تفسير سفر الرؤيا اصحاح 8 لابن كاتب قيصر

الإصحاح الثامن

36- (1) ولما فتح الختم السابع كان سكوت في السماء نحو نصف ساعة (2) فرأيت السبعة الملائكة الكائنين أمام الله واقفين وأعطوا سبعة أبواق .

هذا هو السر السابع تحت الختم السابع ، وهو تمام الختوم التي فتحها الحمل ، والأسرار التي أفضى بها . والفص متسق في اللفظ على الفص الثلاثين ، ، لأنه تضمن فتح الختم السادس . أما في المعنى فإنه أول القسم الثامن في الحوادث الكائنة قبل هبوط الشاهدين أخنوخ وإيليا.

قوله : «كان سكوت في السماء نحو نصف ساعة» ، هو سكوت الرهبة التي تسبق تبويق الملائكة وحدوث الضربات . أما تحديد مدته بنصف ساعة فيدل على أنه مدة وجيزة من الزمن بعد تملك المسيح الدجال قوله : «فرأيت السبعة الملائكة الكائنين أمام الله واقفين» ، قد تقدم أن هذه السبعة الملائكة هم المترددون إلى هذا العالم بالأوامر والنواهي الربانية لينبهوا إليها ويتقدموا بتنفيذها.

قوله : «وأعطوا سبعة أبواق» ، هذه الأبواق رمز على أوامر مختلفة . والتصويت بها رمز على تنفيذ الأوامر . والأبواق المذكورة تحتمل أن تكون علامة تحدث بعد التصويت بها هذه الحوادث لعلة أخرى غيرها ، كما يكون كما يكون البوق علامة لإقامة الحرب لا علة لها وتقدير القول : أعطوا سبعة أبواق أي سبعة أوامر والذي تدركه الناس عن الحوادث الكائنة عن هذه الأوامر علة كونها في المستأنف . فأما الملائكة والأبواق والتصويت بها ، فإنما أدرك ذلك صاحب الرؤيا عند رؤياه.

 

37- (3) فأتى ملاك آخر ووقف عند المذبح الذهب وكانت مجمرة ذهب بيده وأعطى بخورا كثيرا ليحمله مع صلوات القديسين جميعهم على المذبح الذهب الكائن أمام العرش (4) فصعد بخار البخور مع صلوات القديسين من يد ملاك الله الذي أمامه.

قوله : « فأتى ملاك آخر » ، أي غير السبعة المذكورين في العدد السابق. وأما من أية طغمة هذا الملاك ؟ فأظنه من طغمة الكروبيم ، لأن لها رئاسة الكهنوت التي من وظائف صاحبها ثلاثة أمور : خدمة المذبح ، وحمل البخور والشفاعة ، وبها تختص هذه الطغمة . وبالأمرين الأولين ، يشترك مع بقية هذه المرتبة والمرتبة التي بعدها . فلما فعل هذا الملاك ما دل على الشفاعة استدللنا على أنه من طغمة الكروبيم . وبخار البخور الرمز به على الشفاعة مع الاستعداد ، بدليل قوله مع صلوات القديسين ، ولذلك كان في العتيقة إنما يحمل البخور رئيس الكهنة في كل عشية وكل صباح ، ويعد المصابيح ويسرجها حسب ما رتبه موسى النبي كما رأى في السماء.

قوله : « ووقف عند المذبح الذهب الكائن أمام العرش» ، فقوله عند المذبح رمز على خدمته وتكهينه . وكون المذبح ذهبا ليتميز عن مذبح الصعائد فإنه كان في العتيقة مصفحا بالنحاس ، بينما مذبح البخور مصفح بالذهب ويسمى أيضا بالهيكل . وأمام العرش قد مضى تفسيره.

قوله : «وكانت مجمرة ذهب بيده » المجمرة رمز على إرادته وعقد نيته على ما مضى بيانه في الفص الرابع والعشرين والذهب ، كما تقدم رمز على الطهارة والثبات والإخلاص والشرف ويده رمز على قوة نفسه.

قوله : «وأعطى بخورا كثيرا ليحمله» ، فعنى بكونه أعطى أي بلغ إلى علمه واطلع عليه . وقد فسر البخور في الفص الرابع والعشرين أنه ما يرتفع من صلوات القديسين ، وفي هذا الفص أنه صلوات القديسين أجمعين ولذلك كثر . وحمله هو تقريبه إلى المواقف المقدسة الإلهية.

قوله : «فصعد بخار البخور مع صلوات القديسين» ، فإن هذا البخار يرمز إلى معنى دقيق هو أنه جوهر ممزوج من هوائية وأرضية ؛ فالهوائية على شفاعة الملاك ، والأرضية هي استعداد المشفوع لهم . وكما أن الهوائية صعدت بالأرضية واستصحبتها ، كذلك الشفاعة أصعدت الاستعداد واستصحبته ، إذ لابد مع الشفاعة من استعداد المشفوع له ، فإذا أضفت إلى ذلك طلبته وابتهاله كان أبلغ وأحرى بالإجابة ، وهذا معنى قوله مع صلوات القديسين قوله : «من يد ملاك الله الذي أمامه» ، قد تقدم أن يده رمز على قوة نفسه . والهاء من أمامه عائدة على الله تعالى ، ومعنى أمامه كونه حاضرا لا غائبا لأن الله تعالى ليس له خلف ولا أمام ولا غير ذلك ، فكأن تقدير القول : من قوة نفس ملاك الله الحاضر.

38- (5) فأخذ الملاك المجمرة الذهب وملأها من نار المذبح وطرحها على الأرض فصارت رعودا وأصواتا وبروقا وزلازل

قد مضى تفسير الأخذ في الفص الرابع والعشرين بأن الأخذ كالحمل والمقصود بهما واحد ، كما مضى تفسير المجمرة الذهب في الفص المتقدم وأما ملؤها فرمز على كثرة إرادة الملاك لذلك . وأما نار المذبح فإنها رمز على الأمر الإلهي المتجدد عند الاستجابة ، كما ترمز على الأمر الإلهى لسرعته ونفاذه . وطرحها على الأرض دليل على أن هذا الأمر نزل من السماء إلى الأرض.

قوله : « فصار رعودا وأصواتا وبروقا وزلازل » ، صارت هنا بمعنى حدثت ، ومراده أن هذه النار لما وصلت إلى الأرض حدثت هذه الحوادث الأربعة ، فذكر المسموعين أولا وهما : الرعد والأصوات ، ثم ذكر المرئيين ثانيا وهما : البرق والزلازل . والصوت يسبق الزلزلة وهما حادثان في الأرض ؛ والبرق يسبق الرعد وهما حادثان في العلو . وحدوث هذه الحوادث إنما يكون علامة لظهور أمر عظيم وحادث جلل ، لأن التجلى لموسى في جبل سيناء شبقه هذا كله كذلك عندما رأى حزقيال النبي المركبة ، وكذلك المركبة العظمى التي رآها هذا الرسول . وكذلك قال في الفص التاسع والثمانين عند انقضاء الدولة الدجالية وإقبال الوليمة العظمى . وكذلك عند القيامة العامة ، وكذلك قال أشعياء أو غيره عند انقراض دولة أو حدوث قضية عظيمة.

وبالجملة فإن كل حادث جلل يسبقه مثل هذا إنذارا به وبعظم شأنه وهذا الحادث على الخصوص هو نزول الشاهدين العظيمين أخنوخ وإيليا في آواخر الزمان ، لأن قبل ظهور الدولة الدجالية بنصف أسبوع من السنين ، أي ثلاث سنين ونصف ، يكثر في الأرض الفساد وعبادة الأوثان والكذب والسرقة والقتل والزنا وسائر المآثم ، فيستغيث الأبرار والأطهار والعباد والزهاد وجميع القديسين الذين في الأرض ويطلبون ويبتهلون ويتضرعون ويصلون ، فيشفع فيهم أهل الشفاعة من الملائكة فيستجاب لهم ، ويرسل هذا النبيان فينزلان إلى الأرض . وتحدث هذه الحوادث قبل نزولهما ليعرف عظم شأنهما ، ويصفى إليهما ، وتقبل مواعظهما ، ويصدق إنذارهما . لكن الأشرار ، لقساوة قلوبهم لا يعتبرون بأقوالهما ولا يقبلونها . فينبهان الناس بآيات كثيرة تجرى على غير ذلك من يديهما كالغلاء والوباء والحوادث العلوية وفساد المياه والجراد المستغرب إلى الأمور التي سترد وتفسر في مواضعها.

كل ذلك رأفة من الله لخليقته ليعود الناس عن طرقهم الرديئة ويتوبوا فيغفر لهم . وليعمل كل ما يمكن لتكون الحجة على خلقه.

أما مدة إنذارهما فنصف أسبوع ، أي ثلاث سنين ونصف ، وعند نهاية هذه المدة تظهر الدولة الدجالية فيستشهدان في بدئها ويقومان من موتهما فيرتفعان إلى السماء.

فهذا شرح لمعنى هذا الفص والذي قبله وحل رموزهما والله أعلم.

الفصل السابع والفصل الثامن

39- (6) والسبعة الملائكة الذين معهم السبعة الأبواق هيؤوها ليبوقوا (7) وبوق الملاك الأول فكان برد ونار مخلوطان بدم فطرحت على الأرض واحترق ثلث الأرض وثلث الأشجار واحترق كل العشب الأخضر .

قد سلف الكلام عن هؤلاء الملائكة وأبواقهم عند الإنذار بها في الفص السادس والثلاثين وهو الآن يقص لنا تلك الأوامر المخصوصة بكليتها وحوادثها التي تكون بعد نزول الشاهدين وإنذارهما وموقف الأشرار منهما.

وهذا إنذار وكشف لما يكون في حينه المعين له.

هذه الحوادث السبعة منها ثلاثة نار وما معها وهي الأولى والثانية والسادسة ، ومنها ثلاثة كواكب وهي الثالثة والرابعة والخامسة ، أما السابعة فأصوات ، وستأتي تفصيلاتها وتأثيراتها . فمن ذلك قوله : « وبوق الملاك الأول فكان برد ونار مخلوطان بدم» ، ليس هذا البرد مما جرت به عادة الوجود وسنته ، لأن مع هذا نار ثابتة ملتهبة فيه ، ولا هذه النار أيضا كالبروق والصواعق المعتادة لعدة أسباب : منها أن البرق لا يثبت ولا يحرق ، وهذه ثابتة محرقة . ومنها أن الصواعق لا تثبت على وجه الأرض بل تخترق الماء ومنها تخترق وتحرق الأشياء القوية الصلبة ولا تؤثر في النبات الضعيف وما يشبهه ، بل تحرق الذهب ويسلم الكيس وتحرق الجمل ويسلم زمامه . وهذه النار الثابتة الملتهبة في البرد المتشبثة بخلاف ذلك ، فإنها تحرق النبت الضعيف والشجر العظيم وتعيد جوهر الأرض رمادا . ولا هذا الدم من طائر الجو مثلا ، لأنه لم يذكر أن الطير هلكت ولا وقعت ساقطة إلى الأرض ، ولا دماء الطير بهذه الكثرة العامة . ولا هذه الضربة بجملتها كالضربة التي حلت بفرعون وآله في مصر ، فإن تلك برد ونار في مصر خاصة ، وهذه عامة ومعها دم ، وهي أعظم وأشد كثيرا جدا.

وذكر أيضا في الجزء السادس من سفر المكابيين ليوسف بن كريون أن عناتي الكاهن لما منع عسكر أدوم عن دخول مدينة القدس حتى يتثبت من أمرهم ، وتوقف عن فتح أبواب المدينة ، كان أن حدث في آخر ذلك النهار رعد عظيم وبرق هائل وأصوات مفزعة ونزل من السماء مطر عظيم وبرد كثير تقدح منه نار ، وكأن ذلك جاء سخطا على أهل المدينة المذكورة.

وفي هذه الآية ثلاث مسائل :

المسألة الأولى : كيف اجتمع الضدان : البرد والنار ؟ والجواب : إن ذلك بالقدرة الإلهية القاهرة الامتداد ، وليس ذلك بممتنع عن الطبيعة في ترکیبها.

المسألة الثانية : الدم المختلط بالنار والبرد ، من أين هو ؟ والجواب : إن الإخلاط من العناصر ، وللإخلاط طبخ خاص وهو سهل ممكن للقدرة العالية.

 المسألة الثالثة : ما الحكمة المقصودة بإيراد هذه الثلاثة جميعا ؟ والجواب : ليكون الهول أعظم والاتعاظ بالآية أجم، لأن النار تحرق النبات يابسا كان أو رطبا ، والبرد يحطم الشجر لتتمكن النار الواقعة إن الأرض من إحراقه سريعا.

وأما الدم ، فإن رؤيته تشمئز الطبيعة منها ، وفيه إشعار بأن هذه الآية أشد مما جرى لفرعون ؛ فإن ذاك برد ونار ، وهنا مع ذلك دم .

قوله : «فطرحت على الأرض واحترق ثلث الأرض وثلث الأشجار واحترق كل العشب الأخضر» ، أي ألقيت هذه الثلاثة ، البرد والنار والدم ، على الأرض ، فحطم البرد ما حطم من الشجر ، وأحرقت النار ثلث الأرض كما احترق العشب الأخضر جميعه.

فأما الدم ، فإنه يرمز إلى أمرين ، أحدهما : أن هذا التأديب كونه بعدل مقابل الدماء المسفوكة على الإيمان والبر ، أو التي سفكت ظلما ، فكان التأديب مناسبا للذنب والآخر : إنه إشعار بأنهم إن استمروا على سبلهم الرديئة ، كانت إراقة دمائهم أسهل من ذلك وتعجب من قوله إن ثلث الأرض احترق وثلث الشجر مع العشب الأخضر كله ، فإن كانت هذه النار قد عمت سطح الأرض جميعه حتى أحرقت العشب كله ، فكيف لم تحترق الأرض والشجر جميعا ؟ وإن كانت خاصة بثلث الأرض ، فكيف أحرقت العشب الأخضر جميعه ؟ والجواب : إن هذه الثلاثة كانت عامة ، لكن قوتها موزعة في مكان دون مكان ، كما ترى المطر العام يغزر في مكان ويقل في آخر ويكثر في بقعة ويقل في أخرى . فما حصل فيه تأثير قوة النار أحرقت كل ما صادفته أرضا أو شجرا أو عشبا ، وكان مجموع ذلك قدر الثلث من الأرض والشجر كما ذكر بالروح الكاشف الفاحص كل شئ.

 وأما لم كان الاقتصار على إحراق ثلث الأرض وثلث الشجر فله علتان العلة البعيدة : هي المشيئة الإلهية والعلة القريبة : هي أن القصد هو إصلاح البشر بالتأديب والتهويل ليعودوا إليه تعالى فيرحمهم ، لأن الشدائد ترجع الكافر إلى الالتجاء إلى الله الخالق . ولو كان المحترق أكثر من ذلك لفاتت المصلحة المقصودة وهي الإصلاح ، لأن الأرض لو احترقت كلها أو أكثرها لهلك من عليها من الناس والحيوان وكذلك الشجر لأنه بطىء النشء وأكثره إنما يصلح ثمره بعد ثلاث سنين ، وفيه ما هو أكثر كالنخل والجميز والمقل وغير هذه فلو هلك بالإحراق والقحط في تلك الأيام كلها لأفضى إلى هلاك الحيوان كله لا البشر فقط فلذلك اقتضت الحكمة الربانية إحراق الثلث ، وأما العشب فلما كان سريع النمو أحرق كله.

40- (8) وبوق الملاك الثاني فألقي في البحر مثل جبل عظيم مملوء نارا فصار ثلث البحر دما (9) ومات ثلث الخليقة كلها التي في البحر التي كان فيها نفس حية وثلث السفن عطب.

هذه هی الآية الثالثة كما تبين أولا ، وإن كانت الثانية من الأبواق وكلها بحسب ظنى على ظاهرها.

فأما أي بحر ألقى فيه هذا الجبل ؟ فاعلم أن اسم البحر لا يطلق إلا على البحر الملح ، وما سواه أنهار وينابيع وبحيرات وبطائح . والمعروف بذلك ثلاثة بحار أصل وهي البحر المحيط بالأرض وفرعان منه . ومعلوم أن البحر المحيط ، لبعده من المسكون ، لا تكون هذه الآية فيه ، إذ لو حدثت فيه لما رآها أحد ، والفرع الأول هو البحر الأحمر المعروف بالهندي في جهة الجنوب ، وأوله القلزم وهو الذي غرق فيه فرعون وجنوده، ولا تكون فيه هذه الآية أيضا لبعده عن المكان الذي تنبأ النبيان العظيمان فيه وهو مدينة القدس وتخومها ، فبقى أن تكون هذه الآية في البحر الأخضر الرومي[1] في الشمال لقربه.

وأما قوله : «مثل جبل عظیم مملوء نارا» ، فالمثلية تمنع أن يكون جبلا حجريا . وكونه مملوءا نارا يمنع من أن يكون كله نارا صرفا لأن المالي، غير المملوء والجواب : إن المملوء هو البخار الدخاني اللزج الغليظ الدهني الصاعد ، والماليء هو النار المشتعلة في هذه المادة ، فالدخانية تعد هذا البخار بجفافها للاشتعال والتلون ، واللزوجة تفيد الثبات فلا تفنيه الحرارة بسرعة والغلظ تفيده الكثافة والحمرة التي في النار العنصرية ، والدهنية تفيده قوة الاشتعال ، لأن اشتعال الأشياء الدهنية كالزيت والكبريت وغيرهما أقوى اشتعالا مما ليس فيه دهنية كالقصب والحشيش . وصعوده ، أعنى البخار ، هو الذي قربه من كرة النار حتى اشتعل . وهذا البخار إذا تجمع في الجو وتراكم صار كصورة الجبل ، وهو مادة الصواعق وما يشاكلها من الشهب التي قيل أنها إن تأخر اشتعالها المبرد المجمد في الجو هبطت حجارة ، وإذا وصلت الصاعقة أسفل الأرض صارت حديدا . والمعتبر آية ، هو تهيؤ هذا البخار بالمشيئة الإلهية كالجبل العظيم واشتعاله وسقوطه في الوقت المعين وتأثيره ، فإن هذا المجموع خارق لعادة الوجود الطبيعية . فقد تبين أن ما ذكره الرسول ، بل الروح القدس ، إبلغ ما يكون في التشبيه بأعلى ما يمكن من العبارة عنه وفي ذلك حكمة غامضة ، وذلك أن هذه النار لو كانت صرفة ساذجة غیر مادة لما رؤيت عند وصولها إلى ماء البحر ، ولفات المقصود من ظهور الآية وصيرورة الماء دما وموت ثلث حيوان البحر . ولكن هذه المادة أكسبتها ثلاثة أشياء ، أولها : التصور بصورة الجبل العظيم الثاني : تلونها بالحمرة النارية حتى يرى للناس ذلك ، وتظهر الآية ويكون بها العبرة وتحصل الموعظة لمن يتعظ الثالث : ثبوت النارية في الماء حتى أثرت ما أثرت.

وأما قوله : «فصار ثلث البحر دما ومات ثلث الخليقة كلها التي في البحر التي كان فيها نفس حية» ، فيظهر منه أن الجبل النار لما سقط ، عم ثلث ذلك البحر ، وهذا هول عظيم يبهر تصوره ، فكيف تمكن مشاهدته في الخارج وقد ظهر مشتعلا في البحر لما في مادته من الدهنية واللزوجة فانقلب الماء الجاري له دما ومات ما فيه من الحيوانات البحرية لأنها لا تعيش إلا في الماء ، وذلك كما ماتت الحيتان في النيل بمصر لما صار دما في ضربة فرعون) . ولما في ذلك الدم أيضا من اللزوجة والدهنية ، تميز عن بقية الماء فلم يمازجه ، وهذا معنى قوله فصار ثلث البحر دما ومات ثلث الخليقة كلها التي في البحر ، وقال ثلثها ليستوعب مقدار الثلث . فأما قوله : «التي كان فيها نفس حية» ، فأراد به زيادة التبيين والتفهيم ، ولا يقصد إن هناك حيوانات غير حية فيميزها عنها وقوله : «وثلث السفن عطب» ، أظن أن هذه السفن التي في المرافيء خالية من الناس ، فإنها تنكسر وتغرق لقوة اضطراب المياه عن سقوط جبل النار ، وتتحطم وتحترق بمماسته دون السفن المقلعة الموسقة ، بدليل إنه لم يتعرض في هذه الآية إلى ذكر هلاك أحد من الناس ، والله أعلم.

41- (10) وبوق الملاك الثالث فسقط من السماء نجم عظيم مثل مصباح النار وهبط على ثلث الأنهار وينابيع الماء (11) واسم النجم أبسنتيون وثلث المياه صار مرا مثل الصبر وكثير من الناس ماتوا من المياه لأنها صارت مرة .

هذه هي الآية الرابعة، وهي الثالثة من آيات الأبواق.

قوله : «فسقط من السماء نجم عظيم مثل مصباح النار» ، يريد بالنجم هنا ملاكا لا كوكبا ، بدلائل ، منها قوله : «وهبط على ثلث الأنهار وينابيع الماء» مع كثرتها وتباعدها وتباينها ، لأن فعل الكوكب فعل طبيعي لا يتنوع هذه التنوعات الدالة على تمييز الاختيار ومنها إنه ذكر نجما آخر بعده وأراد به ملاكا ، فترجح أن يكون هذا ملاكا . ومنها إنه صرح في هذه الرؤيا بتسمية الملاك بالمصباح ، فلا يبعد أن يسميه نجما أيضا ، بدليل قوله في الفص التاسع عشر : « وسبعة مصابيح نار محدقة بالعرش وهي سبعة أرواح الله» . ومنها إن أكثر المفسرين اتفقوا على أن النجم الذي تراءى للمجوس عند الولادة السيدية ملاك لا كوكب حقيقي ، فإذن هذا ملاك.

وذكر سقوطه من السماء ، ولم يقل من العلو ، ولا من الجو ، لتمييزه عن الشهب والصواعق وسائر الآثار العلوية . وأراد بالسقوط سرعة النزول لإنفاذ الأمر كالبرق الخاطف لا سقوطا من الرتبة . ووصفه بالعظم بيانا لقدره ومقدار منظره وقدرته بالنسبة إلى غيره . وشبهه بالمصباح النار لأن منظره كذلك ، وليميزه عن السبعة الأرواح السابق ذكرها ، فإن تلك قال إنها مصابيح ، وهذا قال إنه شبه مصباح ، فظهر الفرق . وأيضا فتلك هي التي معها الأبواق ، وهذا غيرها.

قوله : «وهبط على ثلث الأنهار وينابيع الماء» ، هذا الهبوط هو امتثال الأمر وتنجيزه في هذه المياه.

أما قوله : « واسم النجم أبسنتيون» فإن لغة هذا الاسم يونانية لأن بها نطق الرسول بهذه الرؤيا وبها كتبت أولا . قوله : « وثلث المياه صار مرا مثل الصبر» ، فهذا الثلث أهو ثلث الأنهار والينابيع ، أم ثلث ماء كل واحد منها كما قال في ثلث البحر إنه صار دما ؟ فإن كان الأول ، لم خصت أنهار دون أنها وينابيع دون أخرى ؟ وإن كان الثاني ،فكيف يتميز ثلث كل الماء بالمرارة عن بقية الماء ، ويحتاج الذين يستقون منه والذين يشربونه إلى إلهام أو تكليف ذواق للماء من كل جانب وذلك بعيد مستحيل ؟ فبقى أن يكون المراد هو الأول ؛ وعلة تخصيص ماء دون ماء بالمرارة ، هو سيرة أهل ذلك الماء المستعملين له ومقدار قساوة قلوبهم ورقتها ومعصيتهم وطاعتهم ، وإصرارهم ورجوعهم ، فإن الذين لا يتعظون يعظهم عذابهم ، والذين يتعظون يكفي فيهم تأثرهم من غيرهم واتعاظهم بهم . وفي هذا أيضا إشكال ، وهو إن أهل كل ماء ليسوا كلهم أشرار ولا طبقتهم في الشر واحدة فيكون تأديبهم واحد . وبالجملة ، هذا جلى لعلمه تعالى دون علمنا وتدبيره بحسبه ، فإنه من الجائز انتقال من يستحق العذاب لمكان آخر قبل هذه الآية ، والله أعلى وأعلم بهذه الأسرار.

وأما ذكره مصير الماء مرا كالصبر فهذا هو أثر فعل الملاك ومقتضى الأمر الإلهي الذي أنجزه وأنفذه في هذه المياه ، والطعم المر عند الطبيعيين هو أثر فعل الحرارة في الجوهر الكثيف الحامل للطعم .

قوله : « وكثير من الناس ماتوا من المياه لأنها صارت مرة» ، الذي ألجأ إلى شربها مع مرارتها هو شدة العطش ، وهنا موضع نظر ، وهو : هل كل من شرب من هذا الماء المر مات ، أو كثير ممن شرب منه مات ؟ إن كان الأول كان مراده بالناس البشر جميعا ، وتقدير القول : وكثير من البشر مطلقا ماتوا وهم الذين شربوا من ذلك الماء . وإن كان الثاني ، كان مراده بالناس مرادا خاصا وهم الذين شربوا ، والتقدير هو : وكثير ممن شرب مات ، وقليل ممن شرب لم يمت . وأرجح أن الأول هو المراد ، لأنه أعطى علة الموت وهي مرارة ذلك الماء لشدة قوتها وسميتها ، وكون الجرعة الواحدة منها تقتل والعلة حاصلة في كل ماء شرب لكل من شرب منه ، وهذا معنى قوله : لأنها صارت مرة .

وأما مدة إقامة هذه الضربة ، فيظهر إنها المدة التي يمكن أن يصبر خلالها عن شرب الماء ، وهذه بالتقدير ثلاثة أيام . ولعل المياه الموجودة في الأوعية والصهاريج والجباب والمستنقعات تمرر لأنها من مياه الأنهار والعيون في الأصل ، والله أعلم

42- (12) وبوق الملاك الرابع فانكشف ثلث الشمس وثلث القمر وثلث النجوم حتى أظلمت ثلثهن فلم يضىء ثلثها في النهار ولا في الليل .

هذه هي الآية الخامسة، وهي الرابعة من آيات الأبواق ، وهي على ظاهرها ، ثم هي عامة ، لا هذه لا تخفى في مسكن من المساكن بالجملة.

قوله : «فانكشف ثلث الشمس وثلث القمر» ، أي ثلث الجرمين انكسف ولم ير نوره . وقد تقدم الكلام في كسوف الشمس وخسوف القمر وكيفيتهما وليس هذا كسوفا طبيعيا كالمعتاد.

قوله : «وثلث النجوم» ، قد قيل في الخمسة الحائرة التي لكل منها فلك يخصه ، أن الأدنى منها يكسف الأعلى ، وذلك إن الكوكب الأدنى في فلكه إذا حاذي الكوكب الأعلى وذاك في فلكه فإن انطبق المركز على المركز بالمحاذاة كان الكسوف للأعلى كاملا ، لا سيما إن كان الأدنى أكبر جرما فإن لم ينطبق المركز على المركز كان كسوفا غير كامل . فأما الكواكب الثابتة التي في الفلك الثامن التي لا تحصى ، فمن أين لها كواكب تحتها توازيها بعدتها أو عدة ثلثها حتى تكسفها ؟ فقد بان إن هذا أيضا كسوف غير طبیعی ، ولكن علة ذلك ستأتي . وفي الثلث المذكور إشكال كالإشكال الذي مضي في ثلث المياه والأنهار والينابيع ، لأنه إن كان أراد ثلث جرم كل نجم عسر إدراكه بالبصر ، لا سيما الأقدار الخامسة والسادسة ، والآية ينبغي أن تكون ظاهرة وإن كان أراد ثلث عدة النجوم ، فلم خص البعض المنكسف بالكسوف دون البعض الآخر ؟ والجواب : إن المراد هو الوجه الثاني للعلة المذكورة في الوجه الأول . وأما علة التخصيص فالكبر ، لأن الكواكب التي مقدارها أكبر هي التي تنكسف ليظهر كسوفها وتكون ظاهرة في رقعة السماء أجراما مسودة كالنقط السوداء ، وما ليس بمنكسف منها يكون مضيئا ، حينئذ يظهر لرأى العين المنكسفة منها وغير المنكسفة .. وانكسافها مع القمر إنما يكون ليلا ، لذلك قال : «فلم يضيء ثلثها في النهار ولا في الليل» . وأما تحديد الثلث فله اعتباران :

أحدهما : الثلث من عدة الكواكب جميعا ، وهذا لا يعرفه إلا من صنعها وأحصاها عددا كما قال أشعياء النبي ، فعدتها لنا مجهولة ، وثلث المجهول مجهول ، فثلثها لنا مجهول.

والآخر : الثلث من عدة الكواكب التي أدركها البشر ، وهذا هو الحق إذ الآية لا تكون إلا فيما يظهر ويدرك ، وأصحاب الأرصاد عجزوا عن عد الكواكب وحصرها جميعها ، ولكنهم أدركوا منها بالأرصاد المتوالية في ثلاثة أقسام ألفا وثلاثين كوكبا ، أولها ، بعد النيرين ، الخمسة المعروفة بالحائرة وثانيها الكواكب المسماة عند القدماء : الثابتة ، التي في جرم الفلك الثامن وهو فلك البروج ، وهي مختلفة الأقدار ، وعدتها ألف واثنان وعشرون كوكبا ، رتبوها ست مراتب سموها العظام ، لأنهم جعلوا لكل جملة متساوية العظم مرتبة ، فالعظم الأول الأكبر خمسة عشر كوكبا ، والثاني دون خمسة وأربعين كوكبا ، والثالث مائتان وثمانية ، والرابع أربعمائة أربعة وسبعون ، والخامس مائتان وسبعة عشر ، والسادس تسعة وأربعون والسادس تسعة وأربعون . والخفية التي سماها بطليموس مظلمة تسعة كواكب والسحابية التي كأنها قطعة غيم خمسة كواكب . وثالثها المسماة بالصفرة والدوابة وهي ثلاثة كواكب في فلك البروج . أيضا الثلاثة المذكورة الأول والثاني والثالث ، فيكون الثلث المنكسف من هذه العدة المدركة بالأرصاد ثلاثمائة وثلاثة وأربعون كوكبا ، منها الثلاثة العظام وعدتها مائتان وثمانية وستون كوكبا ، ومن العظم الرابع خمسة وسبعون كوكباً.

قوله : «حتى أظلمت» ، يريد الشمس والقمر والثلث المذكور من الكواكب فالضمير من قوله أظلمت لا يعود على مقصود واحد ، بل على الشمس والقمر فثلث كل جرم منهما ، وعلى الكواكب فثلث عددها المدرك جرم كل كوكب منكسف بكماله.

قوله : «فلم يضيء ثلثها في النهار ولا في الليل» ، الضمير هنا يعود أيضا على ما يعود عليه ضمير الثلث المتقدم كما بيناه ؛ ومراده في النهار ثلث جرم الشمس ، وفي الليل ثلث جرم القمر مع ثلث عدة الكواكب . ومن هنا تبين أن هذا الكسوف في النيّرين والكواكب ليس كسوفا طبيعيا ، لأن الشمس لا يتصور لكسوفها مكث أصلا لأن حركة القمر متصلة . وأما القمر فأطول ما يكون زمان خسوفه أربع ساعات مستوية بالتقريب . وأما الخمسة الحائرة فلا يظهر لها كسوف لأن الأعلى والأدنى منها مضيئين . وكذلك بقية الكواكب الثابتة . وهنا قال إن الثلث من الشمس لا يضيء في النهار والثلث من القمر والكواكب لا يضىء بالليل . فإذا ليست هذه الكسوفات طبيعية بل على سبيل المعجزة وهي تحتمل أمرين : إما بخار كثيف كمد يحجب ضوء المنكسف منها ، وإما أن يشأ تعالى أن لا تقبل نورا ولا يسرى فيها فتظلم ولا يصدر عنها ضوء ، أو يأمر الملائكة بكسوفها أو غير ذلك مما لا يوقف عليه إلا بالوحي والإلهام.

فهذا ما في هذا الفص من المباحث والخفايا والمشكلات ، والله أعلم

43- (13) وهكذا أيضا نظرت وسمعت نسرا في وسط السماء يصرخ ويقول بصوت عظيم الويل الويل للسكان على الأرض من أجل بقية أبواق الثلاثة الملائكة الأخر الذين يبوقون .

هذا الفص منذر بما يأتى فيما بعد من بقية حوادث الأبواق قوله : « وهكذا أيضا نظرت وسمعت نسرا في وسط السماء» ، أي كماتقدم من نظرى الملائكة وما حدث عنها وسماعي لأصواتها ، كذلك هنا . فأما النظر فللشكل والهيئة ، وأما السماع فللصوت ، والنسر ملاك في شكل نسر . وقد تقدم ما يشبه ذلك في موضعين : أحدحما في الفص العشرين قال : « والحيوان الرابع يشبه النسر طائرا » ، والآخر في الفص السابع والعشرين ، قال : « وسمعت صوتا شديدا في وسط الأربعة الحيوانات كصوت نسر» . وقد مضى تفسير وسط السماء

قوله : « يصرخ ويقول بصوت عظيم» ، الصراخ بصوت عظيم لإظهار الإنذار وبيانه بحيث لا يرتاب به ولا يشكل بشيء غيره ، وهو الإجهار

ولفظة ويل مثل لفظة ويح ، ومعناهما واحد : كلمة تدل على العذاب وتدخل على لفظة ويل هاء التأنيث فنقول : ويلة ، وهاء الندبة فنقول : ويلاه . والتكرار ورد في هذه اللفظة للتأكيد والترثى لسكان أهل الأرض لكنه كرر الويل دفعتين وجعله ثلاثا ، إذ يقول فيما بعد في الفص السابع والأربعين : «الويل الأول مضى وهوذا يأتي الويل الثاني» ، ثم في الفص السادس والخمسين : «الويل الثاني مضى وهوذا الويل الثالث يأتي سريعا » . والجواب : أن التنبيه للتأكيد والجمع للضربات المكنى عنها بالوبل ، فقد بان الفرق بينهما . وبقية الفص ظاهر .

  1.  بحثنا في كتب الجغرافيا القديمة فلم نجد بحرا بهذا الاسم ، وإنما وجدنا «البحر الأخضر » يحد جنوب القارة الأفريقية ، ولا تكون فيه هذه الآية أيضا لبعده ، كما وجدنا «بحر الروم» وهو البحر الأبيض المتوسط ، لذلك قد يكون هو البحر المقصود في الغالب وقد يكون المقصود به هو البحر الميت [بحر الملح] لكونه أقرب البحار لتخوم القدس التي تنبأ فيها النبيان العظيمان أخنوخ وإيليا.

 تفسير رؤيا 7 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد  تفسير رؤيا 9
ابن كاتب قيصر
تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى