تفسير رسالة رومية أصحاح 1 للقمص متى المسكين
الأصحاح الأول
حالة الأمم
1 – رو1: 1-7: بولس الرسول يقدم نفسه ، ويقدم إنجيله ، ويقدم المسيح ، ويطرح موضوع إرساليته للأمم ومنها أهل رومية .
2 – رو1: 8-17: مـوضـوع زيـارتـه لـروما التي طالما تمناها، وإعلان القصد منها وهو تبشيرهم بإنجيل الغزلة القائم على نوال بر الله بالإيمان بالمسيح بدون ناموس .
3 ـ رو18:1- 32: غضب الله المعلن على خطايا الأمم، لأن ليس لهم عذر في خطاياهم ، لأنهم بعد ما عرفوا الله لم يعبدوه، فأسلمهم لذهن مرفوض .
والمعنى المختفي هو: إزاء خطاياهم الشنيعة، كان يتوجب حسب عدل الله إما أن يـبـيـدهـم بـالـطوفان أو بنار وكبريت ، أو ينزل بنفسه ويخلصهم معلنا بره المـجـانـي لهـم ! وقد آثر الحل الثاني لأنه كان قد سبق ووعد الإنسان بعد الطوفان أنه لن يعود ويفني الإنسان (تك 8: 21).
[7-1:1 ] الافتتاحية
+ « بولس عبد ليسوع المسيح ، المدعو رسولاً ، المفرز لإنجيل الله ،
+ الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة ،
+ عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد، وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات .
+ يسوع المسيح ربنا الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم .
+ الذين بينهم أنتم أيضاً مدعوو يسوع المسيح ،
+ إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسين ،
+ نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح » .
ذلك من من مطلع الرسالة يؤكد ق. بولس أنه يكتب من واقع تعبده الخاص للمسيح، ومن مركز دعوته الخاصة كرسول، ومن مهنته التي أفرز لها من البطن ليبشر بابن الله الذي أعلنه الله فيه . القديس بولس ينفي أن يكون له شيء من وراء هذه الرسالة ، ولكن يذكر اسمه أولاً ليحمل مسؤولية وشـرف مـا يـكـتـب ، ثم يعود ويذيب اسمه تحت وهج وضياء اسم المسيح. كذلك لا ينهي الآية الأولى إلا بعد أن يبرز موضوع الرسالة بأكملها ويردها إلى أصلها ومنبعها : إنجيل الله ! ثم يقدم بعد ذلك المسيح، الذي هو بالأساس موضوع الإنجيل ومادته وغايته ، أولاً في طبيعته التي تحمل الصورة البشرية بصفته إنساناً يهودياً، من نسل داود، والتي تحمل أيضاً حقيقته الإلهية «ابن الله»، محققاً قيامته من الأموات، الأمر الذي لا يأتيه بشر. هذا هو يسوع المسيح عند ق. بولس الذي يكرز به ، إنسان يحمل كل ما للإنسان، وهو الإله الذي له كل ما الله بآن واحد. الذي فيه أراد الله أن يحقـق للإنسان ما لم يستطعه الإنسان، والذي به أخذ العالم اتجاهه الجديد نحو الله، وقاد البشرية في موكب نصرته نحو السماء موطنه الذي جاء منه ، معطياً للإنسان كل انتصاراته التي انتصر بها على عالم الشر والخطية والجسد! مانحاً صفته الأولى «القدوس» لكل من آمن به، صائراً هو القدوس البكر بين إخوة قديسين كنيسة أبكار شعب الله المقدس .
و واضح جداً من هذه المقدمة أن ق. بولس قصد منذ أول الرسالة أن يكشف عن طبيعة الرسالة كونها التعليم الصحيح عن الإيمان بالمسيح ، يطرحه لشعب يتخاطب معه بالرسالة عندما عزّ عليه المسير إليهم، ومن طبيعة الكلام يتضح تماماً أنه يتكلم للجميع . وهو لا يخص أمميين أو يهوداً ، بل هو يطرح الإيمان حرا مستقيماً ليكون دستور الحياة لكل إنسان . ولكن على أساس أنه هو رسول الأمم الذي يكرز بالمسيح مصدراً وحيداً للإيمان لنوال بر الله خلواً من ناموس وسبت وختان، الأمر الذي سيكشفه في الآية (1: 16 و17).
1:1 «بولس عبد ليسوع المسيح المدuو رسولاً المفرز لإنجيل الله» .
«بولس عبد ليسوع المسيح » :
عبد δοῦλος ، والقديس بولس لا يريد أن يتصاغر بل يريد أن يرفع سيده ، يرفعه إلى أقصى قمة يمكن أن يرفع الإنسان إليها أحداً ليحتل مركز « المعبود» . والعبودية قد تأتي قسراً أو أسراً ، ولكن عبودية ق. بولس وقع فيها حباً، وما أعجب الحب إذا بلغ حد العبادة، وما أعظم العبادة إن كـانـت عـن تباريح المحبة . صحيح أن لقب «العبد» لله والمسيح يلتزم به أي إنسان ، ولكن ق . بولس كان يتباهى به ! كعبد مُشترى بثمن ثمين ليصير إلى الأبد مؤتمناً على شرف حمل اسمه !!
كان في القديم، وبحسب تقليد الرومان، أن الذي يكون له عبد أمين وأراد أن يحرره، يعطيه أن يحمل في نهاية اسمه لقبه الشرفي الخاص، كما سنسمع في الأصحاح (16) حينما يذكر ق . بـولـس بعض العبيد المحررين باسم «أهل أرستو بولس»، « أهل يركيسوس»، كما يذكر أيضاً في نهاية رسالته إلى فـيـلـبـي «أهل بيت قيصر»، هؤلاء كلهم عبيد أعطاهم الأمراء العظام شرف اسمهم لهم. أما المسيح فقد أعطى جسده ودمه ، أعطى بنوته الله !! أعطى روحه القدوس كعربون ميراث في مجد الله .
إن أعـظـم شـرف يمكن أن يناله إنسان على الأرض أن يدعى خادماً للرب يسوع المسيح، هذا الذي رفع من قدر بشريتنا التي وقعت تحت ذل وهوان الخطية ، « ليجعلنا ملوكاً وكهنة الله أبيه » (رؤ 1: 6)، كيف وبماذا ؟ بخدمة اسمه وحمل صليبه والاعتراف بربوبيته !
والـقـديس بولس كان يشعر بمهمة الرسولية بكل دوافعها الإلهية. اسمعه وهو يقول : « إذا تسعى كـشـفـراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح : تصالحوا مع الله» (2کو 5: 20). فوظيفة الرسول تعني عند ق. بولس أنه اؤتمن على كلمة الله وحمل اسم المسيح (أع 9: 15)، وأعطي بـالـروح الـقـدس المناداة بالإيمان. بهذا الإحساس الشديد كان ق. بولس يخدم ويتكلم ويعظ : « فإني وإن افتخرت شيئاً أكثر بسلطاننا الذي أعطانا إياه الرب لبنيانكم لا لهدمكم لا أخجل . »(2کو 10: 8)
« ليسوع المسيح »:
«يسوع » هو الاسم الذي تعين له من الآب بفم الملاك ليعني «مخلص» (مت 1: 21) فقد أعلن الله عن عمله في اسمه، وهي كلمة أرامية من مقطعين «ياه» = يهوه أي الله ، « شوع » من هوشعنا أي خلصنا. وعلى القارىء أن يلاحظ مسار عمل الله من خلال الأسماء، فيشوع الأول عبـد مـوسى أعطي أن يدخلهم كنعان ويقسّم لهم أرض الميراث ويريحهم . وها يشوع الجديد، أي « يسوع » ، يحقق بالروح ما عجز عنه يشوع الأول بالنسبة للأرض. وسفر العبرانيين يكشف عن هذه المقابلة البديعة : «لأنه لو كان يشوع قد أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر» ( عب 4: 8)، ذاك كان عبداً وخادماً لموسى، وهذا ابن الله .
« المسيح » : من الكلمة العبرية «مسيا» أي ممسوح بالدهن من الله، والمتنبأ به هكذا: « من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك» (مز 45: 7). وقد عرفت البهجة بعد ذلك بأنها صفة القيامة هكذا: «تعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات » (رو 1: 4)، « ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين . » ( رو 8: 29)
«المدعو رسولا» :
رسول ἀπόστολος بالعبرية shaliah وتعرف وتنطق بالعربي «سليح » . لقد ” دعي بـتـكـلـيـف” بـاختيار صادر من فوق : « الذين سبق فعينهم، فهؤلاء دعاهم أيضاً . والذين دعاهم فهؤلاء بـررهم أيضاً . والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً » (رو 8: 30). فهو رسول بالأمر، والأمر صادف هوى في نفسه ، فتقبله ليكون له حياة !
+ « من ثم أيها الملك أغريباس لم أكن معانداً للرؤيا السماوية . » (أع 26: 19) لقد باتت دعـوة الـرسـولـيـة عـنـد ق. بولس أعز وأثمن ما يملك في حياته، إذ اعتبرها تكليفاً سماويا آتيا من الله الآب والمسيح رأساً : « بولس رسول ، لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من الأموات . » (غل 1: 1)
« المفرز لإنجيل الله » :
المفرز: ἀφωρισμένος
ق. بولس يـتـلاعـب بالألفاظ بمهارة روحيـة، فـالـفـريسي كلمة عبرانية تفيد المفرز أيضاً « فـريـزي». فهو وإن كان قد صار فريسيا ـ أي أفرز نفسه حسب عبادة الآباء الأضيق ــ لأنه كـان طـريـقاً نسكياً وتعليمياً قائماً على الحرف والتدقيق الناموسي الشديد، إلا أنه قد أفرز من الله بـالـروح وهو في البطن، وتخصص لحمل إنجيل الخلاص حسب عبادة الروح الحر المتسع. فهو وإن كان قد أفرز نفسه للناموس، إلا أن الله سبق وأفرزه وهو في البطن للإنجيل ! (غل 1: 15).
ونـحـن نسمع هذه الكلمة «أفرز» مرة أخرى من صوت الروح القدس نفسه : « قال الروح القدس أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه . » (أع 13: 2).
الآن من المهم أن نضع كلمة «مـدعـو» مع كلمة «المفرز». فالدعوة من فوق من الله ، والإفراز من بين الناس، فالسلطان إلهي والعمل بشري .
ق. بولس أحـس بـدعـوتـه ـ بعد أن دعاه الرب من السماء ـ أنها بدأت منذ زمن بعيد مع إرميا، مع الأنـبـيـاء الأحباء الذين كان يهيم بهم ق. بولس ويتمثل، فرنين الدعوة لإرميا النبي كـان يـطـن في أذنه، وكان يتسمع على نغماتها دعوته التي أتته من السماء: «فكانت كلمة الرب إلي قائلاً قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبياً للشعوب » ( إر 1: 4و5). هذه اختصرها ق. بولس فيما يخص نفسه في كلمات قليلة حتى تفوت على القارىء، فهو يخجل أن يعلو إلى قامة إرميا : « ولكن لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته …» (غل 1: 15). ولكن الروح ينطق بانطباق الدعوة، والإلهام يركز على كلمة « الـشـعـوب» ؛ فإرميا إن كان قد تنبأ، فالقديس بولس خدم !! والقديس بولس حاول أن يتلافى كلمة «قدستُك» عند إرميا فجعلها عنده « أفرزني » ، ولكن المعنى والمبنى واحد تماماً. والعجيب ـ كما سبق وقلنا ـ أن الكلمة العبرية المقابلة لقوله « أفرزني» هي قريبة جداً من العربية وأقرب إلى كلمة «فريسي» «Prs » .
فالله أفرزه من بطن أمه ، ليكون علماً بين جيله، وليحمل لواء الأمم على كتفه وحيداً من كل أجـيـال بني إسرائيل !! أما هو فأفرز نفسه وامتهن الفريسية ـ دون أن يدري ـ ليستقصي منتهى قوة الناموس، استعداداً لليوم الذي ينځيه فيه من مسعی الخلاص فيبلغ الناموس على يديه منتهاه !
ونـظـرة ق. بولس إلى حياته في ضوء اقتناعه أن الله أفرزه من البطن، هي أن الله كرس حياته برمتها. فإن كان قد كرسه من البطن فقد كرس مولده في الشتات، وصبوته في طرسوس، وتعليمه عند رجلي غـمـالائيل. لقد وقعت على ق. بولس كلمة الدعوة العليا من الله وهو في البطن، حيث تـم اخـتـيـاره كـإنـاء سـبـق فـأعـده: «لأن هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك و بني إسـرائـيـل » (أع 9: 15). وحسب تعبيره، كان يرى كيف أعده الله بطول أناة : « لكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد. التي أيضاً دعانا نحن إياها …» (رو9: 23و24)
«لإنجيل الله»:
الإنجيل εὐαγγέλιον « البشارة المفرحة » كترجمة لنص الكلمة، وبالإنجليزية Gospel وهي من مقطعين God ( الله ) + spell (ينطق). والبشارة المفرحة تجمع بين موت المسيح وقيامته ، وكلا الحدين هما للفرح : « الذي أسلم من أجل خطايانا، وأقيم لأجل تبريرنا» (رو 4: 25). وبهما معاً نلنا العتق والحرية ثم البر.
وكلمة « الإنجيل» هي البشارة «إيفانجليون»، واردة بالعهد القديم في إشعياء ولكن في صيغة اسم الفاعل من: «بشر» .
+ «على جبل عالي اصعدي يا مبشرة صهيون ، ارفعي صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم ، ارفعي لا تخافي ، قولي لمدن يهوذا هوذا إلهك، هوذا السيد الرب بقوة يأتي ، وذراعه تحكـم لـه، هوذا أجرته معه، وعملته قدامه، كراع يرعى قطيعه ، بذراعه يجمع الحملان ، وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات . » ( إش 40: 9-11)
«ما أجمل على الجبال قدمي المبشر ، المخبر بالسلام ، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون قد ملك إلهك . » ( إش 52: 7)
هكذا عرف ق. بولس الإنجيل من دراسته السابقة أنه بشارة الخلاص التي أعطي أن يخدمها ويعلن بر الله فيها، وأن موضوع الإنجيل ومضمونه بحسب رؤية الأنبياء وإشعياء في القديم هو: « هـوذا الـسـيـد الرب بقوة يأتي»، «قد ملك إلهك» «قومي استنيري»، « عهداً جديداً»، «أسكب من روحي على كل بشر»، «يخرج الحق إلى النصرة»، «أبصر نوراً عظيماً » ( إش 40: 10 و 7:52 و 1:60؛ إر31:31 ؛ يؤ 28:2 ؛ مت 20:12و 16:4).
ولـيـت القارىء يقف كثيراً عند قول ق. بولس وهو يصف الإنجيل أنه « إنجيل الله»، فهذا هـو أحـد مفاتيح فهم لاهوت ق . بولس . فالله مصدر الخلاص بيسوع المسيح ، والبر هو بر الله في المسيح يسوع، والموت هو طاعة لأمر الله الآب، والقيامة هي بقوة الله، والصعود هو: « رفعه الله
أيضاً وأعـطـاه اسـمـاً فـوق كـل اسـم » (في 2: 9)، والجلوس هو: «اجـلـس عـن يـمـيـنـي » (عب 1: 13)، وحتى حلول المسيح في القلب بتأييد الروح القدس في الإنسان الباطن هو بحسب «غني مجده ( مجد الآب). » (أف 3: 16)
ولـكـن يـلـزمـنا هنا أن نوضح أمام القارىء أهمية اختيار المسيح لبولس بطريقة فائقة وإعجازية للبشارة بإنجيل الخلاص للأمم، بل وأهمية إنجيل ق. بولس هذا دون سائر الأناجيل الأربعة، فهو الإنجيل الوحيد الذي أنهى على اعتبار الناموس قانوناً للعبادة ، بل نگاه كليا من طريق الخلاص ، وألغى السبت وأبطل الختان، وهكذا فتح طريق العبادة والخلاص للأمم بلا قيود : «لستم تحت الـنـامـوس بـل تحـت الـنـعـمة» (رو 6: 14)، «لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ( المسيح ). » (رو 8: 1)
ثم لو ينتبه القارىء، يفهم في الحال لماذا أراد ق. بولس أن يبشر أهل روما بالإنجيل وهم مـؤمـنـون، وإيمانهم مشهود له بحسب تعبير ق. بولس ؟ أليس ذلك لكي يرفع عن كاهلهم التزامهم بالناموس والسبت والختان ومعظمهم من الأمم ؟؟ فمن أجل هذا فقط كان يشتاق ويصلي ويطلب الله وينتهز كل الفرص، لكي يذهب إليهم ليبشرهم بالمسيح خلواً من الناموس والسبت والخـتـان وبـقـيـة عـوايـد اليهود التي عطلتهم عن الإيمان. فلما لم يستطع الذهاب فوراً أرسل هذه الرسالة إليهم، إلى أهل رومية، لتكون لهم إنجيلاً يصحح ما استلموه عن الإيمان والعبادة من اليهود المتنصرين .
2:1 « الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة» .
ق. بولس يـنـبـه أذهان الأمم أن الإنجيل الذي استؤمن عليه والذي ينادي به الآن لهم قد وضعت أسـاسـاتـه مـنـذ البدء، ونطق باستعلاناته الأنبياء ، نبي بعد نبي، كتسليم الروح لأجيال الـدهـور السابقة، فهو إنجيل الله المرسوم منذ الأزل كسر مكتوم، قد وهب لرسله القديسين وأنبيائه بالروح أن يبوحوا بسره فيما يخص خلاص الأمم : « الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر ، كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح ، أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال مـوعـده في المسيح بالإنجيل، الذي صرت أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي فعل قوته . » (أف 3: 5-7)
ق. بولس هنا يعطي الانطباع العام أن لإنجيله بالعهد القديم صلة وصلات ، وسوف نرى كم يستمد إلهاماته من أفواه الأنبياء الملهمين : « وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء . » ( 1كو14: 32)
والقديس بولس حينما يقول : «الذي سبق فوعد به »، فهو يلقي الضوء على الإنجيل كله أنه تحقيق لـوعـد الله ، وحتى الروح الذي يتكلم في فمه هو «روح الموعد القدوس » . وهكذا يقف الإنـجـيـل ليصل بين الوعد وتحقيقه ، و يقف ق. بولس مع كل الرسل يستجلون من القديم إلهاماته لـيـزيـدوا الـواقـع صـدقه وثـبـاتـه : «لأن كل ما سبق فكتب، كيب لأجل تعليمنا ، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء. » (رو 15: 4)
1: 3 «عن ابنه، الذي صار من نسل داود ( من جهة) حسب الجسد » .
« عن ابنه » :
شبه جملة تحمل في طياتها كل الإنجيل وتعبر عنه !! ق. بولس هنا يضع التقليد الكنسي أمامنا، مرة واحدة، كحقيقة لا تحتاج إلى توضيح ، فهذا هو الابن الذي تحققت فيه كل مواعيد الله : : «لأن مهما كانت مواعيد الله فهو فيه النعم وفيه الآمين لمجد الله بواسطتنا » ( 2کو1: 20)، لكن الترجمة العربية هنا سقيمة، وصحتها كالآتي: «لأن كل مواعيد الله تجد فيه تحقيقها بالنعم ، وفيه أيضاً نقول آمين».
وقول ق. بولس هذا القول المختصر «عن ابنه » يبدو لكثير من الشراح أن ق. بولس قصد هكذا أن يضع هذا التعريف أمامنا بدون شرح . ولكن الحقيقة أن شرح «عن ابنه » يأتي مباشرة فيما يتبع من الكلام ، سواء ما يخص ناسوته أو لاهوته في وضعهما الاستعلاني كمسيا ملك إسرائيل وكالابن الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب .
ولـكـن في قول ق. بولس «عن ابنه » أي ابن الله ، إشارة صريحة عن سبق وجود المسيح في علاقته الأزلية بالآب بحسب لاهوت ق. بولس الذي أوضحه في مواضع أخرى : « فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية …» (رو 8: 3)
+ « الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء. » (رو 8: 32)
+ « لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس.» (غل 4: 4)
وفي كل هذا لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن ق. بولس وهو في افتتاح رسالته إنما يضع الخطوط الأساسية لبشارته بإنجيل الله فيما يخص المسيح أنه «الابن»، الذي وإن كان قد تجسد فهو الباقي كما هو ابنا الله كما هو منذ الأزل. لذلك يتحتم أن نفهم كل ما يقال عن الابن على أساس أنه ابن الله. فقول ق. بولس: «ابن الله الذي صار» ، فكلمة «صار» هنا يتحتم أن تفهم على أساس أنه ابن الله، وأنه بقي ابنا الله بعد أن صار من نسل داود حسب الجسد. ومن الوجه الآخر حينما يؤكد ق. بولس أن إنجيل الله الذي ينادي به هو بآن واحد إنجيل ابن الله الأزلي ، فهو يعطي اعـتـبــاراً لماذا هو قد أفـرز مـن الـبـطن وأرسل بدعوة سمائية للقيام بهذه المهمة العظمى . فالقديس بولس دائماً أبدأ يربط علو شأن رسالته بعلو شأن الذي أرسل من أجله.
« الذي صار من نسل داود حسب الجسد» :
«صار»: γενομένου
وضعها ق. بولس لتأتي في المقابل مع «تعين» ὁρισθέντος، فهو وإن كان قد صار من نسل داود، فهو هو الذي تعين أنه هو ابن الله، وهذا ما سيجيء في الآية القادمة. فهنا «صار» تفيد أنه انتقل من حالة إلى حالة أخرى. ( والأفضل أن يقال أنه أخذ حالة جديدة على حالته دون أن تـزيـد عـلـيـه شيئا أو تنقص شيئاً شأن المطلق الأزلي . فالمطلق لا ينقص ولا يزيد فهو الكل، والكل في الكل، وملء الكل. والكل لا يزيد ولا ينقص لأنه كل الكمال)، دون أن يفقد ما له أو يـتـغيـر عـمـا هـو عليه، على أساس أنه ابن الله وكان ابنا الله و بقي ابنا الله بكل ما له من لاهوت شخصي وعلاقة إلهية بالله . فكلمة «صار» هنا تفيد أنه انتقل من حالة ابن الله غير المنظور إلى حالة ابن الله المنظور في الجسد كابن داود، حيث بنوته الله اختفت في بنوته لداود كمسيا أو ابن الإنسان، فلما مات اختفت بنوته الله إلى حين عن الأنظار العقلية : «ر أنا « رفضوني الحبيب مثل ميت» ، وامتنع على العقل حتى تصورها . ولكن لما قام من بين الأموات استعلنت بنوته الله ورئيت وتحددت.
فكلمة «صار» هي في مقابل «تعيّن ». نجد الأولى تختص باختفاء اللاهوت وظهور الناسوت في ذات شخص ابن الله ، أما الثانية «تعين» فتفيد ظهور الذي كان مختفياً واستعلان الذي كان غير معلن، حيث تحدد أن الذي تجسد وظهر كابن الإنسان هو هو بعينه ابن الله الذي كان قبل أن يتجسد. فبالقيامة من الأموات استعلن كل ما للمسيح على ضوء لاهوته أنه هو ابن الله، الذي أخلى ذاته وأخـذ شـكـل العبد وأطاع ومات ليقوم ، ليعلن أنه تجسد ليموت ، ومات ليقوم ، لكي بتجسّده يأخذ ما لنا و بقيامته يعطينا ما له .
«حسب الجسد»:
هذا الاصطلاح بحد ذاته يكشف مباشرة أن المسيح هو أعظم من بشر بالرغم أنه صار بشراً. لأنه إن كان قد صار إنساناً حسب الجسد، فهو أصلاً أعظم من إنسان، ولما صار إنساناً ظل أعظم من إنسان، لذلك جاء التكميل حتمياً : أما حسب الروح فتعين ابن الله !! أي إلها بلا نزاع . والمعنى يكون ( الذي هو ابن الله صار إنساناً بجسد منظور، فلما مات وقام من الأموات بقوة حياة جديدة تحدد أنه هو هو ابن الله الذي كان قد صار جسداً ) !
ق. بولس يتكلم هنا من التقليد الشفاهي الكنسي الذي لقنه الرسل للكنيسة. ولكن كون ق . بولس يردده كأمر صائر من واقع المسيح وشخصه ، فهذا ينبىء ء أن ق. بولس استلهم من المسيح ما يصادق على هذا الحق التقليدي الموروث .
نحن نعلم تمام العلم أن المسيح وافق الأعمى ابن تيماوس في صراخه للمسيح منادياً : « يا يسوع ابن داود ارحمني» (مر 10: 47). أما المسيح فيرتفع بهذا المفهوم إلى أن ابن داود هو رب داود بآن واحد، وذلك في الحوار البديع الذي دار بين المسيح وتلاميذه بخصوص ما جاء في مزمور داود 1:110 (أنـظـر مر 12: 35-37). ولـكـن على كل حال فهنا الإشارة واضحة أنها تخص ملوكيته المسيانية وليس تصويراً لحالة اتضاع .
أما بخصوص النبوات التي تحققت في المسيح بهذا الشأن، فهما اثنتان واحدة لناثان النبي مع داود والأخرى لإشعياء :
+ «كان كلام الرب إلى ناثان ( النبي) قائلاً: اذهب وقل لعبدي داود … متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك، أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبت مملكته، هو يبني بيتاً لاسمي (في ثلاثة أيام أقيمه) وأنا أثبت كرسي مملكته ( مملكتي ليست من هذا العالم) إلى الأبد. أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابناً . » (2صم 7: 4 و5 و 12-14)
+ « ويخرج قضيب من جذع يسى ـ ( أبي داود) ـ و ينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب …» (إش 11: 21)
1: 4 «وتعين ابن الله بقوة من جهة (حسب) روح القداسة بالقيامة من الأموات يسوع المسيح ربنا ».
«تعيّن»: ὁρισθέντος
أصل الكلمة ὁρος وتعني «حدود» ومنها «يحدد»، و يقول عنها ذهبي الفم : [ ما معنى يحدد إذاً؟ يعني يعين أو يظهر أو يقيم أو يعترف به من الجميع . ]
المعنى الذي اسـتـقـر لـدى العلماء يفيد « تحقق » vindicated . فهو ابن الله أولا الذي صار جسداً أي تجسد في صورة مخـتـفـيـة كإنسان، ولكن عاد فظهر « وتحدد» أنه ابن الله لما قام من الأموات بـقـوة روح القداسة الذي فيه، وكان مختفياً فاستُعلن. وهي نفس الكلمة التي جاءت في سـفـر الأعمال لتفيد التعيين أو التحديد : « ونشهد بأن هذا هو المعين من الله ديانا للأحياء والأموات » (أع 10: 42). هنا التعيين أو التحديد لا يفيد حدوث شيء جديد لشخص المسيح أو لطبيعته ؛ بل مجرد التحقق مما له أو تحديد هويته أو وضعه فيما هو له أصلاً، بمعنى جلوسه على عرش بنوة الله. فالقيامة من الأموات لم تعط للمسيح شيئاً جديداً ؛ بل كشفت حقيقته – «أنا هو القيامة والحياة» (يو 11: 25) ـ التي كانت مختفية في بشريته ، وهي قوة لاهوته التي فيه والتي لم تفارقه قط باعتبار أن القيامة من الأموات معجزة إلهية عظمى، فهي قوة الله .
لذلك جاء تعيينه بقوة أنه ابن الله ، لما قام من الأموات كما هو بقوته الذاتية التي قام بها من الموت بجلال عظيم، والتي عبر عنها ق. بولس بـ « روح القداسة » . والقديس بولس لم يقل الروح الـقـدس وإلا يفهم أن الذي أقامه هو الأقنوم الثالث، ولكن الحقيقة أن لاهوته الخاص المعبر عنه بروح القداسة هو الذي به قام، وقد كان فيه ولم يستحوز عليه بالقيامة ولكن كان فيه، وهو الذي حفظ الجـسـد بـدون فساد إلى أن أقامه من بين الأموات . علماً بأنه من الخطأ والخلط أن يفهم أن الـروح يؤثر ويعمل في المسيح، ولكن الحقيقة والواقع أن المسيح يعمل بالروح. على أنه حينما يقول الكتاب إن الله أقامه من بين الأموات (رو 6: 4)، فهو التعبير عن الواقع المنظور للإنسان، ولكن الحقيقة أنه هو والآب واحد، والآب حال فيه، فهو في الله والله فيه ، وهو الله مع الآب. لهذا يقال أن الله أقامه كما يقال أنه هو قام بإرادته وسلطانه وحده ( 1تس 4: 7)، «لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً . » (يو 10: 18)
وهـكـذا فعبارة «تعيّن ابن الله » هي في مقابل «صار من نسل داود»، ولكنها تفيد « استلم » علنا ما هو لـه ـ أي البنوة الله . وهنا كلمة «بقوة » تفيد قوة القيامة من الأموات بمجد وسلطان إلهي، لأن قوة القيامة من الأموات لا تعادلها أية قوة في العالم، فهي قوة إلهية بروح القداسة الذي فيه. وعملية التوازي التي انشغل بها العلماء بين الآيتين لتخدم قضية الطبيعتين في المسيح دخيلة على ق. بولس، ولا تخدم إلا النزاع اللاهوتي الكنسي الذي انتهى إلى مجمع خلقيدونية بالتقسيم بين الطبيعتين اللتين للمسيح بصورة صارخة تمس الاتحاد الذي صار إليه التجسد. فالقديس بولس يقسّم حياة المسيح وليس طبيعته إلى مرحلتين ، وليس إلى طبيعتين : المرحلة الجسدية بالظهور الأرضي بالميلاد من نسل داود، والمرحلة الروحية بالظهور أو الاستعلان السمائي الروحي بالقيامة من الأموات لإعلان حقيقته .
وأيضاً محاولة العلماء قصر التوازي بين الآيتين لكي يخدم حالة الهوان والاتضاع في المسيح ليقابلها حالة القوة والمجد، هي أيضاً ليست واردة هنا بالذات في فكر ق . بولس . وربما بالعكس ، فـمـرحـلـة الـظـهـور الأرضي بالميلاد اتجه بها هنا ناحية داود ليستعلن من خلاله وعد «الملوكية المسيانية» وتثبيت كرسيها إلى الأبد وذلك تحقيقاً لرجاء إسرائيل وأحلامها في المسيا، ثم تعيينه ابنا الله بـالـقـيـامـة مـن الأمـوات تـفـيـد استلامه ما له، أي مجد البنوة الأسمى الله الذي له، ليصير « رئيساً على كل ملوك الأرض» (رؤ 1: 5 ) والبشرية قاطبة، « مملكتي ليست من هذا العالم » (يو 18: 36)، وذلك تحقيقاً لخلاص العالم كله وليس إسرائيل وحسب .
وهنا يلزم أن ننبه أن كلمة «صار» من نسل داود ليست هي «صار» جسداً كما جاءت في إنجيل القديس يوحنا لتفيد الكينونة Being ، ولكنها تفيد المجيء فقط = descended. أي أن الفعلين «صار» من حيث الجسد و «تعيّن» من حيث الروح لا يفيدان حالـة الـكـيـنـونة الطبيعية للمسيح، طبيعة الناسوت وطبيعة اللاهوت، ولكن يفيدان التحرك الذي كشف عن هوية المسيح كمسيا ثم باعتباره ابن الله ، وليس طبيعته . خاصة وأن ق. بولس هنا يعرف من هو «المسيح في شخصه» وليس في طبيعته ، لأن ق. بولس بالتالي ينسب نفسه وخدمته وإنجيله في مقدمة رسالته هذه لشخص المسيح وليس لطبيعته .
«بقوة من جهة روح القداسة » :
القصد الأساسي من هذا التعبير ليس لتوضيح «عامل القيامة » بل توضيح من هو المسيح في شخصه. فكما صور لنا ميلاده من نسل داود ليعلن إنسانيته بالتجسد التي صار إليها وصارت فيه، عاد في المقابل بسرعة ليصور لنا حقيقته اللاهوتية . فهنا قوله : « من جهة روح القداسة»، يتحتم أن تكون ملتحقة بشخصه ومشيرة إلى قوته الذاتية لتكمل الصورة عن من هو « يسوع المسيح ربنا » . إذاً فقوله « من جهة روح القداسة » يفيد ظهور واستعلان شخصه الإلهي المستتر، أو لاهوته الذي كان قد احتجب إرادياً، ليظهر بالجسد بلا خوف ولا رهبة.
« بقوة » :
تتبع التعيين ولا تتبع القيامة بحد ذاتها ، لأنها جاءت هكذا : «تعين ابن الله بقوة»، وذلك في مقابل «صـار مـن نـسـل داود ». فكما كان التنازل في الظهور بالجسد كابن الإنسان، كذلك بالمقابل جاء التعاظم بقوة في استعلان بنوته الله ! أي أن هذا الإعلان عن بنوته الله جاء بقوة، وهذه الـقـوة وضحت في القيامة من الأموات ، التي هي أصلاً ليست من اختصاصات إنسان أيا كان !! لذلك نقول مرة أخرى ، لهذا لزم أن تكون القيامة من الأموات خاصة كقوة له وفيه ، معبرة ومبرهنة عن بنوته الله أي لاهوته .
«من جهة روح القداسة»: κατὰ πνεῦμα ἁγιωσύνης
κατὰ تُترجم « حسب » أفضل .
تماماً في مقابل «صار من نسل داود بحسب الجسد κατὰ σάρκα» ، بمعنی أنه كما بحسب الجسد هو ابن داود ؛ كذلك هو بحسب «روح القداسة». وهنا إشارة واضحة إلى الطبيعة الروحية الإلهية في شخصه ، بمعنى أنه إن كان قد صار ابن داود فهذا بحسب الجسد الذي أخذه لنفسه، ولكنه هو ابن الله بحسب روح القداسة الذي له أصلاً، أي لاهوته . فالقصد الأساسي عند ق. بولس من هذه الآية هو التعريف بشخص يسوع المسيح ربنا .
ولكن هذا لا أن يقال أن الله أقامه من الأموات أو أن الروح القدس أقامه من الأموات ، يمنع فهذا يثبت أن القيامة من الأموات عمل اختص به الله في اتجاه البشرية التي يمثلها المسيح ، عمل اشـتـركـت فـيـه الأقـانـيـم الثلاثة بالضرورة، لأن قيامة المسيح بالجسد حسبت لحساب الإنسان . فالآب برره في الـقـيـامـة لكي يتبرر فيه كل من يؤمن بالقيامة : « وبالإجماع عظيم هو سرا التقوى ( الفداء) الله ظهر في الجسد “تبرر في الروح …» (1 تي 3: 16)، والروح القدس أعلن قداسته لكي يستعلن قداسة كل من يؤمن بقيامته ، والابن أعلن بنوته الله لكي ينال التبني الله كل من آمن بقيامته. لذلك فكل من اعتمد، فهو حتماً يعتمد باسم الآب والابن والروح القدس ! لينال الحياة الجديدة بالقيامة من الأموات .
«بالقيامة من الأموات » : ἐξ ἀναστάσεως νεκρῶν
وترجمتها الحرفية : ” القيامة من بين الأشخاص المائتين “.
هـنـا يلاحظ أن ق. بولس يشدد على الجمع في كلمة « الأموات » ، فهو ليس قيامة من الموت وحسب ، لأن هذه تكون صورة فردية لقيامة المسيح محصورة في ذاته، ولكن يجمعها لتكون بالقيامة من الأموات أو «من بين» الأموات لتصح عربياً، حتى يمهد الذهن ويحصره لما تؤول إليه قيامته من قيامة الأموات الذين آخاهم كبكر بين إخوة. لذلك يدعوه ق. بولس عن جدارة : « هو البداءة بكر من الأموات » (كو 1: 18)، «وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم ، فالذي أقام المسيح من الأموات سبـخـيـي أجــسـاد كـم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم . » (رو 8: 11)
ويلاحظ دائماً في لاهوت ق. بولس أنه عندما يتكلم عن مجيء المسيح من نسل داود ، فهو يشير إشارة مباشرة إلى حقيقة أنه المسيا الموعود لليهود كملك أبدي . وحينما يتكلم عن المسيح كـمـولـود ، فهو يشير إشارة مباشرة إلى مجيء «يوم الرب» وتحقيق بدء إسخاتولوجيا الأنبياء في العهد القديم بالنسبة للدهر الآتي واكتمال الدهور.
5:1 «الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم».
ق. بولس هنا يتكلم بفم المسيحيين عامة ثم عن نفسه . فكمسيحيين يقول : «قبلنا نعمة » ، وعـن نـفسه يقول : « ورسالة»، وهذا توضحه آية قادمة في الأصحاح 6:12: « ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا … » .
«الذي به قبلنا نعمة » :
النعمة هي عطية الله المجانية لكل من يؤمن والتي لا تعطى بحسب الاستحقاق أو لأي جهود ذاتـيـة، فـهي مـن جـانـب واحد، وهو الله الذي رأى أن يعطي بحسب غنى مجده وبمقتضى فقر الآخـريـن: «إذ الجميع أخـطـأوا وأعـوزهـم مجـد الله ، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح» (رو 3: 23و24). ويلاحظ أن ق. بولس يوضح أن قبولنا نعمة الله هو بواسطة المسيح . وتوسط المسيح معروف أنه تم بالفداء الذي أكمله على الصليب . فالقديس بولس نال مع الآخرين نعمة الفداء والتي من خلالها قبل، بنوع من التعيين والاختيار، الرسولية أيضاً. والملاحظ أن ق . بولس قـبـل الاثنين في وقت واحـد لا فارق زمنيا بينهما على الإطلاق ، فقد دعي للمرسولية ومعها النعمة المجانية، وهذا هو الاستثناء الأول في كل أسفار العهد الجديد . لذلك ظل ق. بولس ينادي بمجانية النعمة طول حياته، بل ويكاد يصرخ في وجه كل واحد يحاول أن ينالها بجهده أو بعمل الناموس. والرب صمم أن يدعوه للرسولية ويداه ملطختان بدم الذين استشهدوا تحت يديه، ووهبه نعمته وهو بحال رديئة للغاية، وهكذا أظهر الله في ق. بولس طول أناته وقوة رحمته وغنى صفحه عن الخطايا السالفة بل وتغاضى عن جهله وعدم إيمانه. وذلك كله لكي يستطيع بولس أن يبشر بهذا كله وعلى أساس هذا كله :
+ « وأنا أشـكـر المسيح يسوع ربنا الذي قواني أنه حسبني أميناً، إذ جعلني للخدمة، أنا الذي كنت قبلاً مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ولكنني رحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان، وتفاضلت نعمة ربنا جدا مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع . » (1تي 1: 12-14)
«لإطاعة الإيمان لأجل اسمه في جميع الأمم» :
إن النعمة المجانية واختيار الرسولية ـ بهذا الشكل الفريد الذي دعي به بولس الرسول ـ كانت هي الـقـوة المتفجرة في قلب ق. بولس للعمل بلا هوادة، بل وبكل سلطان النعمة لإطاعة الإيمان بين الأمم، عالماً بأن حالهم السيء جداً والرذيل للغاية لم يكن أسوأ ولا أرذل من حاله هو (بولس) وهو على طـريـق دمشق. فكما ألزمت النعمة بولس ، لما تفاضلت جدا عليه ، أن يتبع الرب، هكذا وضع بولس في قلبه أن يلزم كل إنسان بالنعمة أن يأتي للرب :
+«… المسيح فيكم رجاء المجد، الذي ننادي به منذرين كل إنسان ومعلمين كل إنسان بكل حكمة، لكي تحضر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع، الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل في بقوة . » (كو 1: 27-29).
وبولس الرسول يركز ويشدد على كلمة «لإطاعة» كمن يملك سلطة الإلزام بالطاعة، وهي قـوة نـعـمـة الله الـتـي فـيـه، وكان يملكها حقاً من واقع أمرين : رداءة سيرته السابقة ومحبة المسيح الفائقة: «مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح » ( 2 کو10 : 5). فقوة إقناع ق. بولس تأتي من خبراته الرديئة جداً وقوة نعمة الله الفائقة جداً معاً .
وق. بولس يـكـتـب هـذا مـن واقع شعوره أنه هو الرسول الوحيد المختار ـ ليس عن تأهيل، والمعين من الله، بمقتضى أمر النعمة ـ لخدمة الأمم التي كان يعتز بها ويفتخر: «فإني أقول لكم أيها الأمم بما أني أنا رسول للأمم أمجد خدمتي . » (رو 11: 13)
«لأجل اسمه » :
رجعة مـبـدعـة مـن ق. بولس حتى لا يظن السامع أو القارىء أن الإنجيل والإيمان والطاعة والرسالة والـنـعـمة ينتهي عملها عند الأمم كغاية، كلاً، بل كل ذلك هو «لأجل اسمه»!! أو كـمـا يـقـول ويتغنى ق. بولس بذلك في رسالته إلى أفسس : « إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته ، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب ، لنكون لمدح مجـده نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح » (أف 1: 5 و6 و12). صحيح أن خدمة الرسولية عند ق. بولس هي للأمم ولكنها بالنهاية «لأجل اسمه » !! …
والـقـديـس بـولـس يرفع الأمم فوق هامة رأسه تقديراً وتبجيلاً ولكن “من أجل اسمه : «فإننا لسـنـا نـكـرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع رباً، ولكن بأنفسنا عبيداً لكم من أجل يسوع . »(2كو 4: 5)
6:1 «الذين بينهم أنتم أيضاً مدعوو يسوع المسيح » .
«بينهم» في المكان لأن روما هي في وسط العالم الوثني أي الأمم، وفي الإنجيل لأنهم مدعوون بالكرازة بيسوع المسيح ، وهنا تأتي دعوتهم على مستوى دعوة بولس وإن كانت تتفاوت جداً في الرتبة، فهؤلاء لدعوة الإيمان كمؤمنين، وهذا لدعوة إطاعة الإيمان كرسول، ولكن كرامة الدعوة من كرامة الداعي، فهم في نظر ق. بولس مكرمون وقديسون بسبب طاعتهم لدعوة إنجيل المسيح .
7:1 «إلى جميع الموجودين في رومية، أحباء الله مدعوين قديسين. نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح » .
لو لاحـظ الـقـارىء ودقق في الملاحظة، لوجد في الآية (5:1) أن ق. بولس يخاطب الأمم : « في جميع الأمم الذين بينهم أنتم». هنا يستدرك ق. بولس ليضم اليهود المتنصرين في شمولية : « إلى جميع الموجودين في رومية » .
«أحباء الله مدعوين قديسين»:
هـنـا يـضـم المحبة الأولى التي برحت بقلب يهوه نحو شعبه المختار، والكلام في هذا الأمر كثير، إلى المحبة الثانية والأقوى والأكثر دوماً التي في المسيح يسوع ومن أجله . فالكلام هنا لليهود والأمم في الإنـجـيـل الـواحـد . وهذه المحبة ، محبة الله ، هي نفسها التي ربطت قلب الرسول بهم ، فالذي دعاه دعاهم والذي أحبه أحبهم . وحينما يقول ق . بولس : « مدعوين قديسين» ، فهو يكرم دعوتهم التي للقداسة . فالدعوة لإتباع الله هي دعوة إفراز واعتزال من وسط العالم للالتصاق بالله ، وهي هي بعينها دعوة للقداسة. إذاً، فهم مدعوون ليكونوا قديسين .
والقداسة أو التقديس تتعدى التخصص الله إلى قبول روح الله للتقوى والطهارة والقلب العابد .
ولا يفوت على القارىء أن المسيحية عند ق. بولس قداسة، والإيمان بالمسيح هو تقديس ، والمؤمنون بالمسيح قديسون هم !
ولـكـن «الشعب المقدس» « وقديسي الله العلي » ، تقليد نبوي منذ العهد القديم ، يوصف به شعب الله المتمسك بالله . هكذا يصف الروح لدانيال النبي كيف سيملك شعب الله بعد ضيق الأيام ويكونون مملكة أبدية : « والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تُعطى لشعب قديسي العلي، ملكوته ملكوت أبدي . » (دا 7: 27)
والآن ، ورث المسيحيون هذا الوعد، وصاروا شعباً الله العلي بالإيمان والاختيار والمحبة والتبئي التي خصهم بها الله في شخص ابنه يسوع المسيح . وهكذا ورثوا لقب « قديسي العلي» والمملكة ملكوت الله، والعربون تسلم لنا وهو قائم في قلوبنا. .
«نعمة لكم وسلام = χάρις ὑμῖν καὶ εἰρήνη»
وهبة النعمة هي دعاء إفخاريستي من عمق الليتورجيا الكنسية، ويبدو أنه كان هو الـدعـاء المسيحي السائد في الكنيسة الأولى، ولكن كان يلقى من الأسقف للشعب ، لأن «هبة النعمة» هي هبة رسـولية أو أسقفية . وقد وردت في قول ق. بولس هكذا: «لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم . » (رو 1: 11).
والنعمة في أصلها هي محبة الله التي تنسكب إزاء الإيمان بالله . والقديس بولس لا يعطيها من ذاته ، بـل مـن مـلء حـضـور المسيح الذي أصبح هو حياته : « لي الحياة هي المسيح» (في 1: 21)، «فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل 2: 20). فالنعمة التي يهبها ق. بولس هي نعمة محبة الله الموهوبة له في المسيح ذات العطايا المتعددة، فهي نعمة الله والمسيح .
كذلك السلام، هو حالة توجد فيها النفس من جراء حضور الله في شخص يسوع المسيح حيث ترفع عن الإنسان كل ضغطة العالم والشرير. فسلام الله أعلى بكثير من السلام الذي يشعره الإنسان عند الراحة النفسية، لأنه حالة مقيمة في أعماق الروح والنفس بسبب حضور المسيح ، فهو سلام «لا ينزع» بحسب قول المسيح (يو 16: 22). لأن لا أحد ولا أي شيء يقدر أن ينزعه منا ، لا أحد ولا شيء يقدر أن يفصلنا عن المسيح وعن محبة الله التي لنا في المسيح (رو 8: 35-39)، لأن المسيح نفسه موجود في إقامة روحية سرية بقوة داخل النفس والروح .
ولا ننسى أن هذه الحالة هي أعلى وآخر معيار روحي طلبه لنا المسيح من الله أن يكون لنا وقد كان : «وعرفتُـهـم اسمك، وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم . » (يو 17: 26)
وق. بولس يعرف نوع هذا السلام بأنه يفوق العقل ويحفظ الفكر والعقل في المسيح : « وسلام الله الذي يفوق كل عقل، يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع . » ( في 4: 7)
و واضح مـن مـضـمـون النعمة والسلام أنهما عطيتان متحدتان توجدان معاً، وكل منهما تؤازر الأخرى في قلب الإنسان. ليت الله يهبهما بحسب سخاء غنى نعمته لكل قارىء .
و بهذه الافـتـتـاحـيـة يكون ق. بولس قد قدم نفسه معرفاً برسالته وإنجيله ، وقدم إنجيله معرفاً بالمسيح المسيا وابن الله . ثم موضحاً علاقته المهنية (كرسول ) بالأمم و بالتالي بروما والموجودين فيها ، باثا فيهم النعمة مع السلام من لذن الله الآب والمسيح يسوع .
ثم بعد ذلك يدخل ق. بولس في الغرض الذي من أجله كتب الرسالة .
[ 15-8:1 ] الغرض من الرسالة
الـقـديـس بـولـس يـعـتـبـر نفسه، في أدب جم ، مسئولاً عن روما !! فهو الرسول الوحيد للأمم ، وروما عاصمتهم جميعاً ؛ فإن كان قد خدم من أورشليم حتى إلى إلليريكون ، أي الجزء الشرقي من إمـبـراطـوريـة الأمـم، ولم يعد فيها مكان بعد لم يؤسس فيه كنيسة لاسم المسيح ، فقد صوب نظره ناحية الغرب إلى أسبانيا مروراً بروما ، لا كأنها الأقل بل لأنها الباب المفتوح نحو الغرب . وشرح لهم كيف كان يطلب التصريح من الله بصلوات أن يفتح له الرب الطريق إليهم .
ثم، وفي أدب كثير، يشرح لهم الأسباب التي عوقته عن المجيء إليهم هذه المدة الزمنية بطولها، ولـكـن الأمـر الـذي نـسـتـغـرب لـه هـو مخاطبتهم بكثير من الرقة التي تبلغ حد التنازل عن مستوى الاعـتـداد برسوليته التي نعرفها عن ق. بولس فيقول لهم : « لنتعرى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعاً إيمانكم وإيماني» (رو 1: 12). ولكن يبدو أن وجود رسولين للمسيح ـ مشهورين بين الرسل ـ بين أهل روما يقول عنهما أنهما كانا قبله في المسيح مما يفيد أنهما من تلاميذ المسيح القدامى ، أن ذلك هو الذي جعله يخجم عن فرض لغة رسوليته من المستوى الأعلى : «سلموا على أندرونكوس ويـونـيـاس نسيبي المأسورين اللذين هما مشهوران بين الرسل، وقد كانا في المسيح قبلي . » معي (رو 7:16)
ولـكـن مهما كان من أمر الرسولين المشهورين ، فهما من رسل الختان ، أما بولس الرسول فهو الوحيد المعين رسولاً للأمم ، فالضرورة تلزمه أن يمنح روما هبة من رسوليته ، ونحن لا نجهل معنى : «الهبة الخاصة برسوليته» هنا، فهي نعمة إنجيل المسيح بدون الختان أو السبت أو الناموس !! أي هي هبة حرية أولاد الله من قيود الناموس وتخريجات الفريسيين[1].
ثم هبة إنجيل الغرلة الذي يكرز به ق. بولس تمتد لتشمل الإعلان عن بر الله الذي ظهر في المسيح يسوع، مشهوداً له من كافة الأنبياء ! من هذا نفهم مدى إلحاح الروح على ق. بولس ومدى إلحاح ق. بولس على الله أن يفتح له الطريق نحو روما ، لا لأن روما لم تكن قد بشرت بالمسيح ، فهي قد بشرت والإيمان فيها فقال ، ولكن لأن الإنجيل المعمول به في روما هو إنجيل الختان، أي التمسك بوصايا الناموس وأعياده وسبوته والختان مع كل عوايد اليهود من غسل وتطهير ونوافل عبادة فقدت قيمتها بالنسبة للخلاص الذي ظهر بظهور المسيح .
من هنا كان هم ق. بولس الذي أقلقه سنين كثيرة، وكانت صلواته وتثقيل الروح عليه ، كل هذا دفعه أن يسرع في فك قيود الإيمان المسيحي هناك من الناموس وملحقاته ، لئلا تضرب جذورها ويصعب اقتلاعها فيما بعد. هنا نفهم قوله : «كيف بلا انقطاع أذكركم متضرعاً دائماً في صلواتي عسى الآن أن يتيسّر لي مرة بمشيئة الله أن آتي إليكم» (رو 1: 9و10)، «مراراً كثيرة قصدت أن آتي إليكم … ليكون لي ثمر ( رفع معوقات الإيمان المسيحي من تسلط الناموس) فيكم أيضاً كما في سائر الأمم» (رو 1: 13). بل ونفهم معنى قوله : «ما هو لي» في هذه الآية : « فهكذا ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضاً لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لـكـل مـن يـؤمـن» (رو 1: 15 و16). فما هو الذي لبولس خاصة والذي هو مستعد للـتـبـشـير به، إلا ما يختص برسوليته للأمم بحسب إنجيل الغرلة ؟ أي الإيمان الحر النقي ـ بالرب يـسـوع الميت والمقام ـ الخالي من وصايا الناموس وتعقيداته ومن التقيد بالأوقات والسنين والشهور ولا تمش ولا تذق”؟ هذا هو قوة الإيمان المسيحي بحسب إنجيل بولس للأمم، الذي بحسب تعبيره هو «قوة الله للخلاص» .
8:1 «أولاً أشكر إلهي (الله الذي لي) بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادى به في كل العالم».
أولا وقبل كل شيء، يبرىء ق. بولس ذمة رسالته من نية تعليمهم الإيمان، فإيمانهم معترف به ومشهود له في كل العالم . إذاً، ومن البداية، يوجه ق. بولس سهمه الروحي الحاذق إلى تنقية الإيمان، وليس تلقين الإيمان. فإن كان لهم إيمان بالمسيح قبل هذا ، فلله الشكر والحمد، إذ قد أصبح توجيه إيمانهم إلى النعمة الخالصة بعيداً عن الناموس والوصايا الجسدية أسهل، والطريق إلـيـه مـفتوح . هذا من جهة اليهود المتنصرين أهل الختان الذين أخذوا المسيح على أساس الناموس الذي عتق وشاخ وهو على ميعاد مع الزوال !
أما من جهة الوثنيين الذين اقتبلوا المسيح على أيدي متنصري اليهود، فقد أتاهم الفرج ليعتقوا نهائياً من أية محاولة للتهويد .
هذا القصد الدفين من وراء الآية كشفناه أمام القارىء ليدخل إلى مضمون الرسالة كلها على نور مع ق. بولس .
أما من جهة تركيب الكلام واللغة فلا يمكن أن يفوتنا تعبير ق . بولس عن علاقته بالله حينما يقول :
«الهي»: τῷ θεῷ μου
هنا التركيب ليس في صيغة مضاف ومضاف إليه بل : سيد مالك ، وعبد مملوك ، فهو إلهه لأن الله قد ملكه، وملكه بثمن غالي جداً وهو دم ابنه الوحيد !! اسمعه وهو يحكي ويتباهى بعلاقته هذه بالله والمسيح هكذا : «لأنه وقف بي هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له، والذي أعبده قائلاً : لا تخف يا بولس ينبغي لك أن تقف أمام قيصر …» (أع٢٧ : ٢٣ و٢٤). فالقديس بولس باع نفسه لله الذي اشتراه .
على أن ق. بولس الـذي يـدعـو نـفسه «عبد ليسوع المسيح » ، يرى الله الذي هو أبو ربنا يسوع المسيح أنه أبونا أيضاً : « الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا τοῦ θεοῦ καὶ πατρὸς ἡμῶν .» (غل 1: 4)
فالقديس بولس يعبد الله والمسيح عبادة حب ومسرة، ليس عن قهر أو فرض أو إجبار. فالله بعد أن أظهر غنى حبه لنا في شخص ابنه وورثنا ميراث البنين، صار لنا إلهاً وأباً معاً؛ إلها نعيده وأبا نتفانى في حبه.
9:1 «فإن الله الذي أعبده بـروحـي في إنـجـيـل ابنه، شاهد لي كـيـف بلا انقطاع أذكركم » .
«أعبده بروحي»: λατρεύω ἐν τῷ πνεύματί μου
ق. بولس يفرق بين العبادة بحسب الفروض والواجبات الموضوعة مع الترتيبات التقليدية المسلمة، وبين العبادة بالروح . فكل عبادة بالجسد يرتفع بها ليجعلها عبادة بالروح على أساس نظرية الخـتـانـة للقلب والأذن في مقابل ختانة الجسد . فالثانية بدون الأولى غزلة، والأولى بدون الـثـانـيـة ظهارة وقداسة : «لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح، ونفتخر في المسيح يسوع ولا نتكل على الجسد …» (في 3:3)، «لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً … بل ختان القلب بالروح … الذي مدحه ليس من الناس بل من الله . » (رو 2: 28و 29)
هنا ق. بولس يقصد من قوله : « أعبده بروحي» ، عبادة القلب التي تنفرد بها روح الإنسان في داخله دون أن يظهر بها للناس ، فهي عبادة صادقة جداً لأنها تخلو من أية مظاهر أو ادعاء أو افتخار، هي في الحقيقة انسحاق قلب وخضوع للنعمة بإحساس وجود الله في الداخل .
«في إنجيل ابنه» :
لقد أصبح إنجيل المسيح ، أي الأخبار السارة التي تختص بالمسيح ، من جهة الموت والقيامة والخلاص الذي أكمل، هي حدود و بنود عبادة ق. بولس وخدمته وكرازته وتقواه التي يقدمها الله ، عوض حدود و بنود الناموس .
« شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم » :
ق. بولس يستشهد الله على ما كان في فكره وما كان في ضميره دائماً كلما وقف للصلاة أمام الله أو كلما جاء ذكر روما في مخيلته ، هذا يعبر عنه بقوله : «بلا انقطاع » :
+ « فإن الله شاهد لي كيف أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح . » ( في 1: 8)
+ « ولكني أستشهد الله على نفسي أني إشـفـاقـاً عـلـيـكـم لـم آت إلى كـورنـثـوس.» (2کو 1: 23)
+ «فإننـا لـم نـكـن قـط في كلام تملق، كمـا تـعـلـمـون ولا في علة طمع ، الله شاهد .» ( 1تس 2: 5)
+ «أنتم شهود والله كيف بطهارة وببر وبلا لوم كنا بينكم أنتم المؤمنين . » ( 1تس 2: 10)
+ «الله أبو ربنـا يـسـوع المسيح، الذي هو مبارك إلى الأبد، يعلم أني لست أكذب . » (2کو 11: 31)
+ « والذي أكتب به إليكم هوذا قدام الله أني لست أكذب فيه. » (غل1:20)
والقديس بولس يستشهد الله هنا في رسالته إلى أهل رومية ليؤكد لهم أنه ـ ودون أن يعلموا أو يـطـلـبـوا ـ كان يصلي وكان يذكرهم أمام الله طالباً دائماً أن تفسح له مشيئة الله للذهاب إليهم ، ولـكـن مـنع. ونحن نعلم أن الروح القدس هو الذي كان يفتح ويغلق طريق الخدمة أمامه حسب نعمة الله وتدبيره .
+ «وبعـد مـا اجـتـازوا في فريجية وكورة غلاطية منعهم الروح القدس أن يتكلموا بالكلمة في آسيا . » (أع 16: 6)
+ «فلما أتوا إلى ميسيا حاولوا أن يذهبوا إلى بثينية فلم يدعهم الروح . » (أع 16: 7)
10:1 «متضرعاً دائماً في صلواتي عسى الآن أن يتيسّر لي مرة بمشيئة الله أن آتي إليكم » .
لماذا ؟؟؟
هنا كان إلحاح ق. بولس بالتضرع الدائم في الصلاة لكي يسهل الله طريقه إلى روما ، كما ذكرنا سابقاً، كان من واقع مسئولية كانت تثقل كاهله من جهة البشارة في روما عاصمة العالم كله بإنجيله، إنجيل الغرلة الذي بلا ناموس ولا سبت ولا ختان ولا أي من عوايد اليهود، هذا بحسب دعوة المسيح له لخدمة الأمم. لأن ق. بولس كان يرى أن خلاص الأمـم يـتـوقف بدرجة قصوى على قبول الإيمان المسيحي دون رجعة إلى التهود، عالماً ومتيقناً أن الناموس بكل مشتملاته وطقوسه كان قد حكم عليه بالزوال، فأي مزج للإيمان المسيحي باليهودية ـ وكانت هذه بدعة في الكنيسة الأولى ـ سيعرض البشارة بين الأمم إلى التوقف بل إلى الزوال. من هنا يظهر لنا سر الإلحاح العجيب الذي كان يتأجج في قلب ق. بولس ويستشهد بالله على نفسه كيف كان يصلي ويتضرع ويذكر هذا الأمر بلا انقطاع !
ويؤسفنا غاية الأسف أن هذا الأمر فات نهائياً على جميع الشراح و بلا استثناء، فجاء شرحهم لهذا الإلحاح عند ق. بولس كمحاولة مستميتة للخوض في مفهوم الكلمات وحسب ، ولفوا وداروا بلا أي مقصد، حتى بات الشرح مملا مصطنعاً، لا يتناسب قط حقيقة مع حقيقة غيرة ق . بولس وصدق دعـواه وإخلاص نيته واستشهاد بالله على ما في ضميره : أنه يودهم أن يكونوا في إيمانهم بالمسيح غير مديونين بعد للناموس بكل أعماله .
11:1 «لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم » .
صحيح أن ق. بولس لم يكن يعرف من كل الموجودين في روما سوى حوالي ستة عشر شخصاً فقط، فهل كان هذا الشوق لهذا العدد وحسب ؟ ثم أنه يذكر عن الذين يعرفهم أن إيمانهم كان صحيحاً وأن بعضهم كان قبله في المسيح، فهل إلى هؤلاء فقط كان يشتاق أن يمنحهم هبة روحية لثباتهم ؟
في الحقيقة إن ق. بولس هنا إنما كان يخاطب جميع الموجودين في روما الذين سيقرأون والذين سيسمعون، فما هي هذه الهبة ؟ بولس الرسول يتكلم من واقع رسوليته الفريدة الخاصة والمتخصصة للأمم ! ونحن نعلم أن المسيحية التي دخلت روما لم تدخل عن طريق رسول الأمم، أي لم تدخل عـن طـريـق إنـجـيـل بـولـس، إنجيل الغرلة، الإنجيل الذي بلا ناموس ولا سبت ولا ختان. إذاً، فالإيمان المسيحي القائم في روما قائم على أساس إنجيل الختان، إنجيل حفظ الناموس والسبت والختان وعوايد الناموس، الذي لا يصلح ولا يمكن أن يصلح للأمم، الذي يحمل ضرورة التهود قبل قبول المسيح !!
واضح، إذاً، أن هبة بولس الرسولية التي يشتاق بل يلح على الله وعلى الزمن أن تواتيه الفرصة لكي يهبها لمؤمني روما هي الإيمان ببر المسيح بدون ناموس ولا سبت ولا ختان ولا عوايد لليهود، بهذا يمكن أن يثبت إيمانهم ويدوم .
12:1 «أي لنتعرى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعاً إيمانكم وإيماني».
انظر، أيها القارىء، وتعجب على تواضع هذا الرسول ورقته التي بلغت إلى ما هو غير معقول . رسـول يـريـد أن يـتـعـزى بإيمان من يريد أن يبشرهم بإنجيل المسيح ؟؟ ولكن في الحقيقة ليس هذا تـواضـعاً منه ولا رقة بل هو المعقول، عين المعقول ، فالرسول بالكلمات العذبة المهذبة التي تقطر وذا ولطفاً، يخفي نقداً واضحاً لكل ذي بصيرة، فهو يقول : «إيمانكم وإيماني» ؟ هنا الإيمان بالمسيح يعاني في روما أموراً جعلته يختلف عن إيمان رسول الأمم .
واضح من الكلام أن ق. بولس في أدبه ورقته يعدهم بحوار أسماه «تعزية» ينتهي بهم إلى أن يصير إيمـانـهـم هـو إيمان بولس، الذي أخذه من المسيح بإعلان، ومن المسيح أخذ أمراً ملزماً أن يبشر به، «فويل لي إن كنت لا أبشر. » (1كو 9: 16)
فبقدر ما يقدم الـقـديـس بـولـس هنا هذا اللطف وهذا التودد لكي يبلغ إلى تحقيق رسوليته بـالـكـرازة بـإيمان المسيح كما تعلمه من المسيح ، بقدر ما تجده في مواضع أخرى لبلد آخر يكشف النقاب عن سلطان لا يلين لتنفيذ أمر رسالته باعتداد وجبروت : « هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح، ومستعدين لأن ننتقم على كل عصيان، متی كملت طاعتكم . » (2کو 10: 5و6)
فلماذا الرقة في أمر روما !؟ لقد سبق وأن شهد ق. بولس لإيمان أهل روما أنه ينادى به في كل العالم. فهو إيمان بالمسيح يحمل غيرة متقدة وفاعلية ، فهو جدير بأن يشكر الله عليه كثيراً ، وجـديـر بـأن يـقـربـه ق. بولس بلطف أكثر حتى يضع لمساته الأخيرة عليه ، أو بحسب قوله يهبهم هبته الـروحـيـة الرسولية ليصير إيمانهم صالحاً مؤسساً على صخر المسيح ، فلا تزعزعه تعاليم الناس و وصـايـا كفيلة بأن ينقدها الضمير فتُنسى أو لا تستسيغها الروح وتبلوها الأيام فتبلى، وتعصف بها البدع فتطوى ، أما الإيمان بالمسيح فهو كقول المسيح ، على الصخر، صخر الدهور الذي يبقى !!
13:1 «ثم لستُ أريد أن تجهلوا أيها الإخوة أنني مراراً كثيرة قصدت أن آتي إليكم . ومنعت حتى الآن ليكون لي ثمر فيكم أيضاً كما في سائر الأمم» .
ق. بولس يـكـرر أن كرازته في روما كان معمولاً حسابها منذ زمن طويل، ورتب السفر لها مراراً ولـكـن في اللحظة الأخيرة يأتي المنع من فوق ( أنظر شرح الآية 9). وإلى الآن، أي إلى لحظة كتابة الرسالة، فإن النية والقصد موجودان ولكن التنفيذ لم يأت الإذن به من الله .
« ليكون لي ثمر فيكم أيضاً كما في سائر الأمم » :
هنا يكشف النقاب عن القصد القائم أساساً من ذهابه إلى روما ، وهو مباشرة الكرازة بإنجيله الخاص بالأمم، أي الـتـبـشـير بالإيمان ببر الله الذي ظهر بدون ناموس وهو مشهود له من الناموس والأنـبـيـاء، الـبـر المجاني بالإيمان بيسوع المسيح ابن الله الذي بذله الله كفارة لخطايا العالم يهوداً وأمماً، عوض الـبـر بالناموس الذي لم يستطع أن يحصل عليه أحد، فأغلق على الجميع في العصيان لكي يرحم الله الجميع بالإيمان . وهذا أسماه ق. بولس: «ليكون لي ثمر فيكم»، أي ثمر الكرازة بإنجيل الغزلة الخاص بالأمم ، وهو الإيمان بالمسيح بدون ناموس كما حصل في سائر الأمم .
14:1 « إني مديون لليونانيين والبرابرة للحكماء والجهلاء».
يلاحظ القارىء أن ق. بولس احتسب كرازته بإنجيله بين الأمم وحصوله على ثمر فيهم هو لحساب المسيح، فالمسيح وكله على وكالة وأعطاه نعمة ورسالة وآزره بمواهب فوق العادة، وهكذا أصبحت بشارته بين كافة الوثنيين بكافة ألوانهم متوجبة عليه توجيباً : «فويل لي إن كنت لا أبشر» (1كو 9: 16). هو دين عليه لكافة الأمم يصير هما عليه إن لم يصف حسابه معهم بغاية ما يستطيع ، ، كما يقول : « أنفق وأنفق لأجل أنفسكم » ( 2کو 12: 15)، حيث ” أنفق “ الأولى تعني صرف كل ما يملك، صحة وسهراً ومالاً وترحالاً ، و” أنفق “ الثانية تعني يموت كل يوم ميتات كـثـيـرة، وهو في كل هذا بقدر ما ينفق وينفق يزداد حساب رصيده لدى المسيح مجداً مذخراً له في السماء. لذلك نسمعه في آخر أيامه وهو على ميعاد مع سيف نيرون يقول : «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي ، حفظت الإيمان الحساب المسيح)، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل . » ( 2تي ٤ 4: 7و8)
أما أن ق. بولس يـذكـر تـعـدد الجنسيات وتعدد القامات الثقافية وامتياز الحكمة البشرية أو غيابها، فهذا لكي يوضح أن الإنجيل الذي يبشر به لا يعتمد على شيء من مثل هذه الامتيازات الـبـشـريـة أو غيابه ، لأنه إنجيل الحياة الجديدة للإنسان الذي يعطي طبيعة جديدة روحية لكل من يؤمن، لا فرق ، مع يعم ومواهب روحية لا تعتمد على استعداد المواهب الطبيعية بل ترقى بها جميعاً : « فـانـظـروا دعـوتـكـم أيها الإخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كـثـيـرون شرفاء، بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود . لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه . » (1کو 1: 26-29)
15:1 «فهكذا ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضاً» .
الكلام هنا محصور في امتياز ما هو لبولس عن كل ما هو للآخرين : رسل وأنبياء ومعلمين ، فما هو هذا الامـتـيـاز الخاص بـبولس إلا إنجيل الغرلة !!! الذي لا يقوم على أعمال الناموس ولا على السعي لنوال البر الذي بالناموس، بل البر المجاني، بر الله الخاص الموهوب للإنسان بالإيمان بيسوع المسيح: « الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا» (رو 4: 25). هذا ما بشر به ق . بولس في جميع البلاد، وأسس عليه الكنائس، وحارب من أجله المحاربة الحسنة حتى وظد البر بالإيمان فوق البر بالناموس وزاد وقوي حتى ألغى هذا الأخير من حساب ملكوت الله !
ويلاحظ القارىء هنا أن ق. بولس رفع الغطاء عن عملية الذهاب إلى رومية بدون مواربة و بدون اسـتـخـدام الألفاظ المعسولة : « لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعاً إيمانكم وإيماني» ، وجعلها صريحة واضحة وضوح الشمس في الضحى: «مستعد لتبشيركم أنتم أيضاً » . وما معنى هذا؟ إلا أن إيمانهم يحتاج إلى مراجعة جذرية، بل وتعديل ، بل وإحلال وإبدال ما عتق بما جذ: ناموس بنعمة ، وخدمة حرف بروح، وأعمال بإيمان ، وبر كالسراب ؛ إلى بر يدوم ما دامت الشمس و بعد أن تزول الشمس !
هذا هو الذي لبولس، هذا هو إنجيله .
و يلاحظ القارىء أن كلمة «تـبـشـيـركـم» هي الـفـعـل مـن اسـم الإنجيل أي البشارة . εὐαγγελίσασθαι
وهنا يبدأ ق . بولس يفصح عن إنجيله الذي يبشر به ويكشف قوته . فما هو إنجيل المسيح عند ق. بولس ؟
[ 16:1 و17 ] «إنجيل المسيح» بحسب القديس بولس الرسول
قلب الرسالة
16:1 «لأني لست أسـتـحـي بـإنـجـيـل المسيح لأنه قوة الله للخلاص ، لكل من يؤمن ، لليهودي أولا ثم لليوناني».
«لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق
الخاطيء فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء
بمجد أبيه مع الملائكة القديسين . » (مر 8: 38)
«لكنني لست أخجل لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه
قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم . » ( 2تي 1: 12)
«لست أستحي بإنجيل المسيح » :
المسألة ليست خجلاً نفسياً وكأننا نشعر بالنقص حينما نبشر بالمسيح ، ولكن الأمر يتعلق بشهادة هي بحد ذاتها شهادة لمصدر قوة أعلى من كل العالم ، قوة الله لخلاص الإنسان . فنحن نشهد لقوة تحمل الحياة للإنسان بل تحمل له قوة الخلاص نفسها . فكيف نستحي ونحن نبشر بقوة الخلاص ؟ وافتخار ق . بولس بأنه لا يستحي راجع إلى أنه يستمد قوة من الإنجيل الذي هو مصدر قوة الخلاص والحياة.
والـقـديـس بـولـس يضع هنا تفرقة مؤقتة بين الإنجيل وعمله بالإنجيل . فالقديس بولس يفتخر بالإنجيل باعتباره هو بحد ذاته قوة الله للخلاص، تلك القوة التي يجب أن نرفعها فوق مستوى أفق حـيـاتـنـا ومـوتـنـا. فالقديس بولس أهين مئات المرات في كل مدينة وكنيسة، فكانت كرازته كلها جـروحـاً ودمـوعـاً، ولكنه كان يفتخر بإنجيل الله لأنه كان يستمد منه القوة والشفاء والإحساس الـدائـم أنـه أعـظـم من منتصر. القديس بولس كان يستحي ويخجل من مرضه ولكنه لم يستح من جروح الرب وصليبه أبدأ. القديس بولس مات، ولكن بقيت قوة التي كانت فيه والتي شددته حتى أكمل سعيه، وهي باقية في أسفاره يغتذي منها العالم ، قوة الله للخلاص أقوى من حياتنا ومـوتـنـا وأقوى من كل العالم ، هكذا عرفها ق. بولس وتعايش معها ، لذلك لم يستج بإنجيل الله . والإنجيل هو قوة الله ليس بمعجزاته ، بل باستعلان الله الذي فيه، واستعلان قوته العاملة في كلماته وفي تسليمه للإنسان سر الحياة الأبدية في قوة الخلاص الحاضر واستعلانها الكامل في الحياة الأخرى . أما الخلاص الذي هو المجال الذي تظهر فيه قوة الله فسيكون موضوع الرسالة كلها . ولـكـن كـلـمـة نـقـولهـا للقارىء العزيز: إن كانت تعوزك قوة الله ، فتتلمذ على إنجيله ، اجعله درسك الليل والنهار: «طوبى للإنسان الذي يسمع لي ساهراً كل يوم . » ( أم 8: 34 )
القديس بولس يقول عن اختبار إن الكرازة بالمسيح مصلوباً تثير عند الحكماء من أهل العالم اشمئزازاً، كيف يكون مخلصاً من حكم عليه بلعنة الصليب ؟ والذي لم يستطع أن يفدي نفسه كـيـف يـفـدي الآخرين ؟ وعثرة الصليب تبدأ من اليهود وقد بدأت ببولس وجعلته يرتكب حماقات ضد المسيح والمسيحيين . أما عند الحكماء ـ وروما مليئة باليهود والحكماء ـ فالصليب عندهم جهالة: «لأنه إذ كان الـعـالـم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة، استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة» (1کو 1: 21)، «فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله . » ( 1کو 1: 18)
وق . بولس اعتبر حمل الصليب بمثابة حمل عار المسيح !! طبعاً العار الموصل إلى المجد! « فلنخرج إذا إليه خارج المحلة حاملين عاره » ( عب 13: 13). ولكن في المقابل السري غير المنظور، نجد أن الـصـلـيـب عـنـد الـذين حملوا الصليب قد أعطاهم قوة المسيح : « ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما للمدعوين ، يهوداً ويونانيين ، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله . » (1کو 1: 23)
بهذا المعنى تماماً يكتب ق . بولس لأهل رومية وفيهم اليهود وفيهم الحكماء ويقول : « لست أستحي بإنجيل المسيح» وهو يضمر الافتخار.
«لأنه قوة الله للخلاص»:
لينتبه القارىء، فإنجيل المسيح ـ أساساً ـ ليس كلاماً للمعرفة ولا استعلاناً لأسرار الله ، ولا تعليماً للتهذيب والتقويم ، فهذه إن كانت واردة ولكنها ليست الأساس، فالأساس هو أن الإنجيل قوة δύναμις، قوة الله ، تعمل في الـذي يـؤمـن ، تـعـمـل على كل المستويات في الفكر والوعي المسيحي والإرادة والـنـفـس والشعور، حتى في الجسد. لأن الإنجيل قائم على عملية تغيير كبرى بواسطة المسيح جازها المسيح لحسابنا ، من موت لحياة، من حالة خطيئة ولعنة إلى حالة بر ومصالحة ، هذا التغيير هو قوة عمل الله الخاص بنعمة خاصة تؤازر الذين يؤمنون .
وقوة الله للخلاص المذخرة في إنجيل المسيح تعمل على مستويين ، مستوى الذي يؤمن ومستوى الذي لا يؤمن ، فرفض الإنجيل هو رفض حياة أو رفض « القوة المخلصة المحيية» للإنسان : «لأننا رائحة المسيح الذكية الله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة . » (2کو 2: 15و16)
ولكي يأخذ القارىء صورة عملية حية لقوة الخلاص في إنجيل المسيح والإيمان به، فليعلم أن قوة الخلاص في الإنجيل تتركز بصورة واضحة في قوة قيامة الرب من بين الأموات . هذه القوة التي أقامت المسيح من الموت هي بعينها قوة الخلاص في الإنجيل، فهي موضوع البشارة المفرحة التي كـان يـطلبها الإنسان منذ أن سقط آدم وهي الآن ملء يديك ، بل وقلبك. ولكن لا تطلب لها علامات ولا تنتظر أنها تظهر لك أو لغيرك ، فالعامل للخلاص في هذه القوة هو الروح القدس وهو روح الخلاص أي روح الحياة الجديدة للإنسان ، ولا يحسه إلا من بدأ يحيا الحياة الجديدة ، أي من يؤمن بالخلاص، أي مـن يـؤمـن أولاً بالرب يسوع المسيح، وثانياً أنه مات من أجل خطايانا وقام لتبريرنا وأنه أعطانا الحياة الأبدية .
« للخلاص» :
لـيـس هـنـا مجال التكلم عن الخلاص لأنه يشمل الفداء والغفران والمصالحة ونوال التبني للحياة الأبدية، التي أكملها المسيح بذبيحة نفسه على الصليب، والتبرير والقيامة، التي هي بحد ذاتـهـا تعلن عن بر الله الذي صار للإنسان بالإيمان بالمسيح . فالخلاص هو ثمرة قوة عمل برا المستودعة في الإيمان بالمسيح وما عمله المسيح في الإنجيل !
والخلاص دخل العالم لما دخل المسيح بدمه إلى الأقداس العليا في السموات وتراءى أمام الله لأجلنا، فـوجـد فـداء أبـديـا، لا يزال المسيح يكمله لنا في السموات بالشفاعة ، ومؤازرة الروح القدس، حيث سيظل الخلاص يتكامل فعله حتى إلى منتهى الدهر. فالخلاص قرين حياة الإنسان على الأرض، كـل مـن يـؤمـن بـالمسيح ، وبآن واحـد هـو قـرين حياة الدهر الآتي بالرجاء وسبق ذوق : «لأن الذين استُنيروا مرة ( المعمودية) وذاقوا الموهبة السماوية (بر الله والخلاص) وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات δυνάμεις الدهر الآتي… » (عب 6: 5و6). فـقـوات الـدهر الآتـي هـي مـفـاعـيـل عمل الخلاص الذي أكمله الله في المسيح مستعلنة على مستوى الروح في السموات .
وكلمة الخلاص عند ق . بولس غنية وخصبة وسوف نوفيها حقها أولا بأول كلما صادفتنا ، لأن لها في كل مجال معنى، لها في الأرض معنى ولها في السموات معنى، وفي كل موقف قوة. ويكفي أن يكون الإنجيل برمته عند ق. بولس هو قوة الله للخلاص !! والخلاص رسالة الحياة الأبدية هنا وهناك .
« لكل من يؤمن، لليهودي أولا ثم لليوناني» :
هذا الخلاص الذي هو ثمرة بر الله المجاني استعلن باستعلان بر الله بواسطة المسيح في مقابل : إيمان الإنسان، حيث الإيمان لا يعتمد على مؤهلات الإنسان ولا ماضيه ، فكل من يؤمن يخلص : «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك» (أع 16: 31)، «لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص. » (رو 10: 10 )
أما قوله : « لليهودي أولاً ثم لليوناني»، فهذا الترتيب ليس من عند الله ولكن بمقتضى تاريخ الخلاص نفسه، لأنه عُرض أولاً لليهود ثم عن طريق اليهود قدم للأمم. ولكن ليس الأمر مسألة تاریخ فقط بحد ذاته فهو تاريخ الاختيار، والاختيار لازمه ناموس فيما بعد، والناموس انتهى بالمسيح. لذلك لولا الناموس ما تمهد طريق الخلاص، فهو الذي رفع صراخ الإنسان المجاهد ضد الخـطـيـة بـصـوت المغلوب والمطالب بالرحمة ، فسمع الرب وأتى ببره من السماء. وحينما ازدادت الخطية جداً بحصار الناموس ، زاد سلطان النعمة وامتد وتجاوز الناموس ليشمل الذين بلا ناموس .
وحـيـنـمـا يقول ق. بولس : « لكل من يؤمن » دون اعتبار لأية مواهب أو امتيازات من جهة الإنسان، فهنا يرتفع ضمناً بامتياز عمل الله للخلاص بصورة رائعة فوق هامات أطوار الناس ومـقـدراتـهـم وامـتـيـازاتهم بما في ذلك الناموس ، إذ جعل خلاص الله أقوى من أن تحده قوة أو ضعف من جهة الإنسان أو يحده زمان أو مكان أو جنس، فهو يخترق الزمان بما احتوى ليستقر عمله في الأبدية ! لذلك فعظمة الخلاص وجلاله وشموله وتفوقه سيستعلن لنا فوق بالأكثر! فالخلاص عمل آت من السماء أصلاً بقوة فائقة من السماء ليسود على الإنسان والخطية والزمن ويصارع كل معوقات انطلاق الإنسان نحو الله لكي يستقر في الحياة الأبدية في حضرة الله !
وعـمـل الخلاص وإن رئي على مستوى الواقع الزمني الآن حينما نرى أنفسنا وقد انعتقنا من ماضينا ومن ضعفنا ولبسنا صورة الإنسان الجديد، فما هذا إلا مقدمة، فالخلاص سوف يرى بأجمل بهائه وأعظم قدراته، عند الوقوف في الدينونة العتيدة، لنرى ختم الخلاص الذي على جباهنا وقـد ألهـلـنـا للوقوف عن يمين الله في حمى المسيح، لنسمع نطق البركة ونرى الميراث المعد!
وكـل مـن يساوره شك في فعل الخلاص وعمل قوته ومواعيده ، عليه أن يتحسس إيمانه ، فحيثما يكون الإيمان، يكون الخلاص، فإيماننا هو الوعاء المقدس الذي نحمل فيه خلاصنا وكلما زينا إيماننا بالحب والبذل والاتضاع ، تراءى لنا الخلاص في أبهج صورة ، سلام وتسبيح وهتاف بالمجد لحضرة المسيح في القلب .
فالقديس بولس لا يتكلم عن نظريات بل يحكي عن واقع يعيشه ومسيح يراه وحياة أبدية تدب في أعضائه .
17:1 «لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا».
هذه الآية هي مفتاح الرسالة برمتها ، بل مفتاح لاهوت ق . بولس كله . لأن بر الله المعلن من السماء في شخص ابـنـه يـسـوع المسيح ميتاً ومقاماً ومرفوعاً فوق أعلى السموات من أجل خلاص الإنسان وحياته ؛ يشكل هيكل الإنجيل بل ويفرض نفسه فوق كل عنوان وكل آية .
ما هو بر الله ؟
إن أكـثـر الـتـعـاريف التي توضح ما هو بر الله وكيف يتم بالنسبة للإنسان هو نفس التعريف بـالخلق. فالله خلق العالم من لا شيء. هكذا البر، فالله أراد أن يبرر الإنسان من لا شيء، إنه في الـواقـع الـروحـي خـلـقـة جـديدة . فإن كان الخلق اعتمد أولاً وأخيراً على إرادة الله وعلمه وحكمته وتـدبـيـره وحبه، لإيجاد الحياة والعالم من لا شيء وعلى صورة حسنة ، وخص الإنسان بصورة حسنة جداً، هكذا التبرير اعتمد اعتماداً كليا على إرادة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وحبه لإيجاد أو لخلق الأنسان بالروح على صورة حسنة جدا فوق العادة .
ولكن بالرغم من لباقة هذا التعريف أي بالنسبة للخلق، فإن تبرير الإنسان يفوق عملية الخلق عـمـقـا وهـدفاً !! فكون الله يخلق من لا شيء أرضاً وسماء و بحراً وطيراً وحيوانات مآلها إلى الفناء شيء، وكون الله يـبـرر إنـسـانـا ـ ليـس من لا شيء ـ بل من حالة سلبية فهو واقع تحت الخطية ومستعبد للفساد ـ ليرفعه إلى رتبة الحياة معه إلى الأبد، فهذا يفوق معنى خلق العالم من لا شيء آلاف المرات !!
هنا أصبح يلزم أولاً، لكي يبرر الله الإنسان، أن يغسله ويطهره غسلاً وتطهيراً جذرياً شديداً يشمل كل كيانه حتى يليق بالتبرير: « وهكذا كان أناس منكم لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع و بروح إلهنا . » (1 كو 6: 11)
فـالـبـر سـواء في العهد القديم أو الجديد هو «برا الله » وليس لإنسان ما في الوجود بر، لا بعمله ولا بتقواه ولا بتتميمه وصايا الله مهما كان هذا التتميم صحيحاً وحرفياً. ولكن الله هو الذي يبرر الإنسان من واقع بره الخاص فيتبرر الإنسان أو يصير باراً، ولكن ببر الله . أما بر الله فهو اصطلاح سهل للغاية، فهو تعبير قضائي أو شرعي معناه أن الله عادل ورحيم معاً ، و يعبر عن هذا الالتقاء (مز 85: 10) بالقول :
+ «هل إلى الدهر تسخط علينا ؟
هل تطيل غضبك إلى دور قدور؟
ألا تعود أنت فتحيينا فيفرح بك شعبك
أرنا يا رب رحمتك وأعطنا خلاصك
… الرحمة والحق التقيا البر والسلام تلاثما
الحق من الأرض ينبت والبر من السماء يطلع . » (مز85: 5و6 و7 و10و11)
هنا «الرحمة والحق» في الله وعند الله هما البرتماماً ، فالرحمة لا تستقر إلا على الحق، والحق هـو الـعـدل، والرحمة دائماً تشق طريقها وسط الصخر وفي أحلك الظروف حتماً تنتصر لأنها مـسـرة الله، فإذا اتفقت الرحمة مع الحق نتج البر، والبر معه السلام حتماً!! «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله . » ( رو 5: 1)
ولكن كيف تستقر الرحمة على الحق أو العدل بالنسبة للإنسان وهو مملوء باطلاً وخطية؟ هذا تم بصليب المسيح. فالفداء الذي أكمله المسيح رفع عن الإنسان الباطل والخطية وأوقفه أمام الله أي أمام الحق ( العدل ) بلا لوم !!
وهـكـذا تـأهـل الإنسان «بالعدل» أن ينال الرحمة من الله ، وهكذا انسكب البر: البر من السماء، والحق أي العدل أشرق في الأرض، حينما تجسد المسيح على الأرض وأكمل الفداء فتبرأ الإنسان بالعدل ! فعدل الله صارم لا يستطيع إنسان أو ملاك أن ينجو إن هو وقع تحت حكم عدل الله . ويحكي أيوب عن ذلك فيقول :
+ « هوذا قديسوه لا يأتمنهم والسموات غير طاهرة بعينيه . » ( أي 15: 10)
+ « هوذا عبيده لا يأتمنهم وإلى ملائكته ينسب حماقة . » ( أي 4: 18)
وأمور عدل الله ( أي حق الله ) ضرورة لأنها هي الموازين التي تقوم عليها أعمال خلقته ـ لأنها كلها تنطق بحق الله ـ وهي لا تقبل الخطأ قط فهي دائماً أبدأ في الصحيح المطلق الذي لا يستطيع الإنسان أن يعرفه قط، لأن كل عدل الإنسان وقياساته وموازينه لا يمكن بل ومن المستحيل أن تبلغ الصحيح المطلق مهما تقدم العلم و بلغت التكنولوجيا أقصاها ، فلا بد من «خطأ الصفر» zero error ولا بد من التصحيح إذا لزمت الصحة . أما عدل الله فهو الصحيح المطلق ، فمن ذا يستطيع أن يقف أمامه ؟
ولكن الله يتدخل برحمته ـ وهنا يظهر بر الله ـ فيرفع عمن يرفع عنه أحكام عدله و يبرىء من يبرىء: «أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف . » ( رو 9: 15)
ولـكـن الله لا يـرحـم جـزافـاً ولا يتراءف جزافاً، ولكن لا بد أن يكون الإنسان قد استوفى كل اعتبارات عدل الله ! فكيف يكون ذلك ؟ وهل ممكن ؟ بل هذا هو المستحيل بعينه ، فكيف تصرف الله إزاء المسـتـحـيـل لدى الإنسان؟ فالآن لكي يكون عند الله رصيد ضخم من رحمته يخفف به أو يعفو بـه عـن أحـكـام عـدلـه الصارمة، وهي صارمة جداً لأنها لا بد أن تستوفي الحق، قدم ابنه لـيـسـتـوفي فيه أحكام عدله التي وقع الإنسان تحت صرامتها . بمعنى أن الله تولى بنفسه أن يرفع عن الإنسان لعنة الخطية بشرط أن يكون الإنسان نفسه هو الذي يتلقى صرامة عدل الله . فلأن الإنسان لا يقوى على صرامة عدل الله تجسّد ابن الله ، أي أخذ جسد الإنسان «ككل » وأكمل فيه عدل الله بـقـبـول اللـعـنـة وجزاء الموت عن الخطية. وهكذا وقف الإنسان في المسيح مبرءاً أمام عدل الله، لائقاً لنوال بر الله لأنه صار بلا لوم !! فمنذ أن مات الابن على الصليب تم العدل فبدأت الرحمة تفتخر على العدل وتتباهى، ونجا الإنسان من حكم الموت وتبرر الفاجر!!
وهـكـذا ظهـر بر الله على الأرض يوم أن مات الابن على الصليب بعد أن أكمل عدل الله وقام فتبرر الإنسان في عيني الله .
هذا هو بر الله، وهكذا تبرر الإنسان .
يوجد مفهومان لكلمة « البر» :
1- فـالـبـر الذي من الله المعرف بالألف واللام، هو الذي يناله الإنسان بالإيمان بدون ناموس و بالتالي بدون أعمال الناموس :
« بر الله بدون الناموس مشهوداً له من الناموس …» (رو 3: 21)
« إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس. » ( رو 3: 28)
وهو نفسه البر المعرف بالألف واللام الذي جاء في آية حبقوق النبي : « والبار بإيمانه يحيا» ( حب 2: 4)، التي اسـتـشـهـد بها ق. بولس. وهذا يعتبر براً فائقاً عن قدرات الإنسان وطبيعته وفهمه . تماماً كما وضعها داود النبي واستشهد بها ق. بولس : « طوبی لرجل لا يحسب له الرب خطية . » (مز 32: 2)
2ـ البر الأخلاقي وهذا هو البر الذي يكتسبه الإنسان بعمله ، أي بعمل الناموس، وهو البر العادي الذي في متناول الإنسان ، لأنه بر مصنوع بقدرة الإنسان . هذا البر يستحيل أن يكون بدون عمل وإلا لا يكون برأ بل كذباً وادعاء .
وهـكـذا نرى أن بر الله لا يكون بعمل الإنسان ؛ بل بالإيمان بالله والمسيح، فهو بر إلهي بعمل الله، أما بر الإنسان فهو يصنع بالعمل الإنساني والجهد الإنساني وهو بر أخلاقي. في عين العالم أو الفلاسفة، فإن البر المعترف به عندهم هو بر الإنسان الذي يكتسبه الإنسان بجهده وفضائله المـعـمـولـة، أما بر الله الذي يناله الإنسان بدون ناموس و بدون أي عمل ( أي بصليب ربنا يسوع المسيح) فهو عند العالم والفلاسفة خرافة وجهالة كما أورده ق . بولس (1کو 1: 23).
والآن ، فإن طاعة الإنسان للناموس واجتهاده بالأعمال المنصوص عنها فيه هو بر الإنسان . ومـعـيـارهـا الـنـامـوسي: «اعـمـل وأنت تحيا»، أو كما قالها موسى واستشهد بها ق. بولس : « الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها» (رو 10: 5). وهذه لا تحتاج إلى رؤية أو إيمان أو استعلان فالذي يعملها يحيا بها. أما البر الذي من الله و بلا ناموس ولا أعمال فهو بر فائق، ليس على قدرات الإنسان وأعـمـالـه فقط؛ بل فائق على العقل البشري ، ولا يمكن الحصول على فهمه إلا بانفتاح الذهن بالإيمان بالاستعلان كما في كل تعاليم ق. بولس والإنجيل : « أما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر ( على الصليب) فإيمانه يحسب له برا . » ( رو 4: 5 )
أما لماذا يـكـون بـر الله فائقاً على العقل والقدرات البشرية ، فلأنه قائم أولاً على عمل الفداء الذي أكمله المسيح من أجل الإنسان ليوقفه موقف البراءة، أو كما يقول ق. بولس «بلا لوم » أمام الله، وهذا مستحيل أن يدركه الإنسان لا بالعمل ولا بالفكر، ثم نوال رحمة الله التي تفوق كل إمـكـانـيـات الإنسان وتـصـوراته لأنها فوق استحقاقه . لذلك يقول الرب عنها إني أرحم من أرحم وأتـراءف على من أتراءف ( خر 33: 19). هذا هو مفتاح بر الله ـ ونحن يستحيل أن ننال رحمة إلا بالمسيح، والرحمة يستحيل على الإنسان أن يفهمها أو يحشها إلا إذا أخذها . ونحن أخذناها مجاناً بالمسيح .
أما معيـار بـر الله فهو « الـبـر يـحـيي» : « البار بالإيمان يحيا » ، وما معنى يحيا ؟ هل يأكل ويشرب وينام ؟ هل تطول أيامه على الأرض ؟ بل يعني أنه يعمل أعمال البر، الأعمال التي تشهد لله ولبر الله ، أعمال الصلاح التي تشهد لصلاح الله : « لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات . » (مت 5: 16)
فبر الإنسان : « اعمل وأنت تحيا»، أما بر الله : «آمن لتنال بر الله فتعمل» ، في الأولى اعمل أولاً وفي الثانية آمن أولاً. فمن جهة بر الإنسان : اعمل وإلا تموت، «من خالف ناموس موسى … يموت بدون رأفة » ( عب 10: 28). فالعمل هنا دين ، وهو عمل إنسان.
أما من جهة بر الله : فالذي يؤمن يتبرر أمام الله فيحيا ويعمل أعمال الله ، فالعمل هنا نعمة وهو عمل الله : «نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها . » ( أف 2: 10)
علماً بأنه يستحيل الانتقال من بر الإنسان ـ أي البر بالأعمال والناموس ـ إلى بر الله الذي بالإيمان أو الخلط بينهما: «لأن بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه » ( رو 3: 20)؛ ولكن الانتقال من بر الله إلى الأعمال حتمي، إذ يستحيل على من يؤمن ويتبرر أن لا يعمل .
كذلك يلزم أن نفهم ونعي ونتحقق أن هناك نوعين من الأعمال :
1 ـ أعـمـال يـعـمـلها الإنسان يظن أنها تبرره أمام الله : وهي تكون بطبيعتها مرة و بضيق يتممها، وتحتاج إلى جهد شديد وعزيمة مستمرة متكررة وإلا يتراخي الإنسان وتهبط روحه، وقل أن يوجد فيها العزاء والراحة ، بل كلما يزداد جهاده ، يزداد إحساسه بالعوز والفقر.
2- أعمال يعملها الإنسان بحرارة إيمانه و بشدة فرحه وتعلقه بالمسيح و بإحساسه أن المسيح غفر خطاياه على الصليب بدون استحقاق منه ، وأن المسيح أحبه ودعاه واختاره بنعمته ليس لشيء صالح فيه ؛ بل بمقتضى صلاحه هو وكثمرة لحبه الذي كلفه سفك دمه من أجله: «أحـبـنـي وأسلم نفسه لأجلي» (غل 2: 20). وهذه الأعمال تؤازرها النعمة ، لذلك تـكـون أعـمـالاً صادقة تزداد ولا تنقص ، تزداد كل يوم حرارة وإصراراً وعزيمة ، ويؤتى بها المستحيلات، في سهر، في صوم متواصل ، في خدمة بلا ملل، في تواضع حقيقي، في بذل بلا عقل و بلا حدود . وكلما عمل الإنسان وجاهد يزداد فرحاً لعمل أكـثـر وجهاد أكثر ويحس في أعماق روحه أن الله بنعمته هو الذي يعمل هذه الأعمال : «لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا . » (في 2: 13)
وهذا النوع من الأعمال المؤازرة بالنعمة تؤكده خبرة آباء البرية الأوائل :
[ إن الروح القدس يجعل عمل الله للإنسان أحلى من العسل ومن شهد العسل، سواء كان تعب الأصـوام أو سهر الليالي أو السكون أو خدمة الآخرين أو الصدقة، فإن كل أمور الله تصير له حلوة . ] ( أنبا مقار ـ عظة 57)
[وأنـا أعـلـمـكـم عـملاً آخر يثبت الإنسان من بدايته إلى نهايته ، وهو أن يحب الله من كل نفسه ومن كل قلبه ومن كل نيته ويتعبد له ، وعند ذلك يعطيه الله قوة عظيمة وفرحاً فتحلو له جميع أعمال الله، وكل أتعاب الجسد أيضاً والهذيذ والسهر وحمل نير الرب يصير عليه خفيفاً حلواً ..
فإذا نلتم يا أولادي هذه المواهب الفاضلة، فلا تظنوا أنها من أعمالكم؛ بل هي قوة مقدسة مشتركة معكم في جميع أعمالكم . ] ( أنبا أنطونيوس ـ رسالة 18 و6)
وإن كان الخلاص هو قوة الله المعلنة بالمسيح في الإنجيل، فبر الله هو أساس قوة الخلاص المعلن والفعال في الإنجيل وبالإنجيل، فبر الله ليس صفة الله بل قوة استعلنت في المسيح يسوع «بإقامته من الأموات» لتصير هذه القوة في متناول الإنسان، كل من يؤمن بالقيامة الأموات، مشتركاً بل متحداً مع المسيح كما في موته كذلك في قيامته بالإيمان .
فالإنجيل في نظر ق. بولس هو قوة الله للخلاص، ونوال هذه القوة يتم بالخضوع تحت قوة الإنجيل الذي يكون بالإيمان!! كذلك بر الله هو قوة الله للخلاص المعلن من السماء في المسبح ميتاً ومقاماً، فالخضوع تحت قوة موت المسيح وقيامته ـ الذي يكون بالعماد ـ هو التبرير المؤدي إلى الخلاص. « وهكذا كان أناس منكم . لكن اغتسلتم ( الإيمان + المعمودية ) بل تـقـدسـتـم (بالروح القدس) بل تبررتم ( نلتم بر الله بالخلاص) باسم الرب يسوع و بروح إلهنا . » (1كو 6: 11)
نفهم من هذا أن الإيمان هو نوال قوة الخلاص بالإنجيل إذا خضعنا لقوة الإنجيل ، فالإيمان بإنجيل المسيح هو ـ بحد ذاته ـ قوة للخلاص، إذا انتبهنا إلى أن الإيمان فعل خضوع للإنجيل. كذلك بر الله الذي في المسيح المذخر في موته وقيامته، فإذا بلغنا بقوة الإيمان إلى الخضوع لقوة عمل الخلاص الذي في موت الرب وقيامته الذي هو أصلاً لنا ومن أجلنا، نلنا قوة موت المسيح وقوة قيامته وبالتالي بر الله. «لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله» (رو 10: 3). فإذا خضعنا نحن لبر الله الذي استعلن في موت المسيح نلنا غاية بر الله الذي في المسيح وهو العتق من الخطية، وإذا خضعنا لقوة بر الله الذي استعلن في قيامته من الأموات نلنا التبرير للحياة الأبدية .
هذا هو بر الله المعلن في إنجيل المسيح: قوة للغفران في موت المسيح، وقوة للحياة في قيامة المسيح، ننالهما بالخضوع الإيماني الفعلي فتحسب أننا متنا مع المسيح وقمنا مع المسيح بقوة بر الله المجاني الممنوح لنا بالإيمان !
والـقـديـس بـولـس يسمي الخضوع لبر الله ـ سواء في موت المسيح أو قيامته ـ بالعبودية للبر: « أنتم عبيد للذي تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر، فشكراً الله أنكم كنتم عبيداً للخطية وإذ أعـتـقـتـم من الخطية (في موت المسيح ) صرتم عبيداً للبر، … هكذا الآن قدموا أعضاء كم عبيداً للبر للقداسة» (رو 6: 16و18 و19). لاحظ هنا أيها القارىء العزيز أنه بعد أن ننال البر يتحتم أن نعمل أعمال البر.
والـذي نـرجـوه مـن القارىء أن ينتبه مرة أخرى أن بر الله هو من طبيعة الله، فهو قوة تسود على كل من يقبلها ويخضع لها . والله قدم لنا بره الخاص في موت المسيح وقيامته كقوة ذات سيادة، إذا خضعنا لها بالروح من القلب سادت علينا وملكتنا . وحينئذ نحصل على بر الله الذي في موت المسيح، وهـو غـفـران الخطايا المجاني، ونحصل على بر الله الذي في قيامة المسيح، وهو القيامة للحياة الأبدية، وكأننا متنا مع المسيح وقمنا مع المسيح ، لنحيا الله!
بهذا نفهم أن المسيح صار لنا واسطة لنوال بر الله . إذا قبلنا المسيح قبلنا فيه بر الله بالضرورة :
+ « ومنـه أنـتـم بـالمسـيـح يـسـوع الذي صار لـنـا حـكـمـة مـن الله وبرأ وقداسة وفداء . » (1کو 1: 30)
+ «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه . » (2کو 5: 21)
فإذا كان الإنجيل الذي يكرز به ق. بولس يحمل قوة بر الله ، إذا يكون بر الله قد انفتح على العالم كله، يهوداً وأمماً، كما يقول ق. بولس ( 1کو 1: 23).
«من إيمان لا يمان»: ἐκ πίστεως εἰς πίστιν
واضح هنا روح الحركة والامتداد سواء في الذي يؤمن ، فكل إيمان يبلغه يدفعه كقوة إلى إيمان أعلى وأعـمـق: «ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد ἀπὸ δόξης εἰς δόξαν كما من الرب الروح » ( 2کو 3: 18)، «لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشيء لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً » ( 2كو 4: 17)؛ أو تكون الحركة والامتداد في الإيمان نفسه إذ ينتقل الإيمان من مستوى إلى مستوى أعلى وأعمق على وزن : « الروح يفحص كل شيء أعماق الله» (1كو 2: 10)، أي مـن عـمـق إلى عـمـق . وواضح أن تاريخ الخلاص في الكنيسة يرتقي ويمتد ويزداد وضوحاً وصفاء من جيل إلى جيل. وبالنهاية يكون القصد أن حركة الإيمان لن تنقطع حتى تبلغ غايتها حتى إلى ملء الخليقة الجديدة .
ولـكـن الـذي يتحدد أمام ذهننا من هذه الآية أن «بر الله» في إنجيل المسيح ينحصر إعلانه واستعلانه في الإنجيل بالإيمان ومزيد من الإيمان . وبلمحة خاطفة ملهمة استطاع ق . بولس أن يجد لهذا المبدأ معياراً مختصراً ذا قوة واستضاءة من نبوة حبقوق : « والبار بإيمانه يحيا » ( حب 4: 2 ). ولكن هذا التعبير النبوي لا يتلاءم ومقصد ق . بولس تماماً من البر، لأنه معروف أنه «ليس بار ولا واحد» (رو 3: 10)، ولـيـس لـلإنـسـان بـر ذاتي. وقد جاءت في حبقوق : « والبار بإيمانه يحيا » ، ولـكـن تـركـيـز ق. بولس هو على البر الذي من الله ذاته ، وليس على البار ولا على بر البار. فكأن ق. بولس يـقـول بمـعـيـار جـديـد بالإنجيل بالمقابل لحبقوق : «إن المؤمن ببر الله يحيا»، وهذا هو الإنجيل حقاً وفعلاً.
بلوغ حالة العالم حد الغضب مما استوجب تدخل بر الله سواء عند الأمم أو عند اليهود سيان
(18:1 – 20:3) والكل أعوزهم بر الله
تمهید
عاملان أساسيان كانا يتحكمان في الخط الفكري اللاهوتي عند ق. بولس، جمعا عنده رؤية ، الـعـالـم في بؤرة واحدة يراها من بعيد ومن قريب ويتحاور معها ، وهما أولا أنه يهودي أصلاً، ثانياً أنه دعـي رسـولا للأمم كافة وأحب رسالته وانكفأ عليها بكل ما يملك، يخدمها كأنها ابن رضيع يكبر في حضنه . فالعالم عند ق. بولس هو يهود وأمم .
وحينما فكر ق . بولس ورسم في ذهنه خطوط رسالته إلى أهل رومية، حيث أراد أن يبرز عنصر بر الله بالإيمان بيسوع المسيح ، البر الذي دخل العالم بدخول المسيح ، لكي بواسطة الإنجيل يغير وجه الأرض أمماً ويـهـوداً ، « وأن يصالح به الكل لنفسه » (کو 1: 20)، عاد ق. بولس إلى الوراء کرشام ماهر ليلتقط صورة للعالم بدون المسيح أو بالحري بدون بر الله .
أسلوب ق. بولس في هذا الجزء غير موجه لا لليهود ولا للأمم ، فهو لم يقصد أن يكون تبكيتاً لأحد أو محركاً لتوبة أحد، كما لم يقصد التشهير لا بالأمم ولا باليهود بل ولا حتى بالعالم بصورة معنوية .
ولكن كان الهدف الذي انقض عليه ق. بولس هو الطبيعة البشرية، التي ورثها الإنسان من آدم سـواء في ثوبها اليهودي المزركش بالناموس الذي جاء ليستر خزيها فكشف عورتها ، أو تحت رداء الوثنية المتهتك الذي أبرز كل عوارها ولم يخف منها شيئاً، ليضع الاثنين بهدوء تحت غضب الله وبإحكام .
وهـكـذا يـوضـح بولس الرسول كيف بلغت حالة البشرية في موازين الله حد الغضب الذي لا يمكن تجاوزه ـ بحسب عدل الله ـ فإما الإعدام ـ وقد تعهد الله للإنسان أن لا يعود يستخدم الـفـيـضـان أبـدأ (تك 8: 21) ـ وإما أن يتدخل الله بنفسه ليحمل عن الإنسان ثمن هذا الغضب ويبرئه .
والـقـديـس بـولس عندما كشف عن حال الطبيعة البشرية في أقبح صورة يمكن أن يقدمها ناقل نـافـذ الـصـبـر ونافذ البصيرة، كان كمن يقف من وراء هذه الطبيعة البشرية كرسول ، ومعه بشارة الطبيعة الجديدة، وكطبيب مجهز بأدوات التطبيب والعلاج، بل مجهز بروح الله، ليقلع ويغرس ويهدم ويبني ، فكان كخبير في كشف القروح المنتنة، جريء ومقتحم بقدر ما وثق في مشرطه في العلاج والشفاء. لم يترك فضيحة افتضحت بها البشرية إلا وأفرزها ، لأنه كان ضامناً للاغتسال والـتـقـديـس والـتـبـريـر. لقد استوفى أولا كل أسباب صحة غضب الله المعلن من السماء على بني الإثم، لكي يطرح بعدها بر الله المعلن من السماء ليمحو كل غضب وليبرر الفاجر!
[ 32-18:1 ] غضب الله المعلن على خطايا الأمم
18:1 «لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم» .
«غضب الله معلن»: ὀργὴ θεοῦ
إن هناك نقلة من الآيات 16 و17 إلى الآية 18 أحدثت فجوة ، ولكن بإعادة تركيب الكلام يتضح أن هناك استمرارية مسببة بين الآيات هكذا :
«فيه (أي في الإنجيل) مُعلن ἀποκαλύπτεται بر الله للناس، لأن غضب الله معلن ἀποκαλύπτεται من السماء على جميع فجورهم وإثمهم … ». والمعنى باختصار الكلمات يكون : بر الله معلن في الإنجيل بالإيمان، لأن غضب الله معلن من السماء! وذلك سواء بالنسبة لكل فرد بمفرده، أو على الجنس البشري بجملته.
وكـون الـبـر الإلهي هنا يستعلن أولاً، فذلك لأن الغضب قد اشتعل. وهذا يوضح أن البر ليس هو العدل ، لأن هنا البر أعلن ليتلافى الغضب . وإذا أردنا تفسيراً أكثر دقة نقول، إن البر أعلن ليبطل الغضب، وهذا ما ينتهي إليه ق. بولس في رسالته . ولكن الغضب لا يتوقف طالما أسبابه لم تـتـوقف، كذلك البر، فهو أعلن ليظل عاملاً . على أن كلا من البر والغضب سيبلغ منتهاه بالدينونة الأخيرة بالنسبة للذي يؤمن والذي لا يؤمن. والقديس بولس يعبر عن دوام فعل الخلاص إزاء دوام فعل الغضب حتى إلى ساعة الحكم في الدينونة هكذا :
« فإن كلمة الـصـلـيـب عنـد الهالكين جهالة أما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله . » (1کو 1: 18)
ورائحة المسيح ستظل « لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة . » (2کو 2: 16)
أما المعنى الذي يحتويه القول: «لأن غضب الله معلن من السماء» ، فهو أن الخطية لما زادت أحـدثـت رد فعل في مـوازيـن الله بصورة لا يمكن تجاوزها ، وهكذا دخلت مـؤشـرات الموازيـن حدود الغضب . وكأنما السماء انفتحت مرة واحدة لتعلن عن قلق عدل الله على مصير الإنسان، إنما بـصـورة رؤيوية «أبوكاليبتال »، هذا أصل معنى كلمة « إعلان» في العربية، إعلان رؤيوي لا يـلـحـظـه إلا الـذيـن وهـبـوا الـرؤيا، وذلك يكون بالإنجيل . فالإنـجـيـل الذي يحمل الإعلان عن بر الله من السماء يحمل أيضاً الإعلان عن غضب الله من السماء .
والـقـديـس بـولس لا يتكلم عن غضب حدث أو أعلن في الماضي، بل في المضارع و بنفس زمن فعل الإعلان عن بر الله، فالبر معلن في الإنجيل الذي فيه معلن غضب الله . بمعنى أن الأخطاء والخطايا التي يذكرها ق. بولس هنا في هذا الأصحاح ليست في الماضي البعيد ولا القريب كأنها نتيجة لغياب بر الله أو معرفة الله ، بل هي أخطاء في وضح نهار المعرفة . فالتقدم الفلسفي قد بلغ أوج إدراكاته، وتركز كل هم الفلاسفة في وصف الله ووصف صفاته وبلغوا في ذلك مبلغاً متقدماً للغاية، وبالرغم من ذلك فقد بلغوا أيضاً من التعدي على معرفته وعلى حقوقه صوراً صارخة تتعارض مع معرفتهم .
وق. بولس حينما يقول : « غضب الله معلن من السماء» لا يضع الجملة في صيغة شخصية عاطفية أن الله غاضب ، وإلا كان ذلك تدميراً للمحبة الحقيقية عند الله، ولكن يضع الإعلان عن الغضب بـصـورة حقيقية واقعة ليس إلا. فالله في الحقيقة لا يغضب ـ أخلاقياً ـ ولكن موازين العدل عنده هي التي يتحرك المؤشر فيها أنها تجاوزت حدودها تجاه خطايا الناس ، فينذر بأنه يتحتم إجراء تحجيم للخطية حتى لا تطغى على مستقبل الإنسان أو على محبة الله للإنسان .
+ « وقال الرب إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جداً …» (تك 18: 20)
+ «فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي …» (تك 6: 13)
ولكي يتضح أن إجراء الحسم ضد الخطية الذي جاء من واقع غضب معلن من الله في حالة نوح والـفـيـضان لم يمس حبه، نسمع أنه اتخذ إجراء الإبادة وهو في غاية الأسف والندم ـ إن جاز هذا التعبير على الله ـ وقطعاً فإن أسف الله أخذ صورة في الطبيعة الإلهية أشد بأسا وأسى مما يصيب الطبيعة البشرية، ولكن يصعب قياسها . « ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفـكـار قـلـبـه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه.» (تك 6: 5 و6 )
ولكي نقيس حالة الغضب بما يعمله الله للذين وقعوا تحت الغضب . ـ منتهى الغضب ـ نقرأ هكذا: «لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم . وكـمـا لـم يـستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق . » (رو 1: 24و28)
لذلك من العسير أن نعثر على التعبير الروحي أو اللاهوتي الذي يعبر عن غضب الله ، لأنه لا يـوجـد عـنـد الله غضب. ولـكـن حالة الإنسان نفسه هي التي تحكي عن الغضب الواقع تحته : «أسلمهم إلى شهواتهم … أسلمهم الله إلى أهواء الهوان … أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض » . هذا أقصى تعبير عن حالة الغضب ( ولا يمكن أن نقول إنه غضب إلهي). ولكن الإنسان لا يحس في عملية تسليم الله لهم إلى شهواتهم وإلى أهواء الهوان وإلى ذهن مرفوض، أن الله في حالة غضب ؛ بل يبدو وكأن الله يأمر من بعيد بتسليمهم إلى كل هذا، ليبقى هو بمعزل عن حالة الغضب ولكي يبقى دائماً في حبه للإنسان والعالم الذي خلق .
والغضب ، كونه معلناً من السماء، ليس له طبيعة سماوية حتى يفهم أنه إلهي، ولكن قول ق . بولس أنه معلن من السماء يفيد أنه لا يمكن تلافيه .
ولـكـن هـل مـن عـلاقة بين طبيعة الإنسان وبين طبيعة الغضب الذي يقع تحته ؟ نعم فالعلاقة قائمة، لأن الغضب هو أحد مفاعيل اللعنة التي نالها الإنسان ! وما اللعنة في حقيقتها إلا خروج الإنسان من لدن الله ودخوله في حالة هوان وترك مر للغاية، نسمعه من فم المسيح وهو يعانيه من أجلنا: «إلهي إلهي لماذا تركتني» (مر15 : 34). هذه صرخة لعنة آدم، شربها المسيح من كأس الغضب حتى الثمالة، والثمالة كانت موتاً !!
والغضب مع اللعنة صفى المسيح حسابهما مع الله من أجل الذين آمنوا والتصقوا به، على أن للغضب يوماً يصفي فيه الديان حساب بقية الذين رفضوا تصفية المسيح هذه !!
« ذلـك الـيـوم يـوم سـخـط، يوم ضيق وشدة، يوم خراب ودمار، يوم ظلام وقتام، يوم سحاب وضـبـاب يـوم بـوق وهتاف …» (صف 1: 15 و16). هذا هو يوم الغضب في الدينونة الذي يحدده ق. بولس للـذيـن اسـتـهـانـوا بـلـطـف الله وطول أناته، وفجروا واستمروا في فجورهم ولم يتوبوا :
« ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة. الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله . » (رو 2: 5 و6)
فالعالم يتحرك زمنياً نحو نهاية معروفة ومحددة يكتسب فيه من يكتسب فرصاً للتوبة والخلاص ليوم الخلاص، ويكتسب فيه من يكتسب رصيداً من الغضب ليوم الغضب .
«فقال الرب إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم . علمت بأوجاعهم ، فنزلت لانقذهم …» (خر3: 7و8). وهكذا نرى موازين الله وكيف أنها إني حساسة جداً سواء من جهة العدل عند الظالمين أو الرحمة عند المظلومين : «إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته » ( 2تس 1: 6 و7). أما الغضب بصورته الفعلية النفاذة فله يوم أسماه ق . بولس بيوم الغصب (رو 2: 5).
« على جميع فجور الناس وإثمهم » ἀσέβειαν καὶ ἀδικίαν
« على جميع » :
حرف ” على“ هنا يوضح السلطة والانقضاض بروح النقمة والسخط ، و ” جميع “ تفيد امتناع الاستثناء، وهذه شبه الجملة كم هي جد خطيرة ومفزعة، إنها صورة مقتطعة من منظر الدينونة ، تأخذ طريقها عبر الزمن إلى الإنسان اللاهي عن خلاصه الرافض لبر الله بالإيمان والتوبة .
أما الذين يفعلون الفجور ἀσέβειαν ( وهي كلمة عكس ” التقوى“) فهم الذين يحتسب فجورهم تعدياً على حقوق الله . وأما الـذيـن يـفـعـلـون الإثم ( وصحتها الظلم ἀδικίαν) فهم الذين يقترفون الخطايا تجاه الإنسان .
«الذين يحجزون الحق بالإثم » :
وهذا هو الذي يضعهم تحت الفئة المقاومة الله إذ أن إثمهم وفجورهم يخفي حق الله ويعطل رحمته . وهذه العملية تظهر بوضوح صارخ عند المؤمنين والحاملين لاسم المسيح والمدعين لمعرفة الحق فإن إثـمـهـم وفـجـورهـم لـيـس يخفي الحق فقط بل ويعطله ويجلب ضده أي ضد الحق الاستهزاء والشتيمة، وهذا نفس ما خاطب به ق. بولس اليهودي : « الذي تفتخر بالناموس أبتعدي الناموس تهين الله لأن اسم الله يجذف عليه بسببكم بين الأمم . » (رو 2: 23و24)
والأمر نفسه ينطبق على المسيحي والخادم والمبشر فإن عثرته تخفي الحق وتهين الله .
هنـا الـتـطـبـيـق واضح وسهل ولكن حينما نواجه التطبيق على حالة الأمم الذين لم يسمعوا بالإنجيل والحق والله والمسيح ، ماذا يكون الوضع ؟
ق. بولس هـنـا يـدخل عاملاً خفياً كثيرون يجهلونه وهو أن الإنسان أيا كان ومنذ البدء، منذ نسل آدم الأول ، جعل الله في نفسه وفي أعماق روحه إحساساً برهبة الله . فالإنسان خرج من لدن الله وتغرب عـنـه بـخـروج آدم، هذا صحيح وهذه كانت كارثة الإنسان، ولكن الله لم يخرج عن الإنسان ولا هـجـره قط، وقصص الآباء ـ و بعد آدم مباشرة ـ تحكي عن هذه الصلة من طرف الله. هذه الظاهرة أو هذا العمل الخفي أسماه ق. بولس : «إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم »
19:1 «إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم ».
” ظاهرة ” و ” أظهرها : φανερόν ἐφανέρωσεν
هذه لغة الإدراك المباشر وليس المعرفة الملقنة أو العلمية، لغة الإدراك الفطري ، فالله في ذاته مدرك كامل يذرك ولكن لا يذرك كماله ، وإدراك الله ليس بالعقل المادي الذي يعيش على المنظور المقاس، بل بالوعي الفطري لأن الله خفي لا يمكن أن يظهر للحواس .
ولـكـن ق. بولس لا يقصد المعرفة الباطنية في داخل الإنسان، بل المعرفة المعلنة في المنظورات خفيا. فالإنسان إذا نظر إلى السماء والطبيعة من حوله، وفي تعامله الوثيق مع الخليقة من نبات ، وحـيـوان وإنسان، يدرك الله الذي صنع كل شيء ووراء كل شيء بحس لا يخطىء، فإذا خضع لهذا الإحساس بدأ يعلن عن وجود الله أكثر فأكثر. ولكن أخطر ما يقترفه الإنسان في حياته هو أنه عندما يحس بالله ويبدأ يتعرف عليه من واقع الحياة حوله، لا يبدي الخضوع والاعتراف به فيتجاهل صـوتـه و وجـوده . على أن قصة حياة كل القديسين منذ بدء الدهور تبدأ من هنا، عندما أحس كل مـنـهـم بالله ، فبدأ يكرمه ويمجده ويخضع له ويطيع وخيه، وبدأ الله يقترب إليه ويضمه ويعلن له ذاته أكثر فأكثر. هذه خبرة ق . بولس في توراته وفي علاقاته بالله ، فهو يتكلم عن خبرة ويقين المكتوب .
وق . بولس شرح هذا الفكر بأكثر وضوح في أحد المواقف :
+ «أيها الرجال لماذا تفعلون هذا (كاهن الوثن أراد أن يقدم ذبائح لبولس و برنابا باعتبارهما آلهة هبطت من السماء)، نحن أيضاً بشر تحت آلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها ، …، مع أنه لم يترك نفسه بـلا شـاهـد وهـو يفعل خيراً، يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً . » (أع 14: 15 و17)
+ « الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ولا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلى شيء. إذ هو يعطي الجميع حياة ، ونفساً وكل شيء، وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض . وحـتـم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم، لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدوه ، مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد . » (أع 17: 24-28)
20:1 «لأن أمـوره غـيـر المـنـظـورة تُرى منذ خلق العالم، مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته، حتى إنهم بلا عذر» .
هنا يأتي فعلان مترادفان «تُری» καθορᾶται ، «مدركة » νοούμενα فأعمال الله في الخليقة ومصنوعاتها تُرى بالعين وتفهم بالعقل. ولكن من خلال هذه الرؤية العينية يتم إدراك آخر واع بالروح يظهر فيه الله بعظمة وهيبة لاهوته كخالق .
من والنتيجة التي ينتظرها الله ذلك أن يفرق الإنسان بين الله الذي ينبغي أن يعبد، وبين الخليقة والمصنوعات فيها التي تخدم صانعها والتي خلقت ليستخدمها الإنسان وليس ليجعلها آلهة ويتعبد لها. ولكن بسبب عدم التفرقة بين الخالق والخليقة ، صنع الإنسان لنفسه الآلهة . فكانت بـدايـة انحطاطه وتسفله إلى الدرك السفلي. ويقول سفر الحكمة: «لأن مبدأ الزنا التفكر في اختراع الأصنام ثم وجد أنها فساد الحياة . » (حك 14: 12)
وليت القارىء ينتبه أن الآية العشرين تشرح الآية (19): « فأموره غير المنظورة ترى » هو شرح لقوله : «إذ معرفة الله ظاهرة (تُرى ) فيهم لأن الله أظهرها (غير المنظورة) لهم » .
« وأمـوره غير المنظورة» عاد ق. بولس فشرحها بعد ذلك بقوله : « قدرته السرمدية ولاهوته » . أمـا وقـوع الـكـلـمتين «غير المنظورة» و «تُرى » بالتتابع فهي مضادة ـ ـ أي كلمة ضد أخرى ـ ولكن الحقيقة هنا غاية في الأهمية بالنسبة للتفريق بين رؤيا العين والعقل ورؤيا الروح والوعي ، فأمور الله إذا رئيت بالعين والعقل، فهي لا تُرى ولكن في نفس الوقت ترى بالروح بوضوح . فحينما نتطلع إلى السماء وما فيها لا نرى الله، ولكن إذا أغمضنا العين وانطلقنا بالوعي الروحي نبحث عن الله فيها نجده ويكون وجوده أشد يقيناً من رؤية العين للشمس.
الله هنا حاضر في الخليقة بوجوده الخفي غير المنظور، فالخليقة تنطق بجبروته.
فـ ” غير المنظور هنا « ἀόρατα» هو لاهوته وتعني الطبيعة الإلهية = θειότης وهذه هي المرة الـوحـيـدة التي ذكرت فيها هذه الكلمة في جميع أسفار العهد الجديد، وهي تختلف عن Berns التي ذكرت عن ملء اللاهوت الذي حل في المسيح جسدياً (كو 2: 9).
أما الرؤية هنا فهي بالإدراك الواعي وليس العقلي.
ونصف الآية الثاني «مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته » هو تكرار توضيحي للجزء الأول . فالسماء والأرض والـبـحـر وبقية المصنوعات الهائلة والمهيبة في السماء بشمسها وأقـمـارهـا ونـجـومـهـا ومجـراتـهـا وشـدمها، وفي الأرض من جبال ووديان وأنهار وعواصف وزلازل وبراكين، هذه تحكي عن قدرة الخالق ولاهوته .
على أنه يتحتم أن لا يفوتنا العامل الخفي الذي بثه الله في الخلقة الروحية داخل الإنسان ، وهو استعلان الله وإدراكه بالوعي الروحي من واقع الموجودات في العالم حوله ، هذه الصلة السرية بين الخالق والخليقة. فهنا حتماً خيط ذهبي ممتد وقائم من يد الصانع إلى أعماق صنعته ؛ بل من فكر الله لفكر الإنسان الذي يفكر بقوة الله ، من روح الله لروح الإنسان الذي يتنفس بنسمة الله . هذا العامل الخفي السري الذي يصل بين الله والإنسان، هو الأداة التي يترجم بها الإنسان أسرار الأعاجيب في الخليقة من حوله.
«حتى إنهم بلا عذر»: ἀναπολογήτους
ليس “العذر“ هنا منصباً على الجهل بالله ، لأن ق. بولس يبرهن على أنه يستحيل على الإنسان أن يجهل خالقه . هل يجهل الإنسان نفسه ؟ فالإنسان كقول ق. بولس يحيا ويتحرك ويوجد بالله .
ولكن ليس لهم عذر من جهة أنهم لما عرفوه لم يعبدوه ؛ بل تكابروا على معرفة الله التي أظهرها لهم، وتصرفوا كأنهم لم يعرفوها ، وارتدوا إلى ذواتهم يعملون ما يثبت أنهم ثائرون على من أعطاهم ليس المعرفة بنفسه فقط بل ثائرون على نفخة الحياة التي أعطاهم !
« ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية » (تك 2: 7). فهذا النفس عينه هو الحبل السري الذي لا يزال يربط روح الإنسان بالله .
و «بلا عذر» كلمة قضائية ينطقها القاضي وقت الحكم مؤذناً بدخول المتهم تحت العقوبة . أما التهمة أو الجريمة فهي عبادتهم المخلوق دون الخالق. وق. بولس يقصد بها أنهم سيقفون أمام الديان بلا منطق ولا نطق إزاء ما اعتدوا به وتعدوا على الخالق وداسوا معرفة الله .
وهـنـا يـقـولهـا ق. بولس للأممي، وبعد قليل سنسمعها وهو يقولها لليهود : «أنت بلا عذر أيها الإنسان (الـيـهـودي) كـل مـن يـديـن ( الأممي) لأنك في مـا تـديـن غـيرك تحكم على نفسك . » (رو 2: 1)
فالأممي عبد الأصنام وازدرى بالله الخالق، واليهودي دان الأممي في ازدرائه بالله ، فوقع تحت الحكـم لأنه وهـو يـعـرف الله اعتد بذاته و برر نفسه وصنع نفس ما صنعه ا الأممي في إهانة اسم الله بسبب تعدياتهم على وصاياه .
21:1 «لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كاله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي»
هنا الرد على القول « إنهم بلا عذر»، إذ تبدأ الآية : «لأنهم»، فهم بلا عذر لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه. هذا في الحقيقة هو ثمر المعرفة ، لأن المعرفة الصحيحة الروحية – هي عطية من الله حسب قول ق. بولس : «الله أظهرها لهم»، فيتحتم أن يكون لها ثمر – صاحب المعرفة الذي ألهمها . فالله أصلا أعطى ويعطي المعرفة عن نفسه بأنواع وطرق مختلفة لتنتهي كلها إلى تمجيده وشكره. فإذا لم تطرح هذه المعرفة التي وهبها لهم ثمراً لحسابه، فمن الحق والواجب أن يرفع الله هذه المعرفة، فيكون هذا وبالاً على الإنسان لأنه يرتد في الحال من تمجيد الله إلى تمجيد نفسه، أو حتى إلى تمجيد القرود والقطط والتماسيح والخنافس، يعمل لها أصناماً وطواطم، ويعبدها و يتفاءل بها ، وهو في هذه الحماقة ليس له عذر!!
والـوثـنـيـة والأصنام ليست وقفاً على الوثنية فيما قبل المسيح، بل وفي المسيحية نجد أن كل من يخفق في معرفته الله المعرفة الصحيحة على مستوى التمجيد والشكر فإنه يرتد إلى عبادة كل ما هو ليس الله ، سواء بالخرافات أو الطواطم أو السحر أو الجان أو المال أو الذات.
«لم يمجدوه أو يشكروه » : ἐδόξασαν ἢ ηὐχαρίστησαν
يمجدونه في شخصه الذي أدركوه بالوعي في أعماله المجيدة التي تحكي عن علو مجده، وهذا نوع العبادة الشخصية لله حيث يبدو الله إلها ممجداً يقابله اتضاع الإنسان حتماً تحت الإحساس بتفوق الله وعظمته التي لا تحد .
يشكرونه في ما عمل كرد فعل انعكس على نفوسهم، وهذا هو نوع العبادة التأثيرية من جراء خيرية الله وعنايته وهي عبادة التسبيح المتهلل العاطفي، التي توصل إلى الشوق والتقرب إليه.
ولـكـنـهـم لا مجدوه كاله بعد أن عرفوه، ولا شكروه كصانع الخيرات من أجل أعماله. وهذا بحد ذاته يحسب عليهم احتقاراً لمجد ألوهيته وسلباً لخيرات أعماله، ويا ليتهم توقفوا عند تجاهل واحتقار لاهوتية الله وسلب خيراته بالصمت ، ولكنهم تمادوا في تجاهلهم ، فكانت النتيجة أن سحب الله شعاع نوره من فكرهم فصاروا حمقى أي ذوي أفكار باطلة، فالحماقة هي الباطل .
«حقوا ἐματαιώθησαν في أفكارهم » :
وهذا بلغة الـكـتـاب يعني أن أفكارهم انحطت إلى مستوى الأباطيل فساروا وراء الباطل . «هكذا قال الرب ماذا وجـد فـي آبـاؤكـم مـن جـور حـتى ابتعدوا عني وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً ( = حمقوا ἐματαιώθησαν ) » (إر 2: 5 )، بمعنى أن الذي ينزل إلى مستوی الحماقة يصبح أحمقا.
+ «لأن جميع الناس الذين فيهم نقص معرفة الله هم باطلون (بطالون )، ومن الصالحات المنظورة ما استطاعوا أن يعرفوا الكائن ولا انتبهوا إلى الأعمال فعرفوا الصانع، لـكـنـهـم ظنوا النار أو الروح أو الربح السريعة أو دائرة النجوم أو الماء الراكد أو النورين في السماء (الشمس والقمر) هي التي تخدم سياسة العالم فاعتقدوا أنها آلهة.» (حك 13: 1و2)
+ «الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة .» (مز 94: 11)
وق. بولس اقـتـبـس هذه الآية كما هي: «الرب يعرف أفـكـار الحكماء أنها باطلة» (1كو 3: 20)
كل هذه الـشـواهـد تؤكد أنه بمجرد أن يفقد الإنسان أو يتهاون في تقديره الصحيح الله وتقييمه لأعماله المـنـظـورة، فإنه يفقد في المقابل رجاحة التفكير في وزن الأمور الروحية . فتجد الفلاح الصعيدي الأمي يحكي عن مجد الله وأعماله بعمق وتفهم ودراية ؛ وفي المقابل تجد من هم في درجة الحكماء وذوي المراتب العليا في المعرفة، فلاسفة ومعلمين وقضاة ومحامين، يتحاشون الكلام عن الله أو مجده أو أعماله لأنهم لا يحسون بها ، وإذا تكلموا عنها اضطراراً تجدهم سطحيين خالين من أي إدراك صحيح أو انفعال. هنا نرى أن حكمتهم وعمق ذكائهم وفطنتهم التي يشار إليها بالبنان في مجال أعمال العالم قد انسحب منها ما يخص الله، لأن الله سحب منهم · ما له، فأبقى لهم ما لهم وما للعالم الذي تكرسوا له وأخذ الذي له .
« وأظلم قلبهم الغبي» :
القلب هنا هو مركز الشعور والعواطف والإحساس الروحي، والموصل إلى الوعي الروحي للإنسان، فبمجرد أن ينسحب من الإنسان شعاع نور معرفة الله ، ترتد المشاعر والعواطف والأحاسيس من المستوى العالي الراقي فيما الله والروح لتنحصر في آفاق الماديات والمحسوسات . لأن القلب يفقد وعيه وفطنته فيصير القلب غبيا أي بلا تمييز. وهكذا يغيب عنه نور الله ويرتد إلى الذات والعالم، فينحبس في دائرة الظلمة بعيداً عن نور الله .
22:1 « وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء».
هنا يبدأ ق. بولس في درجات النزول.
الخديعة التي يقع فيها هؤلاء الذين سقطوا من معرفة الله وتجاهلوه ، هي أن حكمتهم الدنيوية تبقى لهم كما هي، ولكن إذ يسحب الله معرفته التي أظهرها لهم لا تتبقى لهم إلا حكمة أرضية فارغة تحصرهم في مجال الجهالة دون أن ينتبهوا. فبينما يظنون أنهم لا يزالون حكماء، يستطيع أي إنسان له علاقة صادقة بالله أن يحكم عليهم بالجهل والحماقة . وهكذا إذ تنسحب معرفة الله من محیط وعيهم تبتدىء الانهيارات الخلقية .
23:1 « وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى، بشبه صورة الإنسان (الفراعنة وآلهة أثينا) الذي يفنى، والطيور (الصقر) والدواب (عجل أبيس) والزحافات (التمساح)» .
«صنعوا عجلاً في حوريب وسجدوا لتمثال مسبوك . » (مز19:106)
المجد δόξαν هـنـا يـأتـي بمعنى الكرامة في عبادة الله بحسب الفكر العبري ليقابل الهوان في عبادة الأصنام .
هكذا نضح الغباء والحماقة من الفكر المظلم في الداخل إلى عمل في الخارج يحكم على حماقتهم القلبية ويفضح جهالتهم التي بلغوا إليها . إذ تنعمي بصائرهم عن الله ليعبدوا آلهة من صنع حماقتهم بشبه الناس أو الحيوانات أو الزواحف أو حتى الحشرات .
هنا درجة انتقال إلى أسفل في انهيار أخلاقي واضح ، ولكن في هذا السقوط الأخلاقي الأول تحول لهـم الإثـم ـ كتعد على الله ـ إلى مصير، فصار الإنسان عابد وثن له أخلاقه وسلوكه الخاص، بدل الالتصاق بالله ذي المجد والجلال والخلود، وإلى الانحطاط لمستوى الالتصاق (الـعـبـادة) بالحيوانات وما دون، التي مآلها إلى الزوال. وكأنما اختار الإنسان الانتقال من التطلع إلى الخلود صعوداً إلى الارتباط بالزوال هبوطاً، فتفنى أفكاره وأعماله وحياته وكل آماله مع الأصنام التي اختارها ليعبدها من دون الله . إنها مأساة الإنسان الأولى ولكنها كانت مأساة منحطة وأليمة في تاريخ الإنسان العظيم !
24:1 «لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم » .
والآن إذ استقلوا عن الله وعملوا لأنفسهم آلهة حسب شهوات قلوبهم، أسلمهم الله إلى شهوات قلوبهم ، من يد ليد، من يده التي صنعتهم إلى يد شهوتهم التي ستتولى استعبادهم وإذلالهم .
وعلينا أن نلاحظ أن الله لم يسلمهم ليصنعوا الخطية، ولا فعلهم للخطايا كان نتيجة غضب الله عليهم، حاشا أن يكون تصرف الله معهم سبباً في خطية ، بل إن الله أسلمهم ليعملوا ما كانوا يـشـتـهـونـه ، أو بتعبير أكثر وضوحاً أن الله رفع يده عنهم فأكملوا هم شهوة قلوبهم ! فلو كانوا اتقوه لأبقى معرفته فيهم ، ومع معرفته حفظ وعناية .
هنا ثلاث درجات في الانهيار متتابعة يسلمهم الله فيها إلى ذواتهم :
الأولى : «أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلى النجاسة . » (24:1)
الثانية : «أسلمهم الله إلى أهواء الهوان . » (26:1)
الثالثة : «أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض . » (28:1)
الانهيار الأول سلمهم الله على مستوى نجاسة الجسد .
الانهيار الثاني سلمهم الله على مستوى أهواء النفس .
الانهيار الثالث سلمهم الله على مستوى الذهن المرفوض .
وتحت هذه الانهيارات الثلاثة دخل فيضان الخطايا بكل أصنافها جسدية ونفسية وذهنية .
الـقـديـس بـولس هنا لا يحاصر الأمم ولا يحاصر اليهود ؛ بل يستعلن تاريخ الخطية حيث تدخل الوثنية بأصنامها واليهود بأصنامهم والفلاسفة والحكماء بأصنامهم، الكل سيان في مجرى التاريخ . الـواحـد يـسـلم للآخر والكل وقع تحت العصيان، وق. بولس كان يتكلم عن التاريخ حتی اللحظة التي كان يعيشها وهو على قمة ازدهار الخطية في غليان العالم الوثني. هذا التاريخ المنسوب لآدم أو بالحري لخطية آدم .
وذهن ق. بولس مربوط ضمناً بتاريخ صنمية إسرائيل. فأول صورة تاريخية بلغتنا عن تمييز عبادة الله من العبادة الصنمية جاء في بكور تاريخ إسرائيل، حيث باشر الله أول تسليم «أسلمهم الله » παρέδωκεν
+ «فـعـمـلـوا عـجـلاً في تلك الأيام وأصعدوا ذبيحة للصنم وفرحوا بأعمال أيديهم . فرجع الله وأسـلـمـهـم ليعبدوا جند السماء كما هو مكتوب في كتاب الأنبياء : هل قربتم لي ذبائح وقرابين أربعين سنة في البرية يا بيت إسرائيل، بل حملتم خيمة مولوك ونجم إلهكم رمفان ، التماثيل التي صنعتموها لتسجدوا لها، فأنقلكم إلى ما وراء بابل . » (أع 7: 41-43)
هنا تسليم الله لشعب إسرائيل كان عقوبة قضائية، رفعت عنهم نعمة معرفته فسقطوا في شهوة قلوبهم ليعبدوا نجوم السماء وتماثيل آلهة كاذبة. وهذه هي نتيجة «غضب الله»، حيث يترك الله الإنسان ويسلمه لشهوات نفسه ، فيلحقه الفساد في الداخل والخارج ، لكي يرتدع الإنسان ويعلم أنه لن يستطيع أن يحيا بدون الله أو يناصبه العداء. ولكن في كل هذا يكون الإنسان هو القاتل وهو الـقـتـيـل. فكل ما تمناه واشتهاه يتركه الله ليستقي . منه الفساد والهلاك. والقضاء هو هو منذ أخطأ آدم: كل من يحتقر وصية الله يرفع عن نفسه النعمة ويجلب على نفسه اللعنة !
وهذا هـو مـنـظـر العالم والإنسان حينما يقطع أغلال العبودية لله ـ عن وهم ـ لينال حريته الكاذبة، فينال لعنته باستحقاق .
«أسلمهم الله … إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم » :
النجاسة :
ليـس للـنـجـاسـة تـعبير إيجابي في اللغة اليهودية فهي: «عدم الطهارة». وتشمل النجاسة في تعبيرات ق. بولس كل أنواع الشذوذ الجنسي أو شذوذ الجنس الواحد ( 2کو 12: 21، غل 5: 19، أف 5: 3 ، کو 3: 5، 1تس 4: 7). ولـكـن أسـوأ تعبير عن النجاسة عند ق. بولس ورد في هذا الأصحاح في الآية (27). وكان تعليق ق. بولس عليه أنه أشنع منظر للإنسان وهو يهين جسده مع جسد آخر: «بين ذواتـهـم ». وهذا محسوب أنه الجزاء أو القصاص العادل إزاء ضلالتهم . وكلما أهانوا الله ، سقطوا في إهانتهم لأجسادهم .
25:1 «الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد آمين» .
« حق الله»: τὴν ἀλήθειαν
القصد منها استعلان حقيقة الله لهم كما أظهرها الله لهم في وعيهم العام .
الكذب : τῷ ψεύδει
هنا الكذب ينصب على واقع الصنم باعتباره شخصية وهمية غير موجودة تُخفي الحق، فهو الكذب وليس فقط كذباً، ولكنه يقود إلى الضلالة وهي المسير في الكذب.
ثم يشرح ق. بولس كيف استبدلوا الحق (عبادة الخالق) بالكذب (عبادة المخلوق).
وهنا ق. بولس أخذته الرعدة فاستغاث بالله من هذا السلوك فأعطاه البركة : « الذي هو مبارك إلى الأبد آمين» . قالها ليطرد عنه تصور هذا الشر المستطير. وهي مقولة على لسان كل يهودي .
26:1 «لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان، لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة» .
وهكذا في النهايـة صـرح ق. بولس بما كان يكنه في قوله : «شهـوات قلوبهم»، «النجاسة»، «إهانة أجسادهم بين ذواتهم»، «أهواء الهوان»، وهو بأن نساءهم استبدلن الاستعمال الطبيعي للجنس بالذي على خلاف الطبيعة. وكف ق. بولس عن التوضيح : فالمرأة مهما توقحت ينبغي أن تُلف سيرتها بالحشمة !!
« إناثهم » : θήλειαι
لم يذكر ق. بولس كلمة «نساء» ، تماماً كما لم يذكر بعد ذلك كلمة «رجال » بل «ذكور» لأن الضربة مصوبة هنا للجنس وليس لأفراد، والتشهير واقع على الأجساد العامة، والنقمة حاقت بالطبيعة البشرية ككل إناثاً وذكوراً. أما لماذا بدأ ق. بولس بالإناث فذلك لكي يصف فداحة الفضيحة . واللغة اليونانية تحمل في مدخل الجملة حرف τε – سقط في الترجمة العربية ـ لتترجم صحيحاً هكذا : «حتى إن إناثهم» تمادياً في وصف التمادي في المصيبة !!
«أهواء الهوان»: πάθη ἀτιμίας
لقد جمع ق. بولس في هذا التعبير كل انحرافات الشهوات وحبسها في منظر الهوان! والهوان هو القبح عندما يبلغ الدرك الأسفل. فإذ رفض الإنسان أن يبقى في أمان عبادة الله ليبقى في شرف خلقته وليبقي على فضيلة إناثه وذكوره، أسلمه الله لهوى نفسه ليهوي نحو فضيحة جنسه .
وهكذا لما قلب الإنسان عبادته من الخالق إلى المخلوق ، انقلبت عليه طبيعة خلقته ، ففقدت الأنثى القصد الطبيعي من خلقتها ، وكذلك الذكر، وكأن الإنسان بات مهدداً بالفناء لو أن هذه المصيبة عممت أو حاقت بالجنس كله . فالزنا يمكن أن يعطي نسلاً ولو في الحرام، أما مصيبة تسفل اللهو الجنسي بين الإناث معاً، وبين الذكور معاً فلا يعطي إلا العار والدمار والترمد بالكبريت والنار.
وأضاف التاريخ لهذه اللعنة في هذه الأيام وبأ « الإيدز [2]AIDS » كتصفية للحياة سريعاً يتبعها الرعب حتى القبر.
27:1 «وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق».
سقط في الترجمة العربية أهمية الحرف τε و يترجم ” حتى“، فهكذا ينبغي أن تبدأ الآية : «كذلك حتى الذكور …» ويقصد بها ق. بولس التعبير عن التمادي وذلك بإحساس الضيق . فالموضوع مقرف ولكن ليس من سبيل إلى المعالجة إلا الكشف.
« «بشهوتهم » : ὀρέξει
تعبير عن شـهـوة حيوانية، لأن هذا الفعل منحرف عن الشهوة الطبيعية للرجل، ويشترك فيه كل من الكلاب والقرود والحمير، دون كافة الحيوانات الأخرى .
وحـيـنـمـا يـقـول ق. بولس : « اشتعلوا بشهوتهم » بهذا التعبير، فإنه يوضح باللغة اليونانية أنه اشتعال بـشـهـوة غير طبيعية لأداء وظيفة الجنس الطبيعي، ولكنه شهوة حيوانية دخيلة على طبيعة الإنسان .
« فاعلين الفحشاء » : ἀσχημοσύνην
الفحشاء هنا هو الفعل القبيح الفاضح : «لأن الأمور الحادثة منهم سرا ذكرها أيضاً قبيح» ( أف 5: 12). هذا الوصف يزيد من اتهام هذا الفعل بالتجريم .
«نائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق»:
إرجاع كـل شناعة هذا الانحطاط الخلقي إلى العقاب الذي حل بالإنسان نتيجة تركه الله !! جزاء وفاقاً !!! فبقدر ضلالهم عن الحق، حق عليهم السقوط في شناعة فعلة الفحشاء هذه الكريهة اسماً وفعلاً !
وكلمة «المحق» هنا تفيد دقة موازين الله في العقاب ، فكلمة «بالتقريب » ليس لها وجود في مـوازيـن الله، فبين الخـطـيـة والـعـقـاب ميزان يحسب التكلفة ألف حساب ليقع العقاب مغطياً الخطية غطاء ليس فيه تفريط أو إفراط .
وعلى الساقط في نقع هذا الوحل أن يدرك أن عقاب هذه الخطية ملازم لها : فهي شهوة لا تشبع ولا تهدأ ولا تنطفىء ، تقرض الجسد قرضاً ، تسلبه اتزانه وتسحب منه عافيته ، تفسد مزاجه وحشه وذوقه وتخـل بـكـل مـوازيـن أخلاقه ، ولا تترك الإنسان إلا بعد أن تلحق به العار والدمار، هذا إن تركته !! وهذا هو الغضب المعلن من السماء على الفاجرين .
28:1 «وكما لم يستحسنوا أن يتقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق».
«يستحسنوا » ἐδοκίμασαν (مشتقة من δὸκίμος = لائق)
هذه الكلمة تستخدم عادة في الحكم على العملة أنها عملة لائقة أو غير لائقة. ووردت كلمة في هذه الآية عكسها أي ” غير اللائق “ في لفظة ذهن مرفوض ἀδόκιμον . وهكذا تبدو اللغة اليونانية في هذه الآية فيها طباق وتقابل بمعنى : ” لما لم يرضوا أو يقبلوا أو يستحسنوا أن يبقى الله في ذهنهم، أسلمهم الله إلى ذهن غير مرضي أو غير مقبول أو غير حسن أو مرفوض !! “ أو على مـسـتـوى العملة المقبولة والمرفوضة يكون ما في ذهن ق. بولس هكذا : ” لما لم يعاملوا الله كعملة مـقـبـولة أو جـيـدة، هكذا جعل الله ذهنهم عملة غير مقبولة، أي رديئة “. تماماً كما صورها إرميا قديماً : «فضة مرفوضة يدعون، لأن الرب قد رفضهم » (إر30:6). ونلاحظ هنا أيضاً البداية بـ «” كما “ لم يستحسنوا» التي تضع العقاب بعد ذلك على التوازي المساوي مع الجنوح عن الله والبعد عن طاعته .
من هذا السقوط المتتالي أو الذي سميناه الانهيارات المتوالية نتبين هكذا ثلاث درجات :
الدرجة الأولى: الإنسان يتعرف على الله بالوسائل العامة ، طبيعية أو فكرية أو بالوعي المفتوح . ثم يرفض الإنسان أن يتبع الرب أو يتعبد له أو يبقيه في معرفته ، ويبدأ يشرب من معارف أخرى مضادة لله . فيسقط في فخ الأصنام التي لها صورة الإنسانية بالشبه أو الحيوانية ويتعبد لها .
الدرجة الثانية : يتركهم الله ، أي يسلمهم إلى فكر أجسادهم الأرضية، فيستمرئوا الشهوة الردية ويرفضوا العودة .
الدرجة الثالثة: يسلمهم الله إلى ذهن مرفوض فتنفتح الخطية عليهم كنهر يشربونها كالماء . وهنا في هذه الدرجـة تـأتي العقوبة مصوبة نحو ذهن الإنسان قاعدة أفكاره وتـصـوراتـه ، وهـو أعز وأغلى ما يملك مـن مـكـونـات شخصيته. فإن كانت العقوبة السابقة قد اتجهت ناحية فك الحراسة الإلهية عن قوى الجنس ليسقط الإنسان في أشر شـهـوات الـحـيـوانـات ، فهنا يرفع الله العناية عن حكمة الذهن ليتشرد الإنسان في كل تصورات قلبه الشريرة .
وحتى وفي آخـر درجة من السقوط تجدهم يكابرون بأنهم يعرفون كل شيء ويعرفون الله وهم يخدمون الخطية باجتهاد .
+ «كل شيء طـاهـر للطاهرين (ذوي المعرفة الملتصقة بالله ) وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهراً بـل قـد تنجس ذهنهم أيضاً وضميرهم . يعترفون بأنهم يعرفون الله ولكنهم بالأعـمـال يـنـكـرونـه إذ هـم رجسون غير طائعين، ومن جهة كل عمل صالح مرفوضون . » (تي 1: 15 و16)
هكذا ينتهي الإنسان الذي رفض أن يبقي الله في معرفته، إذ يصبح في حالة أخلاقية متفاقمة في الشر، من ضعف إبصار لضعـف بـصـيـرة إلى تزييف في الرؤيا إلى العمى فلا يرى النور في الظهيرة، مهجورين من النعمة، فاقدين للبصيرة وهي أسمى ما يملكه الإنسان !
+ «لا تـضـلـوا فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة. اصحوا للبر ولا تخطئوا لأن قوماً ليست لهم معرفة بالله … » ( 1کو 15: 33و34)
«ليفعلوا ما لا يليق » :
الذهن غير اللائق إن فعل فلابد أن يفعل الأفعال غير اللائقة. والإنسان إنسان بأفعاله اللائقة لأن بها يأخذ مكانته في العالم بين الناس ، فإن لم تكن له أفعال لائقة يصير فاقداً لحقيقة وجوده ل، لأنه فاقد لحقيقة وجوده أمام الله . بين الناس ،
31-29:1 «مملوئين من كل إثم (وزنا) وشر وظـمع وخبث، مشحونين حسدأ وقتلاً وخـصـامـا ومـكـراً وسـوءا. نمّامين مفترين مبغضين الله ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين، بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة » .
لقد اكتشف علماء اللغة والكتاب المقدس خطأ في النساخة دقيقاً للغاية أضر بتسلسل المعاني والأوضاع في سرد الخطايا ، إذ اكتشفوا أن كلمة πορνείᾳ زنا هي دخيلة كخطأ نساخة وصحتها πονηρίᾳ وترجمتها ” مولع بالأذية “، وقد جاءت الطبعات الأخيرة من الإنجيل اليوناني وقد رفع منها صفة الزنا وعوضاً عنها وضع صفة المؤذي أو المولع بالأذية.
وهكذا أصبح يمـكـن بـسـهـولـة تـقـسيـم كل الموبقات الأخلاقية في هذه الآيات إلى ثلاث مجموعات :
المجموعة الأولى وتجمعها كلمة ” مملوئين من كل إثم : أذية وشر وطمع وخبث “،
المجموعة الثانية وتجمعها كلمة ” مشحونين : حسد وقتل وخصام ومكر وسوء “،
المـجـمـوعـة الثالثة وتأتي اثنين اثنين : ” نمامين ومفترين، مبغضين الله ثالبين، متعظمين مدعين، مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين، بلا فهم ولا عهد، بلا حنو ولا رضي ولا رحمة”.
والذي يرجح ازدواج هذه الصفات السيئة في المجموعة الثالثة محاولة حفظ الوزن الصوتي والتركيبي في اللفظ اليوناني بين كل اثنين مثل : حسد وقتل : φθόνου / φόνου
كذلك ، بلا فهم ولا عهد : ἀσυνέτους / ἀσυνθέτους
وعلى العموم نجد في النغمة اليونانية التي سرد بها ق. بولس هذه الصفات نوعاً من الوزن العام مـن النـثـر المحبوك، فالمجموعة الأولى تبدأ ἀδικίᾳ وتنتهي κακίᾳ : أديكيا / كاكيا. وهذا في الحقيقة يعطينا فكرة عن حضور ذهن ق. بولس الحاد في موهبة الكلام المحبوك واللغة الرصينة وهو يسرد هذه المجموعة العجيبة المتسعة الشاملة لكل رزايا الأخلاق التي رآها والتي سمعها والتي قرأ عنها عند الشعوب التي عاشرها والتي درس أخلاق مواطنيها .
وكـان بـودنـا أن نخوض في هذه الـصـفـات الأخـلاقـيـة المـنـحـرفـة ونـوفيها حقها في التفسير السيكولوجي أي النفسي، ولكن وجدنا أن هذا لا يقصده ق. بولس، وهو عمل ينبغي أن يقوم به المتخصصون في السلوكيات الاجتماعية والنفسانية .
32:1 «الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط ، بل أيضاً يسرون بالذين يعملون » .
هنا ق. بولس يستحدث خطية جديدة غير المسلسل الذي ذكره في الآيات السابقة ويحتسبها أكثر شناعة، إذ يعتبر أن الذين يعرفون أن ثمن انحرافهم هو الموت (الروحي) ولا يكفون عن الفعل بل يتمادون نحو استحسان وتشجيع ممارسة هذه الأفعال، فإن حالتهم تكون أشد سواداً من الذين يفعلون وحسب !
وهذه الفئة المتمادية في عقوقها واضح أن تأثيرها في إفساد الناس أشد وأكثر خطورة، وهي في الحقيقة و بهذه الصورة تكون قد بلغت أعلى درجة تحد الله وبالتالي في الانهيار الخلقي والانحطاط الإنساني. لأنها وهي تعرف خطر ما تقترفه، تقترفه وتساعد على اقترافه ؛ بل وتستحسنه بنوع من التلذذ، هنا قمة الحضيض الخلقي في عالم الخطية وآخر ما بلغت إليه حالة الإنسان بسبب هجران الله.
ولكي يدرك القارىء مدى قحة هذا الصنف من الناس، فلينتبه إلى قول ق. بولس حين يقول إن الذين إذ يـعـرفـون حكم الله بالموت لمن يعملها ليس فقط لا يرتدعون ؛ بل ويعملونها ؛ بل ويسرون بالذين يعملونها أيضاً ؟
أية بجاحة وأي موت أدبي وأخلاقي وحشي بلغه مثل هؤلاء ؟ في الحقيقة وفي رأينا أن مثل هذه الحالة تذكرنا بحالة ما قبل الطوفان، ولكن عوض أن يميت الله كل حي، مات ابن الله الحي لينقذ العالم من طوفان الخطية والموت ! هذه كانت حياة الناس قبل أن يولد المسيح .
تعقیب
يلاحظ في نهاية هذا الأصحاح خاصة من عدد (١٨-٣٢) أن ق. بولس ابتدأ يوجه الاتهام بـصـورة عامة للإنسان ككل، ولكنه أخذ الوثنيين (الأمم) كعينة ذاكراً أهم شذوذهم وأخطائهم ، هكذا بالتالي يبتدىء الأصحاح الثاني بالهجوم بصفة عامة على الإنسان ككل ولكنه يتخذ اليهود كعينة كاشفاً أهم فضائحهم، ولكن دون أن يذكرهم بالاسم حتى العدد (17) من الأصحاح الثاني .
- بـولـس الـرسـول كـان يمنح السامعين له هبة « الإيمان» بقوة تعطيهم الثبات في المسيح، لأن الإيمان الذي كان يستعلنه السامعيه هو إيمان بحضور المسيح فيهم وبفعل الروح القدس باقتناع داخلي فقال . وسوف نرى في عروض الرسالة أن الإيمان الذي كان يسلمه ق. بولس لسامعيه كان هو الإيمان الحي الفعال الذي لا ينفصل عن المسيح موضوعه ومعطيه ، فلا يمكن أن نأخذ الإيمان دون أن تأخذ المسيح، ولا يمكن أن نؤمن بالمسيح دون أن يكون المسيح هو العامل فينا بالإيمان ، وليس بأعمال الناموس بعد .
- وهو المرض الناجم عن هذه الخطية و يعرف في الطب باسم مرض فقدان المناعة، ونشأ بسبب اجتماع جماعة من شباب أمريكا مع نوع من أنثى الغوريلا وهي القرود في وسط أفريقيا ، فحملوا العدوى الكامنة في هذا الحيوان ونقلوها إلى بلادهم ومنها إلى كل أنحاء العالم. وهذا المرض لا شفاء له وقد دوخ جميع علماء العالم. وكأن الله لا يريد لهذه الخطية شفاء حتى يجعلها عاراً ثابتاً على الإنسان، كأحد المخازي العظمى التي ستكون سبباً في نهاية تاريخ العالم .
مقدمة | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 2 |
القمص متى المسكين | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |