخر ، بل الله هو علة الكل ، ولذلك قال بولس الرسول في الرب.

” لأنه كما أن المرأة هي من الرجل هكذا الرجل أيضا هو بالمرأة ولكن جميع الأشياء هي من الله » ( ع ۱۲ ) .

أي أن هذه الأعمال ليست للرجل بل لله . 

“احكموا في أنفسكم هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة “. ( ع۱۳).

لاحظ هنا أن بولس الرسول أقامهم قضاة ، لأنه يقول « احكموا في أنفسكم » مشيراً هنا إلى أمر مرهوب.

ولم يقل بولس الرسول إن الإهانة من هنا تنسب إلى الله بل إنه بدعة أكثر قال “هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة”.

“أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم أن الرجل إن كان يرخی شعره فهو عيب له . وأما المرأة إن كانت تُرخی شعرها فهو مجد لها لأن الشعر قد أُعطى لها عوض برقع” ( ع 14 ، 15 ) .

هذا ما يفعله بولس الرسول دائما إذ يلتجئ إلى العادات العامة فيضع قياسات عامة مخجلاً وجه أولئك المنتظرين أن يتعلموا ذلك منه ، حيث من العادات الدارجة كان يمكنهم معرفته ، لأن هذه الأمور لا يجهلها ولا البربر.

فالرجل إذا أطال شعره فذلك هوان له ، وأما المرأة فإن طولت شعرها فذلك شرف لها ، لأنها اعطيت الشعر عوض الرداء .

« ولكن إن كان أحد يظهر أنه يحب الخصام فليس لنا نحن عادة مثل هذه ولا لكنائس الله » ( ع 16 ) .

يوضح بولس الرسول هنا أنهم لا يفعلون هذا الخصام ولم يقف عند هذا الحد لكنه قال « ولا لكنائس الله » 

“ولكنني إذ أوصى بهذا لست أمدح كونكم تجتمعون ليس للأفضل بل للأردأ ” ( ع ۱۷).

معنی قول بولس الرسول هذا أنهم لا يتقدمون إلى الفضيلة.

“لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة أسمع أن بينكم انشقاقات وأصدق بعض التصديق ” ( ۱۸) .

لم يقل بولس الرسول إني أسمع أنكم لا تأكلون معاً على مائدة عامة أو أسمع أنكم تأكلون كل على حدة وليس مع الفقراء وإنما قال ما كان كافياً لأن يزعزع أفكارهم فوضع اسم الانشقاق الأمر الذي هو السبب في ذلك.

ولم يقل إنني أصدق ذلك لكي لا يتمادوا بالأكثر ولم يقل أيضا لا أصدقه لكي لا يظهر مبكتاً بلا فائدة ، وإنما قال “أصدق بعض التصديق” أي يصدق شيئاً قليلاً ليجعلهم في جهاد مستدعياً إياهم العودة إلى الإصلاح.

“لأنه لا بد أن يكون بينكم بدع أيضا ليكون المزكون ظاهرين بينكم ، ( ع ۱۹ ) .

المقصود بالبدع هنا ليس في التعليم بل التي في الاختلافات ، وإن كان بولس الرسول أطلق على هذه الأمور بدعة فلا تتعجب من ذلك لأنه أراد أن يلذعهم باللفظ ، لأنه لو كانت البدع في التعاليم لم يكن يخاطبهم هكذا بدعة.

ومعنى قول بولس الرسول ” ليكون المزكون ظاهرین بینکم” أي أن غیر المتزعزعين والثابتين لا يضرهم هذا الأمر فحسب بل بالحرى يوضحهم ويظهرهم بزيادة أكثر

” فحين تجتمعون معاً ليس هو الأكل عشاء الرب”( ع ۲۰ )

لم يقل بولس الرسول إنكم حين تجتمعون لا تأكلون على مائدة واحدة ولا تأكلون بعضكم مع بعض لكنه لذعهم على وجه آخر مخوف كثيراً إذ قال”ليس هو الأكل عشاء الرب ” راسلاً إياهم من هنا إلى تلك العشية التي فيها سلم السيد المسيح الأسرار لأن في ذلك العشاء يحضر الكل إلى مائدة واحدة.

“لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل فالواحد يجوع والآخر يسكر” ( ع ۲۱ ) 

 قول بولس الرسول “الواحد يجوع والآخر يسكر” إذ أن هذين الأمرين كانا فوق الحد والفاقة والإفراط وتوجد زلتان أخريان أولا : لأنهم أهانوا عشاءهم ، ثانيا لأنهم ينهمون ويسكرون والأشر من ذلك أنهم يفعلون ذلك والفقراء جياع ، لأن السكر بدون التغافل عن الفقير هو زلة ، والتغافل عن الفقير بدون السكر هو لائمة ، فإذا اجتمع الأمران تفطن في كم تكون مخالفة الشريعة.

“أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا أم تستهينون بكنيسة الله وتخجلون الذين ليس لهم ماذا أقول لكم أأمدحكم على هذا لست أمدحكم ” ( ع ۲۲ ) .

لم يقل بولس الرسول تجوعون الذين لهم بل بتخجيل قال “وتخجلون الذين ليس لهم” وأوضح أن الأمر ليس في أمر البطن كما هو موجع في الازدراء بهم واهانتهم.

“لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضا أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً. وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكرى” ( ع 23، 24)

كيف يقول بولس الرسول إنه تسلم من الرب ، لأنه لم يكن حاضراً وقتئذ بل كان من المضطهدين ؟ ! ذلك لتعرف أن تلك المائدة لم يكن فيها شيء زائد عن التي فيما بعد ، لأنه هو الفاعل اليوم والمسلم ، إذ أننا نتذكر على الخصوص تلك الأقوال الأخيرة التي نسمعها من الراحلين عنا ونقول نحن ورثتهم .

“كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمی اصنعوا هذا كلما شربتم لذكرى » ( ع ۲۰ ) .

معنی قول بولس الرسول « هذه الكأس هي العهد الجديد بدمی » و لأن في العهد القديم كان كأس المحرقات ودم الحيوانات ، لأنهم كانوا بعد أن يذبحوا إذ يجمعون الدم في كأس وفي جام ، وهكذا كانوا يحرقونه ، فمن حيث إنه عوض دم الحيوانات قدم دمه، فلکی لا يتضايق أحد إذا سمع بهذا ، ذكر تلك الذبيحة القديمة ثم إذ قال عن ذلك العشاء ضم الحاضرات التي صارت وقتئذ لکی کما في تلك العشية نفسها وهم متكئون على تلك الفراش عينها ومن السيد المسيح نفسه تناولنا هذه الذبيحة هكذا .

“فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء ” ( ع 26) .

أي أن كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تخبرون بموت الرب لأن هذا العشاء هو ذاك ، ثم أوضح بولس الرسول أن هذا العشاء يدوم إلى انقضاء الدهر.

“إذا أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون أستحقاق يكون مجرماً في جسد الرب ودمه ” ( ع ۲۷ ) .

كيف لا يتناول بغیر استحقاق من يتغافل عن الفقير الذي يخجل بازدرائه ، فإن کان عدم العطية للفقير تخرج من الملكوت ولو كان بتولا ، لأن أولئك العذارى كان معهن زيتا إلا أنه لم يكن بكثرة .

هل ذقت الدم السيدی ولا تعرف أخاك ؟ فأي مسامحة تستحق ؟ ! ومع ذلك إن كنت جهلته من قبل فيجب أن تعرفه من المائدة.

“ولكن ليمتحن الانسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس” ( ع ۲۸).

معنی “ليمتحن الإنسان نفسه” أي أن بولس الرسول لم يأمر أحدة أن يختبر أي إنسان بل على الإنسان أن يختبر ذاته جاعلا المحكمة غير مكشوفة والدعوة بغير شهود .

“لأن الذي يأكل ويشرب بدون أستحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب ” ( ع ۲۹ ).

ماذا تقول يا بولس ، المائدة التي هي سبب خیرات هذا مقدارها وتفيض الحياة تصير دينونة ؟ ! إنه ليس من ذات طبعها بل نية المتقدم إليها ، لأنه كما أن حضور السيد المسيح الذي قدم لنا تلك الخيرات العظيمة التي لا يُلفظ بها هو بالحرى دينونة للذين لم يقبلوه ، وهكذا الأسرار تصير زاداً عظيمة لهلاك الذين لا يتناولونها باستحقاق .

“من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون . لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا » ( ع ۳۱،۳۰ )

لأن من يلوم ذاته يستعطف الله على وجهين : بملامة الخطايا والتكاسل عنها . 

“ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا نُدان مع العالم ، ( ع ۳۲).

لم يقل بولس الرسول نعذب أو تعاقب بل قال نؤدب ، لأن قوله هذا هو بالحرى نصيحة.

“إذا يا إخوتي حين تجتمعون للأكل انتظروا بعضكم بعضا » ( ع ۳۳ ) .

لم يقل إذا إجتمعتم أعطوا المحتاجين إنما قال ما كان باحتشام أي “انتظروا بعضكم بعضا “

” إن كان أحد يجوع فليأكل في البيت كي لا تجتمعوا للدينونة وأما الأمور الباقية فعندما أجي أرتبها” ( ع 34 ) .

خاطبهم بولس الرسول هنا كصبيان لا يصبرون ، وكبهائم تخدم البطن ، لأنه كان أمر يوجب الضحك إذ أشار إليهم إن جاعوا فليأكلوا في البيت ، هذا ولم يكتف بهذا لكنه أورد قولاً آخر مخوفاً أكثر فقال “کی لا تجتمعوا للدينونة” أي لكي لا تجتمعوا للعقاب بازدرائكم للكنيسة والمقصود من قوله “وأما الأمور الباقية فعندما أجي أرتبها” أي إن كان في شأن أمور أخرى أو عن هذه القضية نفسها إذ كان يحق لهم أن يقولوا أسباب أخرى وما كان يمكن إصلاحها بالرسائل فإن كان عندهم شيء آخر يذكرونه فذاك عليهم أن يبقوه إلى حضوره .

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 10 تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 12
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى