تفسير إنجيل يوحنا ١٩ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح التاسع عشر
صلب يسوع المسيح

 

لاحظنا في الأصحاحات السابقة أن الإنجيلي يوحنا لم يمل إلى سرد التاريخ، إذ يهدف نحو الكشف عن شخصية يسوع المسيح بكونه كلمة الله المتجسد الذي جاء لأجل خلاص العالم. أما وقد بدأ يتحدث عن صلب السيد فلم يعبر على الأحداث التاريخية بقدر ما قدم شخصية السيد المسيح المصلوب كفادٍ للبشرية. إنه يعتز بالصليب ويفتخر به.

محاكمته أمام بيلاطس ١ – ١٥.

“فحينئذ أخذ بيلاطس يسوع وجلده”. (1)

حاول بيلاطس أن يطلق السيد المسيح إذ وثق من براءته، وظن أنه يمكنه تحقيق ذلك، إذ اعتاد أن يطلق لهم سجينًا في وقت الفصح، لكنه أمام ثورة الجمهور فشل. مع هذا فلا يزال بيلاطس مقتنع بأنه ليست ثمة جريمة حقيقية يمكن أن تُنسب إلى يسوع المسيح. استخدم وسيلة أخرى، بأن سمح لجنوده أن يجلدوه ويسخروا منه كملك، حتى يؤكد للجمهور أنه لا حول له ولا قوة، فيعفوا عنه.

يقدم لنا الإنجيلي عرضًا لمحاكمة السيد المسيح المملوءة ظلمًا، فالمدَّعون أنفسهم كانوا في حالة ارتباكٍ، والقاضي كان مرتبكًا جدًا بين شعوره بالظلم الساقط على شخص يسوع وبين ثورة الجماهير عليه، وادعاء أنه يقيم نفسه ملكًا، لأنه يقاوم قيصر. فشلت محاولة بيلاطس في تبرئة يسوع، فالتزم أن يواصل سير الدعوى حسب الأصول المرعيّة. كان لابد من التعامل معه بقسوة، وذلك بسبب خطورة الاتهام وطبيعته. أول تنازل من جانب بيلاطس أمام عناء الجماهير أنه أمر بجلد يسوع، فعامله الجنود كصانع فتنة، مع أمله في إظهار براءة يسوع على الصعيد القانوني.

لم يكن بيلاطس جادًا في الحكم بالعدل، فمع إدراكه أن يسوع بار حكم عليه بالجلد كمجرم (1). يذكر لوقا الإنجيلي أن بيلاطس قال للجماهير أنه يؤدبه ويطلقه. وكأن غاية بيلاطس هو جلده مترجيًا أن يتراجع اليهود عن طلبهم الخاص بصلبه بعد أن تأكد أنه ليس ما يستوجب صلبه (لو ٢٣: ١٦).

يبدو أن الجلد قد تم حسب النظام الروماني وهو أعنف بكثير منه حسب النظام اليهودي. كان من عادة الرومان جلد المقدمين للصلب. من أجلنا قبل السيد المسيح ذلك، وكما جاء في إشعياء: “بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق” (إش ٥٠: ٦). ويقول المرتل: “على ظهري حرث الحراث، طوَّلوا أتلامهم” (مز ١٢٩: ٣). كما سبق السيد المسيح نفسه فقال: “ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه” (مت ٢٠: ١٩؛ راجع مر ١٠: ٣٤؛ لو ١٨: ٣٣). يقول القديس بطرس أن بجلداته شفينا (١ بط ٢: ٢٤)، فقد جُلد الطبيب لكي يُشفى المرضى. احتمل الجلدات من أجلنا، لكي يجد المؤمنون مسرتهم في احتمالهم الآلام من أجله، ومشاركتهم إياه آلامه وصلبه (أع ٥: ٤١؛ ١٦: ٢٢، ٢٥).

كان الجلد عقوبة مرعبة، حيث كان يستخدم السوط من عدة سيور توضع بها قطع معدنية أو عظام، حتى متى جُلد الشخص يتهرأ جسمه، وتظهر أحيانًا شرايينه وبعض طبقات جسمه الداخلية كما يخبرنا يوسابيوس المؤرخ. ويروي لنا الكاتب الروماني شيشرون Cicero أن الجلد أحيانًا يؤدي إلى الموت. وكان الجلادون الرومان قساة لا يعرفون الرحمة. ولعله بسبب الجلدات لم يحتمل يسوع المسيح أن يحمل الصليب حتى موضع الصلب، ويبرر البعض موته سريعًا على الصليب بسبب الجلدات القاسية. هذا ونلاحظ أن الإنجيليين أشاروا إلى جلد السيد كحقيقة تمت دون الحديث عن مدى آلامه أثناء الجلد.

استهان السيد بكل أنواع العذابات والسخرية من أجل محبته لنا وشوقه لخلاصنا، حتى نحسب شركتنا معه في عاره وآلامه مجدًا لا نستحقه.

v قال يوحنا الرسول: “أخذ بيلاطس يسوع وجلده“. لعل بيلاطس أراد بذلك أن يحل غيرة اليهود ويتلافاها، لأنه إذ لم يقدر أن ينقذ السيد المسيح بأقواله الأولى سارع لوقف شرهم إلى هذا الحد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يلزمنا أن نعتقد بأن بيلاطس فعل هذا لا لسبب سوى أن اليهود إذ يرون فيض الأذية التي لحقت به يشعرون بالاكتفاء، ويحجمون عن رغبتهم الجنونية نحو موته. بذات الهدف سمح الحاكم لكتيبته أن تمارس ما حدث بعد ذلك، وربما أمرهم بذلك، وإن كان الإنجيلي قد صمت عن ذكر هذا.

القديس أغسطينوس

“وضفر العسكر إكليلاً من شوك،

ووضعوه على رأسه، وألبسوه ثوب ارجوان”. (2)

اعتاد الجند أن يسخروا بمن يسقطون تحت الحكم، خاصة وأنهم يمثلون السلطة المحتلّة الساخرة بمن يثير الفتنة ضد روما. جاءت السخرية تتناسب مع نوع الاتهام: “ملك اليهود“. إنهم لم يجدوا ملكًا يُقدم للموت كل يوم، فحسبوا السخرية بملك اليهود تمثيلية هزلية يصعب أن تتكرر.

الأرجوان: لون صباغة ثمينة يشمل البنفسجي والأحمر، تُستخدم من بعض أصناف صدف السمك، يصعب العثور عليه، وكانت ثياب الأرجوان غالية الثمن. ارتبط الأرجوان بالحياة الملوكية، كما يلبسها الأغنياء وذوي المكانة الرفيعة وكبار موظفي الدولة.

يروي متى البشير أنه ثوب قرمزي (مت 27: 28)، تستخرج صبغته من بعض أجسام الحشرات الميتة، لذا فالثوب القرمزي أرخص بكثير من الأرجوان، وهو خاص بالقادة العسكريين، ولعل الجند جاءوا بثوبٍ قديمٍ لقائد عسكري ألقاه بسبب قِدَمه. فاستخدمه الجند كثوبٍ أرجوانيٍ يرتديه جليلي فقير (يسوع)، إذ يقيم نفسه ملكا!

إكليل الشوك والثوب الأرجواني الأحمر يعترفان بالمرتبة الملوكية، لكن العالم يقلبانها إلى الهزء به.

v قال: “وضفر العسكر إكليلاً من شوك، ووضعوه على رأسه، وألبسوه ثوب أرجوان” ليرضي بيلاطس غيظ اليهود، ولهذا الغرض أخرج إليهم السيد المسيح مكللاً بالشوك، حتى إذا أبصروا المسبة الواصلة إليه يتنفسوا من مرضهم قليلاً، ويقذفوا سمهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وكانوا يقولون:

السلام يا ملك اليهود،

وكانوا يلطمونه”. (3)

هكذا سلمه بيلاطس للجند كي يسخروا به، فضفروا له إكليلاً من شوك، ووضعوه على رأسه عوض إكليل الملك، وألبسوه ثوب أرجوان كملكٍ، وفي سخرية كانوا يلطمونه، وهم يقولون: “السلام لك يا ملك اليهود“.

“فخرج بيلاطس أيضًا خارجًا،

وقال لهم:

ها أنا اخرجه إليكم،

لتعلموا إني لست أجد فيه علة واحدة”. (4)

أخرجه بيلاطس أمام القيادات اليهودية وجمهور الثائرين ليروا أن شكواهم ضده بأن يقيم نفسه ملكًا نوعًا من الخيال. فها هو أمامهم قد تهرأ جسمه من الجلدات، وصار أضحوكة وموضع سخرية.

إذ أساء بيلاطس للسيد المسيح وهو يعلم أنه بريء قدمه للمدعين عليه لعلهم يسحبون دعواهم ضده. لقد شهد بيلاطس أنه بحسب القانون الروماني “لست أجد فيه علة واحدة” (4)، ليس من دعوى حقيقية يمكن توجيهها ضد، مكررًا ما سبق أن أعلنه (يو ١٨: ٣٨). بهذا دان بيلاطس نفسه، لأنه مادام ليس فيه علة واحدة لماذا جلده، ولماذا سلمه للجند كي يسخروا به، ولماذا أخرجه للمدعين عليه ولم يطلقه فورًا كما تستوجب العدالة؟

“فخرج يسوع خارجًا،

وهو حامل إكليل الشوك وثوب الأرجوان.

فقال لهم بيلاطس:

هوذا الإنسان”. (5)

ربما بقوله: “هوذا الإنسان” يود أن يؤكد لليهود إن كنتم تتطلعون إليه كمن يثير فتنة ليقيم نفسه ملكًا يقاوم قيصر، فها أنتم ترونه في صورة الضعف الشديد عاجز عن المقاومة، وليس من أتباعٍ له حاولوا مقاومة السلطات. بهذا لا مجال لتخوفكم منه.

إخراجه للمدعين وقد وُضع إكليل الشوك على رأسه وقد امتلأت رأسه ووجهه مع بقية جسمه بالدماء أعطى فرصة للمدعين أن يصروا على صلبه، لأن بيلاطس عامله كعبدٍ، قام بتعذيبه بغير حقٍ. فالعبد ليس من حقه الدفاع عن نفسه، أما الحرّ فيلزم إثبات إدانته قبل تعذيبه خاصة بهذه الصورة المؤلمة.

خرج السيد المسيح ليكون مشهدًا أمام الناس، يحمل العار عنهم. الأمر الذي دفع الرسول بولس فيما بعد أن يشتهي الخروج معه خارج المحلة حاملاً عاره (عب ١٣: ١٣).

إذ صار مشهده مؤلمًا للغاية قال بيلاطس: “هوذا الإنسان” (5) ولم يذكر اسمه، كنوع من الاستخفاف به. هذا المنظر سحب قلب الحكيم منذ قرابة ألف عام قبل حدوثه فقال: “أخرجن يا بنات صهيون وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه، وفي يوم فرح قلبه” (نش ٣: ١١).

يرى البعض أن قول بيلاطس: “هوذا الإنسان” حمل معني سريًا. فكلمة “آدم” في العبرية تعني إنسانًا. وكأن هوذا الإنسان معناها: هوذا آدم الذي خلقه الله ليكون ملكًا على الخليقة، صاحب سلطان، صار في بؤسٍ شديدٍ جلب اللعنة لنفسه كما للخليقة. هكذا احتل آدم الثاني، السيد المسيح، مركز آدم الأول ليجلب الحياة الملوكية السماوية لمن فقدوا حتى سلامهم الزمني، وعوض الموت الذي جلبه آدم الأول حلت الحياة الأبدية بآدم الثاني (1 كو 5: 22، 45).هذا ما نطق به بيلاطس دون أن يدرك معناه!

أمام هياج شرس لمبغضي يسوع أعلن بيلاطس براءته ليكون شاهدًا على ذلك عبر التاريخ، أما يسوع فلم ينطق ببنت شفةٍ. قال بيلاطس: “هوذا الإنسان” ولم يقل؛ “هوذا المذنب”، وكأنه يقول لهم إنه لا يزال في نظره منزهًا من أي ذنب يمكن أن يسنده إليه.

“فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا، قائلين:

أصلبه، أصلبه.

قال لهم بيلاطس:

خذوه أنتم واصلبوه،

لأني لست أجد فيه علة”. (6)

كان يمكن للشعب بعد أن سمع بيلاطس يكرر تعليقه أنه لم يجد فيه علة واحدة، وقد نظروا جسمه تمزق بالجلدات، ورأسه وجبينه قد نُخسا بالأشواك، ووجهه تورم باللطمات، أن يطلبوا إطلاقه، لكن سرعان ما تحرك رئيس الكهنة وحراس الهيكل ليصرخوا قائلين: “أصلبه، أصلبه” (6). قد بلغ حسدهم وحقدهم عليه أقصى الحدود فلم يذعنوا لحكم بيلاطس، ولا تأسفوا لآلام السيد، بل حسبوه مستوجب الموت حتى وإن كان بريئًا. فسلامهم وسلام المدينة – كما ظنوا – يستوجب صلبه والخلاص منه.

لقد جاء رؤساء الكهنة وأتباعهم لهدفٍ واحدٍ، وهو تأكيد ضرورة صلبه، مهما كانت التكلفة. لم يصغوا لأية كلمة نطق بها بيلاطس، وإنما إذ لاحظوا رغبته الملحة في إطلاقه لأول مرة تظهر كلمة “أصلبه“، هذه التي نطق بها رؤساء الكهنة وخدام الهيكل. لقد افصحوا عما في قلوبهم.

للمرة الثالثة يعلن بيلاطس براءة السيد المسيح، طالبًا منهم: “خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة” (6). إنه يعلم تمامًا أنهم لن يستطيعوا أن يصلبوه، وإنما قال هذا ليوبخهم. وكأنه يقول لهم: “إن كان حقدكم عليه يدفعكم لصلبه، فلا تستخدموني أداة طيعة لهذا الحقد، فأرتكب شرًا ضد العدالة. ضميري غير مستريح! نفذوا شهوة حقدكم إن استطعتم!”

v انظروا كيف قدم القاضي دفاعه بطرقٍ كثيرةٍ، مبرئًا إياه من الاتهامات الموجهة ضده. لكن ليس شيء من هذا كله جعلهم في خزي من تحقيق هدفهم… فإن القول: “خذوه أنتم واصلبوه” تعبير لشخصٍ يبرئ نفسه من ارتكاب جريمة، ويدفعهم لممارسة عمل غير مسموح لهم به. فقد احضروا (السيد) لكي يتم الأمر بقرار الحاكم، لكن حدث العكس، فإن الحاكم أبرأ السيد ولم يدنه بقرارٍ منه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أجابه اليهود: لنا ناموس،

وحسب ناموسنا يجب أن يموت،

لأنه جعل نفسه ابن الله”. (7)

إذ بطلت حجتهم أنه مقاوم لقيصر وللسلطات الرومانية، وأنه مثير للشغب قدموا اتهامًا آخر ليس من حق بيلاطس أن يتدخل فيه، وهو أنه مجدِّف ومقاوم للناموس اليهودي. هذا من اختصاص رئيس الكهنة ومجمع السنهدرين، وليس لبيلاطس ورجاله التدخل في الشئون الدينية الداخلية.

لقد جدف وادعى الألوهية، “لأنه جعل نفسه ابن الله“. لقد أدركت القيادات الدينية خلال أحاديث السيد المسيح الكثيرة أنه عني بقوله “ابن الله” مساواته لله، لهذا اتهموه بالتجديف.

قدم المدَّعون صحيفة الاتهام، وهي أنه قد جدَّف فهو مستحق للموت (لا ٢٤: ١٦). كانوا يفتخرون بالناموس حتى وهم يكسرون الناموس ويخطئون في حق الله. “الذي يفتخر بالناموس، أبتعدي الناموس نهين الله” (رو ٢: ٢٣). وهم يسيئون إلى الناموس ظنوا أنهم يكرمونه. لم ينصتوا للقول النبوي: “ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتب الذين يسجلون جورًا” (إش ١٠: ١).

v تأملوا الاتهام: “جعل نفسه ابن الله ” (7). اخبروني، هل هذا أساس اتهام، أن الذي يمارس أعمال ابن الله يدعو نفسه ابن الله؟ ماذا إذن يفعل المسيح؟ بينما كانوا يواصلون هذا الحوار الواحد يلي الآخر واصل هو سلامه، متممًا قول النبي: “لم يفتح فاه، في تواضعه نزع حكمه” (إش 53: 7، 8 LXX).

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فلما سمع بيلاطس هذا القول ازداد خوفًا”. (8)

إذ سمع بيلاطس أن المتهم ليس فقط نسب لنفسه الملوكية وإنما الألوهية، اضطرب بالأكثر وخاف. صار الأمر بالنسبة له أكثر صعوبة. فقد كان يمكنه أن يقوم بدورٍ لتهدئة الشعب بالنسبة لنسبه الملوكية لنفسه، أما أن ينسب لنفسه الألوهية فليس في مقدرة بيلاطس أن يهدئ من روع الشعب. وفي نفس الوقت خشي بيلاطس من شخصية يسوع، إذ لم يكن ممكنًا التحقق منها. لقد تأكد من حقد القيادات الدينية عليه، لكن كيف يتأكد أنه بالحقيقة ابن الله. لقد خشي بيلاطس أن يكون مشتركًا معهم في الجريمة مقاومًا ابن الله المتأنس.

“فدخل أيضًا إلى دار الولاية،

وقال ليسوع:

من أين أنت؟

وأما يسوع فلم يعطه جوابًا”. (9)

قدم بيلاطس سؤالاً للمتهم في داخل دار الولاية يكشف عما يدور في ذهن الوالي، وهو أن شخصية يسوع تمثل لغزًا. كأنه يسأله: “ما هو أصلك الخفي السرّي؟ من أنت؟ اخبرنيّ”. إنه سؤال كثيرًا ما وُجِّه إلى شخص السيد، فقد سأله اليهود، “من تجعل نفسك؟” (يو 53:8). أما إجابته فهي أنه لن يعرفه إلا ذاك الذي هو معه في كل حين، من ذات جوهره، إذ يقول: “إن كنتُ أمجد نفسي، فليس مجدي شيئًا؛ أبي هو الذي يمجدني” (يو 54:8). لقد تحيّر اليهود إذ يعلن: “أبي هو الذي يمجدني، الذي تقولون أنتم أنه إلهكم، ولستم تعرفونه، وأما أنا فأعرفه” ( يو 54:8-55).

أمام حيرة بيلاطس وخوفه سأل السيد المسيح: “من أين أنت؟” (9). تحدث معه في دار الولاية في قاعة القضاء، بعيدًا عن ضجيج القيادات اليهودية والشعب.

أجاب يسوع على أسئلة بيلاطس السابقة، أما عن هذا السؤال “فلم يعطه جوابًا” (يو 9:19). لأن بيلاطس يطلب معلومات عنه من معطيات هذا العالم، بينما تتطلب الاجابة الخروج من العالم لإدراك ذاك الأزلي، فهو ليس بنبي مجرد بين الأنبياء ولا أحد المعلمين أو صانع عجائب وأشفية، لذا صمت.

لقد سبق فسأله: “أنت ملك اليهود؟” (١٨: ٣٣)، “أفأنت إذن ملك؟” (١٨: ٣٧). أجابه: “أنت تقول إني ملك”. الآن لم يسأله: “من أنت؟” ولا “هل أنت ابن الله؟” إنما سأله بطريق غير مباشر: “من أين أنت؟” (9) هل أنت من البشر أم قادم من السماء؟ من أسفل أم من فوق؟ كان بيلاطس يعلم موطن السيد المسيح كابن بشر، إنما كان يسأله ليتأكد هل هو أعظم من البشر أم لا. لم يكن ممكنًا أن يقدم السؤال مباشرة لئلا يُتهم بأنه يتدخل في المعتقدات الدينية التي تحكم فيها القيادات اليهودية وحدها.

صمت السيد المسيح ليس عن عجز، ولا عن عدم اكتراث بخلاص بيلاطس، وإنما ليعطي بيلاطس فرصة للتفكير المتزن، لأنه سبق فأجاب على سؤاله بقوله: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو ١٨: ٢٦)، كما أوضح له من أين هو خلال الحوار التالي.

بروح النبوة دُهش إشعياء لصمت السيد المسيح، فتحدث عنه في أكثر من موضع: “لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته” (إش ٤٢: ٣)، “ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاهٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش ٥٣: ٧).

v خاف بيلاطس إذ سمع من اليهود أن السيد المسيحجعل نفسه ابن الله” (7)، وارتاع لئلا يكون ما قالوه صدقًا، ويظن أنه يتجاوز الناموس، فلهذا السبب لم يسأله أيضًا: ماذا عملت، لكن إذ زعزعه خوفه صار يفحصه من جهة شخصه، إذ قال: “من أين أنت؟” إلا أن السيد المسيح لم يعطه جوابًا، لأن قد سمع: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو 18: 36) و”لهذا وُلدت ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق” (يو 18: 37)، فقد وجب عليه ألا يعاند ما سمعه.

v وقال يوحنا الرسول: “وأما يسوع فلم يعطه جوابًا“، فإذ صمت السيد المسيح عن جواب بيلاطس أوضح أنه جاء إلى التألم طائعًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v كان يجتاز ماثلاً للقضاء دون أن يفتح فاه، ليس في سمة حملٍ فعل هذا بضمير شريرٍ مقتنعٍ بخطاياه، وإنما منْ هو في وداعته يقدم نفسه ذبيحة عن خطايا الآخرين.

القديس أغسطينوس

“فقال له بيلاطس:

أما تكلمني؟

ألست تعلم إن لي سلطانًا أن أصلبك،

وسلطانًا أن أطلقك؟” (10)

في اعتزاز بالسلطة ثار بيلاطس لرفض السيد المسيح أن يجيبه على سؤاله. لذلك قال له: “أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانًا أن أصلبك وسلطانًا أن أطلقك؟” بالغ بيلاطس في نظرته لسلطانه، إذ ظن في نفسه إنه سيد الموقف؛ ولم يدرك أنه من جانب ليس من حقه أن يصلب من كان بريئًا، ولا أن يطلق من يستحق الصلب حسب القانون الروماني، ومن جانب آخر نسي أنه يوجد إله ضابط الكل، وأنه لا يحدث أمر ما بدون سماح منه.

رأينا أن صمته لم يكن رفضًا من جانب ربنا يسوع عن الإجابة، لكنه قائم على عجز بيلاطس عن إدراك الحقيقة، لهذا إذ ظن بيلاطس أن له سلطان أن يصلبه أو أن يطلقه (10) أجابه يسوع معترفًا بما لبيلاطس من سلطان في حدود ما سُمح له به من فوق.

v أرأيت كيف أن بيلاطس قد أوجب الحكم على نفسه مقدمًا، لأنه إن كان الحل والربط كله عنده، فلِم لم يطلقه إذ لم يجد فيه علة واحدة؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أجاب يسوع:

لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق،

لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم”. (11)

ربما توقع بيلاطس أنه بهذا يفتح المجال ليسوع المسيح كي يتحدث معه لعله يطلقه، لكن السيد وبخه على كبريائه وافتخاره بالسلطة فوق العدالة مع تجاهل دور الله ضابط الكل. جاوبه السيد المسيح لكي ينزع عنه هذه الحماقة. وكما يقول الحكيم: “جاوب الجاهل حسب حماقته، لئلا يكون حكيمًا في عيني نفسه” (أم ٢٦: ٥). حين استخدم بيلاطس سلطانه وجلده ظلمًا صمت ربنا يسوع، لكنه حين أعلن في كبرياء عن هذا السلطان وبخه، حتى يدرك بيلاطس حقيقة حجمه. لقد نسي بيلاطس: “لأن فوق العالي عاليًا يُلاحظ، والأعلى فوقهما” (جا ٥: ٨). هذه هي آخر كلمات نطق بها السيد المسيح مع بيلاطس في هذا السفر. لقد طالبه أن يدرك أن كل سلطانٍ أرضيٍ يتمتع به الشخص بناء على سماح الهي، يصدر من فوق، من السماء، وليس مستمدًا من روما. صاحب السلطان الحقيقي على كل شئون البشر هو الله، لا الإمبراطور أو من يعينهم حكامًا وولاة.

لم يمر بيلاطس بلحظات مثل هذه حين وجد نفسه يحاكم شخصًا يتطلع إليه كثيرون أنه ابن الله وملك إسرائيل. فقد صار مصير هذا الإنسان بين يديه، لهذا أراد السيد المسيح أن يكشف له أنه إنما هو أداة في يد الله، ما كان يمكنه أن يفعل شيئًا بدون سماح السماء (أع ٤: ٢٧-٢٨). مع هذا قدم له السيد المسيح شيئًا من العذر إن قورنت خطيته بخطية الذين سلموه له. هذا لن يبرر بيلاطس ولا يعفيه من المسئولية. مسئولية مسلميه الذين قرأوا العهد القديم وسمعوا عن النبوات التي تحققت فيه بجانب ما رأوه من معجزات لا حصر لها وما حمله من سلطان إلهي. هذا كله جعل خطيتهم أعظم من خطية بيلاطس.

يرى البعض أن السيد المسيح هنا يشير إلى يهوذا التلميذ الخائن الذي سلمه. لكن واضح أنه لا يقصد من أسلمه “يهوذا” وحده، لكنه يعني الأمة اليهودية كلها ورؤساء الكهنة، وكما قال بيلاطس قبلاً: “أُمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إليّ” (يـو 35:8). حقًا لم يجد بيلاطس في يسوع المسيح علة تستوجب الموت، أما يهوذا فكان تلميذًا وصديقًا نال الكثير من البركات والإمكانيات للعمل لحساب الملكوت السماوي. انحرف بيلاطس عن العدالة، لكنه لم يأخذ رشوة كيهوذا. أخطأ بيلاطس في عدم ثباته لإطلاق البريء، لكنه لم يحمل روح الحسد والحقد والضغينة التي اتسمت بها القيادات اليهودية ضد يسوع المسيح.

ماذا يعني بالخطيئة هنا؟ في نظر الإنجيلي يوحنا هي “عدم معرفة” اللَّه في استعلانه في يسوع المسيح.

v لقد حطم السيد كبرياء (بيلاطس) وتشامخه، إذ قال: “لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق“، موضحًا أن هذا الحادث ليس على بسيط ذاته مثل حوادث كثيرة، لكنه يتم بطريقة سرية.

v وإذا سمعت قول السيد المسيح لبيلاطس: “لو لم تكن قد أعطيت من فوق” لا تظن أن بيلاطس بريء من كل زلة، لذلك قال: “الذي أسلمني إليك له خطية أعظم“، موضحًا أن بيلاطس مُطالب بخطية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v عندما لم يجب كان صامتًا كحملٍ، وعندما أجاب علمنا كراعٍ. لذلك ليتنا نتعلم مما قاله، كما علمنا أيضًا برسوله: “ليس سلطان إلا من الله” (رو ١٣:١). وأن من يسلم للسلطان بريئًا لكي يُقتل لهو خاطئ أكثر من صاحب السلطان نفسه إن قتله خوفًا من سلطانٍ أعظم منه.

القديس أغسطينوس

“من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يطلقه،

ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين:

إن أطلقت هذا فلست محبًا لقيصر،

كل من يجعل نفسه ملكًا يقاوم قيصر”. (12)

حديث السيد المسيح لم يثر بيلاطس ضده للدفاع عن سلطانه، بل على العكس صار أكثر حماسًا وغيرة على تبرئته وإطلاقه. هذا واضح من ثورة اليهود وصراخهم ليحولوا الاتهام ضد بيلاطس نفسه كمن هو ليس محبًا لقيصر، وكمتهاونٍ مع من يقاومه، وكمن لا يصلح أن يحتل هذا المركز ويمارس واجباته.

وجد الخصوم وسيلة لزيادة الضغط على بيلاطس بتوجيه تهمة التهاون مع من يزرع الفتنة والتمرد. فمع حرص الشرع الروماني على احترام حقوق الشعوب المستعمرة وعاداتهم عند ممارستها في إطار جماعتهم، إلا أنه كان قاسيًا عديم الشفقة في قمع التمرد والعصيان. بهذا قد يلحق بيلاطس الأذى إذا ما أصرت الجماهير على الشكاية عليه لتهاونه في هذا الاتهام.

خشي بيلاطس من الوشاية لدى طيباريوس قيصر ضده، فقد عُرف أنه من أكثر الأباطرة انفعالاً. سمع لوشايات ضد كثيرين، وكان لا يثق فيمن يخدمونه. كان بيلاطس مستعدًا أن يطلق يسوع، ولكنه لم يكن مستعدًا أن يواجه اتهامًا بأنه فشل في مهمته كصديقٍ لقيصر، ويدخل في متاعب مع روما مهما كانت التكلفة.

v لما أراد اليهود أن يجدوا في الشريعة علة على السيد المسيح فلم تنفعهم، انقلبوا بمكرهم إلى الشرائع التي هي خارج شريعتهم، إذ قالوا: “كل من يجعل نفسه ملكًا يقاوم قيصر”. وأنا أسأل اليهود: وأين ظهر السيد المسيح عاصيًا مغتصبًا؟ من أين يجوز لكم اتهامه بذلك؟ أرجو أن توضحوا هذا؟ أمن تاجه؟ أم من شكله؟ أم من جنده؟ أم من مشيه مع تلاميذه الاثني عشر، مستخدمًا البساطة في الطعام والثوب والمبيت؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فلما سمع بيلاطس هذا القول أخرج يسوع،

وجلس على كرسي الولاية،

في موضع يقال له البلاط، وبالعبرانية جباثا”. (13)

البلاط هنا أشبه برصيف حجري غالبًا في هواء طلق، حيث كان يوجد فيه كرسي العدالة للقضاء خاص بالولاة والحكام ليحكموا من خلاله. كان الموضع مرصوفًا بحجارةٍ ملونة ورخامٍ أزرق وأبيض وأسود.

كان الموضع يُدعى بالعبرانية “جباثا“، مشتقة من “جابا”، معناها “مرتفع” أو “عالٍ”، حيث كان موضع الحكم غالبًا ما يكون مرتفعًا في دار القضاء حتى يمكن للكل أن يروا القاضي أو الحاكم ويتابعوا الحوار، ويسمعوا الحكم. كان القاضي يصعد عليه بواسطة درجات رخامية، ولعل هذه الدرجات هي التي كانت تُدعى “البلاط“. ويرى البعض أن كلمة “جباثا” تعني مكانًا مغلقًا، إذ كان محاطًا بسورٍ حتى لا يقتحمه أحد من الحاضرين لإساءة التصرف مع المتهمين أثناء محاكمتهم. ويرى البعض أن هذا الموضع كان مخصصًا لمحاكمة المجرمين خاصة في الأمور الخطيرة التي تمس كيان الدولة.

بات إصدار الحكم قريبًا، لأن الوالي يجلس على كرسي الولاية الرسمي curule، وهو كرسي من العاج خاص بالقضاة الرومانيين وما يمثلونه.

“وكان استعداد الفصح،

ونحو الساعة السادسة،

فقال لليهود:

هوذا ملككم”. (14)

بعد عرضه لمكان المحاكمة عرض الإنجيلي أيضًا التوقيت فكان وقت الاستعداد للفصح نحو الساعة السادسة أي ظهرًا. كانت أيام عيد الفطير (لو ٢٣: ٥٤)، وكان اليهود يستعدون لسبت الفصح. جاء التوقيت يضخم من ذنب صالبيه، إذ لم ينتظروا عبور العيد، مما يكشف عن مرارة حقدهم واندفاعهم وتسرعهم. لقد نزعوا الخمير القديم من كل بيت، لكنهم لم ينزعوا أعمال الإنسان القديم من قلوبهم وأفكارهم وسلوكهم.

كان ذلك ما بين الساعة الثالثة والساعة السادسة، إذ رُفع على الصليب في تمام الساعة السادسة.

تحدث الإنجيلي مرقس (15: 25) عن صلب السيد المسيح في وقت الساعة الثالثة حيث حسب الجلد منذ بدأ جلد السيد، أما الإنجيلي يوحنا فحسبه وقت الساعة السادسة حيث بدأ رفعه على الصليب.

يرى البعض أن الساعة السادسة هنا حسب التوقيت الروماني حيث يبدأ اليوم الجديد من منتصف الليل وليس كالتوقيت اليهودي الذي استخدمه الإنجيليون الآخرون، حيث يبدأ اليوم من الغروب إلى الغروب، أي السادسة صباحًا حيث كاد أن يصدر الحكم وتبدأ الإجراءات الفعلية للصلب. وفي بعض المخطوطات وبعض نصوص الآباء جاءت “نحو الساعة الثالثة” وليس “السادسة”.

إذ اتجه اليهود إلى اتهام بيلاطس نفسه في غضب سخر بهم قائلاً لهم: “هوذا ملككم” (١٤). وكأنه يقول لهم: “إن كنتم بكل طاقتكم تريدون صلبه، فأنتم تسيئون إلى أنفسكم، إنه ملككم”. لعله بهذا يلقي بآخر سهم لإنقاذ يسوع المسيح من الصلب!

v أسلم بيلاطس السيد المسيح إلى اليهود، ظانًا أنه يستعطفهم، والدليل على أنه عمل هذا العمل على هذا القصد اسمع ما قاله لهم: “هوذا ملككم“.

القديس يوحنا الذهبي الفم

في سخرية باليهود أعلن بيلاطس: “هوذا ملككم“، ولعله إلي هذه اللحظات كان السيد مكللاً بإكليل الشوك ومرتديًا ثوبًا أرجوانيًا أو قرمزيًا قديمًا. لم يدرك بيلاطس أنه بالحقيقة ليس فقط ملك اليهود، بل ملك العالم كله الذي فيه تحققت النبوات بكونه مسيح الرب. قديما رفض جدعون إقامته ملكًا على إسرائيل متطلعًا إلى الرب نفسه بكونه الملك الحقيقي (قض 8: 23). وعندما أراد الشعب أن يقيم لهم صموئيل النبي ملكًا كسائر الأمم، أعلن له الله أنهم لم يرفضوا صموئيل، بل رفضوه هو نفسه كملكٍ عليهم (1 صم 8: 5 ،7). وكان رجال العهد القديم يترقبون تحقيق الوعد الإلهي: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وسلطانك إلى أقطار الأرض، لترعاهم بقضيب من حديد.” (مز 2: 7-9)

كان يليق ببيلاطس أن يعلن لكل العالم: “هوذا ملككم الذي يرعى النفوس ويقيمها في مملكته السماوية الأبدية”.

جاء السيد المسيح، حمل الله، لكي يرفع الخطية عن العالم (1: 29). إنه محب للبشرية لكنه لا يطيق رؤية خطاياهم. إنه يرفع خطاياهم ليتقدموا في حضرة الآب حاملين برَّه. أما هنا فنجد الإنسان لا يطيق مخلصه، يريد أن يرفعه عن عينيه حتى لا يراه. لا يحتمل الشرير حب الله، ولا يقدر حتى على معاينته!

“فصرخوا: خذه، خذه! أصلبه!

قال لهم بيلاطس:

أأصلب ملككم؟

أجاب رؤساء الكهنة:

ليس لنا ملك إلا قيصر”. (15)

ازدادت الصرخات بأنهم لا يطيقون رؤيته “خذه، خذه” (١٥)، فقد رفضوا نسبتهم إليه، أو انتسابه إليهم، ليس لهم ملك إلا قيصر. تطلع إليهم إشعياء النبي فقال عنه: “مكروه الأمة” (إش ٤٩: ٧)، كما قال: “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، ورجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمُستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به” (إش ٥٣: ٢-٣).

كان الحكم بالإعدام صلبًا معروفًا قديمًا في الإمبراطورية الرومانية وخارجها. وكان العالم القديم يتطلع إلي الصلب كأبشع أنواع الموت، إذ يمثل عارًا وخزيًا. وكان الكتاب القدامي يحجمون عن الكتابة عن الصلب في شيء من التفصيل. قال شيشرون أن الصلب “أقسى أنواع العقوبات وإثارة للاشمئزاز”. وتحدث عنه يوسيفوس بأنه “أدنى أنواع الموت”. وتحدث الفيلسوف الروماني سينيكا عن الصلب كموت بطيء ومؤلم للغاية، متسائلاً إن كان يوجد شخص يود أن يموت بإرادته بهذه الوسيلة: “هل يمكن وجود شخص يفضل أن يضيع وقته في ألم بموت عضوٍ يلي عضوًا، أو بترك حياته تنتهي نقطة فنقطة عوض أن يسلم النفس مرة واحدة؟ هل يمكن أن يوجد إنسان يرغب في تثبيته على خشبة اللعنة، يلتصق بها إلى مدة طويلة وقد تشوه شكله، انتفخ جسمه بحُبُر (آثار الجراحات) على كتفيه وصدره، يتنسم الحياة وسط آلام مريرة ممتدة؟ حقا إنه يجد مبررات كثيرة لكي يفضل الموت قبل أن يرتفع على الصليب”.

كان يندر جدًا الحكم بالصلب على مواطنٍ روماني، إنما كانت هذه العقوبة تُستخدم لضبط العبيد حتى لا يفكروا في الثورة، ويبقوا في مذلة وضعهم مهما كانت متاعبهم.

أمام ثورتهم ضد السيد المسيح لم تعد لهم رغبة في الحرية ولا قيمة للخلاص، كل ما يترجوه هو الخلاص من شخصه، حتى وإن صاروا عبيدًا لقيصر. لقد فقدوا إحساسهم بأنهم تحت الاستعمار الروماني. حقًا كان اليهود – خاصة القيادات – يكرهون قيصر ولا يطيقون من ينتدبهم حكامًا أو ملوكًا عليهم، لكن أمام بغضهم لشخص السيد المسيح حسبوا الولاء لقيصر والاستعباد له أفضل. كانوا مستعدين للخضوع لأي طاغية من قبل قيصر، يطيعون أوامره برضا إن كان في هذا خلاصًا من شخص السيد المسيح.

جواب رؤساء الكهنة فيه تخوِّف من جهة تهديد مؤسستهم الكهنوتية بالزوال. إنهم يقبلون قيصر ملكًا وحيدًا عليهم متناسين ملكوت اللَّه.

v تطلع باهتمام إلى الرب وهو يُحاكم، فقد سمح لنفسه أن يقوده الجنود. جلس بيلاطس في الحكم. الذي يجلس عن يمين الآب يقف ليُحاكم! الشعب الذي عتقه من أرض مصر… يصرخ: “خذه! أصلبه!

لماذا أيها اليهود؟ هل لأنه شفى عميانكم؟ أم لأنه جعل العرج منكم يمشون؟ ووهب البركات للآخرين؟! يدهش النبي فيقول: “على من تفغرون الفم وتدلعون اللسان؟” (إش 4:57) ويقول الرب نفسه في الأنبياء: “صار لي ميراثي كأسد في الوعر. نطق عليّ بصوته. من أجل ذلك أبغضته” (إر 8:12). لم أرفضهم لكنهم رفضوني، لهذا أقول: “قد تركت بيتي” (إر 7:12).

القديس كيرلس الأورشليمي

v ضغطوا عليه، قائلين: “أصلبه“. ولماذا كانوا يجاهدون كي يقتلوه بهذه الوسيلة؟ إنه موت شائن! لقد خشوا لئلا يكون له فيما بعد أي ذكرى، فأرادوا أن يسقطوا عليه عقوبة لعينة، وهم لا يدرون إن الحق يتمجد خلال العوائق. لتأكيد إن هذا الشك كان لديهم اصغوا إلي ما قالوه: “سمعنا أن هذا المضل قال بعد ثلاثة أيام أقوم” (مت 27:63). لهذا قاموا بإثارة الكل ليقلبوا الأوضاع ويحطموا الأمور فيما بعد. وقد فسد الشعب المشوش بواسطة حكامه، وصرخوا مكررين: “أصلبه!”

v “ليس لنا ملك إلا قيصر“. بإرادتهم اخضعوا أنفسهم للعقوبة. لذلك سلمهم الله، إذ وهم أولاد طردوا أنفسهم عن عنايته وإشرافه الفائق. وحيث أنهم بصوتٍ واحدٍ مجدوا سلطانه سمح لهم بالسقوط حسب طلبتهم.

v هنا انحدروا عن مملكة المسيح، ودعوا لأنفسهم مملكة قيصر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

  1. الحكم بالصلب ١٦ – ١٨.

“فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب، فأخذوا يسوع ومضوا به”. (16)

إذ لم تكن فيه مخافة الله بل مخافة البشر وقَّع بيلاطس على الحكم بصلبه، وسلمه للقائمين بالتنفيذ. ذاك الذي شهد مرارًا وتكرارًا ببراءته أخيرًا أصدر الحكم عليه كمجرمٍ. لقد غسل يديه (مت ٢٧:٢٤)، ليعلن أنه برئ من هذا الحكم، لكن غسل يديه لن يبرئه أمام الله.

انطلقت القيادات اليهودية مع منفذي الحكم كي يكسبوا الوقت، فقد خشوا تراجع بيلاطس في الحكم، إذ رأوه بين الحين والآخر يعلن براءته. ومن جانبٍ آخر حتى لا يجد الشعب فرصة لمراجعة أنفسهم، وتذكر أعمال السيد المسيح العجيبة مع شهادة بيلاطس بنطس ببراءته، فتسير الأمور على خلاف هواهم. هكذا يثير عدو الخير تابعيه لانتهاز كل فرصة للإسراع بقتل الإيمان بالسيد المسيح في حياة كل مؤمن حتى لا يتمتع به.

في نظرهم شعر القادة أن خطتهم قد نجحت، وسقطت الفريسة في شبكتهم. فانطلقوا بالحمل إلى الذبح، ولم يدركوا أن ما يحدث سبق فتنبأ به الأنبياء، بكونه خطة الله الخلاصية.

v إذ سمع بيلاطس هذه الأمور سلمه ليُصلب؛ قطعًا بلا تعقل! كان يجب أن يتحقق إن كان المسيح قد هدف نحو نوال سلطة ملوكية، لكنه نطق بالحكم خلال الخوف وحده. ولكي لا يحدث هذا قال المسيح مقدمًا: “مملكتي ليست من هذا العالم”، ولكن إذ أسلم بيلاطس نفسه بالكامل للأمور الزمنية لم يمارس الحكمة كما يلزم. كان يكفي لحلم زوجته أن يرعبه، لكن شيئًا من هذا كله لم يجعله يتصرف حسنًا؛ إذ لم يتطلع إلى السماء بل سلَّم المسيح.

الآن وضعوا عليه الصليب كفاعل شرٍ. لقد أبغضوا الخشبة ولم يقبلوا حتى أن يلمسوها. هذا هو حال ما كان رمزًا حيث حمل اسحق الخشب. لكن الأمر كان وقتئذ متوقفًا على إرادة أبيه، لأنه كان رمزًا، أما هنا فقد تمت الحقيقة عمليًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة،

ويقال له بالعبرانية جلجثة”. (17)

كجزء من آلامه حمل الصليب حرفيًا. الجسم النحيف الرقيق حمل خشبة الصليب بكل ثقلها، حملها وحده أولاً. وإذ لم يستطع بسبب ضعف الجسد مع الجلدات التي عانى منها وجراحات إكليل الشوك واللطم، عاونه سمعان القيرواني في حمله (مت ٢٧: ٣٢). وكما حمل اسحق حطب المحرقة وهو في طريقه ليُقدم محرقة، هكذا حمل المسيح خشبة الصليب. وكما يقول النبي: “وُضع عليه إثم جميعنا” (إش ٥٣: ٦). ويقول القديس بطرس: “الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرّ” (١ بط ٢: ٢٤).

جاءوا به إلى موضع التنفيذ خارج المدينة يدعى الجلجثة. أشار العلامة أوريجينوس إلي تقليد بأنه في هذا الموضع دُفن آدم. هنا حيث غلب الموت آدم الأول وحوله إلى تراب، مات المسيح – آدم الثاني – لكي يقتل الموت، ويرد الحياة لآدم وبنيه. كان هذا الموضع على جبل المُريا حيث قدم إبراهيم ابنه اسحق ذبيحة محرقة، لكن الله أرسل كبشًا يُقدم عوضًا عن اسحق. يرى البعض أن السيد المسيح قد صُلب على تلٍ يحمل شكل الجمجمة.

v يقول البعض أن آدم مات ورقد هناك، وأن يسوع قدم النصرة في نفس الموضع الذي ملك فيه الموت، إذ ذهب حاملاً الصليب كغالبٍ على طغيان الموت. كان كتفاه رمزًا للنصرة. ماذا يهم إن كان اليهود قد فعلوا ذلك بنية مغايرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v تألم بآلامنا حتى قَبِل آلام الصليب، قَبِِل أن يأخذ جسدنا. لو لم يتألم لما شاركنا حياتنا البشرية. أولاً تألم، وبعد ذلك نزل. ولكن ما هذا الألم الذي احتمله لأجلنا؟ إنها آلام الحب!

العلامة أوريجينوس

“حيث صلبوه،

وصلبوا اثنين آخرين معه من هنا ومن هنا،

ويسوع في الوسط”. (18)

صُلب معه اثنان آخران واحد عن يمينه، والآخر عن يساره. ربما لم يكن ذلك الوقت هو موعد صلبهما، لكن رؤساء الكهنة أصروا على ذلك كنوعٍ من الإهانة أنه مصلوب بين مجرمين. ولعله لهذا السبب كان اللصان يعيرانه ويسيئان إليه، لأن بصلبه عجل بحياتهما ليُصلبا معه. لم يطلب رئيس الكهنة صلب تلميذين حوله لئلا يُحسب ذلك كرامة أن جميعهم صلبوا من أجل الحق، وأن تلميذيه شاركا آلامه، بل أصر أن يُصلب مجرمان، يحتمل أن يكونا من فرقة باراباس اللص.

أراد قادة اليهود أن يعلنوا أنه أشر الثلاثة لأنه صلب في الوسط، ولم يدركوا أنه بذلك تحققت النبوة أنه أحصى مع آثمة.

v وإن قلت: فما غرض اليهود إنهم “صلبوه، وصلبوا اثنين آخرين معه“؟ أجبتك: إنهم في هذا الفعل أتموا النبوة كارهين، لأن هذا الفعل قد تقدم إشعياء النبي فذكره منذ قديم الزمان فقال “وجعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته” (إش 9:53). أراد إبليس أن يضع حجابًا يخفي ما قد حدث، لكنه كان عاجزًا. فإن الثلاثة قد صُلبوا، لكن يسوع وحده كان مجيدًا، حتى تدركوا أن سلطانه فوق الكل.

تمت معجزات عندما سُمر الثلاثة على الصليب، لكنه لم ينسب أحد شيئًا من المعجزات لأحد الاثنين، وإنما ليسوع وحده. لقد بطلت خطة إبليس تمامًا، وارتدت على رأسه، إذ خلص أحد الاثنين. إنه لم يهن مجد الصليب بل ساهم في مجده ليس بقليلٍ. فإن تجديد لص على الصليب والدخول به إلى الفردوس ليس بأقل من اهتزاز الصخور.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

  1. عنوان علته 19-22

“وكتب بيلاطس عنوانًا،

ووضعه على الصليب،

وكان مكتوبًا:

يسوع الناصري ملك اليهود”. (19)

ما قد كُتب على الصليب دعاه يوحنا “عنوانًا” أو “لقبًا “titlos، ودعاه متى “علته” أو “الاتهام accusation – citiei“، ودعاه مرقس ولوقا “نقشًا apigraphe“.

اهتم الإنجيلي يوحنا بالكشف عن إبراز الصليب في حياة يسوع المسيح. ففي الاصحاح الثالث، في لقاء يسوع الليلي مع نيقوديموس قال السيد: “وكما رفع موسى الحيَّة في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن البشر” (يو 14:3). مرة أخرى في حديث السيد مع اليهود قال: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو” (يو 28:8). وفي حديثه مع بعض اليونانيين يقول: “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الصليب.

يرفع الإنجيلي أذهاننا لنراه يكشف عن الرفع أو السمو في المجد الذي صار لنا خلال المصلوب. فيه نرى مسيحنا ممجدًا في أبيه ومعه، حيث صار لنا حق الانطلاق نحو حضن الآب. جوهر الصليب أن يرتفع عن الأرض ليجتذب الجميع إليه، فيعيشوا على مستوى أرفع وأسمى من الأرض.

يرى الرسول بولس أن محبة اللَّه ترتسم على البشرية بشكل الصليب، إذ يتحدث عن العرض والطول والعمق والعلو لحب اللَّه (أف 18:3). كأن أبعاد الصليب هي التعرف على سرّ الحب الإلهي.

في التقليد الشرقي يُحتفل بالصليب كشخصٍ حيّ، فيرونه يسوع المصلوب. يطلب العلويات، يفصل بين الظلمة والنور، وبين المعرفة والجهل. لذا صار للدينونة، يميز بين من يشتهي النور الأبدي ومن يستطيب الانطلاق في الظلمة.

الصليب هو ارتفاع إلى ما وراء هذا العالم، وانفتاح على العالم الآخر حتى تُستعاد الشركة وتُضاء المعرفة، فيتسنّى للإنسان الذي جاء إليه اللَّه أن يتجه بدوره إلى اللَّه، بل وأن يدخل حياته.

استخدام الكلمتين “فوق” و”أسفل” أمر حيوي في إنجيل يوحنا الذي يكشف عن شخص المصلوب وعمله. فإن كان الإنجيلي قد أغفل العشاء السرّي إلا أنه أسهب في عرض حديث السيد المسيح عن سرّ الشكر، مؤكدًا أنه الخبز النازل من السماء (أي فوق) (يو 22:6-40). وفي حديثه عن المعمودية وهي تغطيس يسحب قلوبنا إلى الولادة من فوق لنعاين عبر الصليب أعماق حب اللَّه أبينا (يو 8:3).

في اختصار، بالصليب نتحقق أننا وإن كنا في العالم لكننا لسنا من العالم (يو6:7، 14، 16، 18)، بل من فوق. نصير شركاء المسيح القائم من الأموات الذي لم تعرفه المجدلية حتى ناداها باسمها، وظنت أنه غريب. وأيضًا التلميذان الذاهبان إلى عمواس اللذان رافقا السيد المسيح الطريق ظنّاه هكذا غريبًا.

v المسيح هو ملك اليهود، لكن اليهود بختان القلب في الروح وليس الختان بالحرف؛ الذين مدحهم ليس من الناس بل من الله (رو ٢: ٢٩)، الذين ينتمون لأورشليم الحرة، أمنا الأبدية في السماء، سارة الروحية التي طردت الجارية وأولادها من بيت الحرية (غلا ٤:٢٢-٣١). لذلك ما قد كتبه بيلاطس كتبه، لأن الرب قال ما قاله.

القديس أغسطينوس

v جمع بيلاطس بذلك غرضين هما: انتقامه من اليهود، واعتذاره للسيد المسيح، لأنهم لما أنزلوا السيد المسيح بمنزلة رديئة، وأرادوا أن يحققوا ذلك بمشاركته اللصين على الصليب أطبق أفواههم وأفواه جميع الذين يريدون أن يلوموا السيد المسيح، وأوضح أنهم إنما ثاروا على ملكهم.

هذا عن انتقامه من اليهود، أما عن اعتذاره للسيد المسيح فكما يوضع على قاهر غالب علامته، كذلك وضع القاضي الكتابة في اللوح، مبديًا صوتًا بهيًا، موضحًا ظفره مُشيدًا بمملكته، وإن لم يكن بإشارة كاملة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v شهد أعداء الرب يسوع المسيح أنه هو الملك، ملك إسرائيل، حيث كتبوا فوق رأسه على الصليب “هذا هو يسوع ملك اليهود” (مت 27:37). ونحن نقبل هذه الشهادة حتى ولو يًفهم منها أنها تُضعف شمول قوته وتحّد من ألوهيته على الإسرائيليين. يحمل العنوان المكتوب على الصليب شهادة بألوهية المسيح، ليس على اليهود فقط، بل على جميع الناس. هو ملك على كل الأرض، ويحكم على كل أجزائها.

القديس غريغوريوس النيسي

“فقرأ هذا العنوان كثيرون من اليهود،

لأن المكان الذي صُلب فيه يسوع كان قريبًا من المدينة،

وكان مكتوبًا بالعبرانية واليونانية واللاتينية”. (20)

سُجل هذا العنوان بالثلاث لغات الرئيسية في ذلك الحين: العبرية لغة الناموس، واليونانية لغة الفلاسفة، واللاتينية لغة الحكام، فقد صُلب السيد ليملك على الجميع.

v حتى في صلب السيد المسيح حسده رؤساء كهنة اليهود، وأنا أخاطبهم: إن هذا العنوان ما سبب لكم ضررًا، لأنه إن كان السيد المسيح ميتًا ضعيفًا وقد أزمع أن يُنزع ذكره، فلماذا خوفكم هذا من ألفاظ الكتابة القائلة: “يسوع الناصري ملك اليهود“؟ (19)

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس:

لا تكتب ملك اليهود،

بل أن ذاك قال: أنا ملك اليهود”. (21)

لم يشفِ الصليب غليل المتهمين، فراحوا يضغطون على بيلاطس أن يأمر بتغيير العنوان: “ذاك قال أنا ملك اليهود” (٢١). لكن بيلاطس رفض الخضوع لطلبهم، فقد سقط تحت ضغوط كثيرة من فريق رؤساء الكهنة، ولم يعد يحتمل ضغطا آخر. أرادوا إبراز انه مغتصب للكرامة والسلطة، وأنهم هو مخلصون لقيصر وفي ولاءٍ له، مع أنهم كانوا في مذلة الاستعمار، وكانوا في داخلهم يطلبون ملكًا يهوديًا له كامل السلطات. لم يدركوا أن رئيسهم يجب أن يُقطع (دا ٩:٢٦).

“أجاب بيلاطس:

ما كتبت قد كتبت”. (22)

كانت القوانين الرومانية تمنع تغيير منطوق الحكم متى نُطق به. يبدو أن بيلاطس قد تنبأ بغير إرادته، أنه هذا هو المسيا الملك الذي لن يملك آخر غيره على القلوب. وردت هذه النبوة في مزمور ٢٢:١٨ حوالي ١٠٠٠ عام قبل الصلب.

فاصل

  1. توزيع ثيابه 23-24

“ثم أن العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع،

أخذوا ثيابه،

وجعلوها أربعة أقسام لكل عسكري قسمًا،

وأخذوا القميص أيضًا،

وكان القميص بغير خياطة منسوجًا كله من فوق”. (23)

إذ حمل خطايانا لم يستنكف من أن يُعرى على الصليب لنرى عرينا، ونطلب أن نلبس السيد المسيح، إذ هو برنّا.

وُجدت عادة قديمة في العالم كله تقريبًا، بموجبها تعود مقتنيات المحكوم عليهم بالإعدام إلى الجلادين وغالبًا للذين ينفذون الحكم. يقدم لنا القديس يوحنا الإنجيلي تركة السيد المسيحالتي تبدو هزيلة للغاية، وهي ثيابه بعد أن عرّوه ليُصلب، كانت ملقاة على الأرض، اقتسمها الجنود الأربعة الذين نفذوا الحكم، وبقي القميص الذي بغير خياطة. وهو منسوج كله من فوق، ألقوا عليه قرعة حتى لا يشقوه. صار كمن لا يملك شيئًا حتى القميص الذي يُحسب كجلدٍ ثانٍ للشخص. كانت ثيابه ملقاة كمن لا صاحب لها، لأن المحكوم عليه بالموت لا رأي له بعد، ولا حقوق، حتى بالنسبة لثيابه. كانت ملابس الرجل في منطقة إسرائيل في ذلك الحين هي الثوب الخارجي والثوب الداخلي وغطاء الرأس وحزام والنعلين وملابسه الداخلية الخ. غير أنه لم يُوجد نعلان للسيد المسيح بين ملابسه.

يرى فيلون اليهودي السكندري أن قميص رئيس الكهنة في هيكل أورشليم كان دائمًا منسوجًا كله من فوق بغير خياطة بموجب فريضة طقسية. ورأى البعض أن ذلك رمزًا إلى كهنوت المسيح. يرى البعض أن هذا القميص كان مشابهًا لقميص رئيس الكهنة، وقد وصفه المؤرخ اليهودي يوسيفوس أنه غير مخيط، بل هو قطعة واحدة على الكتفين والجانبين، وكان طويلاً، له فتحة للرقبة وله فتحتان لليدين. قيل أن هذا القميص كان من صنع يدي والدته وهو طفل، وأنه لم يتمزق ولا قدم، وذلك كما حدث مع ثياب شعب بني إسرائيل في البرية.

v على ما يلوح لظني أن يوحنا البشير قال هذا القول مضمرًا فيه حقارة الثياب وبساطتها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى العلامة أوريجينوس في هذا القميص إشارة إلى كمال تعليم المسيح الذي يلزمه حفظه دون شقه أو تقسيمه إلى أجزاء. ويري القديس كيرلس الكبير فيه رمزًا لميلاد المسيح البتولي، حيث بقيت والدته بتولاً بعد ولادته. ويرى القديس كبريانوس الذي كان يئن من الانقسامات التي وُجدت في كنيسة شمال أفريقيا أن القميص الذي بغير خياطة يشير إلى الكنيسة الحقيقية الواحدة التي لا يمكن أن تُشق ولا أن تُرتق.

وفي رسالة للقديس أغسطينوس إلى الدوناتست كتب: [لماذا تريدون أن تقسموا ثياب الرب، ولماذا لا تحفظوا قميص الحب هذا مع بقية العالم ككلٍ منسوجًا من أعلى، هذا الذي لم يستطع حتى مضطهدوه أن يشقوه؟].

يرى الأب ثيؤدور أسقف المصيصة أن مثل هذا النسيج كان عامًا في وقت السيد المسيح، وإن كان في أيامه لم يعد يوجد مثل هذا النسيج إلا بين ملابس الجنود.

v قُسمت ثيابه لحسابنا. لا يستطيع أحد أن يملك كل شيء، إذ تُلقى قرعة، لأن توزيع الروح القدس لا يأتي حسب إرادة إنسان. إذ “أنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد… ولكن هذا كله يعملها الروح الواحد بعينه، قاسمًا لكل واحدٍ بمفرده كما يشاء” (1 كو 12: 4، 11)… هكذا قُسمت الثياب، أعمال المسيح أو نعمته…

نقرأ أن (القميص) منسوجًا كله من فوق“، لأن الإيمان بالمسيح منسوج هكذا، حيث ينزل إلى الناسوت… مادام هو مولود من الله قبل الدهور. وقد قبل الجسد…

القول: “وكان القميص بغير خياطة” يشير أيضًا إلى أن الإيمان يلزم ألا يتمزق بل يبقى بكامله.

القديس أمبروسيوس

v ترمز ثياب الرب يسوع المسيح التي قُسمت إلى أربعة أجزاء إلى الكنيسة الرباعية، إذ تنتشر في كل العالم، الذي يحوي أربع أرابع، وبالتساوي بمعنى بانسجام، موزعة على كل الأربع مناطق. لهذا يقول في موضع آخر أنه سيرسل ملائكته ليجمع مختاريه من الأربعة رياح (مت ٢٤:٣١). وما هذا إلا من الأربعة أرابع للعالم: الشرق والغرب والشمال والجنوب؟

v يشير القميص الذي أُلقي عليه قرعة إلى وحدة كل الأجزاء التي تُحتوى في برباط المحبة. وعندما يريد الرسول أن يتحدث عن المحبة يقول: “أريكم طريقًا أفضل” (١ كو ١٢ :٣١). وفي موضع آخر: “لتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة” (أف ٣: ١٩). وفي موضع آخر: “وفوق كل هذه المحبة التي هي رباط الكمال” (كو ٣:١٤) فإن كانت المحبة طريقًا أفضل، ومعرفة فائقة وتُفرض فوق كل الأشياء، لذلك كان من اللائق أن هذا القميص الذي يمثل المحبة يكون منسوجًا من فوق، وبغير خياطة.

القديس أغسطينوس

“فقال بعضهم لبعض:

لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون،

ليتم الكتاب القائل:

اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة،

هذا فعله العسكر”. (24)

v أنظر النبوات التي تمت بالأفعال التي تباحث بها العسكر، لأن المصلوبين كانوا ثلاثة، إلا أن أقوال النبوات كملت في السيد المسيح، فلأي سبب لم يعملوا هذا العمل بالآخرين إنما لهذا وحده؟! تأمل استقصاء النبوة، لأن داود النبي لم يقل إنهم اقتسموا ثيابه فقط، لكنه ذكر مع ذلك ما لم يقتسموه، لأن بعضها اقتسموها، ولباسه لم يقتسموه، لكنهم جعلوا امتلاكه بالقرعة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ يكتب القديس جيروم لأستوخيوم Eustochuim عن حياة البتولية والسلوك اللائق بالعذارى، يرى أن اللواتي يمارسن هذه الحياة يتشبهن بالسيد المسيح الذي كان له ثوب منسوج من فوق (سماوي). [ليت المتزوجات يخيطن لأنفسهم ثيابًا، لأنهن فقدن الثوب المنسوج من فوق].

وفي نفس الرسالة يطالب العذارى ألا يرتدين أحذية فيقول: [أُمر موسى ويشوع أن يخلعا أحذيتهما، لأن الأرض التي وقفا عليها كانت مقدسة (خر 5:3؛ يش 15:5)، كان لهذا الأمر معنى سريًا. هكذا أيضًا عندما عُيّن التلاميذ للبشارة بالإنجيل طًلب منهم ألا يأخذوا معهم أحذية ولا سيور أحذية (مت 10:10). وعندما جاء الجند ليٌلقوا قرعة على ثياب يسوع لم يجدوا أحذية ليأخذوها، لأنه لم يكن ممكنًا للرب أن يملك ما قد منع عبيده منه].

فاصل

  1. اهتمامه بأمه 25-27

“وكانت واقفات عند صليب يسوع،

أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية”. (25)

جاء عن مريم زوجة كلوبا في مت ٢٧: ٥٦؛ مر ١٥: ٤٠ أنها أم يعقوب الصغير ويوسي؛ وأن ابنها يعقوب هو ابن حلفى Alpheus، مما يبدو أن حلفى وكلوباس هما شخص واحد. يقول هيجيسبوس Hegesippus نقلاً عن يوسابيوس أن كلوباس هو أخ يوسف خطيب القديسة مريم.

بينما هرب جميع التلاميذ ماعدا يوحنا إذا بالنسوة – والدته وأختها ومريم المجدلية – استمررن في مرافقته حتى الصليب. لم يخشين عنف الأشرار ولا رعب المنظر. حقًا لم يكن في إمكانيتهن أن يعملن شيئًا له، لكنهن أظهرن إخلاصهن حتى النهاية، رافقنه في طريق الخلاص الذي سار فيه، لقد تحقق قول سمعان الشيخ للقديسة مريم أنه يجوز في نفسها سيف (لو ٢: ٣٥).

مع حزنهن الشديد لم يقمن بتصرفات غير لائقة كما كانت عادة النسوة في الجنازات في ذلك الحين. لقد رافقن السيد من أجل إخلاص حبهن له. حقًا إنها نعمة الله الفائقة هي التي سندت هؤلاء النسوة في تلك اللحظات العصيبة، خاصة القديسة مريم والدته.

بينما وُجد أربعة جند يقومون بتنفيذ حكم الصلب بكل عنفٍ وقسوة كان مقابل ذلك أربع نساء يرافقن المسيح وسط آلامه.

v وقفت النسوة عند الصليب، الجنس الضعيف الذي ظهر أكثر رجولة، وهكذا تغيرت كل الأمور تمامًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفًا،

قال لأمه: يا امرأة هوذا ابنك”. (26)

حتمًا في هذه اللحظات كان قلب القديسة مريم قد انشغل تمامًا بآلام ابنها، أما هو فآلامه لم تشغله عنها، بل هي ثمرة حبه الشديد لها ولكل البشرية. ما يشغله خلاص الكل وبنيانهم ومجدهم. في بادرة حنان أخيرة نحو أمه أراد أن يَّؤمن لها عناية وعونًا بعد ذهابه، فسلّمها إلى من كان يحبه، والذي يعلم أنه الأقرب إليه من كل تلاميذه. بلا شك كان يوسف النجار قد تنيح منذ سنوات، ولم يعد من يهتم بالقديسة مريم، لذلك سلمها السيد المسيح وهو على الصليب للقديس يوحنا الحبيب بكونها أمه وهو ابنها. فنال يوحنا علاقة جديدة، البنوة لأم يسوع رب المجد.

لم يترك لأمه شيئًا، إذ لم يكن له ذهب ولا فضة لكي ترثه عنه، فالصندوق العام لحساب كل التلاميذ كان في يد يهوذا الذي غالبًا ما بدده، حتى ثيابه ورثها العسكر، ليس له ما يقدمه لها سوى تسليمها في يد من يحبه: يوحنا الرسول!

بالصليب تمتعت أمه بنوعٍ من الأمومة نحو الآخرين بعد ارتفاع ابنها الوحيد يسوع إلى الصليب.

لم يقل لها: “يا أماه” بل “يا امرأة“، ليس استخفافًا بها، ولا جحدًا لأمومتها، وإنما لكي لا يزداد جرحها كأم تسمع ابنها في اللحظات الأخيرة قبيل موته. ولعله أراد أن يؤكد لها أنه ليس من هذا العالم، فيخاطبها ليس من خلال العلاقات الدموية المجردة، وإنما كممثلةٍ للكنيسة موضوع حبه الفائق.

يقول نيسيفورس Nicephoros بأن العذراء مريم عاشت في بيت يوحنا ١١ عامًا في أورشليم، ويرى البعض أنها ذهبت معه إلى افسس.

v أطلب إليكم أن تتأملوا كيف فعل (السيد) كل شيء على الصليب بدون اضطراب، فتحدث مع تلميذه عن أمه، متممًا النبوات، مقدما رجاءً حسنًا للص، مع أنه قبلَ بإرادته أن يُصلب ظهر وقد تصبب منه العرق وتألم واضطرب. ماذا يعني هذا؟ إنه ليس بالأمر الصعب ولا المبهم. لقد أظهر قبل الصلب ضعف الطبيعة (كإنسان)، هنا يظهر عظمة السلطان.

بجانب هذا فإنه بهذين الأمرين يعلمنا أنه قبل حدوث الأمور المرعبة نضطرب، دون أن ننفر منها، ولكن عندما ندخل المعركة نحسب كل الأمور ممكنة وسهلة.

إذن ليتنا لا نخاف الموت. بالطبيعة نفوسنا تحب الحياة، لكن يحدث لنا أن نحل رباطات الطبيعة، فتصير هذه الرغبة (في الحياة الزمنية) ضعيفة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v نال ذاك التلميذ مائة ضعف أكثر مما تركه عندما استلم أم ذاك الذي وهب كل شيءٍ.

القديس أغسطينوس

“ثم قال للتلميذ: هوذا أمك.

ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته”. (27)

v وهو على الصليب شهد المسيح وقسم أعمال التقوى بين الأم والتلميذ. قدم الرب شهادة ليس فقط على المستوى العام، بل وعلى المستوى الخاص. وأشار يوحنا إلى هذه الشهادة التي للمسيح شاهدًا عن عظمة هذه الوصية.

v وقفت أمه لا تبالي بالخطر الذي يحدق بها، وذلك من أجل غيرتها للتقوى. استهان هو بمخاطره، وقدم لأمه صفوًا تقويًا. تعلمنا القراءة هنا أنه يلزم اتباع الحنو المادي، وتوقير الأبناء (لأمهاتهم)…

أعلن أن هذه التي ولدت الله بقيت عذراء. ومع ذلك فسُلمت بطريقة سرائرية ليوحنا، الأصغر (بين التلاميذ). هنا سرّ الكنيسة التي ارتبطت قبلاً بالمظهر، وليس عمليًا بالشعب القديم، ولكنها إذا ولدت الكلمة مزروعة في أجساد الناس وعقولهم خلال الإيمان بالصليب ودفن جسد الرب بوصية الله، اختارت أن تتبع الجنس الأصغر.

القديس أمبروسيوس

v يا للعجب من هذه الكرامة التي رام بهـا السيد المسيح تلميذه! ما أوفر هذه الكرامة، لأنه لما انصرف هو في ذلك الوقت سلمها إلى تلميذه المهتم بها، وإذ كان لائقًا بها أن تحتاج إلى مساعدة سلمها إلى محبوبه.

v يعلمنا أن نقدم توقيرًا فوق المعتاد لأمهاتنا. فعندما يقاومنا الوالدون بخصوص أمور روحية يلزمنا ألا نتمسك بما لنا. ماداموا لا يعوقونا يلزمنا أن نقدم لهم وقارًا، وأن نفضلهم عن الآخرين، لأنهم ولدونا، وربونا واحتملوا ربوات الأمور المرعبة من أجلنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لكي تتعلم بأكثر تدقيق من الكتاب المقدس الإلهي أنه ليس فقط يُدعى “ابًا” من هو أب طبيعي بل وغيره أيضًا، اسمع ماذا يقول الرسول؟ “لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون، لأني ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1 كو 15:4). كان بولس أبًا للكورنثويين، ليس لأنه ولدهم حسب الجسد بل خلال التعليم، وولدهم مرة أخرى حسب الروح.

اسمع أيضًا أيوب: “أب أنا للفقراء”. لقد دعا نفسه أبًا، ليس لأنه ولدهم جميعًا، بل من أجل اهتمامه بهم.

وابن اللٌه الوحيد نفسه عندما سُمر على الشجرة وقت الصلب لما نظر مريم أمه حسب الجسد ويوحنا تلميذه المحبوب جدًا من تلاميذه، قال له: “هوذا أمك“. وقال لها: “هوذا ابنك“، معلمًا إياها أن تصب حبها “الوالدي” فيه، شارحًا بطريقة غير مباشرة ما قيل في لوقا: “وكان أباه وأمه يتعجبان منه”، هذه الكلمات التي يتصيدها الهراطقة قائلين أنه وُلد من رجل وامرأة.

فكما دعيت مريم أمًا ليوحنا من أجل حبها الوالدي وليس لأنها أنجبته، هكذا دعي يوسف أبًا للمسيح من أجل عنايته بتربيته وليس لأنه أنجبه. إذ يقول الإنجيل: “لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر” (مت 25:1).

القديس كيرلس الأورشليمي

v إنه الابن البتول الذي قبل الأم البتول ميراثًا من الرب.

القديس جيروم

فاصل

  1. تقديم خل له 28-29

“بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل،

فلكي يتم الكتاب قال:

أنا عطشان”. (28)

سبق فذكر الإنجيلي في حديثه عن لقاء السيد المسيح مع المرأة السامرية أنه كان عطشانًا، وكان ذلك أيضًا في وقت الساعة السادسة. وكما يرى البعض أنها ساعة الظهيرة التي فيها خرج آدم من الفردوس. هكذا يعلن اللَّه محبته الفائقة للبشرية وعطشه إلى الرجوع إلى أحضانه الإلهية.

أثناء خدمته أعلن السيد المسيح للمرأة السامرية أنه عطشان (يو ٤: ٦-٧)، إذ كان يطلب إيمانها. وفي آخر رحلته هنا، وهو على الصليب، يعلن عن عطشه نحو كل نفسٍ بشريةٍ لتتمتع بأعماله الخلاصية. إن كانت نيران الجحيم قد جعلت من الغني إنسانًا عطشانًا، يطلب قطرة ماء يبلل بها لسانه، فقد احتل مسيحنا مكاننا ليعلن عن عطشنا لكي نرتوي بينابيع حبه.

كان العطش أمرًا طبيعيًا لمن يُصلب حيث يفقد الجسم الكثير من الماء بسبب العرق والجراحات. لم يشكو مسيحنا كل آلام الجلد وإكليل الشوك والمسامير والحربة، لكن الشكوى الوحيدة التي نطق بها هي أنه عطشان، معبرًا عن عطشه الداخلي بجانب آلام جسده. سبق فتنبأ المرتل داود في المزمور الخاص بالصلب فقال: “لصق لساني بحنكي” (مز ٢٢:١٥). كما جاء أيضًا في المزمور 69:21. لم يشر الإنجيليون الإزائيون إلى عطش السيد، بل انفرد الإنجيلي يوحنا بذلك.

“وكان إناء موضوعًا مملوءً خلاً،

فملأوا إسفنجة من الخل،

ووضعوها على زوفا،

وقدموها إلى فمه”. (29)

مال البعض إلى احتساب ذلك إمعانًا في قسوة لا موجب لها بحق من يحتضر، إذ كان من المعتاد تقديم كأس خمر للمصلوبين حتى يخففوا عن آلامهم في لحظات موتهم، أما بالنسبة للسيد المسيح ففي شيء من السخرية قدموا إسفنجة بها خل. ويرى البعض الأمر عكس ذلك تمامًا، فإن من تقصّوا الحقيقية أضحى ثابتًا منذ زمن طويل أن الجند الرومانيين كانوا يزوَّدون في البلاد الحارة بشرابٍ خاص يُدعى pouska، وهو مزيج من الماء والخل، من شأنه أن يقطع العطش.

يتساءل البعض كيف يمكن رفع الاسفنجة المملوءة خلاً على زوفا وهو نبات ضعيف لا يقوى على البلوغ إلى فم المصلوب؟ ظن البعض أن الكلمة هنا تعني “جريدة”، لأن الكلمتين “زوفا” و”جريدة” في اليونانية متقاربتان جدًا، خاصة وأنه وجدت الكلمة الأخيرة في نسخة ترجع إلي القرن الحادى عشر. لكن أغلب الدارسين يرفضون ذلك، إذ جاءت الكلمة “زوفا” في كل المخطوطات السابقة وفي مخطوطات آباء الكنيسة الأولي.

يقول Raymond E. Brown أنه يوجد 18 نباتًا يدعي “زوفا”، وأن أكثر من صنف له ساق طويلة قادرة أن تحمل الإسفتجة حتى تبلغ إلى فم الشخص المصلوب.

لقد رفض السيد المسيح أن يشرب خمرًا قبل رفعه على الصليب (مت 27: 34؛ مر 15: 23)، هذا الذي يُقدم لكي يخفف الآلام.

v من له السلطان هكذا لكي يكيِّف ما يفعله مثل هذا “الإنسان” الذي نظم كل شيء بخصوص آلامه؟ لكن هذا الإنسان هو الوسيط بين الله والناس، الإنسان الذي نقرأ عنه في النبوة… من يعرفه؟… إنه ذاك الذي أظهر نفسه محتملاً كل هذه الأمور، هو نفسه أيضًا كان مختفيًا، إذ هو الله الذي أعد كل الآلام.

لقد رأى كل هذا سيتم، فسأل أن يتحقق، لهذا قبل أن يشرب الخل… “في عطشي سقوني خلاً” (مز ٦٩:٢١).

v “قال أنا عطشان” (٢٧)، كما لو قال: “أمر واحد فشلتم أن تفعلوه، وهو أن تعطوني ما أنتم عليه. لأن اليهود أنفسهم كانوا خلاً مستخرجًا من خمر الآباء البطاركة والأنبياء، وامتلأوا كإناء مملوء من شر هذا العالم، قلوبهم كإسفنجة، مخادعين في شكل أعماق بها مسام معوجة. أما الزوفا التي وضعوا عليها الإسفنجة المملوءة خلاً فبكونها عشبًا ضعيفًا يطهر القلب فإنه يناسب تواضع المسيح نفسه الذي حاصروه وتخيلوا أنهم أوقعوه في الفخ تمامًا. لذلك قيل في المزمور: “اغسلني بزوفاك فأطهر” (مز ٥١ :٧). فإننا نتطهر بتواضع المسيح. لأنه لو لم يتواضع ويطيع حتى موت الصليب (في ٢ :٨) ما كان يُسفك دمه لأجل غفران الخطايا، أو بمعنى آخر لتطهيرنا.

القديس أغسطينوس

فاصل

  1. تسليم الروح 30

“فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل.

ونكس رأسه، وأسلم الروح”. (30)

بقوله “قد أكمل” أعلن السيد المسيح أن عداوة مضطهديه قد بلغت النهاية، وإن النبوات الخاصة بصلبه قد تحققت بالكامل. قد زال الظل تمامًا وتحققت الحقيقة: بيع بثلاثين من الفضة، ثُقبت يداه ورجلاه، قسمت ثيابه، وعلى لباسه ألقوا قرعة، والآن قدموا له خلاً في عطشه، وطُعن جنبه. الآن كملت آلامه لكي ينطلق يحمل الغنائم إلى الفردوس. عوض الجو المملوء كآبة يفتح أبواب الفردوس لكي تتهلل النفوس التي رقدت على رجاء. الآن قد تم تقديم ذبيحة جسده، وها هو كرئيس الكهنة الأعظم السماوي ينطلق إلى الآب ليشتمها رائحة سرور ورضا عنا.

أسلم الروح“: لم تغتصب حياته منه بالقوة، بل سلمها بكامل حريته. لقد قال للآب: “في يديك استودعك روحي”، معبرًا عن قبوله للموت باختياره، فدية عن كثيرين.

نكس رأسه“:ُ الذين يُصلبون عادة يرفعون الرأس للتنفس ولن ينكسوا الرأس إلا بعد آخر نسمة في حياتهم، أما السيد المسيح فلكي يبرز دوره الاختياري أحنى رأسه أولاً كمن ينام، أو كمن يخضع ليعلن أنه حمل ثقل خطايانا وشرورنا، إذ يرى البعض أنه بتنكيس رأسه أعلن مدى ثقل خطايانا التي حملها بإرادته عنا. “لأن آثامي عليّ، طمت فوق رأسي، كحملٍ ثقيل أثقل مما أحتمل” (مز ٣٨: ٤). “لأن شرورًا لا تُحصى قد اكتنفتني” (مز ٤٠: ١٢). احناء الرأس أيضًا يعلن عن خضوعه وطاعته لأبيه الذي يُسر بتقديم ابنه الوحيد ذبيحة حب عن البشرية.

عند الصليب أسلم يسوع روحه البشرية في يدي الآب، لكي يسلم روحه القدوس إلى كنيسته.

v إذ أحنى رأسه سلم الروح، بمعنى أنه مات. مع ذلك فإن لفظ النفس الأخير لا يأتي بعد انحناء الرأس، ما حدث هنا هو على النقيض. إنه لم يحدث له ما يحدث معنا أن يحني رأسه عندما سلم النفس الأخير وإنما عندما أحنى الرأس أسلم الروح قد أظهر الإنجيلي بكل هذه أنه رب الكل.

v أرأيت كيف كان السيد المسيح عاملاً كل ما يشاء بسلطانٍ وبخلوٍ من الاضطراب؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أحنى الرأس، وتمم رحيل روحه في عملٍ مريحٍ لها، كما في حضن الآب القادر أن يدللها ويقويها في حضنه.

العلامة أوريجينوس

v من يقدر أن ينعس متى يريد، مثلما مات يسوع حينما أراد؟ من هو هذا الذي خلع ثيابه عندما شاء، كما خلع جسده حسب مسرته؟ من هو هكذا يرحل عندما يريد، كما رحل هذا من هذه الحياة حسب مسرته؟ يا لعظمة سلطان ذاك الذي نترجاه ونرهبه إذ هو الديان، إن كان هكذا هو سلطانه الذي أعلنه وهو إنسان ميتٍ!.

القديس أغسطينوس

فاصل

  1. طعنه بالحربة 31-37

“ثم إذ كان استعداد،

فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت،

لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا،

سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويُرفعوا”. (31)

كانت كل السبوت أيام مقدسة، لكن هذا السبت الذي كان يقع في أسبوع الفصح حيث الفطير غير المختمر، الذي يُقدم فيه البكور كما يرى البعض، فهو “اليوم العظيم megale hemera“، وهو أعظم يوم من أيام الإعداد الطبيعي للفصح.

كان الإعداد لكل سبت يبدأ في الساعة التاسعة من يوم الجمعة (٣ ظهرًا). جاء في يوسيفوس أن الإمبراطور أوغسطس أصدر منشورًا لصالح اليهود أنه لا يُلزم أحد أن يقدم تحية في يوم السبت، ولا في الاستعداد له منذ الساعة التاسعة (حسب الطقس اليهودي).

لم يكن يُسمح ببقاء الأجساد الميتة في الأيام العادية (تث ٢١:٢٣) ولعل ضميرهم بدأ يوخزهم فلم يحتملوا بقاء جسمه معلقًا أمامهم يذكرهم بجريمتهم البشعة، فيفسد عليهم فرح العيد. هذا وبمناسبة العيد كانت أورشليم مكتظة بالغرباء، فلم يرد اليهود أن يبقى جسم المسيح المصلوب معلقًا.

يرى البعض أنهم لم يطلبوا قطع رؤوسهم لكي يموتوا سريعًا بلا آلام متزايدة، وإنما طلبوا كسر سيقانهم من أجل معاناتهم من آلام أكثر. وهكذا حتى في طلب الرحمة (إنزال أجسادهم من على الصليب) كانوا قساة للغاية. وعندما تظاهروا بالقداسة – عدم ترك الأجساد حتى لا تتدنس الأرض – مارسوا الشر. اهتموا بحفظ السبت ولم يراعوا العدالة والبرّ.

v كان اليهود يبلعون الجمل ويصفون عن البعوض، إذ مارسوا إثمًا جسيمًا ودققوا جدًا بخصوص (حفظ) اليوم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فأتي العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه”. (32)

“وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه،

لأنهم رأوه قد مات”. (33)

مات السيد المسيح سريعًا قبل اللصين، ربما لأن جسمه كان نحيفًا، ولأن شخصه كان رقيقًا، فلم يحتمل كل هذه الآلام. أو لعله سمح لنفسه بالموت قبلهما ليدرك الكل أنه مات بإرادته، إذ سلم روحه في يدي الآب في الوقت الذي اختاره. لقد خضع للموت بإرادته لا عن التزام، وإنما خلال نصرته بالحب.

“لكن واحدًا من العسكر طعن جنبه بحربة،

وللوقت خرج دم وماء”. (34)

لم ترد قصة طعن جنب المسيح إلا في هذا الإنجيل.

يسوع الذي مات حقيقة حسب الجسد، إذ فارقت النفس الجسد، يُعلن أنه مبدأ الحياة الغالبة للموت. بموته غلب الموت وأعاد إلينا الحياة الأبدية.

يرى آباء الكنيسة الأولى مثل القديسين أغسطينوس وأمبروسيوس ويوحنا الذهبي الفم في هذه الظاهرة إشارة أولى إلى سرّي المعمودية (الماء) والإفخارستيا، حيث يكون الارتواء مباشرًا من الجرح في جنب ربنا يسوع. ويرى كل من العلامة ترتليان والقديس كيرلس الأورشليمي والقديس جيروم أن الماء والدم هنا هما رمزان للمعمودية والاستشهاد. ويرى البعض أنهما رمز للعهدين القديم (الماء) والجديد (الدم) حيث فيه تم العهد وتمتع رجال العهدين بالخلاص.

يُقال أن هذا الجندي يُدعى لونجينوس Longinus، وأنه إذ خرج دم وماء من جنب السيد سقطت قطرات دم على عينيه العليلتين فبرئتا، فآمن به، وأنه كرز في كبدوكية، ونال هناك إكليل الشهادة. يرى البعض أن اسم لانجينوس جاء تحريفًا من كلمة Longchee اليونانية، ومعناها حربة أو رمح وردت هنا في النص.

لازال النقاش مستمرًا حول موضع الحربة، هل على الجانب اليمين أم اليسار من السيد المسيح. وإن كان الروح القدس لم يعلن لنا خلال الأناجيل عن ذلك، مكتفيًا بأنه طعن بالحربة تحقيقًا للنبوة. يرى البعض في طعن السيد المسيح بالحربة حتى قلبه إنما كان ذلك أشبه بنافذة تطل من خلالها النفس على أحشاء المسيح الداخلية أو قلبه، لترى فيض حبه الإلهي، أو لهيب الحب الفائق نحو البشرية. إنه النافذة المفتوحة التي من خلالها يمكن للمؤمن أن يلتقي بالله، ويرسل إليه مشاعر حبه. إنها نافذة القلب التي لا تُغلق قط أمام أي تائب.

سمح الله للجندي أن يضرب قلب السيد المسيح بالحربة لكي نرى في القلب الصخرة المضروبة لأجلنا (١ كو ١٠:٤)، والينبوع الذي يفيض علينا (زك ١٣:١)، وآبار الخلاص التي حُفرت من أجلنا (إش ١٢: ٣)، والنهر الذي يفيض بمجاريه لكي يفَّرح مدينة الله.

v جُرح الرب في آلامه، ومن هذا الجرح خرج دم وماء… الماء للغسل، والدم للشرب، والروح لقيامته. فالمسيح وحده هو رجاؤنا وإيماننا وحبنا. رجاء في قيامته، وإيمان في الجرن، وحب في السرّ.

القديس أمبروسيوس

v جاء الجند وكسروا سيقان الآخرين ولم يكسروا ساقي المسيح. لكن هؤلاء ضربوا جنبه بالحربة ليبهجوا اليهود، وكنوعٍ من الإهانة للجسد الميت… الآن تحققت النبوة: “ينظروا إلى الذي طعنوه” (راجع زك 12: 10). ليس هذا فقط، وإنما صار هذا العمل برهانًا على الإيمان بالنسبة للذين لم يؤمنوا بعد ذلك، مثل توما ومن على شابهته. هذا أيضًا حمل سرًا فائق الوصف قد تحقق، إذ خرج دم وماء. لم يحدث هذا بلا هدف، ولا مصادفة، حيث صدر الينبوعان. لأن بهذين الاثنين معًا تتكون الكنيسة. يعرف ذلك المبتدئون في الأسرار، فإنهم بالماء ينالون الميلاد الجديد، وبالدم والجسد ينتعشون. هكذا وُجدت الأسرار في البداية حتى عندما تقتربون إلى الكأس المهوب تقتربون كما من جنبه ذاته لتشربوا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v كما أن عمله الأرضي (خدمته على الأرض) بدأت بالماء، هكذا انتهت به. طُعن جنبه بالحربة، وفاض دم وماء، رمزان للمعمودية والاستشهاد.

القديس جيروم

v لقد أُعلن عن ذلك مقدمًا عندما أُمر نوح أن يقيم بابًا في جنب الفلك (تك ٦:١٦)، حتى تدخل منه الحيوانات لكي لا تهلك من الطوفان، والتي كانت تشير إلى الكنيسة. لهذا خُلقت المرأة الأولى من جنب الرجل وهو نائم (تك ٢:٣٢) ودُعيت الحياة (حواء) وأم كل حي (تك ٣: ٢٠)… أحنى آدم الثاني هذا رأسه ونام على الصليب حتى تتشكل العروس مما يصدر عن جنب النائم… أي شيء أطهر من مثل هذا الدم؟ أي شيء يهب صحة أكثر من هذا الجرح؟

القديس أغسطينوس

“والذي عاين شهد، وشهادته حقٌ،

وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم”. (35)

“لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل:

عظم لا يُكسر منه”. (36)

بقوله هذا يشهد القديس يوحنا أنه عاين ذلك بنفسه، وأن ذلك حدث معجزيًا. وقد أشار إلى ذلك لأن الإنجيليين الآخرين لم يشيروا إلى هذا الحدث، وهو يؤكد حقيقة موته.

لقد تم الكتاب حسب الوعد الذي قُدم لكل الأبرار كإشارة لما يتحقق مع يسوع البار (مز ٣٤: ٢٠) أن الله يحفظ كل عظامه، وواحدة منها لا تنكسر. ويقول داود بالروح: “كل عظامي تقول: يا رب من هو مثلك؟” (مز ٣٥: ١٠). هذا وقد مُنع اليهود من كسر عظمة من عًظام خروف الفصح (خر ١٢: ٤٦؛ عد ٩: ١٢). فالمسيح فصحنا ذُبح لأجلنا (١ كو ٥: ٧)، إنه حمل الله (يو ١: ٢٩)، لذلك لا تُكسر عظامه.

تشير العظام في العبرانية إلى قوة الجسم، بكونها تكَّون الهيكل العظمي للإنسان. فعدم كسر عظامه يرمز إلى أن السيد المسيح وإن كان قد قَبِلَ أن يصلب كما في ضعفٍ، لكن في ضعفه قوة. فالخطية تكسر عظامنا وتنزع عنا قوتنا، لذا يقول المرتل داود في مزمور التوبة: “تبتهج عظامي المنسحقة” (مز ٥١: ٨). لكن الخطية لم تقدر أن تكسر أو تسحق عظام المسيح، إنما وقف بثبات يحمل ثقل خطايانا حتى يخلصنا منها.

v لقد تمت تلك النبوة، إذ لم يكسر اليهود للسيد المسيح عظمًا، وأن هذا القول قيل في وصف الخروف عند اليهود، إلا أن الرسم حاضر من أجل الحق، وفي هذا خرج أكثر وضوحًا، ولهذا السبب اقتاد البشير ذكر ما قاله الكتاب إلى وسط كلامه.

v يعلن القديس يوحنا بصوتٍ عالٍ عن الأسرار اللازمة مقدمًا، وإذ رأى الكنز ملقيًا فيها كان دقيقًا بخصوص ما حدث وكيف تحققت النبوة أيضًا… “عظمة واحدة منه لا تنكسر” (راجع خر 12: 46؛ مز 34: 20). فإن هذا قد قيل بخصوص حمل اليهود، وذلك من أجل الحقيقة التي سبق فتنبأ عنها الرمز، ففيه تحققت النبوة بأعظم كمالٍ. لهذا فإن الإنجيلي قدم النبي. وإذ هو يقدم نفسه على الدوام كشاهدٍ ربما يبدو أن شهادته غير موضع ثقة جلب موسى (كشاهدٍ) وقال أن ما حدث لم يكن بغير هدفٍ، بل سبق فكُتب عنه قبلاً في القديم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأيضًا يقول كتاب آخر: سينظرون إلى الذي طعنوه”. (37)

تم قول الكتاب أيضًا بخصوص طعنه بالحربة، إذ جاء في سفر زكريا النبي ينظر إليه الذين طعنوه وينوحون (١٢: ١٠؛ رؤ ١: ٧)، وأنه جُرح في بيت أحبائه (زك ١٣: ٦).

v سيتطلع هؤلاء البؤساء إلى الذي سخروا به، إذ رأوه معلقًا على الصليب الثمين. سيروه متوجًا بالمجد الإلهي، وسينحدرون إلى هوة الدمار في مجازاة عادلة على شرهم من نحوه.

القديس كيرلس الكبير

v مرة أخرى يثبت كلمات النبي بشهادته هو.

أخبرتكم بهذه الأمور لتتعلموا العلاقة العظيمة بين الرمز والحقيقة. ألا ترون بأي اجتهاد أخذ هذه الأمور لكي يؤمنوا من خلال ما يبدو خزيًا وعارًا؟

إهانة الجندي للجسم الميت كانت أشر من صلبه… لكن ولا خلال العار يقدر أحد أن يؤذى قضيتنا. فإن ما يبدو خزيًا عظيمًا للغاية هو نفسه سجل مهيب للغاية عن الأمور الصالحة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

  1. دفنه 38-42

“ثم أن يوسف الذي من الرامة،

وهو تلميذ يسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود،

سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع.

فأذن بيلاطس،

فجاء وأخذ جسد يسوع”. (38)

إذ كان الفصح اليهودي وشيكًا وجب التعجيل في الدفن. يظهر الإنجيلي عملية الدفن بطريقة مؤثرة كعملٍ وقورٍ، من صنع الإيمان والحب، التزم بها تلميذان ليسوع خفيّان.

كان يوسف الرامي تلميذًا للسيد المسيح، في ضعفه كان متخفيًا طوال خدمة السيد، لكن في اللحظات الحاسمة حيث عُلق جسد الرب على الصليب، في شجاعة انطلق إلى بيلاطس يستأذنه في أخذ الجسد، فنال كرامةًً عظيمةً. رافقه في ذلك نيقوديموس الذي جاء ليلاً إلى السيد، والآن لا يخشى طرده من مجمع السنهدرين. لو لم يفعلا ذلك لقام العسكر بدفنه مع اللصين في قبرٍ قديمٍ، ولم تكن قيامته قد تأكدت، بل كان يمكن الادعاء بأن الذي قام شخص آخر.

v لم يكن يوسف هذا تلميذًا من الاثني عشر، لعله كان من السبعين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وجاء أيضًا نيقوديموس الذي أتى أولاً إلى يسوع ليلاً،

وهو حامل مزيج مر وعود نحو مائة منا”. (39)

يُستخدم المزيج من المر والعود لحفظ الجسم مدة طويلة. يرى البعض أن المائة من المزيج يكفي لتطييب ٢٠٠ جسمًا من الراقدين. وقد ظنوا أن في ذلك خطأ في النسخ. لكن هكذا كانت العادة بالنسبة للشخصيات الهامة أو المحبوبة، فقد قيل عن جنازة أرسطوبولس Aristobulus أن كمية ضخمة من الأطياب اُستخدمت، وقيل أن ٥٠٠ خادمًا حملوا عودًا لتطييب جسد هيرودس في جنازته. وأن ٨٠ رطلاً من الأطياب استخدمت في جنازة غمالائيل الكبير.

المن: وزن يوناني وروماني يساوى نحو مائة درهم.

v لديكم مر من أجل الدفن. وعصارة الصبر من أجل العبور إلى العالم السفلي، حيث كل نقطة تنحدر إلى اسفل، وقرفة لأجل تدبير الجسم على خشبة الصليب.

القديس باسليوس الكبير

v رائحتك الأولى فوق كل الأطياب (نش 10:4)، هذه التي أُستخدمت في دفن المخلص (39). تفوح الرائحة الذكية من إبادة ملذات الأعضاء. أما الرائحة الثانية فهي مثل رائحة لبنان (نش 11:4) تطلق رائحة عدم الفساد الذي لجسد ربنا، زهرة العفة البتولية.

القديس أمبروسيوس

“فأخذا جسد يسوع،

ولفاه بأكفانٍ مع الأطياب،

كما لليهود عادة أن يكفنوا”. (40)

v ماذا يعني أن يوسف ونيقوديموس يدفنان المسيح وليس التلاميذ؟

واحد منهما صالح وبار (لو 23: 50)، والثاني لا يُوجد فيه نفاق، فإن دفن المسيح يتحقق دون خداع أو شرٍ. فقد أغلق على أي بابٍ للمراوغة…

لو أن الرسل دفنوه لقال اليهود بكل تأكيد أن هؤلاء لم يدفنوه… لكن إنسانًا بارًا كفن جسم المسيح في كتانٍ ثمينٍ (مت 27: 59؛ لو 23: 53) وإنسان غير مرواغ دهنه بالطيب، لذلك فإن هذا الأمر لم يتم بلا هدف، لأن البرّ يلبس الكنيسة، والبراءة تخدم النعمة.

لتغطوا جسد الرب (الكنيسة) بالثياب… ولتدهنوه بالمر والسيخة فيكون لها رائحة المسيح الذكية (2 كو 2: 15).

قدم يوسف كتانًا ثمينًا، ربما هو ما رآه بطرس نازلا ًمن السماء، وفيه كل أنواع الحيوانات كرمزٍ للأمم (أع 10: 12).

هكذا تُكفن الكنيسة التي ترتبط بتنويع من الشعب في شركة إيمانها بهذا الطيب النقي السري.

القديس أمبروسيوس

v أظن أنه ليس بدون هدف يقول: “كما لليهود عادة أن يكفنوا” (٤٠)، فإنه بهذا – إن كنت لا أخطئ – يحثنا على ممارسة مثل هذا الواجب من أجل الميت، حسب عادة كل أمة.

القديس أغسطينوس

“وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان،

وفي البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط”. (41)

دُفن جسد المسيح في قبرٍ جديد،ٍ كان قد أعده يوسف الرامي في بستان له خارج المدينة، قريب من موضع الصلب “الجلجثة”، ولم يكن يتوقع أنه سيكون قبرًا للسيد المسيح.

في بستان أحنى السيد المسيح رأسه ليسلم إرادته بين يدي الآب في مسرة ليحمل الصليب، وهناك أُلقي القبض عليه، وفي بستانٍ قام السيد المسيح ليعلن بآلامه وموته أنه غلب الموت ووهب القيامة. في البستان دُفنت حبة الحنطة التي تحدث عنها السيد المسيح (يو ١٢ :٢٤)، وأثمرت ثلاثين وستين ومائة. في البستان فجَّر السيد ينابيع الحياة (نش ٤ :١٥).

كان القبر جديدًا، وقد قام السيد والحجر موضوع عليه، فكما وُلد من البتول هكذا قام من قبر بتول. كل شيء بالنسبة له كان جديدًا حتى القبر لكي يهبنا الحياة الجديدة.

v في هذا الفردوس غنيت لعروسي في نشيد الأناشيد: “قد دخلت جنتي يا أختي العروس” (نش 1:5)، فقد كان مكان الصلب بستانًا. ماذا أخذ من هناك؟ ” قطفت مري مع طيبي، إذ شرب المر مع الخل، وبعد ذلك قال: “قد أُكمل”. لأن السرّ تم، والمكتوب تحقق، والآثام غُفرت. “لأن المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيدٍ، أي الذي ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول ولكن بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءًا أبديًا. لأنه إن كان بدم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالأحرى يكون دم المسيح؟!” (عب 11:9-14).

v يعود فيقول في نشيد الأناشيد “نزلت إلى جنة الجوز” (نش 11:6)، إذ صلب السيد في البستان. فإنه وإن كان الموضع الآن مزينًا بالهبات الملكية لكنه كان قبلاً بستانًا، ولا تزال العلامات والآثار قائمة. إنه “جنة مغلقة وينبوع مختوم” (نش 12:4). قيل هذا عن اليهود، هؤلاء الذين قالوا: “تذكّرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمرْ أن يُضبط القبر” وعلى هذا “مضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر” (مت 63:27، 65).

v في بستان كان دفنه، حيث زُرعت هناك كرمة، إذ قال عن نفسه: “أنا هو الكرمة” (يو 1:15). لقد زُرع في الأرض لكي يقتلع اللعنة التي حلّت بسبب آدم حيث سُلِّمت الأرض للشوك والحسك. لقد طلعت الكرمة من الأرض ليتم القول: “الحق من الأرض أشرق، والعدل من السماء اطلع” (مز 10:84).

وماذا يقول ذاك المدفون في البستان؟ “قطفتُ مرّي مع طيبي” (نش 1:5) وأيضًا: “مرّ وعود مع كل أنفس الأطياب” (نش 14:4). وهذه هي علامات للدفن، إذ جاء في الأناجيل “أتين (النسوة) إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه” (لو 1:24). “وأحضر نيقوديموس أيضًا خليطًا من مرّ وعود” (يو 39:19)، ومكتوب أيضًا” أكلت خبزي (شهدي) مع عسلي” (نش 1:5). إذ أكل المُر من قبل الصليب والعسل بعد القيامة.

القديس كيرلس الأورشليمي

v كما أنه لم يحبل بأحد من قبله أو بعده في رحم العذراء مريم، هكذا لم يُدفن أحد في هذا القبر قبله أو بعده.

القديس أغسطينوس

“فهناك وضعا يسوع لسبب استعداد اليهود،

لأن القبر كان قريبا”. (42)

لم تقم خدمة جنازة للسيد المسيح، لأنه مات مصلوبًا، مرفوضًا من خاصته. ولم يكن يوجد وقت لأنه كان يلزم دفنه سريعًا قبل الغروب. دُفن شمس البرً مع غروب الشمس، ولم يكن ممكنًا للقبر أن يحبس نوره، ولا للظلمة أن تسيطر عليه. حرسه الجند لئلا يقوم فيعلن وفاء ديننا وقبول ذبيحته عنا، ويبررنا أمام الآب، لكن صارت الحراسة شهادة حقيقية عن قيامته.

واضح من هذا التصرف أنه لم يكن موضوع قيامته في ذهن أحد بالرغم من الإشارات المستمرة إليها قبل صلبه. وتم الدفن هكذا بسبب ضيق الوقت مع عدم الإعداد بمقبرة خاصة به، كما لم يفكر أحد في دفنه في مقابر الأسرة، ربما لأن الغروب قد اقترب جدًا، ومن الصعب التدبير بين الأسرة للدفن في ظروف مرة كهذه. هذا من الجانب البشري، أما من جهة التدبير الإلهي فكان كل شيء معدًا بتدبيرٍ عجيبٍ سبق فأعلن عنه إشعياء النبي قبل ذلك بأكثر من ٧٠٠ عامًا حيث قال عنه أنه مع غني يكون قبره (إش ٥٣: ٩).

v دبر أن يوضع جسد السيد المسيح في قبر جديد لم يكن قد وضع فيه أحد، حتى لا يُظن أن القيامة صارت لآخر موضوع معه، وحتى يتمكن تلاميذه من أن يجيئوا ويعاينوا ما يحدث، لأن القبر كان قريبًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

من وحي يوحنا ١٩

معك أُدان، ومعك أُصلب!

v اقتادوك إلى المحاكمة، وأنت ديان الكل!

تقدست المحكمة بوجودك،

وصار قبول الظلم حبًا فيك وفي أولادك لذة لنفسي!

صمت أمام بيلاطس، فاضطرب.

أعلنت له عن ملكوتك، أنه ليس من هذا العالم،

فاشتاق أن يعرف من أنت.

أطلقوا باراباس اللص،

وصُلبت أنت أيها البار.

نعم، فتحت باب السبي،

وأطلقت نفسي من الحبس.

v لأخرج معك إلى الجلجثة.

أجد في عمل صليبك كرامة لا استحقها.

أتطلع إلى إكليل الشوك،

فأراك تعد لنفسي إكليل مجدٍ أبدي.

v صار طريق الجلجثة طريقًا ملوكيًا،

من يستحق أن يعبر فيه،

ليدخل معك إلى مجدك السماوي؟

v حملت خشبة الصليب لكي تحمل كل البشرية المؤمنة فيك.

في حبك العجيب عطشت إلى كل البشرية،

سقوك خلاً، لكي تسقينا من نهر الحياة في أورشليم العليا.

أحنيت رأسك، وسلمت روحك في يد أبيك،

لكي ترفع رؤوسنا أمام أبيك،

وتمجد نفوسنا مع أجسادنا!

v جُرحت بالحربة، فأفاض جنبك لي دمًا وماء!

بدمك تقدست بكليتي،

وخلال الماء تهبني روح البنوة للآب.

v في صلبك أُحصيت مع آثمة،

لكي تعلن أنك مخلص الخطاة.

وفي موتك دُفنت في قبر غني،

أنت محب الخطاة لكي تبررهم،

أنت تضم الفقراء والأغنياء.

أنت محب للجميع.

v في بستان دفنوك،

لأن في البستان مات آدم الأول،

وفي البستان تتقدم فترد لنا الحياة من جديد.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 18 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير يوحنا 20
تفسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى