تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 11 للأب متى المسكين
تاسعاً: اليهودية بيت عنيا
(11: 1- 53)
الأصحاح الحادي عشر
استعلان قوة المسيح المحيية والمقيمة من الموت
«أنا هو القيامة والحياة»
آية إقامة لعازر من الموت
[أقمت الموتى من القبور, أقمت الطبيعة بالكلمة] (القداس الغريغوري القبطى).
مقدمة عامة:
إقامة لعازر من الموت آية اختص بها إنجيل القديس يوحنا بمفرده دون بقية الأناجيل الأخرى. ولكن الأناجيل الثلاثة تقدم ما يمكن اعتباره المقومات الأساسية للتركيب الإعجازي والتاريخي لهذه الآية, فإنجيل القديس مرقس في الأصحاح الخامس (43:21) يقدم الموازي الإعجازي وهو إقامة ابنة يايرس من الموت. وانجيل القديس لوقا في الأصحاح السابع (17:11) يقدم المثيل الإعجازي أيضاً وهو إقامة ابن أرملة نايين.
وامتناع إنجيل القديس يوحنا عن ذكر هاتين الآيتين إنما ينبع من التقليد الذي يقوم على أساسه تدوين الإنجيل الرابع بجملته، وبعد ما يقرب من نصف قرن من تدوين أسفار العهد الجديد بأناجيله الثلاثة ورسائله, وهو تقديم آيات أخرى جديدة مختارة بنوع خاص، تكون على نفس المستوى الإعجازي العالي، ولكن ذات اعتبار هام من جهة تدعيم الإيمان, وليس لمجرد السرد التاريخى لتغطية سني حياة المسيح في الخدمة. وهذا واضح غآية الوضوح من المنهج العام الذي اختطسه القديس يوحنا في كتابة إنجيله ودونه بنفسه في ختام الإنجيل: «وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم، إذا آمنتم، حياة باسمه» (يو30:20-31)؛ مما يؤكد لنا أن الأناجيل الثلاثة, بل والأربعة لم تستوف السرد الكامل لجميع الآيات التي صنعها الرب الأمر الذي لم يفت على إنجيل القديس يوحنا أن يسجله أيضاً: «وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كُتبت واحدة فواحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين.» (يو25:21)
كذلك لو لاحظنا الخط الفكري لإنجيل يوحنا في تدوينه للآيات الأخرى، نجده ينتقي الآيات ذات العناصر الخارقة لحدود الطبيعة والعقل لتخدم الغرض الأساسي من جهة الإيمان, مثل شفاء مريض بيت حسدا المشلول لثماني وثلاثين سنة (يو5:5)، وشفاء المولود أعمى من بطن أمه (يو9)، وفي الآية التي نحن بصددها إقامة لعازر من الموت, وأي موت؟ بعد أربعة أيام في القبر, وهذا هو العنصر الأساسي في الآية. وهكذا نرى أن آية إقامة لعازر من الموت تأتي في إنجيل القديس يوحنا، وفي منهج كاتبه، متوافقة تماماً مع مستوى الآيات الاخرى فيه.
القصد الأساسى من آية إقامة لعازر من الموت: ينبغي أن نستبعد من إنجيل يوحنا ومن منهج كاتبه فكرة أنه يعرض لنا المسيح كصانح معجزات على أعلى مستوى؛ هذا خطأ. ولكنه، ومنذ مطلع إنجيله يود أن يعرض لنا, وخاصة في هذه الآية, أن المسيح عنده الحياة الآبدية، وأن القيامة من الموت في حوزته وتحت سلطانه. ولكي يلفت نظر إيماننا أنه حقاً صاحب سلطان على الموت في أعنف سطوته، ترك لعازر لأربعة أيام في القبر حتى استبد الموت بجسده، ومزق أوصال لحمه، وجمد دهه، وأنتن. وهنا صورة مصغرة ولكنها ذات ملامح متكاملة لقيامة الأجساد في اليوم الأخير. إذن، فبإقامة لعازر من الموت هكذا بعد أربعة أيام في القبر, يحضرنا المسيح ويوقفنا أمام القيامة في اليوم الأخير: وعلى الوجه الأصح، يحضرنا ويوقفنا أمامه باعتبار أنه هو هو القيامة وهو هو الحياة؛ الأمر الذي التبس على مرثا وصححه لها المسيح: «قالت له مرثا: أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير، قال لها يسوع أنا هو القيامة والحياة» (يو24:11-25). هنا يظهر القصد الرئيسي من آية إقامة لعازر من الموت. فالقيامة والحياة هما في المسيح، وعلينا أن نواجههما الآن وليس في اليوم الأخير، ولا حتى في يوم مماتنا، بل الآن لأن الآن هو في حوزتنا أما اليوم الأخير ويوم مماتنا فليسا في حوزتنا. و«الآن» في إنجيل القديس يوحنا يعي «الآن»، والانتقال من الموت ونتن الموت إلى ملء الحياة هو أيضآ «الآن»: «الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5). ولكي يؤكد بل يزيد صحة مفهوم «الآن» يضيف المسيح مباشرة: «الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الأن حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون (التائبون) يحيون.» (25:5)
والمسيح يطبق قوله من جهة سماع صوته «الآن» في القلب وقبول العفو من الدينونة، بالتوبة والاعتراف والحصول على الانتقال من الموت الآبدي بالخطية إلى الحياة الآبدية, يطبقه على ما سيحدث تماما فى اليوم الاخير, إذ عاد وقال نفس الكلمات، مح حذف كلمة «الآن»: «لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة (وهي ليست الآن) فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو28:5-29) هنا ينطبق سماعلا الخطاة صوت ابن الله الآن, على سماع الأموات صوته فى اليوم الاخير من جهة القيامة من الموت تمام الإنطباق, مما يؤكده حتماً وبالضرورة، أن القيامة والحياة الآبدية يعملان فينا منذ الآن كاليوم الأخير تماماً. وهذا أيضاً هو نفس جوهر تعليم المسيح من جهة أكل الجسد وشرب الدم, الذي يأتي بالتساوي في مقابل سماع صوت ابن الله الآن بالتوبة، وقبول الانتقال من الموت إلى الحياة، وفي اليوم الأخير, استجابة لنداء الدينونة الأخيرة للقيامة العامة: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية, وأنا أقيمه في اليوم الأخير.» (يو54:6)
هذا المفهوم الإيماني هو جوهر القضية في آية إقامة لعازرعن الموت. ولكن المسيح امتد بهذا الإيمان، ليزيده توضيحا من وضع لعازر هكذا: «قال لها يسوع: أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي، ولو مات، فسيحيا» (يو25:11). ثم بعد ذلك قال: «لعازر قم»، فقام. والقصد هنا إعطاء النموذج التطبيقي لقدرة المسيح على الإقامة من الموت الجسدي، ليوضح نفس مستوى قدرته على الإقامة من موت الخطية, لكي يبرهن المسيح على أن قوة القيامة والحياة فيه هي واحدة بالنسبة للخطاة، ببرهان إقامة لعازر من الموت بعد أن أنتن. هذا من جهة قدرة المسيح، أما من جهة المسيح ذاته فواضح أنه وهو أمام قبر لعازر يبكي، ثم وهو يأمر الميت المنتن في القبر لأربعة أيام, ليقوم ويهبه الحياة، يكون قد حقق في شخصه ما هو للانسان وما هو لله بآن واحد, دون أي قصور أو نشاز! وأنه حقاً «لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً» (يو18:10) فيما لفسه، وأنه هو ديان الأحياء والأموات.
العناصر التاريخية في الأناجيل الأخرى عن إقامة لعازر من الموت: لقد رأينا أنه، وإن كان إنجيل القديس يوحنا قد انفرد بهذه الآية، إلا أنها ليست غريبة عن مثيلاتها في الأناجيل الأخرى. والآن إذا دققنا وجدنا أن عناصر قصة هذه الآية بعينها قد وردت في الأناجيل الأخرى هكذا:
أ _ مثل الرجل الغني و«لعازر» في إنجيل لوقا (19:16-31), ليس التشابه هنا مجرد ورود اسم «لعازر» الذي مات وانتقل إلى حضن إبراهيم، بل الكيفية التي انتهى بها المثل عندما طلب الغني الذي مات من إبراهيم أن يرسل لعازر, أي يقيمه من الموت ويرسله إلى بيت أبيه, ليشهد لهم بالقيامة والدينونة, فقال له إبراهيم: «إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء, ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون.» (لو31:16)
واضح هنا أن ما سمعه القديس لوقا وسجله في إنجيله عن «مثل» الغني ولعازر، مو الذي رآه القديس يوحنا وسجله في إنجيله كشاهد عيان. فالمعجزة واحدة، القديس لوقا سجل جانبها التصوري التعليمي, بحسب مثل المسيح, عن الدينونة والقيامة والإيمان والتوبة؛ والقديس يوحنا سجل وقائعها، ليعلق بحسب الرؤية الواقعية على أن المسيح هو صاحب الدينونة والقيامة، وأساس التوبة والإيمان. فتسجيل الآيات في الأناجيل يعتمد على الغرض الذي من أجله اختار كل إنجيلي آياته. وكملاحظة عامة، نجد أن الآيات التي صنعها المسيح في أورشليم وما حولها لم يسجلها الإنجيليون الثلاثة» بينما اهتم القديس يوحنا بتسجيلها أقصى اهتمام.
القصد التصوري النهائي في ختام مثل لعازر والغني في إنجيل لوقا، يقدمه إنجيل القديس يوحنا مُطبقاً تطبيقاً عملياُ؛ فلعازر الفقير قام من الأموات فعلا، ولكن لم يصدق قيامته إخوة الفني الجشع، وهم الفريسيون, لأنهم لم يسمعوا لموسى والأنبياء, ولا صدقوا من أقام لعازر من الأموات أمام عيونهم، ولا خافوا من الدينونة.
أما صحة قصة لعازر في إنجيل يوحنا, كونها آية قد حدثت, أو يمكن أن تحدث بالفعل, فهذا يتضح من قول المسيح لتلميذي المعمدان اللذين جاءا ليستفسرا من المسيح عن المسيح هل هو الآتي أم ينتظرون أخر؟ فكان رد المسيح عليهما: «فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما، أن العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون؛ والمساكين يبشرون.» (لو22:7)
ب _ «مرثا ومريم» في إنجيل القديس لوقا: من يقرأ إنجيل لوقا (38:10-42)، يسمع عن مرثا ومريم التي جلست عند قدمي الرب لأنها اختارت النصيب الصالح، وها نفس الأختان المذكورتان في إنجيل يوحنا (11). والمسيح هو في الإنجيلين ضيف الشرف.
ج _ مريم بصفتها المرأة التي دهنت الرب بالطيب: وتشترك الأناجيل الأربعة, في تقليد واحد, وهو توصيف «مريم» بالمرأة التي دهنت المسيح بطيب ناردين غالى الثمن, كانت قد حفظته عندها, ولم تعلم أنه كان بمثابة تكفين الجسد حسب قول الرب، وذلك في بيت سمعان الآبرص, الفريسي. وهذا التقليد محقق، لأنه وإن كانت الأناجيل الثلاثة لم تذكر مريم بالاسم, بل ذكرتها باعتبارها المرأة التي دهنت المسيح بالطيب، إلا أن إنجيل يوحنا انفرد عنهم جيعا بأن ذكرها بالاسم، مما يوضح أن تقليد القديس يوحنا في إنجيله هو الأكثر مطابقة (أنظر يو2:11؛ 1:12-8؛ مر3:14-9؛ مت6:13-13؛ لو36:7-39)
بهذا نرى أن التقليد الإنجيلي التاريخي العام يقف خلف مفردات قصة قيامة لعازر عن الموت في إنجيل يوحنا، ليعطيها صحتها التقليدية والتاريخية معاً.
وآية إقامة لعازر من الموت هي بحسب ترتيبها في إنجيل يوحنا تكون هي الآية السابعة والأخيرة:
الآية الأولى: تحويل الماء إلى خمر_ الأصحاح الثاني.
الآية الثانية: شفاء ابن خادم الملك _ الأصحاح الرابع
الآية الثالثة: شفاء مشلول بيت حسدا بعد 38 سنة ~ الأصحاح الخامس.
الآية الرابعة: إشباع الجموع من خمس خبزات وسكتين _ الأصحاح السادس.
الآية الخامسة: السير على الماء واسكات الريح والموج – الأصحاح السادس
الآية السادسة: شفاء الأعمى المولود هكذا من بطن أمه _ الأصحاح التاسع
الآية السابعة: إقامة لعازر من الموت بعد أربعة أيام في القبر _ الأصحاح الحادي عشر.
ويلاحظ الباحث أن كل من الآية الاولى والأخيرة صنعهما الرب في الوسط العائلي, وبقصد اظهار مجده (11:2): «هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله, ليتمجد ابن الله به»، «ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله» (يو4:11و40) ولتشديد الإيمان: «وأنا أفرح لأجلكم إني لم أكن هانك لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه.» (يو15:11)
العناصر التاريخية داخل القصة: الملامح الزائدة الحساسية الواردة في قصة إقامة لعازر من الموت، والتي تشير إلى حضور القديس يوحنا كشاهد عيان شديد الملاحظة دقيق التدوين، هي بحد ذاتها تزيد ثقل كفة الصدق التاريخي للرواية وهى:
+ إبراز العلاقات الحميمة بين عائلة لعازر والمسيح (5:11).
+ تأخر المسيح عن الذهاب لبيت عنيا يومين عن قصد (6:11).
+ موقع قرية بيت عنيا بدقة (18:11).
+ حضور اليهود (19:11).
+ الرسالة السرية (28:11).
+ لقب المسيح المحبوب «المعلم» (28:11).
+ صمت يسوع (30:11).
+ انزعاج الرب لبكاء اليهود مع مريم (33:11).
+ سجود مريم أمام المسيح (32:11).
+ إظهار عواطف المسيح البشرية بحرية دون أي حذر(33:11 و35 و38)
+ وصف هيئة لعازر عند ظهوره (44:11).
القيمة اللاهوتية لآية إقامة لعازر من الموت: لقد أصاب القديس يوحنا كثيراً في جعل آية لعازر ختاماً للآيات التي صنعها يسوع ولتعاليمه العامة جميعاً. فهو بهذه الآية يجيب على جميع الأسئلة والاستفسارات التي كانت تتتابع وراء الحقائق التي أبرزها الإنجيل دون برهان أو توضيح: فالآن يتضح كيف أن المسيح هو «الكلمة» التي يسمعها الميت فيقوم من الأموات، وهو الله المتكلم الذي يحيي من يشاء، وهو الذي يمكن أن يخلق كل شيء من العدم أو الموت؛ وكيف أن فيه الحياة, وأن الحياة هي نور الناس، وكيف أن النور أضاء في الظلمة، ثم كيف يولد الإنسان من جديد, وكيف أن الاموات يسمعون صوت المسيح ابن الله, وكيف يستطيع المسيح أن يعطي حياة للعالم, وكيف يمكن أن يقوم الأموات بالجسد, بل كيف سيقوم المسيح من الموت بسلطانه وحده تحقيقاً لقوله: «لى سلطان أن أضعها, ولى سلطان أن آخذها أيضاً» (يو18:11)؛ وكيف أن المسيح يبطل الموت ويقهر سلطانه؛ وأخيراً كيف يكون المسيح بالنسبة للعالم هو فعلاً الألف والياء, البدآية والنهآية.
كل هذه الأسئلة يرد عليها كل من يتعمق في هذه المعجزة التي صنعها الرب يسوع المسيح جهاراً أمام تلاميذه واليهود. وما عليك أيها القارىء العزيز إلا أن تسير مع مفردات هذه المعجزة كأحد المشاهدين، وتتأمل الرب وهو واقف أمام قبر لعازر ومريم وأختها تبكيان، ومعهما اليهود والمعزون يبكون, وصوت ابن الله, الكلمة, يدوي فجأة ليخترق ظلام القبر والهاوية وحجب العالم الآخر غير المنظوره كما يخترق النور حجب الظلام ويهتكها جميعاً، وىصرع الموت في داره ليقوم لعازر!! الهاوية انشقت وخرجت منها روح لعازر, والمادة الميتة والمنتنة في القبر تقبلت رعشة الحياة، فوُلد لعازر من رحم الحياة مرة أخرى, ووطىء الموت وقام من جديد!
كان المسيح, كما هو الإنسان المحبوب, واقفاً على باب القبر، وكلمته باعتباره ابن الله تزلزل أركان الهاوية بسلطانها الإلهي، لترتعب لها سلاطين الظلمة والموت، فينفك من أسرها أسير محبة المسيح: «سبى سبيا, وأعطى الناس عطايا» (أف8:4)، ويخرج لعازر إلى الحياة بقوة الكلمة المحيية.
ثم, يا قارئي العزيز, من هو لعازر الحقيقي إلا أنا وأنت الملفوف بربط الخطية التي آقعدته عن حركة الروح وآسكنته صمت القبور إزاء تسابيح صهيون والأرواح المكملة في المجد مع كل ملائكة الله؟ آذاننا إليك يا ابن الله بانتظار كلمة الحياة، «الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد» (رو18:7). ألست أنا ميتك؟ ليست لى مريم ولا مرثا ليبكوا علي! وليس لى رسول يحمل رسالتي سرا إليك إلا روحك القدوس, لا تتأخر كثيراً وتعال، نعم تعال سريعاً، قبل أن تعكر نتانتي صفو محبتك، قل لمن دحرج الحجر عن قبرك أن يدحرجه عني، قل كلمتك وأوعز إلى ملائكتك أن «حلوه ودعوه يذهب…»
القصة
1:11 وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا.
شخصية لعازر غير واردة إلا في إنجيل يوحنا. ويبدو أن صداقته للمسيح ومحبة المسيح له كانت عائلية، فلم يكن يتبع المسيح في ترحاله، ولكن كان المسيح يحط ترحاله في بيته ليجد راحة هناك. ولهذا يبدو أنه لم يكن معروفاً لدى بقية التلاميذ. لذلك نجد القديس يوحنا يضيف إليه صفة أخرى معروفة أو معلومة ثابتة تجعله معروفاً، وهي أنه من بيت عنيا وأنه أخو مريم ومرثا أختها. واسم لعازر هو مختصر «أليعازر», ومعناه الحرفي «إيلي عزار»، أي الله قد آزر أو أعان.
وقرية بيت عنيا هي قريبة من أورشليم على مسافة 15 غلوة، أي ما يساوي تقريبا 2 كم على الجهة الشرقية لجبل الزيتون, وهي المسافة المسموح بها للسفر يوم السبت عند اليهود, والقرية الآن مسماة «ألعازاريا» نسبة لآية إقامة المسيح للعاز هناك. ويلاحظ أنه توجد قرية أخرى مسماة بهذا الاسم عبر الاردن والتي يُقال لها في بعض المخطوطات «بيت عبارا» (يو28:1). وبيت عنيا تعني بالعبرية «بيت العناء». وقد ذكرها سفر نحميا تحت اسم «عننية» (نح32:11)
«مريم ومرثا أختها»: بحب الشهرة الإنجيلية, تأتي مريم قبل مرثا, ولكن مرثا هي الأخت الكبرى. وهذان الاسمان كانا معروفين لدى الوسط الإنجيلي بين التلاميذ، وذكرها القديس لوقا (38:10) في موضوع المحبة للمسيح باعتبارها هي الحاجة الوحيدة التي نحتاجها حقاً في هذه الدنيا. ولكن إنجيل القديسين مرقس ومتى يعرفان مريم بأنها «امرأة معها قارورة طيب» (مت7:26), ولكنهما عادا فسجلا لها ذكراها إلى الآبد في كل أنحاء الدنيا «الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها.» (مت13:26)
ولكن القديس يوحنا يختص الأختين بكثير من التعريف والعناية والملاحظة، مما يؤكد معرفته الشخصية لهما وللعازر أخيهما، وذلك بسبب تأثره الشديد بالمعجزة التي تمت لأخيهما.
2:11 وَكَانَتْ مَرْيَمُ الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضاً هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا.
هنا تعرف مريم أنها هي التي دهنت الرب بطيب ومسحت رجليه بشعرها. وهذا العمل جاء بنصه في الأصحاح القادم (2:12-3).
«الطيب» وجاء باليوناية ( ) ويعي العطر المستخرج من النباتات ذات الروائح الذكية، وكان يستخدم إما نقياً وهو المعبر عنه بطيب «خالص», أو مخلوطا بالزيت, وكان زيت الزيتون هو الزيت الوحيد المستخدم في صناعة الميرون ويسمى ( ), وكان يستخدم أيضا في دهن أعضاء الجسم وخاصة الرجلين بعد السفر الطويل.
والرب في قصة سمعان الفريسي (لو46:7) يفرق بين الدهن «بالزيت» العادي والدهن بالميرون، وهو الزيت المعطر أو العطر الخالص: «بزيت لم تدهن راسي وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي». والدهن بالزيت العادي يعبر عنه في القديم باليونتية بالفعل ( ).
أما المسح بالزيت المقدس في العهد القديم فيسمى ( )، والعمل نفسه أي «المسحة» ( )، وهما مشتقات من ( ). أما المسحة في أسفار العهد الجديد فهي عمل يتم بالروح القدس سرا ويسمى ( ). والكنيسة القبطية تستخدم الميرون وزيت الغلاليون وزيت الزيتون البسيط مع صلوات لحضور الروح القدس في أنواع الخدم المقدسة المتعددة.
3:11 فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: «يَا سَيِّدُ هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ»
رسالة مختصرة تحمل معناها في مبناها, كمعلومة مقدمة إلى طبيب حاذق، تذكر الأعراض دون التدخل في شئون العلاج. وهذه هي من أروع الرسائل التي تقدم إلى الله كصلاة، وهي نفس النموذج الذي قدمته القديسة مريم العذراء إلى الرب من أجل إسعاد ضيوف حفل زفاف عرس قانا الجليل. أما الطبيب فملزم بالعلاج, لأن الثمن مدفوع مقدماً وهو الحب المتبادل. وعن نوع هذه الطلبات المقدمة في الصلاة إلى المسيح والآب، يقول القديس يوحنا أنها معتمدة حال النطق بها، ولا يعوز المتوسل إلا انتظار التحقيق، وأيضا يسجل القديس يوحنا هذه المعلومة الإلهية باختصار غاية في الروعة وغآية في اليقين: «وهذه هي الثقة التي لنا عنده أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا، وإن كنا نعلم أنه مهما طلبنا يسمع لنا، نعلم أن لنا الطلبات التي طلبناها منه.» (ايو14:5-15).
والذى يلفت نظرنا فى هذه الآية هو قول الأختين «الذى تحبه» حيث تأتي في اليونانية ( ) وهنا المعنى ينصب على محبة روحية خالصة تعبيرا عن مودة العلاقات الشخصية والصداقة الشديدة, الطبيعية، علمأ بأنه لا يوجد فى اليونانية كلمة «صديق»، وهذه الكلمة يحل محلها ( ) أي مُحب. وتأتي هذه الكلمة في إنجيل يوحنا ثلاث عشرة مرة، تعبيرا عن محبة الله الآب للابن، وعن محبة الله للذين يحبون ابنه، ومحبة المسيح لتلاميذه، ومحبة التلاميذ نحو المسيح. وتغيب هذه الكلمة من جميع رسائل يوحنا. أما محبة الأغابى فتنم عن الثقة والتوقير والإعجاب، وهي محبة المشاعر، وتأتي نتيجة اختبار واختيار أخلاقي وحكم عقلي.
4:11 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ: «هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللَّهِ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ».
هنا رد فعل المسر مطابق تماما لرد الفعل على سؤال التلاميذ بالنسبة للمولود أعمى «لتظهر أعمال الله فيه» (يو3:9)!! وهذا هو رد الله دائماً, ومنذ القدم, عل كل نقص أو عوز أو ألم أو ضيق أو فقدان أو خسارة أو موت بالنسبة لأولاده . فهو أولاً وقبل كل شيء «فى كل ضيقهم تضايق, وملاك حضرته خلصهم» (إش9:63)، وثانياً: «اذبح لله حمداً وأوف العلي نذورك. وادعني فى يوم الضيق أنقذك فتمجدني» (مز14:50-15)، وثالثاً: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل» (2كو9:12)
يلاحظ في الاصطلاح اليوناني ( ) أن المعنى لا يفيد «من أجل مجد الله» ولكن ( ) يفيد معنى ( ) التي تعني «لكي». فهنا قصد الله حاضر، وليس مصادفة، فالله يقصد إعلان مجده بواسطة يسوع المسيح، بقصد أن يتمجد يسوع أيضاً, وبالنهاية لكي نرى ونؤمن. فالمرض لا يتجه نحو الموت فى قصد الله، ولكنه مقصود لإعلان مجد الله بالمسيح. وذلك لا يزال المعنى يمتد ليشمل استعلان مجد الله فى المسيح نفسه، الذى سيمجده الله على نفس النمط بالقيامة من الموت.
كان هذا الرد على الرسالة المرسلة من الأختين بمثابة تأشيرة فى أسفل التذكرة الطبية مؤداها: [لا داعي للقلق, انتظروا مجد لله].
الرد مثير للايمان، ومؤكد للرجاء، ومستجيب للمحبة. وهذا هو رد الله دائماً، أقوى من أقوق رسالة تصل إلينا من خلال يأسنا ودموعنا واضمحلال رجائنا. وها نحن الآن عالمون تماما أن الرب آنئذ كان عالماً تماما بأنه قد مات فعلاً. لأنه حينما وصل الرب بيت عنيا كان لعازر له أربعة أيام في القبر، والرحلة من عبر الأردن إلى بيت عنيا تستغرق يوماً واحداً، فإذا أضيف إليها يومان تأخرهما الرب، يكون لعازر, وقت أن بلغ الرسول رسالته, قد مات وله يوم كامل في القبر.
وهكذا فإن ما يراه الرب غير ما نرى نحن، دوافعنا ليست واقعه، ولو تركنا تقديراتنا لحساباته لجاءت النتائج جد مخالفة لظنونا.
فالموت عندنا هو الموت، مهما أعطيت له من المسميات الملطفة، فهو قاسى أقسى ما تكون القسوة على مشاعر الإنسان وأفكاره وحساباته. فهو يحطم الامال، وينهي على الرجاء، ويخنق المحبة، ويكفي أن يصفه الروح على فم بولس الرسول أنه «آخر عدو» يتواجه معه الإنسان قبل الرحيل. ولكن كل هذه الاوصاف تتصفى كلها في مصفاة رؤية الله وقدراته وإمكانيته، ليأخذ الموت عنده صفة الرقاد لا غير، حيث تكون اليقظة منه حتمية, ومعها بهجة القيامة لحياة ملؤها الحياة. وهذا الذي يراه الله لأحبائه، رآه المسيح وأجراه كنموذج أبقاه لنا على الأرض في قصة لعازر المحبوب، حتى لا يستبد بنا يأس الموت أبداً, فوراء آخر عدو، أعظم حبيب لنا, ذاك يردينا التراب، وهذا يولجنا السماء.
حينما ترصد الموت للعازر وأراد أن يسخر من رباط المحبة التي تربطه بالمسيح، ونوى أن يتعالى بقوته وسطوته فوق سلطان رب الحياة, ويثير الإنزعاج والرعبة في قلوب النسوة، ويطيح بهيبة المسيح أمام التلاميذ والمحبين، ويكفي للتدليل على ذلك قول اليهود: «ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت» (يو37:11)؟ حينئذ أدرك ذلك كله المسيح من على بعد، فأرخى الحبل للعدو ليصنع بفريسته كل ما أراد! وعقد الرب العزم أن يتمجد في لعازر من أجل نفسه والمحبين، فيستعلن للعالم قوة القيامة والحياة التي فيه, ويظفر بالموت في معقله، ويشق الهاوية، ويحطم قيود الموت، ليفك النفس علناً, ويقيم الجسد بالكلمة، ويخرج لعازر وسط هتاف «المجد لله».
5:11- 7 وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَيْضاً».
محبة المسيح لهذه العائلة تأتي بالكلمة أغابي, التي تنم عن الاختيار والأفضلية الأخلاقية. وبهذا نفهم من هذه الكلمة، أن هذه العائلة اختارها المسيح لدخوله وخروجه بعد فحص ومراقبة، فارتاح إلى أفرادها جميعاً, فأحبهم جميعاً. وبالملاحظة نجد أن الفعل الذي استخدمته الأختان للتعبير عن محبة المسيح للعازر، جاء من الأصل ( ) تعبيراً عن المودة الروحية أو الصداقة الخاصة والطبيعية. أما الكلمة التي عبر بها القديس يوحنا عن محبة المسيح للعائلة كلها فجاءت عن الأصل ( )، التي تعني أن المحبة تأتي بعد فحص عقلي ومعرفة وتقدير وحكم شخصي. وهكذا، لك أيها القارىء العزيز، أن تدرك مقدار الدقة التي يسجل بها القديس يوحنا إنجيله، وليس الدقة فحسب، بل ومقدار المطابقة الشديدة الإحكام بين مشاعر كل شخص والكلام المسجل عنه، كل على حدة، جملة جملة.
ولكن هذه الآية يصعب فهمها بحسب ترتيب الكلام الذي كُتبت به، إذ يفهم منها القارىء لأول وهلة أن المسيح تأخر يومين خصيصاً وعن قصد لكي يصنع معجزة لعازر لأنه كان يحبه. ولكن بحسب الحساب الذي سبق أن أجريناه، فإنه حينما بلغ المسيح خبر مرض لعازر، كان لعازر في الحقيقة قد مات ودفن ليوم كامل، فلو كان قد تحرك في الحال لكان قد بلغ بيت عنيا ولعازر في القبر وله يومان، من هذا يتضح لنا أن تأخير الرب لم يكن عن قصد.
لذلك فإن ترتيب الكلام ينبغي أن يكون هكذا: (فلما سمع يسوع أن لعازر مريض قال لتلاميذه بعد أن مكث يومين في الموضع الذي كان فيه، لنذهب إلى اليهودية أيضاً، لأن يسوع كان يحب مرثا وأختها ولعازر).
أما حبه لمرثا فكان بحكم أنها كانت, كما يبدو, كبيرة العائلة، فكانت هي دائماً صاحبة الضيافة، وكانت شديدة العناية بخدمة الرب، وهذا يتضح في إنجيل القديس لوقا «وفيما هم سائرون دخل قرية، فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها. وكانت لهذه أخت تدعى مريم، التي جلست عند قدمي يسوع، وكانت تسمع كلامه، وأما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة» (لو38:10-40)
وأما محبة المسيح لمريم، فكانت بسبب كونها شديدة الإنتباه، تسمع كلامه بوعي وباتضاع، كتلميذة تركت كل شيء لتتبعه روحيا. وهذا العطاء النفسي والروحي يتضح أشد الوضوح من احتفاظها بكمية كبيرة من عطر الناردين النقي الكثير الثمن، لتضمخ به جسد المسيح المتعب، والذي حسبه لها المسيح بصفة التكفين.
أما حب المسيح للعازر، فكان بشهادة الأختين حباً شخصياً.
أما الموضع الذي مكث فيه الرب يومين فكان إقليم بيريه, كما جاء في نهاية الأصحاح السابق، على جبال موآب.
أما لماذا مكث اليومين وهو يعلم أن البيت الذي يحبه قد اشتعل حزناً وغما وعويلا كثيرا، وهو بنية أن يرفع عنهم هذا الكرب الشديد، وقد عقد العزم على إقامة لعازرعن الموت منذ أن بلغه الخبر، بدليل قوله: «هذا المرض ليس للموت… لكني أذهب لاوقظه… وكان يسوع يقول عن موته… فقال لهم يسوع علانية لعازم مات…»، سؤال لا يجيب عليه إلا سؤال آخر أثار حيرة التلاميذ إلى حد الغضب, لماذا مكث المسيح نائماً في مؤخرة السفينة والرياح والأمواج تعصف بها حتى إلى حد الغرق؟ «وكان هو في المؤخر على وسادة نائماً. فأيقظوه وقالوا له: يا معلم أما يهمك أننا نهلك» (مر38:4). هنا ينبغي علينا أن لا ننسى أن المسيح كان يتصرف بين أحبائه وأعدائه كإنسان وإله معاً. فهو كان نائماً فعلاً ولكن حضرته الإلهية قائمة؛ كذلك كان المسيح بعيدا عن بيت عنيا على سفر يوم كامل، ولكنه كان حافراً في بيت محبيه، وغيابه بالجسد لا يمنع عمله كإله. فهو الذي شفى ابن خادم الملك من الموت وهو بعيد على سفر يوم كامل, بكلمة!
ولكن الرب أعلن لتلاميذه أن غيابه عن بيت عنيا، هو الذي آل إلى كل الحوادث التي صارت من مرض شديد وموت: «وأنا أفرح لأجلكم أني لم أكن هناك, لتؤمنوا…»، وهذا تماماً كما تصوررته مرثا: «لو كنت ههنا لم يمت أخي». وهذا بحد ذاته صار فرصة جديدة لتلاميذه ليروا فيها الرب وهو يقيم لعازرعن الموت, فيؤمنوا بالقيامة والحياة في المسيح. وهذا بعينه ما سيحدث بالرغم من الإرتباك والحزن اللذين أصابا الأسرة المحبوبة, إلا أنه سيؤول إلى إيمان تلاميذه ومحبيه.
وهكذا وبنظرة متسعة, نرى أن تأخر الرب يومين عبر الأردن لم يغير في الموقف إلى أسوأ بل ربما إلى أفضل. لهذا لم نر الرب في عجلة للعودة, كمن تؤثر فيه الحوادث لاتخاذ عمل أو تحرك انفعالي تمليه عليه الظروف أو الحوادث. بل كان الرب يتحرك, ولا يزال, بحسب رؤيته الشاملة وسبق معرفته للأمور والحوادث . فعمل الله ينبع من مسرة مشيئته، ليخضع كل شيء لإرادته . لهذا فكل صمت من قبل الله إزاء إلحاحات توسلاتنا، إنما يخفي غرضا أسمى!
9:11- 10أَجَابَ يَسُوعُ: «أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لاَ يَعْثُرُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هَذَا الْعَالَمِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ لأَنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيهِ».
وعلى مستوى أسلوب القديس يوحنا في فهمه وتسجيله لأقوال المسيح فالرد هنا يحمل معنيين: معنى ظاهر مؤداه أن على الإنسان أن يعمل طالما أن النهار قائم بنوره وساعاته، فقد وُفع على الإنسان أن يعمل ليغطي ساعات النهار الاثنتي عشرة جميعاً. والعمل هو على نمط المسيرة، فالسائر في النور وفي النهار لا يعثر، أما إذا جازف وسار في عتمة الليل, أي في غياب النور, فالعثرة واردة. وهذا بعينه يراه المسيح أنه مأخوذ في الإعتبار بالنسبة له كما هو للتلاميذ.
ولكن المعنى الخفي متجه رأسأ نحو الصليب. فتخويف التلاميذ له غير لائق، ولا هو وارد في حساباته, فنهاره بالنسبة للعالم لا يزال قائماً ولا يزال هو نوره، فساعته لم تتحدد بعد، وساعة أعدائه لا تزال على بعد، وهي التي تمثل ظلمة هذا العالم بكل كثافتها وثقلها: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (لو53:22). فهو إذن لا يزال يسير في وقته المحدد، ولم يدخل بعد في منطقة ليل العالم بعثراته واعثاره. وقد أوضح المسيح ذلك لهم فيما بعد بأكثر وضوح: «فقال لهم يرع: النور معكم زمانا قليلاً بعد، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام» (يو35:12). أما بالنسبة للمسيح, فقد سبق وأن أوضح ذلك أيضاً فيما يخص عمله: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دمت في العالم فأنا نور العالم»(يو4:9-5), مشيراً بذلك إلى ظلمة العالم القادمة، التي تمثل بالنسبة للصيح الآلام والموت.
وبالنهاية نلتقط إشارة خفية من وراء هذه الآية، تفيد أن المسيح يريد أن يطمئن التلاميذ أن يستبعدوا الموت أو العثرات طالما هم معه, لأنه هو نور العالم، وذلك بالنسبة لرحلته القادمة. فإن كانوا قد امتلكوا النور فكيف يخافون؟ لأن الخوف يكون حينها لا يكون «النورفيهم» ، ولم تقل: «النور حولهم». وهنا ينكشف قصد المسيح من النور والظلمة والنهارو الليل. فنهار الإنسان هو المسيح في القلب والفكر، وغياب المسيح من القلب (النور ليس فيهم) هو هو ليل الإنسان، الذي حتماً يكون متوازيا مع الخوف والموت، ومنفتحاً عليه. وإن كان الموت وارداً بالنسبة للمسيح, طالما أن وراء ساعات النهار الاثنتي عشرة ليلاً قادماً, إلا أن الظلمة لن تدرك النور أبداً. ولكن التلميذ الذي تعود أن يضع إصبعه في كل ثغرة، أدرك بحساسيته الحسابية الشكاكة، أن الخطورة لا بد محدقة بهم من جراء هذه الرحلة. وله رأي في ذلك سنقدمه في حينه.
11:11- 13قَالَ هَذَا وَبَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لِأُوقِظَهُ». فَقَالَ تلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ.
الرب هنا يعبر عن العلاقة الروحية التي لا تزال قائمة بينه وبين لعازر، ويضم التلاميذ معه فيها، وهي علاقة الصداقة الروحية, لأن كلمة «حبيبنا» هنا تأتي في معنى الصداقة أكثر منها في الحب» وهي نفس الكلمة الواردة على فم المعمدان: «أما صديق العريس» (يو29:3). كذلك هو نفس الاصطلاح الوارد في الآيات 13و14و15 من الأصحاح 15: «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه … أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. لا أعود أسميكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكني قد سميتكم أحباء …»». وهكذا نرى كيف أن اللغة اليونانية تجعل الصداقة الروحية على مستوى المحبة بنوع ما. ونرى أيضاً كيف قصرت اللغة العربية في التقاط هذه الفوارق الجوهرية في التعبيرات الروحية.
وينبغي أن نلاحظ أن المسيح أبقى على العلاقة الروحية التي على مستوى صداقة المحبة, كما هي، بعد موت لعازر؛ ما يشير ان نفس لعازر ظلت تتمتع بهذه الصداقة والمحبة الروحية في الموت، ليس مع المسيح فقط بل ومع التلاميذ. وهذه هي حال النفس في العالم الآخر بالنسبة لألفة الجماعة هنا وهناك. «لعازرحبيبنا قد نام, لكني أذهب لأوقظه.»
هذا الاصطلاح الجديد (تقريباً) الذي وضعه الرب للتعبير عن الموت بأنه مجرد «نوم» هو نموذج لمعيار تفكير الرب وتعبيره عن الروحيات, ويتضح منه كيف يسعى المسيح لرفع مستوى الفكر البشري للتلامس مع الواقع الروحي الفائق على الطبيعة، وقد صار هو التعبير الطقسي الرسمي في الكنيسة في كل صلواتها ولكن بإضافة هامة: «فلان رقد في الرب» تعبيرا عن «موت القيامة». لأنه طالما كان الموت في الإيمان بالمسيح, فإنه يكون مؤديا إلى قيامة وحياة. لذلك، فهو مجرد رقاد, حتى وإن طال زمنه, لأن الزمن غير محسوب بالنسبة للحياة بعد الموت. [ليس موت لعبيدك، بل هو انتقال) (القداس القبطي, أوشية الراقدين).
ولكن تأتي في العهد القديم: «رقد وانضم إلى أبائه» (أع36:13 راجع امل10:2) بمعنى الموت المقيم. وإن كان يحتج بعض النقاد أن هذا الاصطلاح كان مستخدما عند الربيين وعند غير اليهود أيضا؛ ولكن أن يقوله المسيح وينطقه بروحه, فقد صار ذا معنى غير كل ما كانت تعنيه الفئات الأخرى من يهودية ووثنية، خاصة وأن الرب أكمل ما يقول بالفعل. فإقامة لعازر من الموت كانت بمثابة اليقظة الجسدية العظمى للانسان, والتي لم يكن لها مثيل ولا مُشابه لرجل أنتن جسده في القبر لأربعة أيام، بعد لعنة الموت الدائم التي حلت عليه، توطئة ليقظة القيامة الروحية العتيدة أن تكون، وقد صارت بقيامة الرب من الموت.
فالمسيح الآن له هذا القدوم العظيم والمبارك، لإيقاظ النفوس التي غرقت في بحر الخطيئة وأخرجت نتن رائحتها لتزكم الأنوف: يأتيها المُبشر ببشرى الخلاص من ليلها الطويل: «يقول، استيقظ أيها النائم, وقم من الأموات, فيضيء لك المسيح» (أف14:5)، حيث يتلقفه صوت صاحب الرؤيا: «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني (موت الدينونة) سلطان عليهم.» (رؤ6:20)
هذه هي القيامة الاولى الروحية, الشخصية والفردية, من موت الخطية القاتل، التي هي بمثابة جواز الدخول إلى الأمجاد العليا عند استعلان القيامة الأخيرة العامة العتيدة أن تكون على كل العالم. وكما أن نوم الجسد محدد بالساعات؛ هكذا نوم الموت فهو حتماً إلى ميعاد، وكما أن النفس تأخذ خبرة الأحلام، إن بأفراح أو بأحزان هي شبه الحقيقة أثناء نوم الجسد؛ هكذا قد أعطي للنفس أن تأخذ خبرة الأفراح والأحزان الحقيقية, كسبق تذوق للقيامة العامة, أثناء نوم الموت الطويل إلى أن تحين القيامة العامة لتعيش أفراحها أو أحزانها الآبدية.
والصوت الذق أيقظ لعازر من نوم موت الأربعة الأيام، هو هو نفس الصوت الذي يسمعه جميع الذين في القبور، «فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو29:5). والصوت هو صوت الله، ينطقه الآبن بالسلطان الذي أعطي له أن يضع النفس ويأخذها أيضاً. وواهب الحياة هو وحده الذي يستطيع أن يعيدها بأقوى وأشمل صورة، إذا تعدى عليها الموت إلى حين. فالموت دائماً إلى زمن، والحياة دائماً إلى الآبد!… «لأني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو19:14). وكلمة الله التي نطقت هذا هي حية وفعالة …
12:11- 13فَقَالَ تلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ.
يلزمنا هنا الرجوع إلى اللغة اليونانية لندرك سبب هذا الالتباس عند التلاميذ. فكلمة نام ( ) فى اليونانية تأتي بصيغتين:
الصيغة الاولى بمعنى رقاد الراحة ( )، وتفيد بالتالى إمكانية الرقاد الثقيل بالمرض، كالحمى مثلاً، أو الموت, كما جاءت في مواضع كثيرة جداً فى العهد الجديد، بل وتفيد أيضاً بصيغة التورية مكان رقاد راحة الموت، وهي الصيغة التي أخذتها اللغات الأخرى من الأصل اليوناني ( ) ولكن نطقها كالآتي ( ) حيث قلبواk إلى c وهي مكان القبور وأصلاً نوم الراحة الطويل.
أما الصيغة الثانية فهي «النوم» بمعنى فقدان الوعي أو الشعور الوقتي، والذق يوضحه جداً تركيب هذه الصيغة ( )، حيث مقطع ( ) يعني العقل, و ( ) يعني تحت أو دون. ولكن لم تأت كلمة ( ) قط بمعنى الموت، في حين أن كلمة ( ) تأتي لتفيد معنى الموت في العهد الجديد ، وقد تأتي أيضأ بمعنى النوم كراحة.
فالتلاميذ اعتبروا قول الرب أن لعازر ( ) رقد رقاد المرض كالحمى مثلاً. وهكذا، فلا داعي أن يرتحل الرب والتلاميذ معه هذه الرحلة الخطرة التي تحمل في طياتها شبح الموت للمعلم ولهم, فالذي رقد للمرض فهو يُشفى. ولكن «يُشفى» ( ) جاءت في اليونانية بلغة التلاميذ بقصد «يتعافى» أو يعود صحيحا وهذا هو المعنى الذي أخذت به في اللغة الإنجليزية he will get well ولكن بالمعنى الأكثر شمولاً فهي تأتي بمعنى «يخلص» (سوتيس باليونانية). وهنا تنفذ اللغة السرية لإنجيل يوحنا لتبلغ, دون أن يقصد التلاميذ, إلى معنى الخلاص الحقيقي بالقيامة.
ثم يعود إنجيل يوحنا ليفسر أن التلاميذ ظنوا أن المسيح يتكلم عن «رقاد النوم» أو راحة النوم، على وجه الأصح, وهنا ضم الإنجيل الرقاد إلى النوم الخفيف ( )، حيث استبعد التلاميذ رقاد الموت. وتضيف الآيات: لكن «كان يسوع يقول عن موته» وهنا يكشف القديس يوحنا بوضوح عن لغة المسيح الفائقة للطبيعة وللفكر العادي حينما قال عن الموت أنه نوم.
14:11- 16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ علاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ, وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ لِتُؤْمِنُوا. وَلَكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ». فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ لِلتّلاَمِيذِ رُفَقَائِهِ: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ».
قتول القديس يوحنا هنا أن المسيح عاد وابتدأ يتكلم «علانية» أي بدون تورية. والتورية التي تكلم بها الرب سابقاً هي أسلوبه الخفي, الرمزي, والفائق عن الطبيعة والفكر المادي، الذي يصيب المعنى الروحي أكثر مما يفيد المعنى الظاهري العادي. فقول الرب سابقاً: «لعازر… نام لكي أذهب لأوقظه» أربك التلاميذ، لأنه استخدم كلمة النوم التي تفيد إما معنى الموه أومعنى الرقاد للراحة، مع كلمة اليقظة ( ) التي تفيد الاستيقاظ من النوم العادي. ولكن هنا كلمة «علانية» ( ) تفيد الوضوح وبلا خوف، حيث تخلى الرب, مؤقتاً, عن المعنى الروحي من رقاد النوم بما يفيد إمكان اليقطة أو القيامة منه. علماً بأن الفعل المستخدم في «لعازر قد نام ( ) وأنا أذهب لأوقظه» جاء في زمن المضارع التام وهو يفيد حالة دوام النوم التي تحتمل النوم واليقظة، أما الفعل المستخدم هنا «لعازر مات»
فقد جاء في زمن الماضي البسيط وهو يفيد الوصول إلى نقطة تغير مفاجىء قاطعة.
وذكر استخدام المسيح لهذه التورية لا يقتصر على إنجيل يوحنا، ففي إنجيل القديس مرقس في الأصحاح الخامس عدد39، نجد المسيح يستخدم نفس الأسلوب في نفس الموقف وبنفس المعنى: «فدخل وقال لهم لماذا تضجون وتبكون، لم تمت الصبية ولكنها نائمة. فضحكوا عليه …»، لأنها كانت ميتة ولزمن ليس بقصير. وهذا الأسلوب السائد في إنجيل يوحنا يتناسب مع مستوى الإنجيل في تقديم الرب بصفته المستعلن لله: Revealer of God.
وحينما يسبق المسيح ويتكلم عن أمور قادمة، لا يقدم نفسه كمن يتنبأ عن بعد زمني، ولكن يقدم نفسه ككاشف ومستعلن للحقائق، باعتبارها واقعة وكائنة في معرفته، ويعلنها قبل حدوثها الزمنيه حتى إذا حدثت أدرك منها التلاميذ قدرته الإلهية كمستعلن لله ذاته: «أقول لكم الآن قبل أن يكون, حتى متى كان تؤمنون أني أنا هو» (يو19:13). وقد كرر نفس القول في 29:14، وكذلك بالأكثر عن آلامه التي ظل يكشف عن مجيئها الحتمي وقبولها بسرور: «لكني قد كلمتكم بهذاء حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم» (يو4:16). وقد لاحظ التلاميذ ذلك بالفعل، واقتنعوا بأن سبق إعلانات الرب هي لتثبيت إيمانهم: «الآن نعلم أنك عالم بكل شيء, ولست تحتاج أن يسألك أحد، لهذا نؤمن أنك من الله خرجت» (يو30:16). ويلاحظ أن الإيمان الذي كان يهدف إليه المسيح من إعلانه المسبق ليثبت به تلاميذه، ليس مجرد إيمان بقدرته على الشفاء والإقامة من الموت بحد ذاتها، ولكن الإيمان به هو: «حتى تؤمنوا أني أنا هو» ابن الله والمرسل من الله. والقصد الأساسي من آية إقامة لعازر من الموت التي كانت موضوع فرح المسيح لأجل التلاميذ، هو ليثبت إيمانهم من جهة قدرته على إقامة نفسه هو من الموت الحتمي القادم، وبالتالى سلطانه الأعظم في القيامة العامة والدينومة وإعطاء حياة للعالم. وأما الآن، فإعطاء النصرة في الضيقات: «في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)
«وأنا أفرح لأجلم أني لم أكن هناك, لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه»: معروف قطعا أن الموت لا يجرؤ أن يتسحب على حبيب للمسيح وفي حضرته، فإن كان المسيح قد أبى أن يموت لعازم، حتى في غيبته، وصمم على إقامته من الموت فكم بالحري في وجوده؟
هذه قضية مُسلم بها, قالها الأعداء من اليهود: «ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟», كما قالتها أخت الميت: «فقالت مرثا ليسوع: يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي». وهذا حقاً وبالحقيقة، لأنه في حضرة رئيس الحياة يختشي الموت أن يفرد جناحيه. ولقد سبق للمسيح أن شل حركة الموت في جميع السقماء، الذين أتوا إليه, وهم مشرفون على الموت؟ واستخلص من براثنه كل فرائسه.
أما فرح المسيح من أجل الذهاب إلى بيت الحزن في بيت عنيا, فهو كفرح حضوره إلى بيت الفرح في قانا الجليل, تماماً وبلا تمييز. في هذه أعلن مجده، فآمن به تلاميذه (يو11:2)؛ وفي تلك سيعلن أيضاً مجده، ليؤمن به تلاميذه. فرح المسيح هو دائمأ إيماننا، وهو يسعى إليه دائماً، ليظهر مجده من وراء أحزاننا وأفراحنا على السواء.
كانت هذه بداية آياته التي صنعها أمام تلاميذه؛ وتلك ختام آياته وإنجيله الذي سلمه إليهم. سلسلة من الآيات ينتقل فيها كل من آمن بالمسيح من مجد إلى مجد، وكما المجد ليس له نهاية كذا الإيمان يكون. وهذا هو بعينه المعيار الروحي البديع الذي يقوم عليه إنجيل يوحنا: فرح المسيح، الذي لا يُحد, في إيماننا الذي ينمو من وراء كل آياته التي صنع.
«ولكن لنذهب إليه»: لا يقول الرب نذهب هناك، بل نذهب إليه. لعازر الميت والمنتن لا يزال حياً أمام المسيح، والرب يبصره حياً في مخيلة التلاميذ. الجسد لا يهم ولا يفيد شيئاً، فلعازر هو هو، قبل أن يموت وبعد أن مات، هذه هي حقيقة الذين يؤمنون بالمسيح: «من آمن بي ولو مات فسيحيا» (يو25:11). هذا هو أساس «الرجاء» الكائن في الإيمان: «لس هو(الله) إله أموات بل إله أحياء.» (لو38:20)
16:11 فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ لِلتّلاَمِيذِ رُفَقَائِهِ: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ».
كان سهلاً على توما أن يموت, استجابة لمحبة المسيح؛ ولكن كان صعباً عليه أن يؤمن بالقيامة من الموت!
كان سهلاً عليه أن يقدم الذي يملكه بالفعل، وهو المحبة. واستحال عليه أن يقدم ما ليس عنده وهو الإيمان. توما كاك يسير وإصبعه يسبق عقله، وعقله يسبق قلبه.
ولكن العجيب حقاً أن تلقائية الإستجابة عند توما لقول المسيح: «لكي تؤمنوا (بقيامة لعازر)»، جاءت لتكون: «لنموت معه» عوض أن نحيا معه!! ولكن كم صار هذا التلميذ الشكاك مؤمناً قويا بعد رؤيته المسيح قائماً من الأموات بلمس إصبعه، فصار مبشراً ورسولا لأكبر بلاد العالم عدداً آنئذ وهي الهند، لأنه صار رسولاً لها.
يبقي أن ننبه ذهن القارىء بخصوص إصرار الإنجيل على تعريف اسم توما «الذي يقال له التوأم». ذلك هو بسبب أن «توما» بالعبرية تعني التوأم، وقد ترجت كلمة «توما» إلى اليونانية بالكلمة «ديديموس». لهذا يحاول الإنجيل دائماً التعريف بأصل الاصطلاح اليوناني» لأنه وان كان عبرانياً وطناً ولغة، إلا أنه يكتب للأمم.
17:11- 19فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي الْقَبْرِ. وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ غَلْوَةً. وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا.
حينما وصل المسيح مع تلاميذه إلى بيت عنيا، «وجد» ما كان يترقبه، أو ما كان يعرفه تماماً: ليس أن لعازر قد مات فقط, بل وله أربعة أيام في القبر. وذكر عدد الأيام في القبر هو لتأكيد انحلال الجسد انحلالاً يؤدي إلى تهرؤ هيئة الجسم والوجه وفساده. والإمعان في ذكر الأربعة الأيام في القبر لثاني مرة في الآية: «يا سيد قد أنتن, لأن له أربعة أيام (في القبر)», هو لوضع الرمز اللاهوتي في المقابلة بين رعبة انحلال الجسد ونتانته، إزاء الفرحة بمجد الله التي ينتقل إليها المؤمن الذي يشاهد القيامة من الموت ويشهد لها. كما أن هذه الآية تتوازى في العمق اللاهوتي مع آية تفتيح عيني الأعمى المولود أعمى، الذي انتقل من الظلام الدامس في عالمه المظلم إلى إشراق النور بكلمة المسيح.
كما أن القصد من ذكر عدد الأيام، هو استبعاد دخول الروح في الجسد استبعاداً مطلقاً. لأنه بحسب إيمان اليهود وتقليدهم الموروث من جهة الميت، فإن الروح تبقى في الأرض ثلاثة أيام تتردد فيها على القبر وتحاول الدخول في الجسد، ولكن بعد تغيره وانحلاله وفساده, وذلك بعد ثلاثة أيام, تشمئز الروح ولا تعود إلى الجسد مرة أخرى، حيث تذهب وتنضم إلى بقية أرواح الموتى. هذا التقليد اليهودي سجله الرابي اليهودي «بار كبارا» سنة 200 تقريباً، وكذلك رابي «ليفي» سنة 300 تقريباً. وهذا التقليد القديم هو الذي تأخذ به الكنيسة القبطية منذ القديم، حث تقيم صلاة خاصة لروح الميت في اليوم الثالث في المزل الذي توفي فيه، بقصد مساعدة الروح لانطلاقها إلى مكان راحتها.
أما بقية التقليد القديم الذي يذكره التلمود بالنسبة للميت فهو كالآتي:
[ثلاثة أيام للبكاء على الميت. ثم سبعة أيام نواح (تراتيل حزينة). ثم ثلاثين يوماً حداداً يُمنع فيها قص الشعر ولبس الملابس الثمينة]
إذن، فمجيء اليهود من أورشليم لتعزية مرثا ومريم, لمدة سبعة أيام حسب طقس اليهود كأعلى تعبيرات المحبة التي لا يمكن لليهودي أن يفرط فيها, لا تأتي في القصة مصادفة، بل هي الوصلة الملتهبة التي تفجرت في أورشليم بسرعة بعد قيامة لعازرعن الموت، حيث بلغ الخبر للرؤساء المتربصين, فطار صوابهم. وتشكل الصليب في أفق جنونهم في الحال.
ومجيء هؤلاء اليهود لم يكن بقصد التلصص على أخبار الرب، ولكن بانفعال صادق لما رأوه سابقاً من الآيات في أورشليم, وبالأخص الآية الأخيرة التي تم فيها تفتيح عيني الأعمى بحضورهم. وهذا واضح من قولهم عندما رأوا المسيح يبكي: «ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت».
20:11 فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي الْبَيْتِ.
رد فعل خبر مجيء «المعلم» المحبوب يسوع بالنسبة لمرثا ومريم، هو مطابق لما جاء عنهما في إنجيل القديس لوقا 38:10 من جهة طبيعة كل واحدة. فمرثا خرجت في الحال لاستقباله، فهي كانت ربة البيت ذات الإحساس بالواجب وصاحبة الضيافة بنشاط والخدمة الكثيرة. ولا ننسى كيف رأت في نفسها الكفاءة أن تلفت نظر المعلم أن يزجر مريم أختها لتساعدها، وكأنها ذات إدارة وإمارة. ولم تر أنه كان من الواجب عليها أن تدعو أختها قبل أن تسرع للخروج. لذلك ظلت مريم جالسة في البيت وسط المعزين، ولم تعلم بخروج أختها , علمأ بأن طبيعة مريم كانت هادئة مذعنة، ليست كثيرة الحركة، تتقن الجلوس تحت أقدام من يعلمها، ولكن كانت قد «أحبت الرب كثيراً» في صمت بالغ يشهد عليه الناردين الخالص الكثير الثمن.
21:11- 24 فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «سَيَقُومُ أَخُوكِ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ».
مرثا تطرح انفعالها أمام الرب في صورة إيمانية بسيطة، مع حسرة على حاجة فلتت من يديها ومن يد الزمن. ولكن عادت تتعلق برجاء. والرجاء دائماً أبداً يغطي قصور ما لم يحققه الزمن، رجاء يستند، لا على الإيمان الشخصي فقط، بل وعلى العلم بقدرة المسيح, «أنا أعلم», مرثا ألقت بكل ما تبقى لها من أمل على وعد المسيح: «من آمن بي ولو مات فسيحيا»، مستندة على يقينها أن طلب المسيح مستجاب لدى الله. وهنا تكرر مرثا حضور الله إزاء طلب المسيح مرتين: «أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إيا،»، وذلك تأكيدا للعلاقة التي تربط المسيح بالله.
ثم، لا بد أن أحد التلاميذ أسر إليها بقول المسيح لهم: «أنا أذهب لاوقظه». لذلك اشتد يقينها بأن شيئاً عظيماً سيحدث على يدي المسيح، فبدأت تستحث الرب على ذلك، مؤكدة له أنها على يقين أن «كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه». لقد انطلق إيمانها مع هذه الكلمات، يحلق بقوة الرجاء في قوة الحياة التي يمكن أن يهبها المسيح, ولكن كيف؟ لم تجرؤ مرثا أن تطلب علانية ما يعز على أي إنسان طلبه. ولكن الحبة التي كانت تتأجج في قلبها كانت تضيء أمامها المجهول، وأن لا شي ء مستحيل لدى الرب.
«وكل» التي قالتها مرثا من عمق أعماق قلبها كفيلة بأن تغطي كل شي ء حتى القيامة من الموت: «أنا أعلم أن كل ما تطلب…«. و«كل» تترجم بالإنجليزية: whatsoever أى «مهما»
«قال لها يسوع: سيقوم أخوك. قالت له مرثا: أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير»: المسيح يتكلم عن القيامة كقوة إلهة فيه، سيستعلنها في شخصه كحقيقة حاضرة لا يحصرها زمان ولا تحدها أية قوة في العالم، وسيمارسها تجاه الموت ليلغي وجوده علنا، ويُظهر الحياة كقوة غالبة ومنتصرة من داخل الموت.
والغاية من قول المسيح هذه الحقيقة: «سيقوم أخوك»، هو ليعلن لمرثا أن الموت ليس هو العدو الذي ينتصر فوق الحياة، إذ توجد القيامة التي تبطله، يقولها هنا المسيح كخبر، قبل أن يكمله كفعل, ليصير هذا هو معيارنا الجديد بالمسيح يسوع تجاه الموت: «سيقوم اخوك». وفعلاً فإن مرثا أخذت قول المسيح كتعليم وفلسفة، وليس كعمل سيتم تجاه الميت. فوافقت عليه وشرحته حسب تقديرها الإيماني, كحقيقة عامة معروفة، وليس كفعل شخصي: «أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير».
وبهذا تكون مرثا قد أخذت قول المسيح على مستوى التعزية ليس إلا، وذلك حسب أصول المجاملة في حالة الموت. وعززته باستذكار التعليم اليهودي من جهة قيامة الأجساد، الذي كان الفريسيون يعلمون به ضد الصدوقيين الذين لم يكونوا يؤمنون بالقيامة على وجه الإطلاق (مر18:12, أع8:23). وهذا التعليم اللاهوتي اليهودي ظهر بوضوح منذ القرن الثاني قبل اليلاد: «وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الآبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الآبدي.» (دا2:12)
وقد دخلت هذه الحقيقة الإيمانية كجزء في العبادة الرسمية اليومية حيث تقال في البركة الثانية ضمن الثماني عشرة بركة: [أنت الجبار إلى الآبد يا رب، أنت الذي تحيي الموتى].
ولكنها كانت حقيقة مفهومة من جهة الأمور الأخروية, ولا تدخل قط في مفهوم إمكانية القيامة في الحاضر، الأمر الذي حققه المسيح لنفسه وللآخرين.
وهكذا أراد إنجيل يوحنا أن يضع في مقابلة ومواجهة: قانون الإيمان اليهودي، تجاه قانون الإيمان المسيحي، من جهة التعليم بالقيامة. فالأول يرى القيامة مجرد مقولة إيمانية في أمور أخر الزمان، والثاني يراها حقيقة خلاصية حاضرة الآن وكل يوم، في المسيح، وبالمسيح. وهذا هو رد المسيح الاستعلاني.
25:11- 27 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا. وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الآبدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟». قَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ».
رد المسيح لا يخطىء من قول مرثا واعترافها بالإيمان اليهودي. ولكن التصحيح هو أن القيامة ليست تعليماً ولكن حقيقة, ليست للمستقبل بل هي للحاضر, ليست لجماعة (قيامة جماعية) ولكن لكل فرد من واقع فردية حياته، ليست نعمة يتحصل عليها المسيح من (الله) كطلب مرثا, بل هى كيان المسيح نفسه «أنا هو» حينما يتصل بنا، سواء الآن وكل أوان أو المستقبل.
وينبغي الآن أن نفرق بين أقوال المسيح السابقة عن: «أنا هو» التي ينسب فيها إلى لاهوته تشبيهات بنور العالم والطريق والكرمة وباب الخراف والراعي الصالح وخبز الحياة، هذه كلها تصويرات لفظية تصور عمل المسيح لقيادة الإنسان وتقويته وبنائه روحياً، وضمان صلته بالحياة الآبدية. أما هنا فقوله: «أنا هو القيامة» ، ليس تشبيهاً ولا تصويراً، ولكن استعلان حقيقة كائنة فيه, وهي من صميم كيانه وطبيعته, تلك التي كان يظن, كما كانت مرثا أيضاً تظن, أن فاعليتها متوقفة على اليوم الأخير، وأن قوة هذه الإقامة من الموت هي من عمل الله. ولكن هنا يستعلن المسيح أنها من عمله هو، وأنها ليست عمله الخاص وحسب, بل هي طبيعته: «أنا هو القيامة». المسيح هنا يستعلن نفسه، أو كما سبق وقال: «أنا الشاهد لنفسي» (يو18:8). هنا «فعل» الإقامة من الموت المستقبلي ينسبه المسيح إلى حاضر طبيعته الإلهية، أو على الوجه الأصح، إلى لاهوته القائم الآن فيه والى الآبد، وليس هو مجرد «فعل إقامة», بل «مصدر» القيامة: «أنا هو القيامة (ذاتها)» (بخصوص أن القيامة هي من صميم كيان المسيح وطبيعته وليست مجرد عمل يقوم به، فإن القديس كيرلس الكبير يدعو المسيح بعبارة تكررت مئات المرات في كتاباته وهي: «الذي هو بطبيعته الحياة».). وهكذا وبهذا يكون قد أضاف المسيح إلى كل أقواله السابقة عن «وأنا أقيمه في اليوم الأخير»: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير» (يو39:6-44) إضافة جديدة في غاية الأهية وهي عمله في الحاضر أيضاً للاقامة من الموت، وبالتال إعطاء الحياة الآبدية الأن في الحاضر: «أنا هو القيامة والحياة».
وبالتوازي مع الإقامة من الموت الآن واعطاء الحياة الان, يؤكد المسيح في إنجيل يوحنا أنه أيضاً يباشر الدينونة والإعفاء من الدينونة الآن أيضاً, أو على وجه أصح منذ الآن: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
والمسيح لا ينفي هنا الدينونة في اليوم الأخيره ولا القيامة في اليوم الأخير، ولا استعلان الحياة الآبدية في اليوم الأخير، ولكن يضيف ويكمل الإيمان اليهودي بالقيامة في اليوم الأخير بالإيمان المسيحي، أن القيامة والدينونة والحياة تبدأ من الآن، وذلك في المسيح وبالإتحاد معه. وكأن المسيح يخاطب الذين يبكون وينوحون على ميتهم الذي يكون قد آمن بالمسيح وأحبه وعاش في حضرته، هكذا: [لا تبكوا ولا تحزنوا بل ثقوا وآمنوا أن أخاكم حي الآن، وهو معي، لقد «انتقل من الموت إلى الحياة», «لأنه قد أحب الإخوة» (راجع 1يو14:3) وهو يستمتع بالحياة الآبدية بلا حزن ولا كآبة ولا تنهد في النور الآبدي، لقد قام أخوكم بالروح، ولكن الجسد هو الذي اسُتهدف وحده للفساد والفناء, الجسد لا يفيد شيئاً، الروح هو المؤهل للحياة الآبدية. الله روح وهو طالب الساجدين له بالروح والحق. لا تهتموا بعد بما هو على الأرض، «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد» (كو1:3-4)].
و«أنا هو القيامة قبل الحياة»، لأن المسيح سيبدأ من الموت ليعلن الحياة. ولكن لا بد من الاثنين معاً، لأن القيامة والحياة استعلان واحد وهو شخصه. فهو لم يقل أن القيامة عمل يحضره لنا أو يقودنا إليه أو يعدنا به، ولكنه يقول: «أنا هو القيامة». والقيامة التي يعلنها المسيح أنها كيانه الخاص: «أنا هو»، لا يعلنها لنعرفها فيه مجرد معرفة، بل إنه يعلنها باعتبارها لنا ومن أجلنا. هي كائنة أصلاً في صمميم لاهوته، لأنه هو الحياة ذاتها (القديس أثانسيوس الرسولي يدعر المسيح: «الذي هو بذاته الحياة, أو الحياة بذاتها») التي ليس فيها الموت. ولكن لأنه تجسد وأخذ بشرية الفرد الكاملة التي يمكن أن يموت بها، صارت القيامة كائنة في ناسوته أيضاً، لذلك إن مات فهو حتماً يقوم، وهكذا حقق المسيح للبشرية فردية الإنسان الدائمة والقائمة والحية إلى الآبد. ولكن قبل أن يموت، باشر إقامة لعازر من الموت، لندرك أن القيامة كائنة فيه، بل هي كيانه الذي نوى أن يمنحنا إياه، بالاتصال بنا أو باتحادنا به، فنقوم به وفيه، أو نصير به قائمين. ويصير كل فرد مؤمن ومتحد به، حياً به, أو أن المسيح يصير حياة كل أحد: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل20:2)، «… احسبوا أنفسكم… أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا.» (رو11:6)
لذلك، كان الإيمان بالمسيح غلبة للموت وقيامة في الحياة، لأن الايمان بالمسيح الذي هو الإتحاد بالمسيح, هو إتحاد بالقيامة والحياة: «من يسمح كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية, ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)، «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6). المسيح هنا يعطي ذاته بكيانها القائم والحي. لذلك نستطيع أن نفهم قوله: «من آمن بي ولو مات فسيحيا»، و «من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الآبد».
فلأنه هو القيامة = فمن يؤمن به، فهو حتى ولو مات موت الجسد، فهو سيحيا ثانية، الآن أو في القيامة.
ولأنه هو الحياة = فمن كان حياً بالروح، أي مؤمناً به, فهو لن يذوق الموت الروحي إلى الآبد، لأن الحياة الآبدية التي فيه قائمة وستتجلى حتماً.
وواضح أن هذا القول يشمل فئتين:
فئة الذين آمنوا وماتوا, ويهدف إلى لعازر كمثل؛ وفئة الذين هم أحياء وامنوا فنالوا عطية الحياة الآبدية، ويهدف إلى مرثا على سبيل المثال أيضا. فالأول سيحيا بالرغم من أنه مات، وذلك بسبب إيمان لعازر وحبه للمسيح. والثاني, وهو مرثا، فلن تذوق الموت (الروحي), لأنها نالت الحياة الآبدية بالإيمان بالمسيح، الإيمان الذي أعلنته واضحاً: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
كما يلاحظ أن في المثل الأول: «الذي مات وقام», يكون المسيح له هو«القيامة والحياة», حيث تأتي القيامة قبل الحياة لأنها سببها وعلتها: «أنا هو القيامة والحياة».
أما في المثل الثاني، مثل الذي وُهب الإيمان وهو الآن يتمتع بمواهب الحياة الآبدية ويأكل الجسد ويشرب الدم بمعنى الشركة القائمة والإتحاد الكائن مع المسيح, يكون المسيح له هو«الحياة والقيامة» حيث تأتي الحياة قبل القيامة، وحيث تكون الحياة الآبدية هي سبب وعلة القيامة: «كل من يرى الآبن ويؤمن به تكون له حياة أبدية, وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو40:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة ابديه, وانا اقيمه في اليوم الاخير» (يو54:6). بمعنى أننا الآن نتمتع بالحياة الآبدية التي من فوق، والتي نلناها بالإيمان بالمسيح وبفعل الروح القدس, للاتحاد به بشركة تناول جسده ودمه، وهذه الحياة الآبدية التي من فوق هي هي قوة القيامة التي في كياننا منذ الآن، وهي التي سنعبر بها الموت وكأنه لم يكن!! «لأنه ليس موت لعبيدك بل هو انتقال» (أوشية الراقدين).
وباختصار شديد يكون المسيح [حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا], القداس الإلهي القبطي (أوشية الإنجيل): «متى أظهر المسيح حياتنا, فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
ولكن علينا أن نلمح أن محور قيامتنا وحياتنا الآبدية هو الإيمان,» فالإيمان هو الحياة الآبدية. ليس الإيمان بالقيامة في حد ذاتها، بل الإيمان بالمسيح أنه هو حقاً وبالحقيقة قيامتنا وحياتنا، لذلك يكون الموت قد أصبح طريقاً للحياة لا غير!! «من آمن بي ولو مات فسيحيا, ولأن الحياة الآبدية قوة ذات كفاءة إلهية قادرة أن تصرع الموت, أينما كان, وتلغي وجوده، لذلك: «من كان حيا وآمن بي لن يموت إلى الآبد»، «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من الساء، إن أكل~ أحد من هذا الخبز يحيا إلى الآبد» (يو51:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو54:6)، «الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يرى الموت إلى الآبد» (يو51:8), «وهذه هي الحياة الآبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو3:17)
هكذا يستعلن المسيح ذاته بالنسبة لنا، أنه حقاً القيامة والحياة، وأن الموت لا يزيد عن كونه نعاساً مؤقتاً، لا يلغي الحياة الآبدية التي صارت في كياننا الروحي. فهبة الحياة الآبدية التي ننالها بالإيمان بالمسيح وبالميلاد من الروح القدس من فوق، هي بحد ذاتها إلغاء صريح وواضح لعقوبة الموت التي دخلت إلى العالم بالخطية. فإذا فقد الموت عامل العقوبة واللعنة، أصبح الموت لا يزيد عن كونه راحة للجسد الذي أشقاه العالم، أو أصبح كالنوم أو النعاس حسب ما وصفه المسيح، حيث الإنسان (الصالح) لا يفقد بالموت إلا عوامل الفناء فقط التي دخلت عليه!!
المسيح أراد أن يرفع إيمان مرثا، لتفهم وتتذوق طعم الحياة الآبدية الحقيقية الآن بالإيمان بالمسيح، فيصغر سلطان الموت في عينيها، وتدرك أن القيامة صارت الأن بالمسيح حقيقة قائمة حاضرة فينا بالروح، بقوة الإيمان الذي يوحدنا بالمسيح ويملكن ما لطبيعته، وأن القيامة ليست هي رجاء المستقبل. وهذا بدا واضحاً من إجابة مرثا على سؤال المسيح: «أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم يا سيد أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
ويلاحظ هنا، أن سؤال الرب واضح في اللغة اليونانية، أنه لا يعني «هل توافقين على هذا»؛ بل: «هل هذا هو إيمانك, أتؤمنين بهذا؟». وهكذا استنفر المسيح إيمان مرثا الخاص، لمواجهة المعجزة قبل أن يباشرها، واستحضر مرثا في مواجهة القيامة أو الإقامة من الموت العتيد أن يكمله في الحال، كفعل قائم في المسيح الآن في الحاضر، يقبله لعازر بالروح ويتقبله بالإيمان الذي له, والذي لا يفنى ولا يضمحل بالموت, كحق من حقوق من أحب السيح والتصق به, ليقوم من الأموات ويشهد للقيامة وللحياة التي في المسيح والتي صارت أيضاً فيه وله: «الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن, حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون!!!» (يو25:5)
لقد عبرت مرثا عن إيمانها بالمسيح مباشرة، دون أن تذكر الموت أو القيامة, وهو تعبير ليس ابن وقته، بل يبدو أنه كان محفوظأ في قلبها، وهو نفس إيمان المعمدان أن المسيح هو ابن الله الآتي إل العالم, وهو إيمان نثنائيل, وإيمان الأعمى المفتوح العينين والقلب، وإيمان بطرس نيابة عن التلاميذ وعن نفسه، الإيمان الذي بدأ يشرق على العالم بتؤدة ويقين، والذي كان العالم يتلهف عليه ويتطلع بشوق نحوه، باعتباره رجاء الدهور الذي سينقذنا من الموت، الذي سبق أن رآه الأنبياء بالروح، المسيا الآتي للخلاص، وها هوذا قد أتى: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم» (يو27:11). المسيا الآتي إلى العالم، رجاء الأنبياء بل وأكثر من رجاء الأنبياء، لأنه ابن الله الذي يقيمنا من الموت، ويهبنا الحياة، ويصالحنا مع أبيه. لأن «الإيمان بالمسيح» ليس معلومة قائمة بذاتها, بل الإيمان بالمسيح ينشىء خلاصاً, ينشىء علاقة, ينشىء شركة معه, ينشىء إتحاداً, ينشىء قبول القيامة التي في المسيح والحياة الآبدية التي فتحها علينا وعلى الآب، لتسري في كياننا كأعظم عطية يمكن أن ينالها الإنسان، لأن بها يبدأ الإنسان كالأول يعيش مع الله، هنا كما هناك وإلى الآبد.
كلمة «ابن الله» التي أضافتها مرثا إل اسم «المسيح» ترفع المسيح فوق كل رجاء اليهود والآباء والأنبياء وتوضح أي انفتاح قد صار لنا مع الله.
لقد نطقت مرثا أعظم وأصدق قانون إيمان يطلبه الله والمسيح والإنجيل والأنبياء. انظر إلى ختام رواية القديس يوحنا التي يبلور فيها كل الإنجيل وكل حياة المسيح وأعماله وآياته هكذا: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح (المسيا) ابن الله, ولكي تكون لكم، إذا آمنتم, حياة باسمه» (يو30:20-31). هذه الخلاصة الإيمانية المسيانية للانجيل هي هي بذاتها التي عبرت عنها مرثا، تعبيراً تسنده المحبة القوية، والعشرة الصادقة، والأمانة، والخدمة، في أحلك ساعات تجربتها ومرارة نفسها!!
انظر، أيها القارىء العزيز، واعلم وتعلم، أننا لنا بقوانين ومفردات كثيرة للايمان نعيش، بقدر ما يكون لنا حياة صادقة باسمه لا تزعزعها أعنف التجارب، حينئذ يصير إيماننا بابن الله حقيقة حية فينا!
25:11- 27 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا. وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الآبدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟». قَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ».
رد المسيح لا يخطىء من قول مرثا واعترافها بالإيمان اليهودي. ولكن التصحيح هو أن القيامة ليست تعليماً ولكن حقيقة, ليست للمستقبل بل هي للحاضر, ليست لجماعة (قيامة جماعية) ولكن لكل فرد من واقع فردية حياته، ليست نعمة يتحصل عليها المسيح من (الله) كطلب مرثا, بل هى كيان المسيح نفسه «أنا هو» حينما يتصل بنا، سواء الآن وكل أوان أو المستقبل.
وينبغي الآن أن نفرق بين أقوال المسيح السابقة عن: «أنا هو» التي ينسب فيها إلى لاهوته تشبيهات بنور العالم والطريق والكرمة وباب الخراف والراعي الصالح وخبز الحياة، هذه كلها تصويرات لفظية تصور عمل المسيح لقيادة الإنسان وتقويته وبنائه روحياً، وضمان صلته بالحياة الآبدية. أما هنا فقوله: «أنا هو القيامة» ، ليس تشبيهاً ولا تصويراً، ولكن استعلان حقيقة كائنة فيه, وهي من صميم كيانه وطبيعته, تلك التي كان يظن, كما كانت مرثا أيضاً تظن, أن فاعليتها متوقفة على اليوم الأخير، وأن قوة هذه الإقامة من الموت هي من عمل الله. ولكن هنا يستعلن المسيح أنها من عمله هو، وأنها ليست عمله الخاص وحسب, بل هي طبيعته: «أنا هو القيامة». المسيح هنا يستعلن نفسه، أو كما سبق وقال: «أنا الشاهد لنفسي» (يو18:8). هنا «فعل» الإقامة من الموت المستقبلي ينسبه المسيح إلى حاضر طبيعته الإلهية، أو على الوجه الأصح، إلى لاهوته القائم الآن فيه والى الآبد، وليس هو مجرد «فعل إقامة», بل «مصدر» القيامة: «أنا هو القيامة (ذاتها)» (بخصوص أن القيامة هي من صميم كيان المسيح وطبيعته وليست مجرد عمل يقوم به، فإن القديس كيرلس الكبير يدعو المسيح بعبارة تكررت مئات المرات في كتاباته وهي: «الذي هو بطبيعته الحياة».). وهكذا وبهذا يكون قد أضاف المسيح إلى كل أقواله السابقة عن «وأنا أقيمه في اليوم الأخير»: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير» (يو39:6-44) إضافة جديدة في غاية الأهية وهي عمله في الحاضر أيضاً للاقامة من الموت، وبالتال إعطاء الحياة الآبدية الأن في الحاضر: «أنا هو القيامة والحياة».
وبالتوازي مع الإقامة من الموت الآن واعطاء الحياة الان, يؤكد المسيح في إنجيل يوحنا أنه أيضاً يباشر الدينونة والإعفاء من الدينونة الآن أيضاً, أو على وجه أصح منذ الآن: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
والمسيح لا ينفي هنا الدينونة في اليوم الأخيره ولا القيامة في اليوم الأخير، ولا استعلان الحياة الآبدية في اليوم الأخير، ولكن يضيف ويكمل الإيمان اليهودي بالقيامة في اليوم الأخير بالإيمان المسيحي، أن القيامة والدينونة والحياة تبدأ من الآن، وذلك في المسيح وبالإتحاد معه. وكأن المسيح يخاطب الذين يبكون وينوحون على ميتهم الذي يكون قد آمن بالمسيح وأحبه وعاش في حضرته، هكذا: [لا تبكوا ولا تحزنوا بل ثقوا وآمنوا أن أخاكم حي الآن، وهو معي، لقد «انتقل من الموت إلى الحياة», «لأنه قد أحب الإخوة» (راجع 1يو14:3) وهو يستمتع بالحياة الآبدية بلا حزن ولا كآبة ولا تنهد في النور الآبدي، لقد قام أخوكم بالروح، ولكن الجسد هو الذي اسُتهدف وحده للفساد والفناء, الجسد لا يفيد شيئاً، الروح هو المؤهل للحياة الآبدية. الله روح وهو طالب الساجدين له بالروح والحق. لا تهتموا بعد بما هو على الأرض، «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد» (كو1:3-4)].
و«أنا هو القيامة قبل الحياة»، لأن المسيح سيبدأ من الموت ليعلن الحياة. ولكن لا بد من الاثنين معاً، لأن القيامة والحياة استعلان واحد وهو شخصه. فهو لم يقل أن القيامة عمل يحضره لنا أو يقودنا إليه أو يعدنا به، ولكنه يقول: «أنا هو القيامة». والقيامة التي يعلنها المسيح أنها كيانه الخاص: «أنا هو»، لا يعلنها لنعرفها فيه مجرد معرفة، بل إنه يعلنها باعتبارها لنا ومن أجلنا. هي كائنة أصلاً في صمميم لاهوته، لأنه هو الحياة ذاتها (القديس أثانسيوس الرسولي يدعر المسيح: «الذي هو بذاته الحياة, أو الحياة بذاتها») التي ليس فيها الموت. ولكن لأنه تجسد وأخذ بشرية الفرد الكاملة التي يمكن أن يموت بها، صارت القيامة كائنة في ناسوته أيضاً، لذلك إن مات فهو حتماً يقوم، وهكذا حقق المسيح للبشرية فردية الإنسان الدائمة والقائمة والحية إلى الآبد. ولكن قبل أن يموت، باشر إقامة لعازر من الموت، لندرك أن القيامة كائنة فيه، بل هي كيانه الذي نوى أن يمنحنا إياه، بالاتصال بنا أو باتحادنا به، فنقوم به وفيه، أو نصير به قائمين. ويصير كل فرد مؤمن ومتحد به، حياً به, أو أن المسيح يصير حياة كل أحد: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل20:2)، «… احسبوا أنفسكم… أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا.» (رو11:6)
لذلك، كان الإيمان بالمسيح غلبة للموت وقيامة في الحياة، لأن الايمان بالمسيح الذي هو الإتحاد بالمسيح, هو إتحاد بالقيامة والحياة: «من يسمح كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية, ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)، «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6). المسيح هنا يعطي ذاته بكيانها القائم والحي. لذلك نستطيع أن نفهم قوله: «من آمن بي ولو مات فسيحيا»، و «من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الآبد».
فلأنه هو القيامة = فمن يؤمن به، فهو حتى ولو مات موت الجسد، فهو سيحيا ثانية، الآن أو في القيامة.
ولأنه هو الحياة = فمن كان حياً بالروح، أي مؤمناً به, فهو لن يذوق الموت الروحي إلى الآبد، لأن الحياة الآبدية التي فيه قائمة وستتجلى حتماً.
وواضح أن هذا القول يشمل فئتين:
فئة الذين آمنوا وماتوا, ويهدف إلى لعازر كمثل؛ وفئة الذين هم أحياء وامنوا فنالوا عطية الحياة الآبدية، ويهدف إلى مرثا على سبيل المثال أيضا. فالأول سيحيا بالرغم من أنه مات، وذلك بسبب إيمان لعازر وحبه للمسيح. والثاني, وهو مرثا، فلن تذوق الموت (الروحي), لأنها نالت الحياة الآبدية بالإيمان بالمسيح، الإيمان الذي أعلنته واضحاً: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
كما يلاحظ أن في المثل الأول: «الذي مات وقام», يكون المسيح له هو«القيامة والحياة», حيث تأتي القيامة قبل الحياة لأنها سببها وعلتها: «أنا هو القيامة والحياة».
أما في المثل الثاني، مثل الذي وُهب الإيمان وهو الآن يتمتع بمواهب الحياة الآبدية ويأكل الجسد ويشرب الدم بمعنى الشركة القائمة والإتحاد الكائن مع المسيح, يكون المسيح له هو«الحياة والقيامة» حيث تأتي الحياة قبل القيامة، وحيث تكون الحياة الآبدية هي سبب وعلة القيامة: «كل من يرى الآبن ويؤمن به تكون له حياة أبدية, وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو40:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة ابديه, وانا اقيمه في اليوم الاخير» (يو54:6). بمعنى أننا الآن نتمتع بالحياة الآبدية التي من فوق، والتي نلناها بالإيمان بالمسيح وبفعل الروح القدس, للاتحاد به بشركة تناول جسده ودمه، وهذه الحياة الآبدية التي من فوق هي هي قوة القيامة التي في كياننا منذ الآن، وهي التي سنعبر بها الموت وكأنه لم يكن!! «لأنه ليس موت لعبيدك بل هو انتقال» (أوشية الراقدين).
وباختصار شديد يكون المسيح [حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا], القداس الإلهي القبطي (أوشية الإنجيل): «متى أظهر المسيح حياتنا, فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
ولكن علينا أن نلمح أن محور قيامتنا وحياتنا الآبدية هو الإيمان,» فالإيمان هو الحياة الآبدية. ليس الإيمان بالقيامة في حد ذاتها، بل الإيمان بالمسيح أنه هو حقاً وبالحقيقة قيامتنا وحياتنا، لذلك يكون الموت قد أصبح طريقاً للحياة لا غير!! «من آمن بي ولو مات فسيحيا, ولأن الحياة الآبدية قوة ذات كفاءة إلهية قادرة أن تصرع الموت, أينما كان, وتلغي وجوده، لذلك: «من كان حيا وآمن بي لن يموت إلى الآبد»، «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من الساء، إن أكل~ أحد من هذا الخبز يحيا إلى الآبد» (يو51:6)، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو54:6)، «الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يرى الموت إلى الآبد» (يو51:8), «وهذه هي الحياة الآبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو3:17)
هكذا يستعلن المسيح ذاته بالنسبة لنا، أنه حقاً القيامة والحياة، وأن الموت لا يزيد عن كونه نعاساً مؤقتاً، لا يلغي الحياة الآبدية التي صارت في كياننا الروحي. فهبة الحياة الآبدية التي ننالها بالإيمان بالمسيح وبالميلاد من الروح القدس من فوق، هي بحد ذاتها إلغاء صريح وواضح لعقوبة الموت التي دخلت إلى العالم بالخطية. فإذا فقد الموت عامل العقوبة واللعنة، أصبح الموت لا يزيد عن كونه راحة للجسد الذي أشقاه العالم، أو أصبح كالنوم أو النعاس حسب ما وصفه المسيح، حيث الإنسان (الصالح) لا يفقد بالموت إلا عوامل الفناء فقط التي دخلت عليه!!
المسيح أراد أن يرفع إيمان مرثا، لتفهم وتتذوق طعم الحياة الآبدية الحقيقية الآن بالإيمان بالمسيح، فيصغر سلطان الموت في عينيها، وتدرك أن القيامة صارت الأن بالمسيح حقيقة قائمة حاضرة فينا بالروح، بقوة الإيمان الذي يوحدنا بالمسيح ويملكن ما لطبيعته، وأن القيامة ليست هي رجاء المستقبل. وهذا بدا واضحاً من إجابة مرثا على سؤال المسيح: «أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم يا سيد أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم».
ويلاحظ هنا، أن سؤال الرب واضح في اللغة اليونانية، أنه لا يعني «هل توافقين على هذا»؛ بل: «هل هذا هو إيمانك, أتؤمنين بهذا؟». وهكذا استنفر المسيح إيمان مرثا الخاص، لمواجهة المعجزة قبل أن يباشرها، واستحضر مرثا في مواجهة القيامة أو الإقامة من الموت العتيد أن يكمله في الحال، كفعل قائم في المسيح الآن في الحاضر، يقبله لعازر بالروح ويتقبله بالإيمان الذي له, والذي لا يفنى ولا يضمحل بالموت, كحق من حقوق من أحب السيح والتصق به, ليقوم من الأموات ويشهد للقيامة وللحياة التي في المسيح والتي صارت أيضاً فيه وله: «الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن, حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون!!!» (يو25:5)
لقد عبرت مرثا عن إيمانها بالمسيح مباشرة، دون أن تذكر الموت أو القيامة, وهو تعبير ليس ابن وقته، بل يبدو أنه كان محفوظأ في قلبها، وهو نفس إيمان المعمدان أن المسيح هو ابن الله الآتي إل العالم, وهو إيمان نثنائيل, وإيمان الأعمى المفتوح العينين والقلب، وإيمان بطرس نيابة عن التلاميذ وعن نفسه، الإيمان الذي بدأ يشرق على العالم بتؤدة ويقين، والذي كان العالم يتلهف عليه ويتطلع بشوق نحوه، باعتباره رجاء الدهور الذي سينقذنا من الموت، الذي سبق أن رآه الأنبياء بالروح، المسيا الآتي للخلاص، وها هوذا قد أتى: «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم» (يو27:11). المسيا الآتي إلى العالم، رجاء الأنبياء بل وأكثر من رجاء الأنبياء، لأنه ابن الله الذي يقيمنا من الموت، ويهبنا الحياة، ويصالحنا مع أبيه. لأن «الإيمان بالمسيح» ليس معلومة قائمة بذاتها, بل الإيمان بالمسيح ينشىء خلاصاً, ينشىء علاقة, ينشىء شركة معه, ينشىء إتحاداً, ينشىء قبول القيامة التي في المسيح والحياة الآبدية التي فتحها علينا وعلى الآب، لتسري في كياننا كأعظم عطية يمكن أن ينالها الإنسان، لأن بها يبدأ الإنسان كالأول يعيش مع الله، هنا كما هناك وإلى الآبد.
كلمة «ابن الله» التي أضافتها مرثا إل اسم «المسيح» ترفع المسيح فوق كل رجاء اليهود والآباء والأنبياء وتوضح أي انفتاح قد صار لنا مع الله.
لقد نطقت مرثا أعظم وأصدق قانون إيمان يطلبه الله والمسيح والإنجيل والأنبياء. انظر إلى ختام رواية القديس يوحنا التي يبلور فيها كل الإنجيل وكل حياة المسيح وأعماله وآياته هكذا: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح (المسيا) ابن الله, ولكي تكون لكم، إذا آمنتم, حياة باسمه» (يو30:20-31). هذه الخلاصة الإيمانية المسيانية للانجيل هي هي بذاتها التي عبرت عنها مرثا، تعبيراً تسنده المحبة القوية، والعشرة الصادقة، والأمانة، والخدمة، في أحلك ساعات تجربتها ومرارة نفسها!!
انظر، أيها القارىء العزيز، واعلم وتعلم، أننا لنا بقوانين ومفردات كثيرة للايمان نعيش، بقدر ما يكون لنا حياة صادقة باسمه لا تزعزعها أعنف التجارب، حينئذ يصير إيماننا بابن الله حقيقة حية فينا!
28:11- 32 وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً قَائِلَةً: «الْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ وَهُوَ يَدْعُوكِ». أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ بَلْ كَانَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي لاَقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا. ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي الْبَيْتِ يُعَزُّونَهَا لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: «إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى الْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ». فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: «يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي».
عجيب القديس يوحنا في سرده للرواية، فهو يعلق من عنده تعليقات تجعل القصة حية ناطقة.
«ولما قالت هذا مضت»: يقصد أنها قالت كل ما عندها، كل ما تملك من الإيمان الذي ارتفع فوق الموقف كله, لقد استجابت لاستعلان المسيح، وردت عليه بما ملأ قلبها راحة وسلاماً. وبقدر ما ارتاحت مرثا ودخل قلبها مناطق ألنور والرجاء، فإنها دعت أختها لتغترف من مراحم الرب وتعزياته, وكلمة «سرا» تتجه ناحية اليهوء الذين جاءوا من أورشليم حتى لا يعكروا صفو اللقاء بفكرهم المريض.
ولقب «المعلم» الى احترفه التلاميذ بحكم تلمذتهم، اختطفته الأختان، إذ اعتبرتا نفسيهما من التابعين, حتى وإن كانتا قد قبعتا في عقر دارهما. فقد أتقنتا فن السماع والحب. ودعوة المعلم لمريم ذكية, فهو يعلم مقدار الحزن والأسى الذي يعتصر قلبها. وكما سقى مرثا من ماء الحياة فارتوت, وانطفأت نار قلبها، هكذا أراد أن يسقي هذه الأخرى العزاء بعيدا عن عقول المرائين. لقد صدق الرب حينما ألمح عن نفسه بقدرة التعزية وسلطان العزاء، حينما وعدهم بإرسال الباراقليط المعزي قائلأ: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الآبد» (يو16:14)؛ باعتبار أنه هو المعزي الأول!!
مريم لما سمعت، «قامت سريعاً»، وجاءت إلى المعلم حيث لاقى مرثا، لأنه لم يشأ أن يدخل القرية مباشرة. ولكن خروج مريم السريع نبه اليهود خطأ أنها ذاهبة لتبكي في القبر, فتبعوها، فكانت مقابلة الرب لمريم في وسط جمع اليهود. ولم تستطسع مريم, بانفعالها البادى عليها من جراء هيبة الرب, إلا أن تخر عند رجليه ساجدة، الأمر الذى فات على مرثا، لكنها احتفظت بتكريم الرب بمشاعر قلبها الخفية. ولكن كان الفكر الطاغي على قلب مريم هو نفس ما فكرت فيه مرثا وقالته للرب: «يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي». أمل مفقود، ولكن كان وراءه نوع من التوسل يملأ قلبها، فالمحبة تصدق كل شيء، وترجو كل شيء، ولا تسقط أبداً، حتى وإن وقف العقل حائلاً دون النطق. لم تسعفها الكلمات أكثر من ذلك، فقدمت أعز وأ قوى ما تملك المرأة: دموعها!!
33:11- 35 فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ. وَقَالَ: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» قَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ تَعَالَ وَانْظُرْ». بَكَى يَسُوعُ.
مريم تبكي, واليهود يبكون, والمسيح يبكي, هنا تنفرد اللغة اليونانية بتعبيرات البكاء، التي تفرق فيها بين بكاء مريم واليهود وبين بكاء المسيح، في هذا الموقف بالذات. فبكاء مريم واليهود عبرت عنه اللغة اليونانية بكلمة ( )، وهي تفيد المعنى العربي «بكاء بصوت مسموع للتعبير الظاهري عن الحزن»، وهو كمهنة عند النسوة له أصول. أما كلمة «بكى يسوع» بتأتى ( ) وهي بمعنى »أدمعت عيناه بدون صوت». وتأتي كتأثر مباشر عفوي للحزن غير المنضبط، في صمت.
انزعج بالروح: وتأتي باليونانية ( ) وتفيد الانفعال الانعكاسي للمنظر الذي أمامه (تأثر)، وهي لا تفيد الانزعاج كما تجيء في الترجمة العربية، ولكن تفيد التأثر بعدم الرضا، وهي نفس الكلمة التي جاءت في المواقف الأتية بمعنى الانتهار:
+ «فانفتحت أعينهما, فانتهرما يسوع قائلا: انظرا لا يعلم أحد.» (مت30:9)
+ «فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص، وطهر، فانتهره, وأرسله للوقت.» (42:1-43)
+ وتأتي بمعنى التأنيب: «لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلثمئة دينار ويعطى للفقراء. وكانوا يؤنبونها.» (مر5:14)
وهكذا يظهر أن هذا الاصطلاح «انزعج»، كما جاء في الترجمة العربية، يفيد مجرد التأثر ولا يفيد الحزن.
أما كلمة «بالروح»، فهي تفيد أن الرب تحرك أو تأثر بالروح إزاء منظر البكاء في عدم ارتياح, وتحرك روحيا ليصنع أمراً (إقامة لعازر) يوقف به هذا العويل والنواح.
فقد يؤخذ هذا الانزعاج الروحي على أنه استنفار الروح للقيام بالهمة الخطيرة، وهي إقامة الميت إلى الحياة. ونحن نعلم أن هذا العمل يستلزم خروج قوة هائلة من المسيح ، كما حدث في نازفة الدم : «فقال يسوع قد لمسني واحد، لأني علمت أن قوة قد خرجت مني.» (لو46:8)
ويلاحظ أن الكلمة اليونانية ( ) التي تُرجمت هنا «انزعج» جاءت بالترجمة «انتهر» في إثر المعجزات ذات الثقل العال التي استلزمت انفعالاً روحيأ من الرب لا يستهان به، وهي معجزة شفاء الآبرص (مر43:1), وشفاء الأعمى (مت30:9)، وإقامة لعازر (يو33:11و38). لذلك لا ينبغي أن نستخفت بما تستلزمه المعجزة من الضغط الروحي العال الواقع على جسد المسيح الذي جعله يهتز ويئن وتدمح عيناه في مواقع كثيرة.
«واضطرب»: وهذا طبعاً نتيجة ما تحمله جسده من أحزان واضطراب الآخرين, تلك التي أخذها على نفسه في تعاطف ومشاراكة وبمحض إرادته, فجاءت كلمة «واضطرب» للتعبير عن ذلك، والتي تفيد حرفياً «جعل نفسه تضطرب»، وتفيد أيضاً الارتجاف والقشعريرة .
وبذلك تكون الأصول النفسية والروحية التي استهدفها المسيح في جسده للانزعاج والاضطراب، هي عملية طوعية إرادية، اعتبرها الله أبوه، واعتبرها هو، واعتبرها علم اللاهوت بناء على ذلك وبناء على سبق النبوة عنها، أنها جزء لا يتجزأ من عملية الخلاص الكبرى التي جاء المسيح وتجسد من أجلها، فهو لم يحمل خطايانا على نفسه فقط، بل وحمل أحزاننا وأوجاعنا واضطرابنا وموتنا، ويصفها إشعياء النبي بقوة بالغة العمق في قوله:
«رجل أوجاع ومختبر الحزن».
«لكن أحزاننا حملها, وأوجاعنا تحملها, ونحن حسبناه مضروباً من الله ومذلولاً».
«وهو مجروح لأجل معاصينا, مسحوق لأجل آثامنا …»
«والرب وضع عليه إثم جميعنا».
«أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن» (إش 53)
إذن، فانزعاج المسيح بالروح واضطرابه، بل و بكاؤه، هذا كله وهو يمثل ضعف الإنسان عامة, حمّل المسيح نفسه به، وثقل روحه تحت عبئه, وأخذه وتبتاه، واشترك فيه كمقدمة ومؤخرة للموت ذاته الذي أخذه لنفسه وهو غريب عن هذا كله، بل وإن الله الآب سر بهذه المشاركة الحزينة والأليمة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من «ذبيحة الإثم» التي قدمها المسيح (عن خطية الإنسان) قدمها بجسده ونفسه وروحه!!!
ويلزم هنا أن نوضح أن القديس يوحنا، في إنجيله، ميز بين النفس والروح للمسيح في شركة الألم والموت:
«لما قال يسوع هذا، اضطرب بالروح، وشهد وقال: الحق الحق أقول لكم إن واحداً ممكم سيسلمني.» (يو21:31)
«فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل. ونكس رأسه وأسلم الروح.» (يو30:19)
«أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (يو11:10)
«الآن نفسي قد اضطربت, وماذا أقول، أيها الآب نجي من هذه الساعة ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة.» (يو27:12)
والآن يلزم أن نفهم أن آية إقامة لعازر من الموت، مع كل ما لابسها من مشاعر وعواطف وأحزان واضطراب وانزعاج، لا يمكن اعتبارها أنها حادثة قائمة بذاتها تمثل ظروفها فقط، بل هي نموذج، وصورة واقعية توضح صلة المسيح، وليس صلة المسيح فقط، بل وصلة الله بموتنا وقيامتنا، وما يلابس موتنا من جميع النواحي البشرية كما حدث في قصة لعازر، ويكفي أن نسع عن الله أنه «في كل ضيقهم تضايق … » (إش9:63). المسيح يكرر حضوره، ويمارس إظهار مشاعره وعواطفه من جهة كل إنسان في الكنيسة يتألم أو يموت لحسابه: «إن عشنا فللرب نعيش، وان متنا فللرب نموت» (رو8:14). ونحن أيضاً نمارس إيمان قيامتنا في كل ميت يموت لنا، وبهذا الإيمان بالقيامة نرى مجد الله: «إن آمنت ترين مجد الله».
إذن، إقامة لعازر من الموت هي منهج إيماني للكنيسة. لقد رفع إنجيل يوحنا «إقامة لعازر من الموت» من حادثة إلى آية لاستعلان مجد الله، لتدخل في الكنيسة كآية لكل من يموت، ولكل من يموت له أحد.
«وقال: أين وضعتموه. قالوا. يا سيد تعال وانظر. بكى يسوع»: لأول مرة يذكر الإنجيل عن الرب أنه يستفسر، أي يطلب معرفة عن شيء. ولكن يبدو في الحقيقة أنه يعلن بذلك عن نيته في إقامة لعازر من الموت، وليس مجرد معرفة المكان. وهذا أيضاً بدوره هو رد الفعل المباشر في إظهار تأثره ومشاركته لعواطف الباكين, باعتبار أن الرب لا يشارك بالعواطف أو الكلمات وحسب، بل وبالعمل المباشر.
«بكى يسوع»: (والرب قد بكى لما رأى الإنسان المخلوق على صورته الخاصة منساقاً للفساد, وذلك حتى ببكائه يضع حدا لدموعنا. فإنه لهذه الغاية أيضاً قد مات حتى يخلصنا من الموت. (القديس كيؤلس الكبير فى تفسير يو35:11. )
الكلمة اليونانية ( )، ويقابلها باللغة اللاتينية في الفولجاتا ( )، وهى المرة الوحيدة في كل أسفار العهد الجديد التي ذُكرت فيها هذه الكلمة ولا تفيد أكثر من أن: « أدمع يسوع»، أي سالت دموعه. وهي تعتبر أصغر آية وردت في الإنجيل. ولكن قد ذكر أن المسيح بكى بكاء الحزن بصوت مسموع في إنجيل القديس لوقا: «وفيما هو يقترب، نظر إلى المدينة، وبكى عليها» (لو41:19). ولكن كان هذا البكاء على هلاك شعب، وكنيسة، وليس على صديق.
دموع يسوع هنا هي صورة لأحزان الرب عل مصير الإنسان, ككل, الذي جلبه على نفسه بالخطية. والقديس يوحنا أسهب في تصوير بشرية المسيح الكاملة وذلك بالأنواع، التي تعبر عن الإنسانية التي فيه:
التعب: «فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا عل البئر.» (يو6:4)
العطش: «فقال لها يسوع أعطيني لأشرب.» (يو7:4)
«قال أنا عطشان» (يو28:19)
المحبة: «…. وجاءت إلى سمعان بطرس والى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه.» (يو2:20)
كما جاءت تعبيرات أخرى مكملة في الأناجيل الأخرى:
الجوع: «فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، جاع أخيراً.» (مت2:4)
التهليل: «وفي تلك الساعة، تهلل يسوع بالروح, وقال: أحمدك أيها الآب…» (لو21:10)
الغضب: «فنظر حوله إليهم بغضب, حزينا على غلاظة قلوبهم…» (مر5:3)
الحزن: «فقال لهم: نفسي حزينة جداً حتى الموت…» (مت38:26)
لذلك كان من المستحيل على المسيح الذي تعب وعطش وجاع وأحب وفرح وغضب وحزن حزناً ثقيلاً حتى الموت، أن لا يبكي وتدمع عيناه، ليس مع الإنسان وحسب بل وعلى الإنسان أيضاً. فالذي ارتضى أن يقبل غصة الموت من أجلنا، كيف لا يترك عيناه تنهمر منها الدموع علينا، والذي ارتضى أن يحمل خطايانا في جسده على الصليب، كيف يمتنع عن أن يذرف الدمع علينا حينما يحل البكاء؟ لقد أحل لنفسه البكاء علينا، ولكنه أبى أن يبكي عليه أحد: «يا بنات أورشليم لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن.» (لو28:23)
يقول اللاهوتيون أن بكاء المسيح أكبر شهادة على كمال ناسوت المسيح، ونحن نقول أيضاً إن بكاء يسوع هو أكبر شهادة على استعلان كمال مشاعر قلب الله !… إن دموع يسوع هي حبات الياقوت التي سقطت علينا من جوهر الله الأزلى، لنصنع منها عقوداً للبهاء والجمال وللتباهي بها لدى الملائكة والرؤساء التي لا تملك أن تبكي.
وكما أبطل المسيح الموت بموته, فلم يعد الموت للعار والعقاب، بل للقيامة والحياة؛ كذلك فالمسيح ببكائه مسح الدمع من العيون, فلم تعد دموعنا لليأس والقنوط، ولكن للحب والعزاء، كدموعه… «يبلع الموت إلى الآبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض، لأن الرب قد تكلم.» (إش8:25)
ويا لفخرنا بدموع الرب هذه، فبعد أن مُسحت دموعنا، وقفت هذه الدموع عينها شهد أن «ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مُجرب في كل شيء مثلنا, بلا خطية، فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات، يسوع ابن الله، فلنتمسك بالإقرار.» (عب14:4-15)
33:11- 35 فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ. وَقَالَ: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» قَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ تَعَالَ وَانْظُرْ». بَكَى يَسُوعُ.
مريم تبكي, واليهود يبكون, والمسيح يبكي, هنا تنفرد اللغة اليونانية بتعبيرات البكاء، التي تفرق فيها بين بكاء مريم واليهود وبين بكاء المسيح، في هذا الموقف بالذات. فبكاء مريم واليهود عبرت عنه اللغة اليونانية بكلمة ( )، وهي تفيد المعنى العربي «بكاء بصوت مسموع للتعبير الظاهري عن الحزن»، وهو كمهنة عند النسوة له أصول. أما كلمة «بكى يسوع» بتأتى ( ) وهي بمعنى »أدمعت عيناه بدون صوت». وتأتي كتأثر مباشر عفوي للحزن غير المنضبط، في صمت.
انزعج بالروح: وتأتي باليونانية ( ) وتفيد الانفعال الانعكاسي للمنظر الذي أمامه (تأثر)، وهي لا تفيد الانزعاج كما تجيء في الترجمة العربية، ولكن تفيد التأثر بعدم الرضا، وهي نفس الكلمة التي جاءت في المواقف الأتية بمعنى الانتهار:
+ «فانفتحت أعينهما, فانتهرما يسوع قائلا: انظرا لا يعلم أحد.» (مت30:9)
+ «فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص، وطهر، فانتهره, وأرسله للوقت.» (42:1-43)
+ وتأتي بمعنى التأنيب: «لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلثمئة دينار ويعطى للفقراء. وكانوا يؤنبونها.» (مر5:14)
وهكذا يظهر أن هذا الاصطلاح «انزعج»، كما جاء في الترجمة العربية، يفيد مجرد التأثر ولا يفيد الحزن.
أما كلمة «بالروح»، فهي تفيد أن الرب تحرك أو تأثر بالروح إزاء منظر البكاء في عدم ارتياح, وتحرك روحيا ليصنع أمراً (إقامة لعازر) يوقف به هذا العويل والنواح.
فقد يؤخذ هذا الانزعاج الروحي على أنه استنفار الروح للقيام بالهمة الخطيرة، وهي إقامة الميت إلى الحياة. ونحن نعلم أن هذا العمل يستلزم خروج قوة هائلة من المسيح ، كما حدث في نازفة الدم : «فقال يسوع قد لمسني واحد، لأني علمت أن قوة قد خرجت مني.» (لو46:8)
ويلاحظ أن الكلمة اليونانية ( ) التي تُرجمت هنا «انزعج» جاءت بالترجمة «انتهر» في إثر المعجزات ذات الثقل العال التي استلزمت انفعالاً روحيأ من الرب لا يستهان به، وهي معجزة شفاء الآبرص (مر43:1), وشفاء الأعمى (مت30:9)، وإقامة لعازر (يو33:11و38). لذلك لا ينبغي أن نستخفت بما تستلزمه المعجزة من الضغط الروحي العال الواقع على جسد المسيح الذي جعله يهتز ويئن وتدمح عيناه في مواقع كثيرة.
«واضطرب»: وهذا طبعاً نتيجة ما تحمله جسده من أحزان واضطراب الآخرين, تلك التي أخذها على نفسه في تعاطف ومشاراكة وبمحض إرادته, فجاءت كلمة «واضطرب» للتعبير عن ذلك، والتي تفيد حرفياً «جعل نفسه تضطرب»، وتفيد أيضاً الارتجاف والقشعريرة .
وبذلك تكون الأصول النفسية والروحية التي استهدفها المسيح في جسده للانزعاج والاضطراب، هي عملية طوعية إرادية، اعتبرها الله أبوه، واعتبرها هو، واعتبرها علم اللاهوت بناء على ذلك وبناء على سبق النبوة عنها، أنها جزء لا يتجزأ من عملية الخلاص الكبرى التي جاء المسيح وتجسد من أجلها، فهو لم يحمل خطايانا على نفسه فقط، بل وحمل أحزاننا وأوجاعنا واضطرابنا وموتنا، ويصفها إشعياء النبي بقوة بالغة العمق في قوله:
«رجل أرجاح ومختبر الحزن».
«لكن أحزاننا حملها, وأوجاعنا تحملها, ونحن حسبناه مضروباً من الله ومذلولاً».
«وهو مجروح لأجل معاصينا, مسحوق لأجل آثامنا …»
«والرب وضع عليه إثم جيعنا».
«أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن» (إش 53)
إذن، فانزعاج المسيح بالروح واضطرابه، بل و بكاؤه، هذا كله وهو يمثل ضعف الإنسان عامة, حمّل المسيح نفسه به، وثقل روحه تحت عبئه, وأخذه وتبتاه، واشترك فيه كمقدمة ومؤخرة للموت ذاته الذي أخذه لنفسه وهو غريب عن هذا كله، بل وإن الله الآب سر بهذه المشاركة الحزينة والأليمة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من «ذبيحة الإثم» التي قدمها المسيح (عن خطية الإنسان) قدمها بجسده ونفسه وروحه!!!
ويلزم هنا أن نوضح أن القديس يوحنا، في إنجيله، ميز بين النفس والروح للمسيح في شركة الألم والموت:
«لما قال يسوع هذا، اضطرب بالروح، وشهد وقال: الحق الحق أقول لكم إن واحداً ممكم سيسلمني.» (يو21:31)
«فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل. ونكس رأسه وأسلم الروح.» (يو30:19)
«أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (يو11:10)
«الآن نفسي قد اضطربت, وماذا أقول، أيها الآب نجي من هذه الساعة ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة.» (يو27:12)
والآن يلزم أن نفهم أن آية إقامة لعازر من الموت، مع كل ما لابسها من مشاعر وعواطف وأحزان واضطراب وانزعاج، لا يمكن اعتبارها أنها حادثة قائمة بذاتها تمثل ظروفها فقط، بل هي نموذج، وصورة واقعية توضح صلة المسيح، وليس صلة المسيح فقط، بل وصلة الله بموتنا وقيامتنا، وما يلابس موتنا من جميع النواحي البشرية كما حدث في قصة لعازر، ويكفي أن نسع عن الله أنه «في كل ضيقهم تضايق … » (إش9:63). المسيح يكرر حضوره، ويمارس إظهار مشاعره وعواطفه من جهة كل إنسان في الكنيسة يتألم أو يموت لحسابه: «إن عشنا فللرب نعيش، وان متنا فللرب نموت» (رو8:14). ونحن أيضاً نمارس إيمان قيامتنا في كل ميت يموت لنا، وبهذا الإيمان بالقيامة نرى مجد الله: «إن آمنت ترين مجد الله».
إذن، إقامة لعازر من الموت هي منهج إيماني للكنيسة. لقد رفع إنجيل يوحنا «إقامة لعازر من الموت» من حادثة إلى آية لاستعلان مجد الله، لتدخل في الكنيسة كآية لكل من يموت، ولكل من يموت له أحد.
«وقال: أين وضعتموه. قالوا. يا سيد تعال وانظر. بكى يسوع»: لأول مرة يذكر الإنجيل عن الرب أنه يستفسر، أي يطلب معرفة عن شيء. ولكن يبدو في الحقيقة أنه يعلن بذلك عن نيته في إقامة لعازر من الموت، وليس مجرد معرفة المكان. وهذا أيضاً بدوره هو رد الفعل المباشر في إظهار تأثره ومشاركته لعواطف الباكين, باعتبار أن الرب لا يشارك بالعواطف أو الكلمات وحسب، بل وبالعمل المباشر.
«بكى يسوع»: (والرب قد بكى لما رأى الإنسان المخلوق على صورته الخاصة منساقاً للفساد, وذلك حتى ببكائه يضع حدا لدموعنا. فإنه لهذه الغاية أيضاً قد مات حتى يخلصنا من الموت. (القديس كيؤلس الكبير فى تفسير يو35:11. )
الكلمة اليونانية ( )، ويقابلها باللغة اللاتينية في الفولجاتا ( )، وهى المرة الوحيدة في كل أسفار العهد الجديد التي ذُكرت فيها هذه الكلمة ولا تفيد أكثر من أن: « أدمع يسوع»، أي سالت دموعه. وهي تعتبر أصغر آية وردت في الإنجيل. ولكن قد ذكر أن المسيح بكى بكاء الحزن بصوت مسموع في إنجيل القديس لوقا: «وفيما هو يقترب، نظر إلى المدينة، وبكى عليها» (لو41:19). ولكن كان هذا البكاء على هلاك شعب، وكنيسة، وليس على صديق.
دموع يسوع هنا هي صورة لأحزان الرب عل مصير الإنسان, ككل, الذي جلبه على نفسه بالخطية. والقديس يوحنا أسهب في تصوير بشرية المسيح الكاملة وذلك بالأنواع، التي تعبر عن الإنسانية التي فيه:
التعب: «فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا عل البئر.» (يو6:4)
العطش: «فقال لها يسوع أعطيني لأشرب.» (يو7:4)
«قال أنا عطشان» (يو28:19)
المحبة: «…. وجاءت إلى سمعان بطرس والى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه.» (يو2:20)
كما جاءت تعبيرات أخرى مكملة في الأناجيل الأخرى:
الجوع: «فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، جاع أخيراً.» (مت2:4)
التهليل: «وفي تلك الساعة، تهلل يسوع بالروح, وقال: أحمدك أيها الآب…» (لو21:10)
الغضب: «فنظر حوله إليهم بغضب, حزينا على غلاظة قلوبهم…» (مر5:3)
الحزن: «فقال لهم: نفسي حزينة جداً حتى الموت…» (مت38:26)
لذلك كان من المستحيل على المسيح الذي تعب وعطش وجاع وأحب وفرح وغضب وحزن حزناً ثقيلاً حتى الموت، أن لا يبكي وتدمع عيناه، ليس مع الإنسان وحسب بل وعلى الإنسان أيضاً. فالذي ارتضى أن يقبل غصة الموت من أجلنا، كيف لا يترك عيناه تنهمر منها الدموع علينا، والذي ارتضى أن يحمل خطايانا في جسده على الصليب، كيف يمتنع عن أن يذرف الدمع علينا حينما يحل البكاء؟ لقد أحل لنفسه البكاء علينا، ولكنه أبى أن يبكي عليه أحد: «يا بنات أورشليم لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن.» (لو28:23)
يقول اللاهوتيون أن بكاء المسيح أكبر شهادة على كمال ناسوت المسيح، ونحن نقول أيضاً إن بكاء يسوع هو أكبر شهادة على استعلان كمال مشاعر قلب الل !… إن دموع يسوع هي حبات الياقوت التي سقطت علينا من جوهر الله الأزلى، لنصنع منها عقوداً للبهاء والجمال وللتباهي بها لدى الملائكة والرؤساء التي لا تملك أن تبكي.
وكما أبطل المسيح الموت بموته, فلم يعد الموت للعار والعقاب، بل للقيامة والحياة؛ كذلك فالمسيح ببكائه مسح الدمع من العيون, فلم تعد دموعنا لليأس والقنوط، ولكن للحب والعزاء، كدموعه… «يبلع الموت إلى الآبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض، لأن الرب قد تكلم.» (إش8:25)
ويا لفخرنا بدموع الرب هذه، فبعد أن مُسحت دموعنا، وقفت هذه الدموع عينها شهد أن «ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مُجرب في كل شيء مثلنا, بلا خطية، فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات، يسوع ابن الله، فلنتمسك بالإقرار.» (عب14:4-15)
36:11- 37 فَقَالَ الْيَهُودُ: «انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ». وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: «أَلَمْ يَقْدِرْ هَذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا أَيْضاً لاَ يَمُوتُ؟».
هنا أراد القديس يوحنا أن يسجل الوجه الخاطىء لمعنى دموع المسيح، إذ حسبها هؤلاء اليهود أنها دموع جسدية, سقطت عن ضعف, لأنها نابعة من صداقة مفقودة. والعجيب في أسلوب القديس يوحنا السري للغاية أنه يورد بعد قول اليهود هذا، ومباشرة، الرد الذي يصحح هذه النظرة الخاطئة لدموع الرب. إذ يرى اليهود أيضاً, بعض منهم, أن الذي فتح عيني الأعمى، هو قادر بالتالي أن يمنع الموت؛ فالذي يعطي النور يهب الحياة، والذي يعطي النور كيف يبكي على الظلام؟
وعلى العموم كانت تعليقات اليهود هنا، ودائماً, تنم عن فقدان القدرة على مجاراة الرب في استعلاناته ، فلم يستطيعوا ولا مرة واحدة أن يلتقطوا المعنى الروحي في أقوال الرب ولا حتى في آياته. ورد فعلهم هنا لدموع الرب، هو مماثل لرد الفعل الذي أحدثه الصوت الذي جاء من السماء استجابة لنداء المسيح: «أيها الآب مجد اسمك، فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجد أيضاً. فالجمع الذي كان واقفاً وسمع، قال: قد حدث رعد, واخرون قالوا قد كلمه ملاك. أجاب يسوع وقال: ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم» (يو28:12-30). هكذا، ولهذا, بكى يسوع, ليس من أجل نفسه، ولكن من أجل الذين «لم يعرفوا بعد ما هو لسلامهم.» (راجع لو41:19)
38:11- 39 فَانْزَعَجَ يَسُوعُ أَيْضاً فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ. قَالَ يَسُوعُ: «ارْفَعُوا الْحَجَرَ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا أُخْتُ الْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ».
لا يزال المسيح في حالة الاستنفار العليا, والجسد واقع تحت استعداد خروج أكبر قوة خرجت من المسيح لاتيان معجزة, فإقامة الميت من القبر, والجسد قد انحل وتهرآ وآنتتن, تحتاج إلى عملية تخليق وخلق ليعود اللحم المنحل والفاسد إلى لعازر الأول الكامل والصحيح المتعافى. المسيح هنا يا إخوة هو «الكلمة» الخالق, وهو نفسه «المخلص» من براثن الموت, وهو هو «الديان» الذي تسمع الموتى صوته في القبور, وهو أخيراً «القيامة والحياة»، أقصى قوة في السماء والأرض يحتاجها الميت المنتن ليقوم ويحيا ويعيش ويتكلم مرة أخرى, أي جسد هذا, الذي للمسيح, الذي تحمل خروج هذه القوى المتعاظمة التي للخالق الديان والمخلص المحيي!!
سار المسيح إلى القبر في تؤدة، وجسده يرتجف من ثقل هذه القوى التي تموج في داخله تنتظر الكلمة الأخيرة لتخرج منه, لتصارع قوات الظلام في ظلمة الهاوية, وتحطم مصاريع الجحيم، وتفك قيود الموت، لتطلق سبي الروح: «أخرجهم من الظلمة وظلال الموت وقطح قيودهم. فليحمدوا الرب على رحمته وعجائبه لبني آدم . لأنه كسّر مصاريع نحاس وقطع عوارض حديد.» (مز14:107-16)
كان القبر عبارة عن مغارة، إما منحوتة في الجبل أو طبيعية, إما على مستوى الواقف أو منخفضة عنه حيث يوضع الحجر على فم القبر وليس أمامه، وتُغلق الفتحة بحجر كبير, يمكن لأكثر من واحد إما أن يرفعه أو يدحرجه ليقفل باب المغارة، لتًحفظ الأجساد من تعدي الوحوش.
«قال يسوع: ارفعوا الحجر, قالت له مرثا أخت الميت: يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام»: «ارفعوا الحجر»؛ هذا كان أمر المسيح لليهود الواقفين، وذلك ليشتركوا في التمهيد للمعجزة كشهود عيان, كما أمرهم بعد ذلك أن يحلوا الميت من أربطة الكفن، لكي تكون شهادتهم بلمس اليد أيضاً. وهذه يعتني القديس يوحنا في تسجيلها، لأنها جزء لا يتجزأ من برهان صدق الآية. ومجييء تعليق مرثا باحتجاجها أن رائحة الميت ستواجه الذين يرفعون الحجر، لتكمل الشهادة العينية والملموسة والمحسومة بالشم أن لعازر مات وله أربعة أيام في القبر، حتى لا يكون منفذ للمتشككين.
أما على المستوى الروحي السري، فرفع الحجر قبل المعجزة عمل حتمي بالنسبة لنصيب خدام الرب وجهد الكنيسة الذي يمهد بالتعليم والتوضيح, لتتدخل قوة الرب بالروح القدس ليوقظ النفوس من موت الخطية لتقوم وتتقبل الحياة الآبدية.
أما تعليق مرثا من جهة نتن رائحة الميت، فيجيء بصفتها أخت الميت. وهي تمثل صوت النفس المتألمة في صراخها إلى الرب من جهة نتن أعمال الجسد وعفن نجاسته, حينما تتوسل ليقيم الرب سيرة الجسد من وحل الخطية إلى قداسة وبر المسيح: «أنقذ من السيف نفسي، من تد الكلب وحيدتي.» (مز20:22)
«قد أنتن لأن له أربعة أيام»: لعازر المحبوب هنا هو«الإنسان», «آدم» الذي ينضوي تحت شخصه واسمه كل بني البشر، وقد انقضى عليه بالفعل أربعة ألاف سنة, وذلك بحساب الله، فيوم الله ألف سنة, وألف سنة كيوم أمس الذي عبر, منذ أن قبل في جسده الخطية وحكم الموت معاً، ولوثت رائحته الأرض وآفسدتها. وهوذا الرب مزمع أن يرفع عنه الخطية وحكم الموت معاً، ويزكي رائحته برائحته لدى الله والملائكة، وتتولى مريم الإعلان عنها بالناردين الخالص الكثير الثمن, الذي ملأ رائحته الدنيا كلها حيث بُشر بالإنجيل. ولا يفوتنا هنا أن نلمح أن المسيح جعل رحلته تقودها المحبة, بقوله: «لعازر حبيبنا»، و«حبيبنا» جاءت بلفظ الجمع، «قد نام وأنا أذهب لاوقظه», وبهذا قد ألمح إلمسيح إلى محبة الآب من نحو الإنسان عامة التي هي سر رحلته العظمى لخلاص العالم: «هكذا أحب الله العالم, حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل نن يؤمن به.» (يو16:3)
40:11 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللَّهِ؟».
هوذا الرب يعلن من عمل الله إزاء فساد الإنسان، فعوض نتن الموت ينبسق مجد الله، والإيمان وحده هو الذي يرى ذلك ويحققه. فبدون الإيمان يستشري الموت وتفوح نتانة الجسد وتسود عتمة القبر ويأس الإنسان. وبالإيمان تُستعلن القيامة، ويشرق النور، وتفوح رائحة المسيح الزكية لله، ويقيم الفرح في الذين يخلصون!
أما «رؤية المجد» التي تخصص فيها القديس يوحنا وشهد لها: «ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب» (يو14:1)، فهي في نصرة القيامة على الموت. وهذا هو الذي سبق وأعلن عنه المسيح، كمعيار عام تقاس به قصة لعازر في جملتها: «هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله, ليتمجد ابن الله به». أما المجد الذي يقصده المسيح، فهو ليس في مجرد قيامة لعازر، بل في استعلان المسيح أنه ابن الله الغالب لسلطان الموت ومنقذنا من الفساد!!
41:11- 42 فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعاً وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآب أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي. وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي».
يبدو أن الحجر الموضوع على فم القبر كان مواجهاً مباشرة للميت، بمعنى أن المغارة كانت ضيقة يحتل الجسد كل مساحتها، فظهر جسد لعازر الملفوف بالأكفان «حيث كان الميت موضوعاً»، ولا بد أن فاحت معه رائحته حسبما قالت مرثا، مما يفيد أنها تعلم أن الجسد لن يتأثر بالحنوط والعقاقير التي تحفظه، أو تعطيه رائحة مقبولة بسبب انحلاله. وأمام هذا المشهد الذي يمثل الإنسان ومصيره الحزين والكئيب، الذي هو نهاية كل أحد، حيث تتجلى اللعنة بكل مؤثراتها عل الميت وأهل الميت وعلى الأرض التي أحتوته، وقف رب القيامة وفي يده مفتاح الحياة. هذا هو المسيح، في الهيئة كإنسان يبكي بكاء مع الباكين، وأمام الموت صاحب «كلمة الله» التي لا ترتد فارغة (إش11:55). «بر» من الله، و«قداسة», و«فداء», «الذي صار لنا حكمة من الله وبرا وقداسة وفداء» (اكو30:1). وهو«الآبن المحبوب»، الذي يتكلم مع أبيه جهاراً بخصوص المشيئة الواحدة، والعمل الواحد، والمجد الواحد والاسم الواحد. والآب يسمع، وليس فقط يسمع، بل ويمجد أيضاً: «مجدت وأُمجد أيضاً»، وتسمع البشرية والأرض والسماء: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت, له اسمعوا.» (مت5:17)
ونحن نعلم أن المسيح حينما خاطب الآب قبل الصليب, وهو على أبواب المحنة العظمى, لم يخاطبه فقط كإنسان يطلب أن تُرفع عنه هذه الكأس، بل وكأبن الله يطلب ما له: «والآن مجدني أنت، أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم.» (يو5:17)
وحينما طلب المسيح من الآب المجد الذي له في ذات الآب, طلبه «بالمثل», لأن مجد الآب هو مجد الآبن: «كل ما هو لى فهو لك، وما هو لك فهو لى» (يو10:17). هذه الكلمة لم يجرؤ، ولن يجرؤ، إنساذ أو نبي أو ملاك أن يقولها.
أما عن هذا المجد المتساوي أو الواحد، فهذا ما أعلنه المسيح فيما يختص بإقامة لعازر من الموت، من جهة المجد المتحصل من المعجزة، فإن كان الله سيتمجد حتماً بإقامة لعازر من الموت، فهذا المجد عينه سيستقر لحساب الآبن بالضرورة: «هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله, ليتمجد ابن الله به». ويلاحظ هنا أن مجد الآبن ليس مضافاً لمجد الآب، بل مجد الآب هو نفسه لمجد الآبن.
«ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أشكرك أيها الآب, لأنك سمعت لى. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لى»: كان يتحتم على المسيح، وهو بصدد استعلان مجد الله الآب من جهة قوة القيامة من الموت المزمع أن يظهر في الحال، أن يتكلم مع الآب وذلك:
أولاَ: حتى يعلم الجمع أن العمل المزمع أن يتم بأمر المسيح، هو عمل الله الآب، لكي يؤمن الجمع الواقف، ولكي يدرك الأعداء والمتشككون أنه سيتم بقوة الله، وليس بعمل السحر أو بقوة الشيطان.
وثانياً. لكي لا ينسب المسيح عمل القيامة أو المجد المتحصل منها لنفسه، من دون الله. لهذا ظهر المسيح وكأنه يصلي. ولكن صلاة المسيح هذه خلت خلوا تاما من أي طلب، فهي للشكر فقط، وكأنها صلاة تسبيح واستجابة. فقد ظهر فيها توافق المشيئة بصورة مسبقة وعلنية: «أنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لى», مما يكشف سر المحبة والمشيئة الواحدة بين الآب والآبن، سر الوحدة: فالآبن على الأرض يسأل بفم الإنسان، والآب في السماء يستجيب دائماً وبلا تحفظ ولا استثناء. فهي استجابة مطلقة بسبب تطابق المشيئة تطابقا مطلقا: «في كل حين تسمع لي». وهذا بحد ذاته كان مسرة للمسيح وموضع شكره، لأنه يكشف للسامعين والناظرين علاقة الآب بالآبن. فالآبن المرسل في صورة الإنسان، يسوع المسيح، يسمع لمشورة الآب ويطيعها طاعة مطلقة. وحينما يطلب من الآب من أجل الإنسان وباسم الإنسان، يستجيب الآب استجابة مطلقة, لأنه يفعل كل حين ما يرضيه. هذا «التوافق» المطلق بين الطلب والاستجابة لحساب الإنسان يستعلن فيها المسيح، بكل يقين، أنه مرسل من الآب، وهو ابن الله بالضرورة.
ثالثاً: يلزمنا أن ننتبه جداً أن صلاة المسيح هذه هي لحسابنا، وهي بفمنا (يقول في ذلك القديس أثناسيوس: [إن كل صلاة صلاها المخلص, إنما قد صلاها بالنيابة عن طبيعة الإنسان] (تفسير مزمور 68)
ويشترك معه القديس كيرلس الكبير قائلاً: [أنه بفعل ذلك (الصلاة) بالنيابة عنا، وطلبتنا نحن هي التي صارت فيه] (الكنز في الثالوث)
[فإننا نحن الذين كنا فيه نصلي بصراخ شديد ودموع, ونطلب أن يبطل سلطان الموت، وأن تتقوى الحياة الموهوبة قديماً لطبيعتنا] (عن الإيمان القويم))، والمسيح يقدمها للآب بدالة بنويته، التي سلمنا سر نعمتها وسر قوتها وخصوبتها؛ لكي في دالة بنوة المسيح للآب هذه عينها، نتقدم نحن أيضاً كبنين لله بالتبني بيسوع المسيح، ونسأل ونطلب بحسب روح الله الذى يهذب مشيئتنا ويقويها, لتكون بحسب مشيئة الآب والآبن لتستجات كل طلباتنا لدى الله, كل ما طلبنا ونطلب.
هذا الأمر خطير في الحقيقة، لأنها عملية فائقة، سلمها لنا المسيح لنكمل بها عمله, وليس لنتمجد بها نحن. هذا السر يدخل دخولاً عمليأ في مسئوليتنا لتكميل عملية الخلاص التي وُهبت لنا بموت الرب وقيامته. فالصلاة هي قوة منبعثة من العمل الفدائي، الذي أعطي لنا أن نكمله في أنفسنا وفي الآخرين، وهي سر فعل الخلاص الذي يقتحم القلوب القاسية, لتباشر كلمة المسيح في فاعليتها داخل النفس، لتخلصها من براثن الخطية والشيطان. فالصلاة هي الموهبة العامة التي أعطيت للجميع: «لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح» (أف12:4). فالصلاة المستجابة هي أيضاً من سمات العهد الجديد, المميزة لأولاد الله, ثم أخيراً، هي المنفذ الذى وعد به الرب أخصاءه وأحباءه، تجاه الضيقات والمحن والتجارب، التي تحتم علينا أن نواجهها في االعالم الحاضر: «ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ, لتستطيعوا أن تحتملوا» (1كو13:10). وهذا هو الوعد الذي قطعه الرب على نفسه:
+«ومهما سألتم باسمي، فذلك أفعله، ليتمجد الآب بالآبن. إن سألتم شيئاً باسمي، فإني أفعله.» (يو13:14-14)
وواضح هنا أن الرب يكمل نفس صلاته وسؤاله عنا لدى الآب بواسطة صلواتنا!! فصلواتنا داخلة, بالنعمة التي لنا في المسيح, دخولاً لاهوتياً, أي في سر علاقة الآبن بالآب, في صلاة المسيح. ولأن علاقة الآبن بالآب لا تحتمل الرفض ولا الإهمال على وجه الإطلاق، لذلك فالمسيح يؤكد, بسبب هذه العلاقة السرية بينه وبين الآب, أنه «مهما سألتم باسمي، فذلك أفعله»!!
+ «إن ثبتم في وثبت كلامي فيكم، تطلبون ما تريدون فيكون لكم.» (يو7:15)
واضح هنا أيضاً أن الرب يرفع من نوعية صلواتنا من مستوى السؤال الذي ينتظر الجواب، إلى صلاة الشكر بسبب الاستجابة المؤكدة: « تطلبون… فيكون لكم», وهي نفس نوعية صلاة المسيح لدى الآب، حيث المسيح ألغى «السؤال» من لدن الآب من جهة قيامة لعازر, ووضع مكانه «الشكر» لثقته في الاستجابة الحتمية.
+ «وفي ذلك اليوم لا تسألونني شيئاً. الحق الحق أقول لكم: إن كل ما طلبتم من الآب باسمي, يعطيكم.» (يو23:16)
+ «في ذلك اليوم تطلبون باسمي, ولست أقول لكم إني أنا أسأل الآب من أجلكم، لأن الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتموني، وامنتم أني من عند الله خرجت.» (يو26:16-27)
وهذه هي آخر درجة في نوعية الصلاة. فهي لا تعود تحتاج أن يتدخل المسيح بدالة بنوته لدى الآب ليرفع صلواتنا إلى الآب, بل المسيح يسلمنا دالة بنوته عينها مع محبة الآب له, لنطلب بمقتضاها ومن داخلها وكأننا بفم الآبن نتكلم مع الآب، ونشكر. فكما يستجيب الآب للابن، يستجيب لنا, حيث اسم يسوع المسيح فقط يقدمنا للآب في شخصه: «الذي به، لنا جراءة وقدوم بإيمانه (إلى الآب) عن ثقة.» (أف12:3)
+ «إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا, تأخذا, ليكون فرحكم كاملاً.» (يو24:16) هنا، أولاً, يستحثنا المسيح أن نسأل باسمه, وذلك الاحثاث يكشف عن لزومية السؤال والأخذ بالنسبة لنا ولحياتنا وبالنسبة لخلاص الآخرين. وهذا العمل (أي السؤال) هام بالنسبة للمسيح نفسه, فهو استمرار لاستعلان قوة وفاعلية اسم المسيح في العالم، لتكميل عمل الخلاص الذي بدأه، كما هو هام لازدياد ونمو اختبارنا لقوة المسيح وفاعلية اسمه.
وثانياً: يرى المسيح أن وراء السؤال باسمه واستجابة الآب للسؤال، استعلاناً لمحبة الله لنا: «الآب نفسه يحبكم»، وذلك نتيجة لثقتنا وايماننا وحبنا للمسيح: «لأنكم قد أحببتموني، وآمنتم أني من عند الله خرجت.» (يو27:16)
واستعلان محبة الآب لنا, هي مصدر «الفرح الكامل». وليس سرا أن نقول، بحسب خبرة النعمة، أن الفرح الروحي الكامل هو الإعلان الحسي عن حضور الله, أو الحياة في حضرته، التي هي منتهى قصد الإنسان.
والقديس يوحنا يشهد من خبرته العملية على صدق هذا الكلام بقوله: «ومهما سألنا ننال منه، لأننا نحفظ وصاياه (يثبت كلامي فيكم)، ونعمل الأعمال المرضية أمامه» (ايو22:3)، «وهذه هي الثقة التي لنا عنده، أنه إن طلبنا شيئا حسب مشيئته، يسمع لنا. وان كنا نعلم أنه مهما طلبنا، يسمع لنا، نعلم أن لنا الطلبات التي طلبناها منه.» (ايو14:5-15)
42:11- 43 «………. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً».
بعد أن هيأ المسيح عقول الجمع والتلاميذ ومرثا ومريم لقبول المعجزة، ورفع حرارة قلوبهم وايمانهم إلى أعلى درجة في الإيمان، حتى صار الجميع يثقون أن لعازر سيقوم مائة بالمائة: «لأنك في كل حين تسمع لى», وبعد أن اطمئن المسيح أن الجميع قد تعلق قلبهم بالله الآب كصانع لمعجزة «القيامة»، ورأى الجميع المسيح وهو رافع يديه نحو السماء وسمعه وهو يتحدث مع الله الآب؛ شعر الجميع بالصلة السرية بين السيح والآب والدالة والتوافق بينهما، فأدرك أن ما سيعمله المسيح هو هوعمل الآب، وأن العمل الوشيك أن يعمله المسيح بسلطان فائق هو لمجد الله الآب ليتمجد به المسيح: «صرخ بصوت عظيم لعازر هلم خارجاً».
واضح أن الرب يتعامل هنا مع قوة أخرى عنيدة، يأمرها بقوة واقتدار وجلال عظم: «صوت الرب بالقوة، صوت الرب بالجلال… صوت الرب يقدح لهيب نار، صوت الرب يزلزل البرية.» (مز4:29-8)
نعم، سمعت الهاوية فتزلزلت وأخلت قوات الجعيم أسيرها: «استجب لى سريعاً، اقترب إلى نفسي، فكها، بسبب أعدائي افدني .» (مز17:69-18)
هنا صورة حية ناطقة لما يصفه بولس الرسول فيما سيكون حتماً: «لأن الرب نفسه بهتاف، بصوت رئيس ملائكة، وبوق الله ، سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون أولاً» (اتس16:4)
وصراخ المسيح «بصوت عظيم» يلمح به القديس يوحنا إلى أن «نوم» لعازر كان عميقا للغاية، ويتوافق مع كلمة الرب أنا أذهب «لاوقظه». وهكذا يستصغر الإنجيل من قدر الموت أمام رب الحياة. ولكن، وفي الحقيقة أيضاً، فإن صراخ الرب بصوت عظيم يكاد يرعب السامع والناظر وحتى القارىء, لأننا تعودنا أن نسمع عن الرب أنه «لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته» (مت19:12)، فهنا وفي يقيني أن قوة هائلة خرجت من الرب لم يستطع جسد المسيح إلا أن ينوء تحتها معلناً عنها بهذا الصراخ العظيم. فهذه بعينها قوة الحياة التي تفوق قوة الخلق، لأنها تتعامل مع نفس مقيدة بقيود الجحيم, ومع جثة منتنة عبثت بها كل عوامل الانحلال. والعقل يقف حائراً وقد أخذه الذهول، لأن النفس والجسد استجابا في الحال, وعادا إلى الحياة برجع صدى صوت المسيح.
44:11 فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ.
خروج لعازر الميت من القبر بأقمطته، صورة مرعبة حقاً لا يستطيع أن يلاحقها الخيال دون أن يصاب الفكر بالدوار. فالإنسان تآخى مع الموت وصورة الموتى, ولم يتآخى بعد مع القيامة وصورة الخارجين من القبور. فالقيامة وإن كان اسها حلو للغاية بالمفهوم الروحي, إلا أن تصورها بالجسد مرعب لأقصى حد. وهذا ما عاناه التلاميذ عند قيامة المسيح في أول الأمر: «وقف يوع في وسطهم وقال لهم: سلام لكم. فجزعوا وخافوا, وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مضطربين, ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم» (لو36:24-38)؛ لأن قيامة الجسد لم تكن تخطر على بال.
أما خروج الميت وهو مربوط. فلا داعي أن يربك الفكر، لأن عادة اليهود في تكفين الميت أخذوها عن المصريين الفراعنة، حيث يلف كل ذراع بمفرده وكل رجل بمفردها، بحيث يمكن تصور لعازر وهو يقوم ويقف ويمشي ويخرج.
وبالنهاية، فإن منظر لعازر خارجاً من القبر يبسط لنا معنى القيامة، ويوضح لنا القوة المذخرة في المسيح التي قام بها من الموت.
44:11 ……. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ».
عجيب المسيح في حاسته الحاضرة دائماً لاحتواء الذهول والرعبة التي كانت تعقب معجزاته. فهنا لا يمكن أن نتصور مدى الفزع والرعبة والخوف الذي أصاب الجميع حينما رأوا لعازر خارجاً من القبر، لذلك بادرهم المسيح في الحال بأمر يستعيد به حركتهم ويطبع به شعورهم تجاه الأمر الواقع أمامهم: «حلوه ودعوه يذهب». هذا حدث أيضاً في المواقف الأخرى المماثلة: «فقال: أيها اشاب لك أقول قم، فجلس الميت وابتدأ يتكلم _ فدفعه إلى أمه» (لو17:7)، «ونادى قائلاً: يا صبية قومي. فرجعت روحها وقامت في الحال _ فامر أن تُعطى لتأكل.» (لو55:8)
هذا، يا إخوة، ما حدث، وما حدث أمر لم يحدث له مثيل قط: ميت يقوم من القبر بعد أربعة أيام, وقد أنتن وتحلل جسده. ولكن الذي نعرفه جيداً أن آيات أخرى كثيرة حدثت لم يُكشف عنها ولم يذكرها هذا الإنجيلي الرائي الفريد في روحه وأسلوبه، ولا نعلم يا إخوة ما الذي منعه من ذكرها غير أن نموذج قيامة لعازر يجعلنا نؤمن أن المسيح هو ابن الله الحي ديان الأحياء والأموات، ونتيقن أن قيامتنا حقيقة واقعة, ونحن بانتظار صوت المسيح «الآن» وكل يوم
45:11- 46 فَكَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ وَنَظَرُوا مَا فَعَلَ يَسُوعُ آمَنُوا بِهِ. وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ.
واضح هنا أن اليهود الذين جاءوا للتعزية كان بعض منهم أصدقاء أوفياء وأوا وآمنوا بالمسيح, وكأنما الصوت الذي سمعه لعازر في القبر سمعوه, وقوة الحياة التي سرت في أوصال الميت فأقامته، سرت فيهم وأقامتهم، وذاقوا الحياة في المسيح, فآمنوا به كرب القيامة والحياة الآتي إلى العالم، وهذا منتهى قصد المسيح والآب الذي أرسله. أما البعض الأخر من اليهود فلم تكن لهم آذان روحية تسمع ولا عيون روحية تبصر، وهؤلاء هم الذين قال عنهم المسيح على لسان إبراهيم في قصة لعازر والغني: «فقال له إن كانوا لا يسمعون من موس والأنبياء. ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون» (لو31:16), لأن غيرتهم كانت منحصرة في الأرضيات, فكانت إقامة المسيح للعازر من الموت تمثل عندهم ضياع هيبة السنهدريم والرؤساء والكهنة والكتبة والفريسيين جميعاً، وكل من ارتزق من الهيكل وتمسك بالأرض والميراث والتراث التي ينادي بها المتعصبون للأمة وقضاياها. فذهبوا في الحال ليخبروا رؤساءهم بما حدث ويخبروا عن الذين آمنوا.
47:11- 48 فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: «مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا»
يلاحظ هنا أن رؤساء الكهنة بدأوا يتحركون بسرعة، عن خوف وحقد معا، لأن رؤساء الكهنة هم الصدوقيون الذين لا يؤمنون بالقيامة، فكانت إقامة لعازرعن الأموات تمثل بالنسبة لهم ولمبادئهم هزيمة بالضربة القاضية، لذلك أصبح التخلص من المسيح بمثابة قضيتهم الأولى وخلاصهم الوحيد.
وفي هذه المرة لم يرسل رؤساء الكهنة ولا الفريسيوف من يحقق في صدق هذه الآية، لأنها كانت ثابتة بشهود وفوق الشبهات.
أما الفريسيون المجتمعون معهم، فلم تؤثر فيهم هذه الآية, أي القيامة من الموت, كثيراً لأنهم كانوا يؤمنون بالقيامة. ولكن عداءهم للمسيح كان نابعاً من تعارض تعاليم المسيح مع مصالح ومستقبل مهنتهم, وبالأكثر تعارض مح سلوكهم وأخلاقهم. غير ان بعضا منهم كانوا قد أمنوا بالمسيح، ولكن بسبب الخوف أخفوا أنفسهم. ولذلك لا نعود نسمح كثيراً عن تحرك الفريسيين في كل الأصحاحات القادمة, بل كانت القيادة والحركة دائماً لرؤساء الكهنة ولا يُسمع عن الفريسيين إلا داخل السنهدريم لأنهم أعضاء بالضرورة. وفي النهاية تخلى الفريسيون عن المقاومة, وتمثلت العداوة للمسيح في رؤساء الكهنة وحدهم، وكانت عداوة حتى الموت. وهذا الاتجاه واضح أيضاً فى الأناجيل الأخرى.
وهكذا نرى من تركز حركة قيادة المقاومة في رؤساء الكهنة، وذلك بصفتهم فئة الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة، أن آية إقامة لعازر من الموت كانت السبب الأخير والمباشر الذي بلور في أذهان رؤساء الكهنة حتمية سرعة موت المسيح الذي سبق وقرروه عدة مرات.
ونحن نقرأ ما كان يدور في أذهاذ الفريسيين ورؤساء الكهنة منذ البداية من ضرورة موت الرب هكذا:
+ «فأجابهم يسوع: أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل. فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه, لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله.» (يو17:5-18)
+ بعد التعليم عن أكل الجسد وشرب الدم: «وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل. لأنه لم يرد أن يتردد فى اليهودية، لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه.» (يو1:7)
+ بعد تعليمه في الهيكل وتوبيخه للفريسيين: «أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس. لماذا تطلبون أن تقتلوني.» (يو19:7)
+ «فقال قوم من أهل أورشليم : أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه.» (يو25:7)
+ «ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمتكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله إبراهيم.» (يو40:8)
+ «فرفعوا حجارة ليرجموه . أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم، ومضى هكذا.» (يو59:8)
+ «… أنا والآب واحد. فتناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه.» (يو30:10-31)
ثم جاءت أخبار آية إقامة لعازرعن الموت التي جعلتهم يعقدون مجمعاً في الحال، لينظروا بجدية في أمر قتله:
«ماذا نصنع, فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به»: كان فكر رؤساء الكهنة والفريسيين قد انشغل منذ البداية بالآيات التي كان يصنعها المسيح. وكان القلق والخوف يتزايدان بتزايد الآيات. وكانت العوامل التي تثير هذا الخوف والقلق تنبع من ثلاثة أسباب، هي بحسب أهميتها لهم كالآتي:
الأول: الخوف على مراكزهم, بصفتهم رؤساء وقضاة الأمة، وفي نفس الوقت لم يتحنن عليهم الرب بأي مواهب أو مميزات روحية تحفظ لهم حق هذه الرئاسة والكرامة، في مقابل الآيات التي كان يصنعها المسيح والتي بدأت تتزايد ويتزايد معها المؤمنون به.
الثاني: خلاصة تعاليم المسيح كانت تتجه نحو الحياة الروحية واستيطان السماء واضعاف التقاليد وبخاصة حفظ السبت, مما تراءى لهم أن هذا يخلخل تمسك الشعب وخاصة الغيورين منهم بميراثهم الأرني والآبائي والناموسي. وهذا يسهل على المستعمر الروماني الاستيلاء على الأرض والحكم معاً. وبذلك تتلاشى عناصر الأمة اليهودية التي تقوم على الأرض والناموس. وهذا كان يؤرقهم للغاية.
ثالثا: شخصية المسيح كانت قد بدأت تأخذ ملامحها الإلهية، ويتزايد العنصر الإلهي فيها بزيادة الآيات التي كانت تنطق كلها بأنه ليس مجرد نبي، وتصريح المسيح بأنه ابن الله (يو36:10)، وأنه هو والله الآب واحد (يو30:10). وهذه كانت تتعارض تعارضا جذريا مع مفهوم وحدانية الله عندهم. وكانت كلمات المسيح تطيح بعقولهم وتتركهم شبه مجانين. فكان المسيح يمثل عندهم حد التجديف الأعلى الذي يستوجب الموت.
وهكذاه كلما كان المسيح يتزايد قوة بالآيات التي يصنع؛ كانوا هم يتزايدون ضعفا بسبب عدم قدرتهم على عمل أى شيء يجتذب نظر الشعب ويوقف معركة الإيمان به. فكانت حيرتهم فوق العقل: «ماذا نصنع؟».
وهكذا شكل المسيح في قلوبهم حركة ضياع تراءت لهم أنها مصيرية، خاصة حينما رأوا أن أعداد الذين يؤمنون به تتزايد بصورة رهيبة: «إن تركناه هكذا، يؤمن الجميع به».
«فيأتي الرومان ويأخذون موضعنا وأمتنا»: وهكذا كانت سرعة الحسم في أخذ قرار متعجل جاهل مملوء أخطاء شيئاً خارجاً عن نطاق العقل. وقد اتجه قرار مجمع السنهدريم نحو «الخوف السياسي» أكثر منه نحو الخوف على الناموس والأنبياء والتقليد والمبادىء الإلهية, مما يوضح مدى انحراف الرؤساء عن جوهر رسالتهم وعبادتهم.
وهذا الاتجاه السياسي في التفكير بالنسبة لقضية المسيح المطروحة في المجمع، يفيد أن عنصر الصدوقيين كان هو السائد والمحرك للمجمع وليس العنصر الفريسي زي الإتجاه التعليمي.
ويقرر العلامة الألماني شناكنبرج في كتابه. «حكم الله والملكوت» (في الصفحات 57-62)، موقف الفريسيين الشديد التمسك بالتوراة الذي, في اعتقادهم, هو الطريق الوحيد الذي يمهد لمجيء المسيا وبداية حكم الله. كما يصفهم العلامة الألماني فورستر بأنهم, أي الفريسيين، حاولوا باستمرار، أولاً في أيام بومبي الوالي الروماني، أن يعفوا أنفسهم من شئون الحكم على يدي الهاشمونيين والهيروديين بعدهم لكي يتفرغوا ويكرسوا أنفسهم تكريساً كلياَ لخدمة الناموس, راضين بالحكم الروماني الذي تولى شئون التنظيم الخارجي.
ويقرع العلامة الألماني شناكنبرج أيضاً أن موقف الفريسيين هذا ظهر بوضوح عند معارضتهم ومقاومتهم للثورة المسلحة ضد الرومان عند قيام الحرب اليهودية، كما يقرر هذا العلامة يوسيفوس المؤرخ اليهودى.
«يأخذون موضعنا»: الموضع هنا باليونانية لا يعني الأرض ولا المدينة المقدسمة كما يظن بعض العلماء، ولكنه الاسم الطقسي للهيكل المقدس, الذي يبغي أن يُسجد فيه وحده, كما جاء في يو20:4: «تقولون أن في أورشليم الموضع الذي يبغي أن يُسجد فيه». ولا يزال هذا الاصطلاح يستخدم حتى الآن في الكنيسة القبطية في القداس، وفي كل الصلوات عند البداية، في صلاة الشكر: «كل حسد وكل تجربة وكل فعل الشيطان ومؤامرات الناس الأشرار وقيام الأعداء الخفيين والظاهرين انزعها عا وعن سائر شعبك وعن موضعك المقدس هذا»
ومعروف أن الهيكل المقدس في أورشليم كان هو رمز الوجود والحياة بالنسبة لليهود، أكثر من أورشليم ذاتها ومن كل الأرض. والعجيب حقاً أن قتلهم للمسيح بسبب خوفهم من ضياع الهيكل، سبق المسيح وأعلن إزاءه أن موته سيكون سبباً مباشرأ لهدم الهيكل ولقيام الهيكل الجديد (جسده) عوضا عنه: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه.» (يو19:2).
«يأخذون… أمتنا»: ويقصد بها الأمة اليهودية, الجنس اليهودي, بمفهوم فقدان «الحرية الدينية» التي كان الرومان قد سمحوا بها لليهود. وهذه هي بعينها, أي الحرية السياسة, التي وقفت حجر مثرة في تقبلهم الحرية التي في المسيح، التي تنقذهم من عبودية الخطية وعبودية المجد الدنيوي. ولكنهم فقدوا هذه وتلك: «أجاب رؤساء الكهنة ليس لنا ملك إلا قيصر» (يو15:19), «لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله» (يو43:12). ومعروف أن بعد صلب المسيح بأربعين سنة، أي في سنة 70 م دخل الجيش الروماني وهدم وأحرق الهيكل، وأسر الشعب اليهوي.
49:11- 50 فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ قَيَافَا كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً. ولاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا».
«قيافا»: في الأصحاح الثامن عشر من إنجيل القديس يوحنا نقرأ أن رئيس الكهنة الذي حوكم المسيح أمامه هو حنان ثم قيافا: «ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه ومضوا به إلى «حنان» أولاً، لأنه كان حما قيافا الذي كان رئيساً للكهنة في تلك السنة.» (يو12:18-13)
وفي إنجيل القديس لوقا نقرأ: «في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا» (لو2:3), أي أن كلا من حنان وقيافا كانا يباشران وظيفة رئيس كهة في ذات الوقت.
وفي سفر الأعمال نقرأ: «وحدث في الغد أن رؤساءهم وشيوخهم وكتبتهم اجتمعوا إلى أورشليم مع حنان رئيس الكهنة وقيافا ويوحنا والإسكندر وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة.» (أع5:4-6)
هذه الشبكة المتشابكة من رؤساء الكهنة، يحل لنا لغزها العلامة والمؤرخ اليهودي يوسيفوس حيث يقول إن فاليروس جراتوس أسقط حنان رئيس الكهنة من وظيفته سنة 14م، بعد أن كان قد شغلها سبع سنوات. ولكن ظل تأثير حنان قويا بسبب شخصيته، حتى إن الشعب ظل يعتبره رئيساً رسميا للكهنة بالرغم من إقالته. وظلت رئاسة الكهنوت الرسمية يتداولها أفراد عائلة حنان بالتتابع» فشغلها إشماعيل, ثم ألعازار ابنه، ثم سمعان ابن ألعازار، وأخيراً شغلها يوسف قيافاء وهو الذي يذكره يوحنا في إنجيله أن حنان حماه، موضحاً بذلك رئيس الكهنة الرسمي ورئيس الكهنة بالتدخل، وهو حنان, المعروف عنه أنه كان جريئا وغير مستقيم.
وقد شغل قيافة رئاسة الكهنوت من سنة 25 حتى سنة 36م, أي طوال مدة خدمة الرب يسوع، وكان معروفا بالجهل والقسوة وأنه أرستقراطي النزعة كما يصفه يوسيفوس.
اجتمع السنهدريم مع رؤساء الكهنة والفريسيين، ونُظرت قضية المسيح، وكانت أمامهم معقدة أشد التعقيد، فلم يكن الرأي متفقا على شيء، وظل النقاش مستمرا بصورة عابسة ويائسة. وهذا واضح كل الوضوح من الإشارة الواردة في محضر الجلسة: «أنتم لستم تعرفون شيئاً». وهذا يعني أن المجلس كله كان في حالة إرتباك, وهذا معروف ضمناً لأن الصراع التقليدي بين الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة وبين الفريسيين الذين يؤمنون بها وارد قطعاً، لأن المجلس انعقد على أساس المعلومات الواردة بخصوص آية إقامة لعازر من الموت. ولكن مجلس اليهود لا يُعدم الحيل والمناورات. فقد انبرى «واحد منهم» وكأنه أشجعهم، وهو قيافا، ليسعف المجلس برأيه، وكان محسوباً أنه الرأس المسئولة عن سياسة الأمة، لذلك كان يتكلم بلسان رجل دولة للأمة كلها. ولكنه, وللأسف, كان معروفاً أنه أكثرهم جهلاً.
«كان رئيساً للكهنة في تلك السنة»: القديس يوحنا هو المتكلم. وكلام القديس يوحنا لا يؤخذ بسهولة, فكلمة «في تلك السنة» لا تعني أن التعيين بالنسبة لرؤساء الكهنة كان يجرى سنوياً، فهذا ليس صحيحاً. فقيافا استقر في رئاسته (25-36) حتى أسقطه الوالي فيتوس بعد سقوط بيلاطس بقليل. والمعروف أن رئيس الكهنة يُعين لمدى الحياة, ولكن المعنى السري, أي الروحي غير الحرفي, يهدف إلى أن «هذه السنة» لا تعني الضبط التاريخي ولكنها منسوبة إلى «حياة المسيح», فهي سنة المسيح أي «سنة الرب المقبولة» (إش2:61) حسب النبوات. وقيافا كان هو رئيس الكهنة لهذه السنة التي في لاهوت القديس يوحنا هي سنة النهاية والبداية، الموت والقيامة، وحيث النهاية بالنسبة للقديم, وحكم الموت بالنسبة إلى حبرية هذا الكاهن حسب كلامه، حيث ماتت (هلكت) أمة وقامت الأمم: «خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها».
هذا القول الذي قاله قيافا اعتبرته الكنيسة الاولى أقوى تعبير نبوي نطقه رئيس كهنة العهد القديم, دون أن يدري, عن مفهوم الفداء الذي تم بموت المسيح. وهذا في الواقع هو صدى تعبير المسيح نفسه، لأن «ابن الإنسان أيضاً لم يأت ليُخدم بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.» (مر45:10)
وكلام قيافا صار حقيقة واقعة، لأنه بموت المسيح صار الخلاص لشعب الله الحقيقي، وهو إسرائيل الجديد. غير أن قيافا كان يرى ويؤمن ويخطط أن يموت المسيح لتتخلص منه الأمة. ولكن الذي حدث أنه مات لتخلص به، وليس لتتخلص منه. وكان سبب الإقدام على قتل المسيح عند قيافا هو إحكام إغلاق حدود الأمة اليهودية على نفسها، لتمنع تدخل الرومان, الذين كانوا في ذلك الوقت يمثلون جميع الأمم, ولكن في المقابل كان السبب الأساسي عند المسيح في قبوله الموت, هو كسر هذه الحدود بالذات التي كانت تطوق الأمة اليهودية عن الرومان واليونان وباقي الأمم, والتي كانت تمنع عنهم معرفة الله وقبول الخلاص.
لذلك, فإن قرار مجلس السنهدريم الذي كان يمثل في الحقيقة خلاصة «الناموس» على أيدي أئمة العلماء القيمين عليه؛ والذي يتلخص في ضرورة بل وصلاح عملية قتل المسيح الذي ثبت أنه هو هو رجاء وكمال الناموس… كان هذا القرار هو القرار النهائي ضد صلاحية الناموس!
وأبسط الحلول التي كان قيافا يتقنها كرجل دين ودولة في فنون السياسة الكهنوتية, هي القتل للتخلص من أي ما يعكر صفو الجو الكهنوتي. وسفر الأعمال يذكر استمرار هذه السياسة: «فقام رئيس الكهنة وجميع الذين معه الذين هم شيعة الصدوقيين وامتلأوا غيرة. فألقوا أيديهم على الرسل ووضعوهم في حبس العامة.» (أع17:5-18)
«أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون»: هكذا ظهر قيافا كصاحب الحكمة وسط أعضاء السنهدريم الذين لا يعرفون شيئاً من دبلوماسية الأمة ولا يفكرون جيدا لمصلحتها، حيث يلزم أن يسفك دم البريء من أجل صالح الأمة هكذا!! هذا ما انتهى إليه ناموس موسى على يد قيافا ومجمع السنهدريم، لذلك كانت بحق «هي السنة الأخيره» بحساب صلاحية الناموس والكهنوت القيم عليه.
أما يسوع، ففي رأي قيافا, كان لا ينبغي أن يذكر اسمه بعد, بل يكفي أن يكون مجرد «إنسان واحد». ووقت المجلس ليس يتسع بعد لرأي الفريسيين، الذين كان على ما يبدو هو إعادة فحص سلطان المسيح وبأي سلطان كان يفعل الآيات، ولماذا أقبل الشعب على الإيمان به، وكيفية تحديد نشاطه. فقد كان قول قيافا: «أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون»، هو الرد الحاسم الذي أسكت الفريسيين وأنهى على المداولة بأكملها. وجاء مشروع القرار مع مسبباته في جلسة واحدة: «أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها».
ونحن لو أردنا أن نعرف ماذا كان يتداوله الفريسيون قبل هذا القرار وبعده, نجده هكذا: «فقال الفريسيون بعضهم لبعض: انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً هوذا العالم قد ذهب وراءه.» (يو19:12)
واضح من القرار قدرة قيافا على إلباس الحق ثوب الزور، وتعليل القتل بأنه عين الخلاص للحياة.
ثم يلتقط القديس يوحنا هذا القرار ويقلبه رأساً على عقب لتظهر فيه النبوة واضحة. فبحسب نظرية قيافة، كانت النتيجة شؤماً على الأمة ، لأن الرومان أخذوا موضعهم وحرقوه وأهلكوا الأمة وشتتوا الشعب. فحكمة قيافا كانت هي حكمة الشيطان بعينها بالنسبة لمصير اليهود كيهود. وإن أبدع تصوير يحقق هذه العملية، هو المثل الذي قاله المسيح قبل موته مباشرة عن الكترامين الأردياء: « ولكن أولئك الكرامين قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث هلموا نقتله فيكون لنا الميراث، فأخذوه وقتلو وأخرجوه خارج الكرم. فماذا يفعل صاحب الكرم؟ يأتي ويهلك الكرامين ويعطي الكرم إلى أخرين… عرفوا أنه قال المثل عليهم … » (مر8:12-12)
51:11- 52 وَلَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ. وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ.
والقديس يوحنا يشير إلى قول المسيح: «وأنا أضع نفسي عن الخراف (خراف بيت إسرائيل). ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة, ينبغي أن أتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراع واحد» (يو15:10-16)، على أن «أبناء الله» المتفرقين الذين في عرف قيافا هم يهود الشتات, يعتبرهم القديس يوحنا هم أولاد الله المعينين للحياة الأبدية (يو12:1).
«إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبأ»: كان رئيس الكهنة يمثل الرئاسة الإلهية لليهود، فهو الذي يسأل الله عن الشعب، ومن فمه تطلب الشريعة، وقوله هو القول الملهم من الله في الأمور التي يعسر فهمها أو يحوطها الشك، وهذا نقرأه في (خر30:28)، وفي (لا8:8)، وفي سفر العدد عند تكريس يشوع قائداً للشعب: «فقال الرب لموسى: خذ يشوع بن نون, رجلاً فيه روح وضع يدك عليه… وأوقفه قدام اليعازار الكاهن… فيقف أمام ألعازار الكاهن فيسأل له بقضاء الاوريم أمام الرب…» (عد18:27-21). وهذا كان معناه أن رئيس الكهنة يسأل الرب عن كل ما يريد أن يعرفه قائد الشعب.
وفي الإنجيل يوجد ما يفيد مثل هذه النبوات التي خرجت من أفواء أصحابها بعكس ما كانوا يقصدون أو يتمنون، مثل بيلاطس حينما قال لرؤساء الكهنة: «هوذا ملككم» (يو14:19)، أو حينما قال رؤساء الكهنة: «دمه علينا وعلى أولادنا» (مت25:27)، أو حينها خاطبوا المسيح المصلوب: «خلص آخرين أما نفسه فما يقدر أن يخلصها.» (مت42:27)
وفي أقوال فيلو الفيلسرف اليهودي المعاصر للقديس يوحنا، ما يفيد أن رئيس الكهنة كان يٌحسب كنبي.
على هذا الأساس، يرى القديس يوحنا أن ما نطق به قيافا، كان نبوة حقيقية من الله دون أن يقصد أو يعلم، أو على وجه الأصح، بعكس ما كان يفكر فيه، ربما مثل بلعام بن بعور الذي كان كلما أراد أن يلعن إسرائيل كانت تأتيه النبوة ليباركه ويمدحه. ومعروف في العهد القديم أن نبوة الأعداء تكون أحياناً منطوقة بفم الله.
«تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة, وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد»: هنا يتدخل القديس يوحا ليوسع دائرة النبوة، أو بالحري ليكملها، لأن موت المسيح لم يقتصر سببه ولا اقتصرت نتيجته عل الأمة اليهودية من جهة الخلاص بل امتد ليشمل الأمم، لأن من آمن بين الأمم مع من أمن آمن شعب إسرائيل أصبحوا يمثلون إسرائيل الحقيقية: «وأبناء الغريب الذين يقترنون بالرب ليخدموه وليحبوا اسم الرب ليكونوا له عبيداً… أتي بهم إلى جبل قدسي وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي لأن بيتي بيت الصلاة يُدعى لكل الشعوب. يقول السيد الرب جامع منفي إسرائيل..» (إش6:56-8). هذا حينما يصير هيكل الرب الجديد هو جسد المسيح الذي سيجمع كل الشعوب: «ويرفع راية للأمم, ويجمع منفيي إسرائيل, ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض.» (إش12:11)
ومن أبدع ما صور الآباه الرسل عن جمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد ما تقوله الديداخي (تعاليم الرسل) في الإفخارستيا التي هي جسد المسيح: [ وفيما يخص «الكسر» : نحن نقدم الشكر إليك يا أبانا… فكما أن كسر الخبز هذه التي كانت مشتتة على الجبال (حقول القمح) ولكنها جُمعت (تفيد معنى المجمع أي الكنيسة)، وصارت واحداً (خبزة واحدة، وجسد واحد)، هكذا الكنيسة فلتجتمع من أربعة أطراف الأرض إلى ملكوتك.]
وهذا التصوير الإفخارستي اللاهوتي، هو قائم عل أساس قول المسيح في معجزة الخمس خبزات والسمكتين: «اجمعوا الكسر المتبقية لكي لا تضيع (تهلك)» (يو12:6)، بالإضافة إلى قول القديس يوحنا في إنجيله أعلاه: «ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.» (يو52:11)
وهكذا يمكن أن يتأكد القارىء من لاهوت إنجيل يوحنا القائم على أساس نبوي إفخارستي كنسي غاية في الإحكام.
وقد أخذ المجمع بنطق رئيس الكهنة باعتباره القول الفصل, وكأنه من الله. وهكذا صدر حكم الموت بالموافقة العامة. وهكذا كان رد الجميل؛ بحكم الموت على من أقام الميت وأعطى الحياة للناس؛ إنها مهزلة الإنسان.
ويلاتظ أن قيافا استخدم كلمة «الشعب» ولكن القديس يوحنا لما ذكرها غيرها إلى ( ). وفي هذا معنى روحي عميق. لأن المسيح مات بالفعل عن الشعب كالنبوة «خراف بيت إسرائيل الضالة»، حيث كلمة «الشعب» في التوراة تفيد شعب الله، فهي تحوي معنى العلاقة بين الناس والله التي كانت قائمة في شعب إسرائيل فقط، والتي مات المسيح ليصححها ويعيدها إلى أوج قوتها في مفهوم الكنيسة، وهي تفيد الآن شعب الله في العالم كله. أما كلمة «الأمة» التي ذكرها القديس يوحنا بدل كلمة الشعب, فقصد بها القديس يوحنا المعنى المدني, لأن إسرائيل، كشعب، لما رفض المسيح وأكمل جريمته بقتل الراعي، فقد صفته كشعب الله، وفقد صلته الفريدة بالله «كالشعب المختار»، وأصبح أمة مثل باقي الأمم، تمهيداً لضم الأمة اليهودية إلى باقي الأمم دون تمييز… «وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين (خراف أخر ليست من هذه الحظيرة) إلى واحد (لتكون رعية واحدة وراع واحد)».
فانظر، أيها القارىء، إلى أي حد بلغت دقة التعبير اللاهوتي عند القديس يوحنا. وهذا المعنى نفسه عبر عنه القديس يوحنا في رسالته الاولى هكذا: «وهو كفارة لخطايانا, ليس لخطايانا فقط, بل لخطايا كل العالم.» (ايو2:2). كما عبر عنه أيضاً في افتتاح إنجيله: «وكل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله.» (يو12:1)
53:11 فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ.
ما كان في كل المرات السابقة رغبة ملحة للقضاء على المسيح، أصبح الآن بعد قرار هذا المجمع خطة داخلة في حكم التنفيذ، ولا يبقى إلا انتهاز الفرصة المناسبة.
ونعلم من رواية القديس لوقا في إنجيله، أن بعضا من أعضاء السنهدريم، وهم قلة مثل يوسف الرامي، كان غير موافق على قرارهم: «وإذا رجل اسه يوسف، وكان مشيراً ورجلاً صالحأ باراً، هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم، وهو من الرامة مدينة اليهود…» (لو50:23-51)
54:11 فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ علاَنِيَةً بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ.
وإليك أيها القارىء العزيز صورة نبوية مؤثرة تستحوذ على كل مشاعر الإنسان وعواطفه، تصف المسيح وهو يعطي ظهره لأورشليم والهيكل والشعب والأمة اليهودية كلها، وينسحب حزيناً منكسراً باكياً على هذه الأمة التي لم تعرف ما هو لسلامها؛ يصفها إرميا النبي: «يا ليت رأسي ماء، وعيني ينبوع دموع، فأبكي نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبي . يا ليت لى في البرية مبيت مسافرين, فأترك شعبى وانطلق من عندهم, لأنهم جميعاً زناة, جماعة خائنين. يمدون ألسنتهم كقسيهم. للكذب لا للحق، قووا في الأرض، لأنهم خرجوا من شر إلى شر واياي لم يعرفوا، يقول الرب. احترزوا كل واحد من صاحبه (يهوذا)، وعلى كل أخ لا تتكلو ، لأن كل أخ يعقب عقباً وكل صاحب يسعى في الوشاية. ويختل الإنسان صاحبه ولا يتكلمون بالحق. علموا ألسنتهم التكلم بالكذب وتعبوا في الإفتراء » (إر1:9-5)
مدينة أفرايم: يقول العلامة وستكوت أن هذه المدينة ذُكرت في أخبار الأيام الثاني مع مدينة بيت إيل تحت كلمة «عفرون» (2أخ19:13). وذكرها العلامة روبنسن في قاموسه، وكذلك العلامة ستانلي في كتابه (سيناء وفلسطين) أن بين حدود بنيامين وأفرايم يوجد تل هرمي الشكل على أعلاه قرية على ارتفاع 2600 قدم اسمها الطيبة, هي مدينة أفرايم القديمة. وهي نفس المدينة التي كانت تسمى «عفرة» أو «عفرون» بمعنى عفريت. وقد غيرها السلطان صلاح الدين إل اسم الطيبة. والقديس جيروم والمؤرخ يوسابيوس يحددانها على الطريق الموصل من أورشليم إلى شكيم شرقاً على بعد اثني عثر ميلاً, عشرون كيلو مترا من أورشليم.
55:11 وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِنَ الْكُوَرِ إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبْلَ الْفِصْحِ لِيُطَهِّرُوا أَنْفُسَهُمْ.
«فصح اليهود»: هذا هو الفصح الثالث الذق يذكره القديس يوحنا في إنجيله. ففي الفصح الأول كان المسيح حاضراً ومشاركاً (يو13:2)، أما في االفصح الثاني (يو4:6)، فلم يذكر القديس يوحنا أن المسيح حضر الإحتفال به. بل كان على ما يبدو المسيح وقتها في الجليل.
«وكان فصح اليهود قريباً»: هذه الكلمة «قريباً» لا ينبغي أن تعبر علينا بسهولة, فمعناها أن ساعات المسيح والصليب صارت معدودة، والقلب يستقبل هذه الكلمة بانفعال يهز كيان الجسد قبل الروح, فبالرغم من أن آلام المسيح وموته انتهت ببهجة القيامة، ولكن مهما كانت بهجة القيامة فيستحيل أن تقلل من مسحة الحزن المفرط الذى نعيشه فى آلام المسيح.
«فصعد كثيرون من الكور إلى أورشليم»: بحسب المؤرخين ذوي الخبرة في تاريخ وعوائد اليهود، كان يتراوح عدد الحجاج بين خمسة وثمانين ألفأ ومائة وخمسة وعشرين ألفاً. وذلك بحسب تقدير العالم اليهودي المتنصر يواكيم إرميا. فإذا أضفنا إلى هذا الرقم عدد سكان أورشليم الأصليين، وكان يقرب من الخمسة والعشرين ألفاً، كان مجمور المعيدين لا يقل عن مائة ألف. ولكن يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعاصر لخراب أورشليم (70م) يعطي رقم غير عادى، إذ يقول إن الحجاج في الفصح كانت جملتهم لا تقل عن مليونين ونصف حاج. وهذا الرقم مأخوذ من التسجيلات الرومانية المعروفة بدقتها.
«ليطهرروا أنفسهم»: بحسب أصول الناموس، كان ممنوعاً على المنجسين أن يحضروا مراسيم عيد الفصح، لأن نظام ذبح خروف الفصح يستلزم من الشخص أن يمر برواق الكهنة، وهذا كان يستلزم شروطاً دقيقة من جهة الطهارة: «وليعمل بنو إسرائيل الفصح في وقته فى اليوم الرابع عشر من الشهر الأول، بين لعشاءين تعملونه في وقته… لكن كان قوم قد تنجسوا لإنسان ميت فلم يحل لهم أن يعملوا الفصح في ذلك اليوم.» (عد2:9و6)
ولكن حدث تساهل بعد ذلك في هذا الأمر«لأن كثيرين من الشعب, كثيرين من أفرايم ومنسى ويساكر وزبولون لم يتطهروا بل أكلوا الفصح ليس كما هو مكتوب. إلا أن حزقيا صلى عنهم قائلاً: الرب الصالح يكفر عن كل من هيأ قلبه لطلب الله الرب إله ابائه وليس كطهارة القدس. فسمع الرب لحزقيا وشفى الشعب» (2أخ18:30-20). وكانت عدم طهارة أولئك راجعة لاختلاطهم بالأمم.
ويقول المؤرخ يوسيفوس أن أهل الكور كانوا يسبقون بالذهاب قبل الفصح ليتطهروا في أورشليم. وهذا ما حاول أن يعمله بولس الرسول (بعد أن اعتمد للمسيح), فدفع ثمن هذه الرجعة إلى اليهودية أهوالاً أوقفته عن الخدمة: «حينئذ أخذ بولس الرجال في الغد وتطهر معهم، ودخل الهيكل مخبراً بكمال أيام التطهير, إل أن يقرب عن كل واحد منهم القربان. ولما قاربت الأيام السبعة أن تتم، رآه اليهود الذين من أسيا في الهيكل، فأهاجوا كل الجمع وألقوا عليه الأيادي» (أع24:21-27). وظل بولس يعاني من هذا التصرف إلى أن استشهد!!!
ولكن حسب ما عودنا القديس يوحنا، فهو لا يسرد رواية تاريخية قط، إلا وفي ثناياها معلومة روحية، وشارة ذات قيمة لاهوتية. والقارىء يتذكر كيف بدأ القديس يوحنا إنجيله بأن سرد لنا آية تحويل الماء إلى خمر، حيث استُخدمت الأجران الستة للتطهير، فحولها المسيح إلى أجران خمر، مفتتحاً إنجيله بمعنى الانتقال من التطهير بالماء إلى التطهير بالدم لنوال الحياة الأبدية، باعتبار الخمر في إنجيل يوحنا هو مادة الإفخارستيا ذات الاعتبار التقديسي بالروح القدس, ومنتهياً بالآية إلى أن الرب أظهر فيها مجده لتلاميذه، فأمنوا به. وها نحن قادمون هنا إلى الفصح الأخير، أو على وجه الأصح لاهوتياً وبحسب إنجيل يوحنا، الفصح الأول والأساسى في العهد الجديد، حيث يعطي المسيح دمه للعالم كله «للتطهير» ومغفرة الخطايا، واستعلان مجد المسيح، لحساب الآب.
من هنا كان التلميح بالقول: «ليطهروا أنفسهم». وبعدها مباشرة يذكر القديس يوحنا اسم «يسوع» بلغته التي لا تفوت على القارىء اللبيب: «قبل الفصح ليطهروا أنفسهم, فكانوا يطلبون يسوع».
56:11- 57 فَكَانُوا يَطْلُبُونَ يَسُوعَ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُمْ وَاقِفُونَ فِي الْهَيْكَلِ: «مَاذَا تَظُنُّونَ؟ هَلْ هُوَ لاَ يَأْتِي إِلَى الْعِيدِ؟». وَكَانَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ.
أولاً: هذه اللهفة على رؤية المسيح وسماعه توضح إاى أى مدى تعلق به الشعب سواء من أورشليم أو الأرياف، الأمر الذي سنراه بوضوح في دخوله أورشثليم يوم أحد السعف.
وثانياً: هذا التردد والشك بل وربما البلبلة التي أصابت الحجاج الآتين من الكور ومن أورشليم للتطهير، فيما إذا كان المسيح سيظهر في العيد أم لا، مردها إلى الجزء الثاني من الآية، لأن رؤساء الكهنة والفريسيين كانوا قد أعلنوا فى وسط الشعب عن قرارهم بموت المسيح ، بل واستخدام الشعب للقبض عليه أو التخابر عن مكان وجوده. وكان المعقول لديهم أن المسيح لا يظهر ذاته خوفا من أو تلافيا للقبض عليه. ولكن الرب خيب ظنهم وظن كل ما هو معقول لديهم. فالمسيح الذي أقام لعازر من الموت، كيف يخشى الموت أو كل ما يؤدي إلى الموت, ولكن فوق كل هذا، فهو قادم إلى أورشليم، ليصنع آية مجده ليحول الموت إلى حياة، وظلمة العالم إلى نور، ويفك المأسورين بالخطية، ويصالح الإنسان بالله. والحقيقة أن السنهدريم هو الذي كان يخشاه.
تفسير يوحنا 10 | تفسير إنجيل القديس يوحنا الأب متى المسكين |
تفسير يوحنا 12 |
تفسير العهد الجديد |