تفسير رسالة رومية اصحاح 16 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الإصحاح السادس عشر
” وأوصي إليكم بأختنا فيبي التي هي خادمة للكنيسة التي في كنخريا” (رو1:16).
لاحظ إلى أي حد يمتدحها ، خاصة وأنه يذكرها قبل الجميع، ويدعوها أختًا، وليس بالأمر اليسير أن تُدعى أختا لبولس، ثم أضاف رتبتها ، داعيا إياها خادمة.
” كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين” (رو2:16).
أي أن تقبلوهـا لأجل الرب، لكي تتمتع بكرامـة مـن قبلكم، ان الـذي يقبل شخصا بإسم الرب يفعل ذلك، حتى لو كان ذلك الشخص غير ذي شأن وليست لـه مهابة. ولكـن بـالحري إذا كان ذلك الشخص قديسا فهو يقبلـه بإرادة كاملة وإستعداد ، ومـن ثـم فلابد أن يكـون واضحا لـك كيـف أن إظهار الرعاية لـ “فيبي”، له ما يبرره. ولهذا أضاف: “كما يحق للقديسين”، أي كما ينبغي أن نستقبل هـؤلاء القديسين. إذا هناك دافعـان لـكـي تعتنـوا بها، أولا أنتم قـد قبلتموهـا في إسـم الـرب، ثانيا أنهـا قديسـة. ثـم يضيف وتقدموا لها في أي شـيء إحتاجتـه مـنكم”. أرأيـت كـيـف أن الأمـر لـيس مزعجا؟ لأنه لم يقل، لكي تخلصوها من دين ما ، بل قال لكي تقدموا لها مما لكم، وتساعدوها، وبصفة خاصة ” في أي شيء إحتاجته منكم”، ليس فقـط في أي شيء، بـل تلك الأشياء التي تحتاجهـا مـنكم، وستحتاج تلـك الأشياء التي تمتلكونهـا. ثـم يمتدحها بمـديـح فـائق، قائلا: “لأنهـا صـارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضا “.
أرأيـت التعقل؟ فهـو بـدأ بالمـديـح ثـم تحـدث عـن الرجـاء والثنـاء أيضا ، محصـورا مـن الجـانبين، الإحتيـاج (أي مـا تحتاجـه)، والمـديـح لتلـك المـرأة الطوباوية . لأنه كيف لا تكون طوباوية تلك التي تحظى بكل هذه الشهادة العظيمـة مـن الـرسـول بـولس، والتي استطاعت أن تساعد ذاك الـذي بشـر المسكونة؟ خاصة وأن هـذا هـو قمـة صـلاحها، لهذا فإنه قد ذكر ذلك في النهاية، قائلاً: ” ولي أنا أيضا”. وماذا يعني بقوله: “ولي أنا أيضا؟” يعني لي أنا مبشر المسكونة، أنا الذي عانيت الكثير، وأنا الذي أنجزت أمورا لا حصر لها. ليتنا نتشبه أيضا رجالا ونساءا بهذه القديسة.، وبتلك المرأة التي ذكرها بعـد ذلـك هـي وزوجها ، (يقصـد بريسكلا وأكيلا). لكـن مـن هـمـا هـذان الزوجان؟ يقول:
“سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع” (رو3:16).
هذان يشهد لهما القديس لوقا بالفضيلة، أولاً حين يقـول: ” ولكـونـه مـن صناعتهما أقام عندهما (ق. بولس) “، ثم بعد ذلك عندما يبين أن المرأة أخذت أبولس بالقرب منها وشرحت له طريق الـرب بـأكثر تدقيق”. ان ذلك يعتبر بالطبع عملاً عظيما، ولكن الأكثر عظمة يظهر في ما يقوله القديس بولس، ماذا يقول إذا؟ أولاً يدعوهما عاملين معه، مبرهنا أنهما شريكان في أتعابه التي لا توصف، وفي المخاطر التي تعرض لها ، يقول بعد ذلك:
” اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي” (رو4:16).
أرأيت شهادات كاملة مثل هذه، خاصة وأنه كان من الطبيعي أن يكون هناك أخطار لا حصر لها في عصـر نيرون، الذي اصدر أمرا في ذلك الوقت بأن يرحل كل اليهود عن روما. “الذين لست أنا وحدي أشكرهما بل أيضا جميـع كنائس الأمـم”. هنـا هـو يمتدح ضيافتهما ودعمهمـا المـالي، مقـدرا أياهما ، لأنهما سفكا دمهما ، وقدما ثروتهما للجميع . أرأيت نساء يتصفن بالشجاعة مثل هؤلاء، واللاتي لم يتخلفن أبدا بسبب طبيعتهن الضعيفة، عن السلوك في طريق الفضيلة؟ بالطبع نعم، بل وكثيرات أيضا. لأنه: “ليس ذكر وأنثى. في المسيح يسوع”. ومـا قـالـه عـن المرأة قبلاً (أي فيبي)، هـذا يقوله عن هذه أيضا (أي بريسكلا). لأنه قال عن فيبي أنها “صارت مساعدة لكثيرين ولـي أنـا أيضا”، ولهذه (أي بريسـكلا) قـال “لسـت أنـا وحـدي أشكرها بل أيضا جميع كنائس الأمم” . إذا ولكي لا يبدو أنـه يقـول هـذا كله، متملقا إياها، فهو يعرض لشهود آخرين، أكثر بكثير من النساء.
” وعلى الكنيسة التي في بيتهما” (رو5:16).
لقد كان بيتهما مميزا جدا حتى إنهما جعلاه كنيسة، وبأنهما قد جعلا الجميع مؤمنين، من خلال إستقباله لكل الغرباء. فلم يكن معتادا بالطبع أن يدعو البيت كنيسـة، بـدون سبب، إن لم تكن تقـوى بريسكلا وأكيلا قوية، وإن لم تكن جذور مخافة الله متأصلة فيهما. ولذلك فعندما كتب إلى أهل كورنثوس قال: “يسلم عليكم في الرب كثيرا أكيلا وبريسكلا مع الكنيسة التي في بيتهما” “. وعن أنسيمس كتب قائلاً: “بولس..إلى فليمون المحبوب..وإلى أبفية المحبوبة..وإلى الكنيسة التي في بيتك”. لأنه من الممكن أن يصـبـح المـرء سـخيا، ونبيلاً، وإن تـزوج بعـد . إذا فهـذان (أي أكـيلا وبريسكلا) كانا زوجين، وكانا مشرقان بشكل فائق، على الرغم من أن مهنتهما لم تكن مبهجة (لأنهما كانا صانعي خيام). بيد أن الفضيلة غطت علـى كـل شـيء، وقدمهما الرسـول بـولس بإعتبارهما أكثـر بهـاءا مـن نـور الشمس، فلم يتجاهل عملهما ، ولا إرتباطهما بالزواج، بل ذكـر إنهمـا قـد أظهرا للمسيح تلك المحبة التي طلبها. وهي” ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحـد نفسه لأجل أحبائه””””.. وهـذا يعد سمـة يتميز بها تلميذ المسيح، وهذا ما حققاه (أي المحبة)، لأنهما حملا الصليب وتبعا المسيح . إذا فهذان اللذان صنعا محبة من أجل بولس، سيظهرا بالأكثر جدا الكرم والسخاء لأجل المسيح.
٤. فليسمع الأغنياء والفقراء هذه الأمور. لأنه إن كان اللذين عاشا على أعمال أيديهما، وكانا يديران ورشة صغيرة لصنع الخيام، قد أظهرا نبلاً إلى هـذا الحـد الكبير، حتى أنهما صـارا نافعين لكنائس كثيرة، فأي عذرا يمكن أن يقدم أولئك الذين على الرغم من أنهم أغنياء، إلا إنهم يحتقرون الفقراء؟ لماذا لم يتردد هذان (أي أكيلا وبريسكلا)، في تقديم ذاتهما حتى سفك الدم، من أجل تتميم إرادة الله، بينما أنت تحـزن مـن أجـل تقديم قليـل من المال، دون أن تحزن حتـى مـن أجـل نفسك، وهذا كثيرا ما يحدث؟ هـل أكيلا وبريسكلا، قد أظهرا مثل هذا السلوك تجاه المعلم (أي ق. بولس) ، ولم يظهراه للتلاميذ؟ إننا لا نستطيع أن نقول هذا أيضا، لأن كنائس الأمم، كما يقول الرسول بولس، تشكرهما. وبرغم أنهما كانا من اليهود، إلا أن قوة صدق إيمانهما دفعتهما للخدمة برغبة كاملة. وقد تطرق القديس بولس لزينة النساء وذكر إنها يجب أن تكون هكذا : “لا بضفائر أو ذهب أو لآلـي أو ملابس كثيرة الثمن” بل بما حققته بريسكلا، أخبرني إذا، أي ملكة أشرقت وأمتدحت بهذا القدر، مثل زوجـة الخيام (أي بريسكلا)، والتي صارت موضع حديث الجميع، ليس لعشرة سنوات أو عشرون سنة، بل سيظل الجميع يدعون للتشبه بها حتى مجئ المسيح الثاني، لأجل ما صنعته، أي تلك الأعمال التي تزينها ، أكثر من زينة التاج الملوكي.
إذن هل هناك أعظم من أنها كانت مساعدة لبولس، وأنها أنقذت معلم المسكونة، مما عرض حياتها للأخطار؟ لكن لاحظ: كان هناك ملكات كثيرات ولم يذكرهن أحد قط، بينما زوجة الخيام كانت تجول في كل مكان مع زوجها، وبقدر ما تشرق الشمس على الأرض، بقدر ما كان مجد المرأة (أي بريسكلا) يسطع في كل المسكونة . إن الفرس والسكيثيون، وأهـل ثراكي، جميع الساكنين في أقاصي الأرض، يمتدحون، ويطوبـون إيمـان هـذه المرأة. ألا يجعلـك هـذا تلقـي بعيـدا عنـك وبفرح، هـذا الـكـم مـن الثراء، والتيجان، والثياب الأرجوانية، لكي تنال هذه الشهادة؟ وبالطبع لن يستطيع أحد أن يقول، أنهما في الأخطار كانا (شجعائا)، وفي الأموال كنا يقدمان بسخاء، بينما أهملا البشارة، خاصة وأن الرسول بولس، يدعوهما عاملين معه، وشركاءه في الخدمة، أي في مجال الكرازة. ولا يخجل ذاك الذي هو الإناء المختار من الله أن يدعو المرأة (بريسكلا) عاملة معه، بل إنه يفتخر بذلك، فهو لم يلتفت إلى طبيعتها كإمرأة، بل كان يقدر رغبتها في الخدمة والكرازة. فما الذي يعادل هذه الجوهرة؟ أين هو ثراؤكم الذي ينفق في كل موضع؟ أين هي زينة الوجه، وأين هو المجد الباطل؟
لقد عرفت بريسكلا جيدا أن الزينة الحقيقية للمرأة، ليست هـي زينـة الجسد، بل هي تلك التي تُزين النفس، والتي لا تفقد مطلقا، ولا تخزن في صندوق، بـل تحفـظ في السموات . أنظـر إلى تعبهـا لأجـل الكـرازة، إلى الإكليل في الشهادة، إلى السخاء في تقديم الأموال، إلى محبتها لبولس، وإلى محبتها للمسيح، قارن هذه الأمور، بما تصنعه أنت، من جهة الإهتمام بجمع الأموال، والصراع لأجل مصاحبة الساقطات، والمشاجرة لأجل الحصول على العشب (أي أمور الدنيا الزائلة)، وحينئذا سترى، مـن هـمـا هـذين (بريسكلا وأكيلا)، ومن تكون أنت. أو من الأفضل أن نقول لا تعقد مقارنة فقط، بل أن تحذو حذو تلك المرأة (بريسكلا) في غيرتها ، وتلقي عن كاهلك أحمال العشب (كل أمور العالم)، لأن هذه هي الثياب الفاخرة . أجل، لتأخذ الزينة من السماء، وتتعلم كيف أصبح الذين كانوا مع بريسكلا هكذا (محبين للخدمة) . لقد تمثلوا بهما في محبتهما حين رأوا أنهمـا قـد إستضافا بولس سنتين . لكن ماذا عن الإقامة معهما لمدة سنتين، ما هو تأثير إقامة بولس عندهما طوال هذه المدة؟ وماذا أفعل أنا، الذي لم أستضـف بـولس، هكذا يقول المرء؟ إن كنت تريد فسيكون بولس عنـدك أنت أيضا وبصورة أكثر وضوحا مـن (بريسكلا وأكيلا)، لأن وجـه بـولس ليس هـو الـذي جعلهما هكذا ، بل كلامـه. وبناء على ذلك، إن أردت، فسيكون لديك بولس، وبطرس، ويوحنا، وكل جماعة الأنبياء، وسيتحدثون معك بصفة دائمة . إذا لتأخـذ كـتـب هـؤلاء الطوباويين، وأقـرأ كـل مـا كتبـه هـؤلاء، وحينئذ ستجعلك هذه الكتابات، مثلما كانت زوجة الخيام (أي بريسكلا).
ولماذا أتكلم عن بولس؟ لأنه إن أردت، فسيكون لديك رب بولس نفسه ، لأنه سيكلمك مـن خـلال لغـة بـولس، وبطرق مختلفة أيضا سيمكنك أن أنه بعد تستقبل الـرب، عندما تستقبل القديسين وعندما تعتني بكـل مـن يـؤمن بالرب، فحين يرحـل هـؤلاء، سيكون لديك تـذكارات للتقـوى. لأن الـذي يستقبل القديسين يعرف المائدة التي أكل عليها القديس، والمقعد الذي جلس عليه، والمخـدع الـذي نـام عـليـه، ويعرف التأثير الذي يتركـه رجـل الله على الشخص الذي أستقبله، حتى بعد أن يرحل. إذا كيف لك أن تتصور تأثر تلك الشونمية ، حين دخلت إلى العليه التي أقام فيها إليشع النبي ورأت المائدة ، والمخدع الذي نام عليه هذا القديس؟ ما هي درجة القداسة التي تظن أن هـذه المرأة قد نالتها من مكان إقامته؟ لأنه إن لم يكن هذا قد حدث، إن لم يقم اليشع النبي في العلية، ما كانت لتلقي إبنها وهو ميت هناك في المخـدع الـذي نام عليه اليشع النبي، وما كانت قد إكتسبت بحضوره فائدة كبيرة . إذا لو هذا الزمن الطويل، عندما ندخل إلى هناك، حيث أقام بولس، هناك حيـث فيد، وجلـس مـع آخـرين وتحـاور، هـل لنـا أن نتشـجع، وننتقـل مـن الأماكن إلى تلك الذكرى (أي ذكرى حضوره في كـل هـذه الأماكن)، وهل يكون أمرا طبيعيا أن يعاني أولئك الذين بـورع يستضيفون القديسين ، عندما تكون الأمور حادثة في وقت ليس بالبعيد؟.
إذن ونحن عارفون هذه الأمور فلنستقبل القديسين، لكي يضيء المنزل، لكي يتخلص من الأشواك، لكي تصير الحجرة ميناء، لنستقبلهم ولنغسل أرجلهم، فأنت لست أفضل من سارة، ولا أكثر سخاء ولا أكثر ثراء منها ، حتى وإن كنت ملكة. فقد كان لديها 318 عبد في منزلها، وفي ذلك الوقت من كان لديه إبنان، هذا كان يعد غني، إلا أنها لم تشعر بعظمة الغنى في هذا كله . ولماذا أتكلم عن ٣١٨عبدا؟ فكل المسكونة كانت لنسلها، وفي الوعود (التي أعطيت لها)، كان زوجها خليل الله، الله نفسه كان معينا له، الأمر الذي كان أعظـم مـن أي مملكة. لكن على الرغم من إنها كانت معروفة جدا، وكانت تعيش في مجد عظيم جدا، فإنها عجنت الدقيق، وخدمت ضيوفها خدمة كاملة، هكذا أخذت وضع الخادمة. أنت لست أكثر نبلا من إبراهيم، الذي قام بأعمال الخدم، بعد أن أقام أقواس النصـر البهية، بعد الإنتصارات التي حققها، وبعد الكرامة التي نالها مـن ملـك مصر، والذي طرد ملوك الفرس.
ولا تنظر بإزدراء إلى القديسين الذين ينزلون في بيتك، لأنهم زاهـدون في مظهرهم الخارجي، وفقراء، وكثيرا ما يرتدون ثيابا رثة، بل لنتذكر ذلك الصوت القائل: “بما أنكم لم تفعلوه بأحـد إخـوتـي هـؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا وأيضا “أنظروا لا تحتقروا احد هؤلاء الصغار لأنـي أقـول لـكـم إن ملائكتهم في السموات كـل حين ينظرون وجـه أبـي الـذي في السموات” عليك أن تستقبل بكـل مـودة وبقبلات السلام، أولئك الذين يحملـون لـك خيرات لا حصر لها. وبالإضافة إلى التفكيري سارة، فلتفكر في رفقـة الـتي أخذت ماء وسقت الجميع، ودعت الإنسان الغريب إلى بيتها ، بعدما تخلت . أي شعور بالتباهي “. ولهذا تحديدا فقـد نـالـوا هـؤلاء جـزاءا عظيما نتيجة إستضافتهم. أما أنت ـ إن أردت ـ فستأخذ مكافآت أعظم منهم . لأن الله لن يكتفـي بـأن يعطيـك الأولاد كثمـر، بـل سـيعطيك السـماء، وخيراتهـا ، والخلاص من الجحيم، وغفــران الخطايا ، لأن ثمـر الضيافة عظيم، بل وعظيم بشكل فائق . هكذا كان يثرون، فهو وإن كان بربريا، جعل ذاك الذي أمر البحر بسلطان عظيم، زوجا لأبنته، خاصة أن بناته قد إجتذبوا هذا الصيد الثمين.
إذن أيتها المرأة وأنـت تـدركين هـذه الأمور، مقدرة نبـل وشهامة أولئك النسوة، وكذلك إيمانهن، فلتحتقري الحماقة الحاضرة، أي زينة الملابس، المصوغات الذهبية الفخمة، وضع العطور، وأيضا عليك بترك حياة الفجور، كذلك الزينة (الخارجية)، والخطوة الرنانة (أي التي تصدر إيقاعا معينا)، ضعي كـل هـذا الاهتمام في نفسك، وأشعلي في ذهنك الرغبة في ملكوت السموات، لأنه إن ساد عليك هذا العشق (عشق التزيين والفجور)، ستنزلقين ي الوحل والطين، وستسخر منك النساء اللواتي الآن هن موضع إعجاب، لأنه من غير الممكن للمرأة المزينة بإمكانات روحية أن تطلب هذا الأمر المثير للسخرية . إذا فلتنزعـي عنـك كـل هـذه الأمور، التي تمتلكها الساقطات والراقصات، والعازفـات، بحمـاس شـديد، إرتـدي التقـوي، إحرصـي علـى إستضافة الغرباء، ومساعدة القديسين، إسـلكي بخشـوع، وبالصـلوات الدائمة. هـذه الفضـائـل هـي أثمـن مـن الثيـاب المطـرزة بالذهب، وأهـم مـن الأحجار الكريمة، والقلادات. هـذه الفضـائل تجعـل النـاس يكرمونـك، وتمنحك مكافأة سمائية عظيمة . هذه الزينة هي زينة الكنيسة، أما الزينة الخارجية، فهي زينة المسارح، الزينة الداخلية تؤهل لملكوت السموات، أما هذا العالم المحيط بك فهو عالم الاهتمام بالخيول والبغال، هو عالم الجسد المائت الذي ليست له أهمية، أما عالم الزينة الداخلية فهو لا يشرق بالصلاح، إلا داخل النفس التي يسكن فيها المسيح. إذا هذه الزينـة هـي مـا ينبغي أن نسعى إليها ، لكـي لـمـتـدح نـحـن أيضـا في كـل مكـان، ونقـدم الشكر للمسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى دهـر الدهور أمين.
عظة ٣٢ :
” سلموا على أبينتوس حبيبي الذي هو باكورة أخائية للمسيح” .
1. أعتقد أن كثيرين، ممن يتصورون بقناعة كبيرة جدا أنهم مهمين، سيتجاهلوا هذا الجزء من الرسالة، كمـا لـو كـان جـزءا زائدا ، وليس لـه أهمية كبيرة، واعتقد أنهم يجتازون نفس الأمر وسيفعلوا ذلك أيضا بالجزء الذي يختص بسلسلة النسب المسجلة في الإنجيل. فلأنه مجرد سجل أسماء، يعتقدون أنهم لن يستفيدوا منه شيئا. إن صائغي الذهب يهتمون بدقة بالبرادة الصغيرة (التي تخـرج مـن الـذهب)، بينمـا هـؤلاء (أي الذين يتصورون أنهـم مهمين)، فلا يكترثـوا بـالأجزاء الكبيرة مـن الـذهب . إذا فهـذا الكـلام يكفي لإبعادهم عن اللامبالاة هذه، وحيث إن الفائدة الناتجة عن كلامنا ليست قليلة، فإننا قد أظهرناها من خلال كل ما قيل من قبل ـ بعدما جذبنا انتباهكم إلى هذه التحيات الرسولية ـ إلا إننا سنحاول اليوم أيضا أن نستثمر نفس الجزء، لأنه من الممكن أن نحصـل علـى كـنـز عظيم، من خلال هذه الأسماء البسيطة. إذا لو انك عرفت لماذا دعي إبراهيم بهذا الأسم، وهكذا أيضا بالنسبة لأسماء مثل سارة وإسرائيل وصموئيل ستعرف مـن خـلال هـذا المدخل، أمور تاريخية كثيرة.
بل وينطبق نفس الأمر أيضا على الأزمنة والأماكن، وسيمكنك أن تجمع الكثير من المعلومات عنها، ومن هذا المنطلق فإن الشخص المهم، سيصبح غنيا، بينما ذاك الذي فقد الغيرة والحماس لـن يستفيد شيئا، ولا مـن تلك الأمـور الـتـي هـي بالغـة الوضـوح . حقـا فـإن إسـم آدم يعلمنـا فلسـفة ليسـت بالقليلة، كذلك إسـم إبنـه، وإسـم زوجتـه ذاتهـا ، كذلك أكثر الأسماء الأخـرى. لأن الأسمـاء تـذكـر بـأمور كثيرة، وبإحسـان الله، وتُظهـر فـرح النساء، خاصة عندما حملن وأعطين أسماء لأولادهـن، مـن خـلال عطية الله. لكن لماذا نفلسف مسألة الأسماء الآن، في اللحظة التي تظهر فيها لامبالاة لكثير من المعاني، بل أن الكثيرين لا يعرفون ولا حتى أسماء أسفار الكتاب المقدس؟ لا ينبغي علينا رغم ذلك أن نترك الإهتمام بهذه الأمور. يقول الكتاب “فكان يجب أن تضع فضتي عند الصيارفة””. ولهذا وإن كان لا يوجد بعد أحد كي يقبل هذه الكنوز، لنؤدي نحن دورنا، ولنبين أن الكتب المقدسة لا يوجد فيها شيء زائد، ولا طرق بلا هدف. لأنه إن لم يكن هناك ربحا أو فائدة من وراء ذكر هذه الأسماء، فما كان لها أن تُضاف في الرسالة، ولا كان الرسول بولس قد كتب ما كتب.
إلا أن هناك البعض مما هم عديمي الحياء، وفاقدي البصيرة، الذين هـم غير مستحقين لملكوت السموات، حتى أنهم يعتقدون أنه ليس فقط الأسماء هي الزائدة أو التي لا ضرورة لها، بل وكتب أو أسفار كاملة، مثل اللاويين ويشـوع ابـن نـون، وأسفار أخرى كثيرة. هكذا العهد القديم أيضا، فإن الكثيرين من الحمقى، قد رفضوه، وبسبب هذه العادة الشريرة، تقدموا نحو العهد الجديد وإقتطعوا أسفارا كثيرة منه. ولكن نظرا لأن هؤلاء سكارى، ويحيون للجسد، فلن أتحدث طويلاً، ولكن إذا وجد أحد عاشق للحكمة ، ومحب لسماع الأمـور الروحية، فسيجد أن تلك الأمور التي تبدو صغيرة في الكتاب المقدس ليست بلا هـدف، أو بدون سبب، وكذلك الأمور القديمة أيضا تحمـل فـوائـد كـثيرة. “فهـذه الأمـور جميعهـا أصـابتهم مثالاً وكتبت لإنذارنا “. كما يقول الرسول بولس. ولهذا قال لتيموثاوس: “أعكف علـى القراءة والوعظ”، دافعا إياه إلى قراءة الكتب القديمة (أي أسفار العهـد القديم)، وقد كان إنسانا صاحب فكر ورؤية كبيرة جدا ، حتى أنه كان يطـرد شياطين، ويقيم مـوتى . لنأت الآن للآيـة محـل البحث. “سلموا علـى أبينتوس حبيبي”. يجدر بنا إنطلاقا من هنا، أن نرى كيـف إنه يمتدح كل واحد بطرق متنوعة. لأن هذا المديح ليس بالقليل، بل هو مديح كبير بشكل فائق، ومؤشر على فضيلة كبيرة، أي أن يكون الرسول بولس حبيبه، بولس الذي لا يقبل أن يحب مقابل خدمة، بل إن محبته راسخة ويحمل الكل في فكره. ثم بعد ذلك نجد مديحا أخر في عبارة “الذي هو باكورة أخائية” . إذا فهـذا مـا يقصـده أي إمـا أنـه تغيـر وآمـن قبـل الآخرين، الأمر الذي يستحق كثيرا من المدح، أو أنه يتميز بتقوى وورع أكثر من الجميع . ولهذا فإنه لم يكتف بقولـه “الـذي هـو بـاكورة أخائية”، لكي لا تظـن انـه يعطيـه مجـد العالم، بل أضاف “للمسيح”. فإن كان المتقدم في الأمور السياسية، يظهر أنه شخص عظيم وبهي، فبالأكثر جدا في الأمور الروحية. إذن لأنـه كـان مـن الطبيعي أن ينتمي أبينتوس لنسـل متضـع، فهـو يشير إلى النبـل الحقيقي ، والتقدم، مكرما إياه من هذا المنطلق . ويقـول عنـه أنـه بـاكورة، ليس فقط لكورنثوس، بل لكل منطقة أخائية، كما لو كان قد أصبح بابا ومدخلاً للآخرين. والمكافأة التي ينالها مثل هذا الإنسان ليست بالقليلة، فإن واحدا مثل هذا سيربح بالتأكيد مكافأة كثيرة نتيجة الأمور الروحية التي حققها آخرون، لأنه ساهم كثيرا في جذب هـؤلاء للمسيح، من خلال البداية التي صنعها إذ هو باكورة أخائية للمسيح.
۲۔ “سلموا على مريم التي تعبت لأجلنا كثيرا” (رو6:16).
ما هذا؟ إن تتويج إمرأة مرة أخرى والاعتراف بها كمنتصرة، يدعونا نحن الرجال للخجل، أو من الأفضل أن نقول لا نخجل فقط، بل أن نفتخر أيضا. إذا فلنفتخر، لأن مثل هؤلاء النسوة، هن نساؤنا، لكننا نخجل لأننا نتضاءل كثيرا جدا أمامهن، فإذا علمنـا مـن أيـن يأخـذ هـؤلاء النساء الجـوهـرة أي الحياة مع المسيح، فإننا نحن أيضا سنلحق بهن على الفور. إذا ماذا كانت زينتهن؟ فليسمع الرجال والنساء، فهـن لا يتزين بالأساور، ولا بالأقراط، ولا بالخصيان والخادمات، ولا بالملابس المطعمة بالذهب، بل يتزين بالأتعاب من اجل أن يصـل الـحـق للآخرين. إن مـريـم كمـا يقـول، “تعبت لأجلنـا كثيرا “. ليس فقط لأجل نفسها، ولا لأجل أن تكتمل في الفضيلة، الأمر الذي تصنعه الآن نساء كثيرات، بأن يصمن وأن ينمن على الأرض، لكنها تعبت لأجل آخرين، وسلكت طرق الرسل والإنجيليين. إذا كيف يقول “لستُ أذن للمرأة أن تعلم ” هـو هنـا يمنعها عن قيادة الاجتماعات وعن التحدث على المنبر المقدس، وليس عن كلمة التعليم. لأنه لو كان الأمر كذلك، كيـف قـال للمرأة التي لها زوج “كيف تعلمين أيتها المرأة هل تخلصين الرجل”، كيف كان ينبغي أن ينصحن الأولاد، قائلا: “ولكنها ستخلص بولادة الأولاد إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل.
كيف علمت بريسكلا، أبولس؟ إذا لم يقل (ق. بولس) هـذا (أي عـدم السماح للمرأة بالتعليم)، لكي يعيق التعليم الذي يهدف إلى المنفعة، بل لكي يمنع التعليم العلـنـي الـذي يوجـه للعامـة، وفي المسرح العام، والذي يناسـب المعلمين. وهـذا يحدث عندما يكون الرجل مؤمنا، وكاملاً بشكل تام، ويمكن أن يعلم المرأة، لأنه إن كانت هي أكثر حكمة، لا يمنعها أن تُعلم، وأن تصحح أخطاء الآخرين، ولم يقل، التي علمت كثيرا ، بل قال: ” التي تعبت كثيرا”، بهدف أن يظهر أنه بالإضافة إلى خدمة الكلمة، فقد خدمت أيضا في مجال الاحتياجات الأخرى، التي تحتاج إلى جرأة بسبب الأخطار، وبسبب الإحتياج إلى المال، وبسبب الأسفار (أي التنقلات)، لأن النساء في ذلك الوقت كن أكثر شجاعة من الأسود ، طالما كن يتقاسمن الأتعاب مع الرسل من أجل الكرازة، ولهذا سافرن معهم، وخدمن في كل الإحتياجات الأخرى. فضلاً عن ذلك فإنه في حالة الخدمة مع المسيح، فقد تبعته نساء، مقدمين لـه خدمات وكن ينفقن من أموالهن، معتنين بالرب المعلم.
۳۔ “سلموا على أندورنكوس ويونياس نسيبي ” (رو7:16).
من الواضح أن هذا السلام هو مديح، لكن الكلام الذي يأتي بعد ذلك هو أعظم جدا. إذا فماذا قال: “المأسورين معـي”. لأن هـذا هـو التاج الأكثر عظمة، والإعتراف العلني والكبير بهما. وأيـن كـان بولس أسيرا، حتى أنه يقول ” المأسورين معي؟”. بالطبع لم يكن أسيرا ، بل كان يقاسي أكثر جداً من المأسورين، ليس فقط لأنه قد حرم من وطنه وبيته، بل لأنه صارع الجوع، والموت يوميا، ومصاعب أخرى لا حصر لها. لأن أسير الأمور الصعبة هـو ذاك الذي يحرم من أقربائه، فيصير مرات عديدة، عبدا بدلاً من أن يكون حرا ، بينما هنا من الممكن أن نتكلم عن تجارب لا تُحصى، والتي صبر عليها هذا المطوب (أي ق. بولس)، إذ كان يقاد للمحاكمات، ويزدرى بـه هنا وهناك، وقـد جلد بالسياط، وسجن، رجم بالحجارة، وتعرض للغرق، إذ كـان لـه أعداء كثيرين . إن الأسرى بعد خطفهم لا يصبح لهم عدوا بعد اعتقالهم، بل يكونوا متمتعين بعناية كبيرة من أولئك الذين أسـروهم، بينما الرسـول بولس، فكـان يحتقـر مـن الأعـداء بإستمرار ، ويضـرب في كـل مكـان بالعصي، وبسيوف حادة، وكان يواجه جماعات منظمة ويدخل في معارك. إذا فنظرا لأن هذين (أي أندرونيكوس ويونياس) مـن المحتمل أن يكونا قد شاركا معه في أخطار كثيرة، فهو دعاهما المأسورين معي، كما يقول في موضع آخر: “أرسترخس المأسور معي” .
ثم بعد ذلك يقدم مديحا آخر ” اللذين هما مشهوران بين الرسل”. فبرغم من كونهما رسل، وهذا أمرا عظيم، لكن أن يكونا مشهورين بين الرسل، فلك أن تفكر في مدى عظمـة هـذا المديح. لكنهما كانا مشهورين بسبب عملهما، وبسبب مـا حققـاه مـن إنجـازات. ولم يتوقف عنـد هـذا الحـد ، بـل يضيف مديحاً آخر، قائلاً: ” وقد كانا في المسيح قبلـي”. بالحقيقة، فعندما يذكر أنهما يسبقاه وقد آتيا ، بآخرين للمسيح، فهذا ما يعتبر إشاده عظيمة بعمـل المسيح في النفوس، لكـن أرجـو أن ننتبه إلى كيـف كـانـت الـنفس المقدسة نقية وبعيدة عن المجد الباطل. لأنه بعد كل هذا المجد، يضع آخرين قبله، ولا يخفـي أنـه أتى للمسيح بعدهما ، ولا يخجل أن يعترف بهذا. ولماذا تندهش، خاصة وإن كـان هـو نفسه لا يستحي أن يعترف بهذا ، في اللحظة التي لم يتوقف فيها عن إسترجاع ما حدث في حياته السابقة، داعيا نفسه مجـدفا ومضطهدا؟ إذا لأنه لم يستطع أن يضـع هـذين (أي أنـدرونيكوس ويونياس) قبل الآخرين، فقد أشار إلى نفسه إنه أتى للمسيح بعد الآخرين. ومن هنا وجد أنه من المناسب أن يسجل مدحا لهذين، قائلا: “وقد كانا في المسيح قبلي”.
4- “سلموا على أمبلياس حبيبي في الرب” (رو8:16).
أيضا يمتدح أمبليـاس بالمحبة. لأن محبـة بـولس كانت لله، وقد كانت تحمل في طياتها خيرات لا تحصى. فإذا كانت هناك عظمة عندما يحب الملك شخصا ما، فكـم تـكـون عظمـة المـديح، أن يجـب بـولس ذلـك الشخص؟ وبالطبع ما كان له أن يجب أمبلياس، لو لم يكن صاحب فضيلة كبيرة. لأنه إعتاد ليس فقط ألا يحب أولئك الذين يعيشون في الشرور والخطايا ، بل ويطبق عليهم قانون الحرمان أيضا، فيقول:” إن كـان أحـد لا يحـب الـرب يسوع المسيح فليكن اناثيمـا (محروما)”٩”. وأيضا: “إن بشـرنـاكم نحـن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم به فليكن أناثيما.
“سلموا على أوريانوس العامل معنا في المسيح” (رو9:16).
هـذا المـدح هـو أعظـم مـن الموجـه لأمبليـاس، لأنه يشمل كلاهما في آن واحد. “وعلى إستاخيس حبيبي”. مرة أخرى يتوج إستاخيس بالمحبة.
” سلموا على أبلس المزكي في المسيح” (رو10:16).
لا يوجـد شـيء مسـاو أو يعـادل هـذا المـديح، أي أن يكون في موضـع لا تطوله فيه الإتهامات، وأن لا يتهاون في الأمور التي تتفق مع وصايا الله. لأنه حين يقول: “المزكي في المسيح”، هو يذكر كل فضيلة. ولكن لماذا لا يتحدث عن أي شخص بعبارة، سيدي فلان؟ يرجع ذلك إلى أن المدح الذي يوجهه الرسول بولس لأحبائه يعد أعظم من هذا المديح، كما تعتبر هذه العبارة دليـل تكـريم فقط، بينمـا مـديـح بـولس لهؤلاء هـو دليـل فضيلة. بل ويكون بهذه الطريقة قد كرمهم بشكل كبير جدا ، بمعنى أنه يرسل سلامه لكثيرين من البسطاء، وأصحاب المكانة السامية، وللعظماء. وكون أنه يسلم عليهم، وأن يسلم على الواحد تلو الآخر في نفس الرسالة ، فإنـه يكـون قـد كـرم الجميع بشكل مماثل، بينما إمتداحه لكل واحد بشكل خاص، فإنه يقدم لنا الفضيلة الخاصة بكل أحد، حتى أنه بهذا لا يثير حسدا، إذا كان يكرم البعض، ولا يكرم البعض الآخر، ولا أن يخلق لا مبالاة وحيرة، إذا اعتبر الجميع مستحقين للمديح من أجل ممارسة نفس الأمور، بينما هم لم يكونوا مستحقين لهذا المديح في نفس المجال.
إذن لاحظ كيف أنه يأتي مرة أخرى إلى ذكر النساء موضع الإعجاب. لأنه بعدما قال: “سلموا على الذين هم من أهل أرستوبولس”
قال: ” سلموا على هيروديون نسيبي. سلموا على الذين هم من أهل نركيسوس”(رو11:16).
ومن المحتمل أن يكون هؤلاء ليسوا على نفس مستوى الذين سبق وتحدث عنهم، ومن أجل هذا لم يذكرهم جميعا بأسمائهم، وبعدما أعطى المديح اللائق بهم، باعتبارهم مؤمنين، لأن هـذا هـو معنى “الكائنين في الرب”، يحمل مرة أخرى سلاما لنساء، قائلاً:
وأيضا ” سلموا على تريفينا وتريفوسا التاعبتين في الرب” (رو12:16).
مـن جهـة مـريـم قـال إنهـا تعبت لأجلنا، بينما لهاتين (تريفينـا وتريفوسا)، يقول أنهما قد تعبتا بصفة مستمرة. وهذا المديح ليس بالقليـل عنـدما يذكر، أنهمـا قـد عملتـا عـلـى الـدوام، وليس فقط عملتـا ، بل وتعبتـا. أما بالنسبة لبرسيس، هو يدعوها المحبوبة، مبرهنا على أنها كانت أسمـى مـن هـاتين. يقول “سلموا على برسيس المحبوبة”. ويؤكد على أنها تعبت كثيرا، قائلاً: ” التي تعبت كثيرا في الرب”. هكذا كان يعرف كيف يدعو كل واحد بحسب إستحقاقه، جاعلاً هؤلاء أيضا أكثر رغبة في العمل والخدمة، بأن لا يحرمهم مـن ذكـر مـواهبهم، بل ويذكر أيضا وبشكل علني إمتيازاتهم ، مبرهنا على أنه يهتم بالآخرين إهتماما كبيرا ، دافعا إياهم لنفس الغيرة ، لأجل نوال المديح بسبب أعمال المحبة والخدمة.
5 ۔ ” سلموا على روفس المختار في الرب وعلى أمه أمي” (رو13:16).
كل الصلاح يوجد هنا أيضا، حين يكون الإبن هو هكذا مختار، والأم هي هكذا بمثابة أم بولس، والبيت مملوء بركة، والجـذر يتوافق مع الثمـر. لأنه ما كان له أن يقول “وعلى أمه أمي”، ما لم يكن قد شهد على فضيلة كبيرة في هذه المرأة.
” سلموا على أسينكريتس فليغون هرماس بتروباس وهرميس وعلى الأخوة الذين معهم” (رو14:16).
هنا لا تنظر إلى أنه يذكر هـؤلاء بـدون مـديح، بل على الرغم من أنهـم كـانوا أقـل كـثيرا مـن الآخـرين، كمـا يبـدو، إلا إنه لم يعتبرهم غير مستحقين لسـلامه، أو مـن الأفضـل أن نقـول أنـه لا يعـد مـدحا بسيطا، أن يدعوهم أيضا أخوة، تماما مثلما يدعو الذين يذكرهم فيما بعد، قديسين.
“سلموا على فيلولوغس وجوليا ونيريوس وأخته وأولمباس وعلى جميع القديسين الذين معهم” (رو15:16).
الأمر الذي يعد مقام عظيم جدا ، وكرامة عظيمة لا توصف . بعد ذلك، وحتى لا ينشأ أي شجار أو نزاع، بأن يدعو البعض هكذا ، ويدعو الآخرين بطريقة مختلفة، ويدعو البعض بأسمائهم، والبعض الآخـر بـدون تحديد ، والبعض يوجـه لـهـم مـديحا كثيرا، وللبعض الآخر أقل، فإنه يمزجهم معًا بكرامة متساوية في المحبة، وبالقبلة المقدسة، قائلاً:
” سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” (رو16:16).
وهو بهذا السلام يكـون قـد نـزع عنهم كل فكر يمكن أن يثير فيهم إضطرابا، وكل دافع لصغر النفس حتى لا يحتقر العظيم مـن هـو أقل، ولا يحسد الأقل من هو أعظم، بل ولا يكون هناك مجالاً للافتخار أو الحسد ، لأن هذه القبلة المقدسة، تخفف أو تلطف وتساوي بين الجميع . ومن أجل هذا فهو لا يطلب فقط أن يسلم بعضهم على البعض، بل وأن يرسل لهم سلاما من الكنائس، قائلاً: “يسلم عليكم”، ليس هذا وذاك بشكل منفصل، بل كل الكنائس معا ، ” كنائس المسيح”. أرأيت كيف أننا نربح الكثير من هـذا السـلام الرسـولي؟ كـم مـن الـكـنـوز كـنـا سـنفقدها ، ما لم نفحـص بالتدقيق ـ وبالطبع على قدر ما نستطيع ـ هذا الجزء من الرسالة (أي الخاص بالسلام الرسولي)؟ لأنه إن وجد شخص حكيم وروحاني، وينزل إلى العمق، فإنه سيرى لألئ كثيرة.
6ـ ولأن البعض طلبـوا مـرات عديدة أن يعرفـوا ، لمـاذا أرسـل سـلامه إلى كثيرين في هذه الرسالة، الأمر الذي لم يفعله في رسالة أخرى، نستطيع أن نقول أنه فعل هذا ، لأنه لم يكن قد رأى رومـا بعـد. ولكنه كما يقول، لم يرى كولوسي أيضا، ومع ذلك فلم يفعـل هـذا. أقـول إن يهود روما، كانت لديهم خبرة روحية أكثر من غيرهم، وهاجروا إلى هناك، كما إلى مدينة أكثر أمانا وسلطائا . إذا فنظرا لأنهم عاشوا في بلد غريب وكان ينبغي أن يتمتعوا بأمان كبير، ولأن البعض مـمـن اعتنـوا بـه وتعبـوا مـن أجـل كثيرين، كانوا معروفين لديه، لذلك فكان من الطبيعي جدا أن يكتب إليهم . لأنه مـن المؤكد أن شهرة الرسول بـولس لم تكن بالقليلة في ذلك الوقت، بل كانت كبيرة جدا، حتى أنه من خلال الكتابة فقط، يكـون لـدى أولئك الذين يستقبلون رسائله، حماية كبيرة، لأنهم ليس فقط كانوا يخدمون القديس بولس، بل أيضا كانوا يهابونه . إذا إن لم يكـن هـذا قد حدث (أي فيما يتعلق بتقديم العون الكثير للقديس بولس)، مـا كـان لـه أن يقـول ” صارت مساعدة لكثيرين ولـي أنـا أيضا ” وأيضا “كنت أود لـو أكـون أنـا نفسي محروما “. وعندما كتب إلى فليمون قال: “نظير بولس الشيخ والآن أسير يسوع المسيح””””، وإلى أهل غلاطية كتب يقـول: “قبلتمـونـي كالمسيح يسوع”، وكذلك بعث برسالة إلى أهل كورنثوس، قـال فيهـا : ” فأنتفخ قوما كأني لست أتيا إليكم”، وأيضا: “فهذا أيها الأخوة حولته تشبيها إلى نفسي وإلى أبلوس من أجلكم لكي تتعلموا فينـا أن لا تفتكروا فـوق مـا هـو مكتـوب كـي لا ينتفخ أحـد لأجـل الـواحـد علـى الآخـر”. مـن الـواضـح مـن خلال كل هذا ، أن الجميع كان يحمل تقديرا كبيرا للقديس بولس.
إذن فقـد أراد أن يكـون كـل هـؤلاء في أمـان أو طمأنينـة، وكرامـة ، فأرسل سلامه لكل واحد بشكل منفصل، وقدمهم بصورة جميلة علـى قـدر إستطاعته. إذا فقـد دعـي الـواحـد محبوبا، والآخر نسيبي، والآخـر المأسـور معي، والأخر العامل معي، والآخر المزكي، والآخر المختار، والواحدة دعاها برتبتهـا (أي خادمة أو شماسة)، لأنه لم يقـل فـقـط تلك التي تخدم أو توفر الإحتياجات، لأنه لو كان الأمر هكذا، لكان قد دعى أولئك اللاتي كن مع تريفينـا وبرسيس (خادمات)، أمـا هـذه (أي فيبي) فقد رسمت شماسة ، الأخرى دعاها عاملة معه ، ، ثم دعي واحدة أم، والأخرى دعاهـا التاعبة بسبب ما عانته من أتعاب، وآخرين دعاهم بالبيت (الذي يقيمون فيه). “سلموا على الكنيسـة الـتي في بيتهما”، آخـريـن دعـاهم بإسـم الإخـوة، وغيرهـم دعـاهـم قديسين، والبعض كرمهم بالسلام نفسه المرسل إليهم، وغيرهـم كـرمهم بأن أرسل سلامه بأسمائهم، وأخرين كرمهم بأن دعاهم باكورة، والبعض الآخر كرمهم بسبب طول الوقت الذي خدموا فيه، لكنه كرم أولئك الذين كانوا مع بريسكلا وأكيلا، أكثر من الجميع، لأنه على الرغم مـن أن الجميع كانوا مؤمنين، لكنهم لم يكونوا جميعا متساويين، بل كانوا مختلفين في الجهاد الروحي، ولأنه أراد بصفة خاصة أن يقودهم جميعا إلى غيرة أكبر، فهو لم يخـف المـديـح عـن أي أحـد . لأنه إذا كـان الـذين تعبـوا أكثر (من الآخرين)، لم يأخذوا مكافأة أكثر، فإن الأغلبية تصيري في لا مبالاة أكثر.
إن الكرامة لن تكون متساوية في ملكوت السموات أيضا، فالتلاميذ لم يكـن لـهـم قـدرا واحـد مـن الكرامة، ثلاثة منهم كانوا متميزين علـى الآخرين (أي بطرس ويعقوب ويوحنا). وكانت هناك فروقا كبيرة بين هـؤلاء الثلاثة. لأنه عند الله توجد دقة شديدة تصل إلى أبعد حد. “لأن نجما يمتاز عن نجم في المجد “. وعلى الرغم من أن الجميع كانوا رسلاً، وسيجلسون جميعا على أثنى عشر كرسيا، وجميعهم هجروا ممتلكاتهم، وكانوا مع المسيح، إلا أن المسيح أخـذ الثلاثة معه. وأيضـا قـال أنـه مـن المنتظـر أن البعض من هؤلاء أنفسهم سيمتازون: “وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لـي أن أعطيه إلا للذين أُعد لهم “. أمـا عـن بطـرس فقـد وضعه قبـل هؤلاء، قائلا: “أتحبني أكثر من هؤلاء”، وبالنسبة ليوحنا، فقد أحبه أكثر من الآخرين. إن الله سيفحص الجميع فحصا دقيقا، وسيتضح ما إذا كنت قد تميزت قليلا عن القريب، وما إذا كان (هذا الإمتياز)، لفترة زمنية قصيرة جدا، والله لن ينسى هذا البرحتى لو كان بقدر ضئيل، وهذا الأمر يمكن للمرء أن يراه ساطعا من البداية. إذ كان لوط بارا ، ولكن ليس بقدر ما كان إبراهيم، وحزقيا أيضا كان بارا ، لكن ليس بقـدر مـا كـان داود ، والأنبياء جميعا كانوا أبرارا، لكن ليس بقدر ما كان يوحنا المعمدان.
7- إذن أين هؤلاء، الذين بعد كل هذه الدقة الشديدة، يرفضون حقيقة وجود جهنم؟ لأنه إن كان الأبرار جميعا لن يتمتعوا بقـدر واحـد مـن المجـد ، حتى لو كانوا بعد يمتازون قليلا عن الآخرين، ( لأنه يقـول: ” نجـم يمتاز عـن نجـم في المجـد”)، فكيـف يمكـن أن يكـون الخطـاة في نفس الوضـع مـع الأبـرار؟ لأنه لا يمكـن للإنسان، ولا الله أيضا، أن يثير هـذا الإلتباس أو الحيرة. لكـن إن أردتم، سأبين لكـم هـذا الفـرق، وهـذه الدينونة العادلة الدقيقة، للخطاة، وتلك الأمور التي حدثت حتى الآن . لاحظ إذا ، لقد أخطأ آدم، وأخطـأت حـواء، وبالطبع فإن الأثنين قـد خالفا الوصية، لكنهما لم يرتكبـا نفس الخطية، وبناء على ذلك لم يدانا بنفس العقاب، لأن الفـرق كان كبيرا جدا، حتى أن الرسول بولس يقـول: ” وآدم لم يغـو لـكـن المـرأة أغويت فحصلت في التعدي”. فإذا كانت الغواية واحدة، لكن لأن حكم الله، كان دقيقا للغاية لذلك أظهر أن الفرق بينهما كبير جدا، حتى أن القديس بولس قال ذلك الكلام. أيضا قد عوقب قايين، بينما لامك الذي إرتكب جريمة قتل بعد قايين، لم يعان شيء مثل هذا (أي لم تنفذ العقوبة في حقه). إن القتـل قـد حـدث في الحالتين، بل أن جريمـة لامك كانت أكثر رعبا، فهو لم يكن أفضل، مقارنة بقايين، ولكن نظرا لأن لامك، لم يسمع تحذيرا من الله قبل الشروع في القتل، ولا تعامل بصفاقة أو عدم حياء على تساؤلات الله، بل ودون أن يراقبـه أحـد، أدان نفسه، وحكم عليهـا بأشـد أنواع العقاب، لذلك نال غفرائا. أما الآخر أي قايين، لأنه فعل العكس، فقد أدين.
أرأيت مقدار الدقة التي يفحص بها الله تلك الأمور التي تحدث؟ ومن أجل هـذا فقـد عاقب (البشـر) بالطوفـان وعاقـب أهـل سـدوم بطريقة مختلفة ، وبطريقة مختلفة أيضا، عاقب الإسرائيليين، وأهل بابل، وكـل مـن عـاش في عصر أنتيخوس، مبرهنا هكذا، أنه يعطي قيمة عظمى للأمور المختصة بنا. والبعض ظلـوا عبيـدا سبعين سنة، والبعض أربعمائة سنة، والبعض أكلوا أولادهم، وجازوا كوارث أخرى لا حصر لها أكثر رعبا وفزعا، ولا هكذا قد أنقذوا ، لا هـؤلاء ولا أولئك الذين حرقوا أحياء في سدوم. هكذا يقـول الرب: “ستكون لأرض سدوم وعمورة يـوم الـدين حالة أكثر إحتمالا مما لتلك المدينة”. إذا لو لم يكن الله مهتما بأمورنا، فلن يهتم بشيء، لا عندما نخطيء، ولا عندما نسلك بالفضيلة، وربما سيكون لدى المرء حينئذا مبررا ليقول إنه لا يوجد جحيم. لكن طالما أنه يعتني بنا إلى هذا الحد الكبير، حتى لا تخطئ، بل ويصـنع الكثير جـدا ، حتـى نـتمكن مـن أن نسـلك بالفضيلة، فمن الواضح جدا أنه عندما تخطئ، فإنه يعاقبنا، وعندما نسلك الفضيلة، يتوجنا.
لـكـن أرجـو أن تلاحـظ تقلب رأي الكثيرين. لأنهـم، يتهمـون الله بأنـه كثيرا ما يكون طويل الأناة ويتحمل أناسا دنسين، وفاسقين، ومتجبرين، وهـؤلاء لم يعاقبوا بعـد ، وإن هـدد بعقابهم في الجحيم، يتهمونـه بالقسـوة والعنف ولكن إن كان هذا التهديد ، يثير الحزن، فكان ينبغي عليهم أن يقبلوا طول أناة الله، وأن يقدروها. لكن يا لها من حماقة، ما هذا الرأي غير المعقول والسمج! يا للعجب لنفس تحب الخطية وتتجه نحـو الشـرا مـن هنا ، تأتي كل هذه التعاليم، حتى أن أولئك الذين يتكلمون وينشرون هذه الآراء، لو أرادوا أو كانـت لـديهم الرغبـة أن يمارسوا الفضيلة، فإنهم سيقتنعون سريعا بوجود جهنم أيضا، ولن تكون لديهم شكوكا. إنه يقـول أيـن وفي أي مكـان سـتكون جهـنم؟ ومـاذا يعنيك في هـذا ؟ لأن المطلوب أن تقـر بأنهـا موجودة، وليس تحديد موضعها على وجه اليقين. بالطبع هناك البعض مـمـن يحكون أساطير، مدعين أن جهنم توجد في يهوشفاط، حيث يشار بهذا إلى حرب كانت قد إشتعلت قديما، ويعتبرونهـا هـي جهنم. لكنـه يقـول، في أي مكان ستكون؟ كما أعتقد أنا، أنها في موضع ما خارج هذا العالم. لأنه كما أن السجون والمناجم، توجد بعيدا عن القصور الملكية، هكذا تماما ، فإن جهنم ستكون في مكان ما خارج هذا العالم.
إذن لا ينبغي أن نسأل أين توجد جهنم، بل نسأل عن كيف يمكن أن نتجنبها. ولا يجب أن تكون فكرة أن الله لا يعاقب الجميع هنا، تجعلنا لا نؤمن بأمور الـدهر الآتي (أي الدينونة)، بإعتبار أن الله محب للبشر وطويل الأناة. ولهذا فهو يهدد ، لكنه لا يلقي على الفور في جهنم، إذ يقول: “لأنـي لا أسر بموت الخاطئ”. ولكن إن لم يكن هناك موت للخاطئ، فإن مـا قيـل يكون أمـرا زائـدا. وأنـا أعـرف بالطبع، أنه لا شيء أكثر كرهـا لـديكم منه، لكن بالنسبة لي لا شيء أكثر بهجة من هذا الكلام. وليتنا، نتكلم عن جهنم قدر إستطاعتنا، حين نتناول طعام الإفطار، وعندما نتناول طعام العشاء، وحين نستحم، وفي كل مكان. وبالطبع إن لم نحزن على إرتكابنا للشرور في هذه الحياة الحاضرة، فلـن نفـرح بالخيرات في حياة الـدهر الآتي. وعن أي شر يمكن أن تحدثني؟ هـل عـن الفقر، أو المرض، هـل عـن الأسـر، وعن عجز الجسد؟
إن كـل هـذه أمـور تـدعو للسخرية، مقارنة بالجحيم . وحتى وإن تحدثت عن أولئك الذين يتعذبون كثيرا جدا بسبب الجوع، وإن تحدثت عن المقعدين أو العاجزين منذ طفولتهم، والذين يتسولون، إن هؤلاء يتمتعون بحياة سعيدة برغم كـل هـذا ، إذا ما قورنت حالتهم بالعذابات التي ستكون في الحياة الأخرى. بعد ذلك، فلنتكلم عن هذه الأمور، لأن هذا لا يتركنا نسقط في جهنم، إن كنا نتذكرها. ألم تسمع الرسول بولس يقـول “الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب؟ “”””. ألم تسمع كيف صار نيرون، ذاك الذي دعاه بولس أيضا ، سر الإثم (ضد المسيح)؟ “لأن سر الإثم الآن يعمل” .
إذن هل نيرون لن يقاسـي مـن العذاب؟ هـل ذاك الـذي هـو ضـد المسيح لن يقاسي؟ هـل تعتقد أن الشيطان لـن يتعـذب؟ هـل ضـد المسيح، والشيطان، سيظلان دوما في جهنم؟ إنهما لن يبتعدان بالطبع عن إرتكابهما للشرور، إلا إنهما سيدانان. هكذا يؤكد، أمـا عـن وجـود جهنم، فهذا بالطبع واضح لـكـل أحـد، إلا أن غير المؤمنين سيسقطون فيهـا. أخبرني، لأي سبب؟ لأن المؤمنين عرفوا إلههم. ومـا أهـميـة هـذا؟ الأهمية تعود إلى أنه عندما تكـون حياتهم دنسة، فإنهم لهذا السبب سيعاقبون، وبعقوبة أشـد مـن تلك التي لغير المؤمنين. “لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك. وكـل مـن أخطأ في الناموس فبالناموس يدان” . “وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا “56”. لكن هذا يحدث إن لم نقـدم حسـابـا عـن حياتنا الصحيحة، لكنني (أعتقـد) أن الحـديـث عـن أن الشيطان لن يعاقب يعد مجرد كلام قيـل عفـوا ، لأن الله يعرف، بل ويعـرف أفضـل جـدا مـن النـاس، أن الشياطين جميعها أيضا يعرفون الله، ويرتعدون منه، ويعترفـون بـه ديانا. إذا إن لم يكـن مـن الممكن أن تعطي حسابا عما فعلناه في حياتنا، وعن الأعمال الشريرة، فإن هؤلاء الشياطين سيفلتون مـن العقاب، ولا يمكن أن يحدث هذا، فلا تخدعوا أنفسكم أيها الأحباء. لأنه إن لم تكن هناك جهنم، كيف سيدين الرسل أسباط إسرائيل الأثنى عشر؟ وكيف يقول الرسول بولس: “ألستم تعلمون إننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة؟ ” . وكيف قال المسيح له المجد : “رجال نينوى سيقومون في الـديـن مـع هـذا الجيل ويدينـونـه “. وأيضا “إن أرض سـدوم تكون لها حالة أكثر إحتمالايوم الدين”.
إذن لماذا تتلاعب بأمور لا يمكن للمرء أن يتلاعب بها؟ لماذا تخدع نفسك وتخالف الصواب؟ لماذا تُصارع ضد محبة الله للبشر؟ لأنه أعد جهنم وهدد بها حتى لا نسقط فيها ، بعدما نصبح أفضل بالخوف منها . وبناء على ذلك فإن من ينكر الكلام عن هذه الأمور (المختصة بجهنم)، لا يفعل شيئا آخر، سوى أنه يدفع نفسه باتجاه جهنم، ويلقي الآخرين فيها بواسطة هذا الخداع . إذا لا تطلق أيدي أولئك الخاملين الذين يجاهدون من أجل إقتناء الفضيلة، ولا نزد من حجم لا مبالاة أولئك، لأنـه لـو آمـن الكثيرون، بعدم وجود جهنم، فمتى سيبتعدون عن الشر؟ وأين سيستعلن البر، لا أتحدث عن خطاة وأبرار، بـل عـن خطـاه فقط؟ إذا لماذا يعاقب الواحد هنا (أي في هذه الحياة)، بينما الآخر لم يعاقب على الرغم من أنه صنع نفس الخطايا ، أو أسوأ منها بكثير؟ فإن لم يكن هناك جهنم، فلن تستطيع أن تدافع عن نفسك بأي شيء، تجاه أولئك الذين يتطاولون . من أجل هذا أتمنى، بعدما توقف هذا الهزل، أن نسد أفواه أولئك الذين يعارضوننا بشأن هذه الأمور (المختصة بجهنم). لأن الإختيار سيكون بالحقيقة في غاية الوضـوح في الأمور الدقيقة، وفي الخطايا (التي نقترفها) وفي الأعمال التي نعملها ، وسندان عن نظرتنا غير النقية أو الشريرة ، وعـن الـكـلام البطـال، وعـن إدانتنـا لغيرنـا بشـكـل عـام، وسنعاقب عـن السكر، وسننال أجر عن كوب ماء بارد ، وعن أي تنهد ، كقول الكتاب؟ “وسيم سمة على جباه الرجال” هكذا يقول الرب” الذين يئنون ويتنهدون على كل الرجاسات”.
إذن كيف تتجرأ أن تقول إن الله الذي يفحص أمورنا بكل هذه الدقة ، يهدد فقط بجهنم دون أن تكون موجودة، أرجو أن لا تهلك نفسك وكـل مـن يقتنع بك، بواسطة هذا الرجاء الباطل. لأنه إن كنت لا تؤمن بكلامنا ، اسأل اليهود، وعبدة الأوثان، وكل الهراطقة، وجميعهم سيجيبون كما بفم واحد ، أن الدينونة ستحدث ، وأيضا سننال المكافأة . لكن ألا يكفي البشر لتسـألهم؟ بـل أسـأل الشياطين أنفسهم أيضا، وستسمعهم وهـم يصرخون: “أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا “. وبعدما تجمع كـل هـذا ، إقنع نفسك بأن لا تتكلم بحماقـات بـلا هـدف، حتى لا تدخل جهنم عمليا ، بـل لـكـي تستطيع، بعدما تتعقل هنا في الحياة الحاضرة، أن تنجـو مـن عـذابات الدهر الآتي، وتنال أيضا الخيرات في الحياة الأبدية، التي ليتنا جميعا نشترك فيها ، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليـق بـه مـع الآب والـروح القدس، المجد والقوة والكرامة، إلى أبد الآبدين آمين.
عظة 33 :
” وأطلب إليكم أيها الأخوة أن تلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافا للتعليم الذي تعلمتموه وأعرضوا عنهم. لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم. وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء” (رو17:16-18).
1. مرة أخرى يقدم نصيحة، ثم يتمنى، لأنه بعدما قال إن يلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات، وأن لا يطيعونهم، أضـاف: ” وإلـه السـلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعا ” و “نعمة ربنا يسوع المسيح معكم”. لكن لاحظ كيف أنه ينصح بوداعة، وهو يصنع ذلك ليس بسلطان، بل كمتضرع وكمن يعطي كرامة كبيرة لهم، لأنه يدعوهم أخوة، ويتضرع إليهم أيضا. يقول “أطلب إليكم أيها الأخوة”. بعد ذلك يعدهم للجهاد ، مبينا خداع أولئك الذين يهددون. لأنـه، كمـا لـو كـان هـؤلاء في ذواتهم، غيـر ظـاهرين أي “كمخادعين”، فيقول “أطلب أن تلاحظوا “، أي أن تُراقبوا بدقة، وتتعلمـوا جيدا ، وتفحصوا (كل شيء) بحرص. لكن أخبرني، ممن (ينبغي الحذر)؟ يقول من “الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافا للتعليم الذي تعلمتموه”. لأن هذه تحديدا أي الإنقسامات هـي الـتي تُدمر الكنيسة، وهـذا هـو سـلاح الشيطان، وهذا يحول كل شيء إلى فوضى تامة. لأنه بقدر ما يكون الجسد ـ أي الكنيسة التي هي جسد المسيح ـ متحدا، بقدر إستحالة وجـود مـدخل للشقاقات، لأن من الشقاقات تأتي العثرات.
لكن من أين تأتي الشقاقات؟ تأتي من التعاليم التي هـي عكس تعاليم الرسل. ومن أين تأتي مثل هذه التعاليم؟ من حيث إن معلميها هم عبيد للبطون وللشهوات الأخـرى . “لأن مثـل هـؤلاء” كمـا يقـول: “لا يخدمون ربنـا يسـوع المسيح بل بطـونهم”. حتى أنـه مـا كـان لتحدث عثرة، ولا إنشقاقات، لو لم يكونوا قـد إبتدعوا عقيـدة مـا، بالإضافة للتعليم الآريوسي، ولكي يوضح ذلـك هـنـا، قـال “خلافا للتعليم”. ولم يقـل “الـذي علمنـاه” بـل قـال “الـذي تعلمتمـوه”، رابحـا هـؤلاء مقـدما، وموضحا أنهـم آمـنـوا ، وسمعـوا ، وقبلـوا التعليم، وماذا سنفعل في أولئك الذين يحدثون شرورا مماثلة؟ لم يقل إندفعوا نحوهم أو ضدهم ووجهوا لهم الكلمات، بل قال “أعرضوا عنهم”. لأنـه سـواء كانوا قد صنعوا هذا ( أي الإنشقاقات والعثرات)، بجهل أو بخداع، فكان يجـب إصـلاحهم، لكن لأنهـم أخطأوا بإرادتهم، فلتبتعدوا عنهم. وهـذا مـا يقوله في موضـع أخـر: “أن تتجنبـوا كـل أخ يسـلـك بـلا تـرتيـب””. وعنـدمـا تحدث لتيموثاوس عن النحاس”، قدم مثل هذه النصائح، قائلاً: ” فإحتفظ منه أنت أيضا”.
بعـد ذلـك يسـخـر مـن أولئك الذين يصنعون هـذه الأمور، ويتحـدث عـن السبب، الذي منـه أثاروا هـذه الإنشقاقات، إذ يقـول: “لأن مثـل هـؤلاء لا يخدمون ربنـا يسوع المسيح بل بطـونهم”. هذا ما قاله عندما كتب إلى أهـل فيلبي “الذين إلههم بطنهم ” . لكنه هنا، كما يبدو لي، يقصـد أولئك المسيحيين الذين آمنوا من اليهود، والذين إعتاد أن يتهمهم على الدوام بأنهم عبيد للبطن. كذلك عندما بعث برسالة إلى تيطس، تكلـم عـن هـؤلاء بأنهم “وحوش ردية بطون بطالة “. والمسيح أدان هـؤلاء من ناحية أخرى، من أجل هذا الأمر، قائلاً: “تأكلون بيوت الأرامل”. والأنبياء أيضا وجهوا لهم مثل هذه الإتهامات، فيقـول مـوسـى الـنـبـي “سمنت وغلظـت .فرفضت الإلـه” ولذلك فقد نصح موسى قائلا: ” متى أكلت وشبعت .فأحترز لئلا تنسى الرب إلهك”. بل وفي الأناجيـل عنـدمـا قـالوا للمسيح “أية آية ثرينـا ” ، وبعدما تغـافـلـوا عـن كـل الأمـور الأخـرى، تذكروا المـن. هـكـذا يظهرون في كـل موضع، تحت سطوة هذه الشهوة (الأكل). إذا كيف لا تخجل يـا مـن أنت أخ للمسيح، أن يكون لك معلمين عبيدا لبطونهم؟
وبالطبع فإن سبب الخـداع هـو هـذا الأمر، بيد أن أسلوب المكيدة، هو مرض أخـر أيضا، وهـو النفـاق أو المداهنة، لأنـه يقـول:” وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء”، وحسنا قال “بالكلام الطيب”، لأن التظاهر بطيبة القلب إلى حد التعبير بالكلام اللطيف، بينما نفوسهم ليست هكذا (طيبة)، بـل هـي مليئة بالخـداع . ولم يقل “يخدعوكم”، بل يخدعون “قلوب السلماء”. ولم يكتف بهذا فقط، بل لكي يخفـف مـن شـدة تأثير الكلام السابق يقول:
” لأن طاعتكم ذاعت إلى الجميع” (رو19:16).
وهو يفعل هذا ، لا لكي يسمح لهم أن يسلكوا بسفاهة أو عدم حياء، بل لكي يؤمنهم بالمديح ويحيطهم مقدما بجمع من الشهداء. لأن هذا الأمر لست أنا وحدي الذي أؤكده، بل المسكونة كلها. ولم يقل “تعقلكم”، بل قال “طاعتكم”، أي خضـوعكم، الأمـر الـذي يشهد لهـم بالوداعـة الشـديدة. “فأفرح أنا بكم”، وهذا المديح ليس بالأمر الهين.
بعد ذلك أي بعـد النصح، تأتي الوصية. لكي لا يجعلهم، دون قصد ، لامبالين أكثر، بعدما يسقط عنهم الإتهامات، يلمح لهؤلاء، قائلاً: “وأريد أن تكونوا حكماء للخير وبسطاء للشر”. أرأيت كيـف أنـه يتهم هؤلاء مـرة أخرى، ودون أن يتشكك أو يشتبه أحـد فيـه؟ لأن هـذا الكلام يشير إلى تلميح الرسول بولس إلي أن البعض من هؤلاء، لا زالوا يخدعون.
” وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعا” (رو20:16).
إذا ولأنه تكلم عن أولئك الذين يثيرون الإنشقاقات والعثرات، فهو يذكر إلـه السـلام، لكي يتشجعوا ، ويتحـرروا مـن هـؤلاء. لأن ذاك الـذي يفـرح بالسلام، سيبطل كـل مـا يفسـد هـذا السلام. ولم يقل “سيخضع”، بل قال “سيسحق”، الأمر الذي هو أقـوى مـن مجـرد الإخضاع، وليس فقط سيسحق أولئك المخادعين، بل سيسحق الشيطان أيضـا الـذي هـو قـائـدهم في هـذه الأعمال، حتى يربح هؤلاء النصرة، ويصيروا مشرقين بأقواس النصر. والعزاء سيتحقق من خلال الزمن أيضا، لأنه أضاف “سريعا”. لكـن هـذا كـان تمنيا ونبؤة معا. ” نعمة ربنا يسوع المسيح معكم أمين”.
هنـا هـو يـذكرهم بالنعمة، كأعظم سلاح، والحائط الـذي لا يهـدم، والبرج الحصين، لكي يجعلهم أكثر إستعدادا . لأنه إن كنتم قد تخلصتم من الأمور الأكثر سوء، وتخلصتم منها بمعونة النعمة فقط، فبالأولى جدا ستتخلصـون مـن الأمـور الأقل سوء، حين صرتم أحباء، وساهمتم بكـل مـا لكم أو بكل ما تملكون . أرأيت كيـف أنه لا يذكر طلبـة بدون أعمال، ولا أعمال بدون طلبة؟ لأنه بعدما أكد على طاعتهم، حينئذ طلب من أجلهم، مبينا أننا نحتاج الأمرين، ما نقدمه نحن، وما يأتي من الله، إن كنا نريد أن نخلص حقا، خاصة وأنه ليس في السابق فقط، بل والآن أيضا ـ حتى إن كنا بعد عظماء ونتميز بالفضيلة ـ فنحن في إحتياج لنعمته؟
۲ـ “يسلم عليكم تيموثاوس العامل معي” (رو21:16).
أرأيـت المـديـح المعتـاد مـرة أخـرى؟ ” ولوكيـوس وياسـون وسوسيباترس أنسبائي”. ياسون هذا يذكره لوقا ، ويذكر لنا شجاعته، قائلا أنهم جروا ياسون هذا إلى حكام المدينة صارخين”. أما الآخرين فمنطقيا أن يكونوا من المتميزين، لأنه لا يشير مصادفة إلى أنهم أنسبائه، إلا إذا كانوا مماثلين لياسون في التقوى.
” أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة أسلم عليكم في الرب” (رو22:16).
وهذا ليس بالمديح الهين، بأن يكون ترتيوس كاتبا للرسول بولس. لكنه لا يقول هذا الكلام، لكي يمتدح نفسه، بل لكي ينتزع مـن هـؤلاء المحبة الدافئة خدمته.
“يسلم عليكم غايس مضيفي ومضيف الكنيسة كلها” (رو23:16).
أرأيت أي نوع من التيجان نسج لغايس، إذ أكد على ضيافة عظيمة بهذا القدر، ووضع الكنيسة كلها في بيته؟ لأن كلمة “مضيف”، يعني بها المحب للضيافة. لكن عندما نسمع، أنه استضاف القديس بولس، لا تُعجـب بـه مـن أجل كرمه فقط، بل من أجل حياته الورعة. لأنه إن لم يكن ذاك مستحقاً للفضيلة التي كانت فيه بالفعل، ما كان للرسول بولس أن يقيم عنده . إذا فذاك الذي عاني من أجل أن يتفوق في تنفيذ كثير من وصايا المسيح، لن يخـالف ذلـك القـانـون الـذي يحـث علـى أن نختـبـر بـتـدقيق أولئـك الـذين يستضيفوننا، وأن نقيم لدى أناس مستحقين.
“يسلم عليكم أراستس خازن المدينة وكوارتس الأخ”. لم يضف مصادفةً “خـازن المدينة”، بـل كـمـا كـتـب إلى أهـل فـيـلبي “يسلم عليكم جميـع القديسين ولا سيما الـذيـن مـن بيـت قيصـر”، لكـي يـبين أن البشـارة قـد وصلت إلى المناصب الكبرى أيضا، هكذا هنا أيضا يذكر المنصب، صانعا نفس الأمر عينه، ومظهرا أن الشخص الحذر أو المنتبه، لن يقف الغنى أمامه عائقا، ولا الاهتمام بالسلطة، ولا أي شيء أخر من الأمور المماثلة.
” نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم أمين” (رو24:16).
أرأيت من أين يجب أن نبدأ وإلى أين ننتهي؟ لأن مـن هـنـا قـد وضع أساس الرسالة، وفي نفس الوقت تمنى أن تكون النعمة التي هي مصدر كل صلاح مع هؤلاء ، مذكرا بكل الإحسانات. كذلك فإن هذا ـ هـو علـى أية حال ـ ملمح أو سمة المعلم الشجاع، أن يفيد تلاميذه، ليس فقط بواسطة الكلام، بل وبالطلبـات أيضا. ولهذا قال الرسـل: ” وأمـا نحـن فنواظـب عـلـى الـصـلاة وخدمة الكلمة.
3. إذن من سيصلي من أجلنا بعدما رقد بولس؟ الذين سيصلون هـم أولئك الذين يحذون حذو بولس، فقط لنهيئ أنفسنا لنكون مستحقين لهذا الدفاع وللطلبة من أجلنا، لكي لا نسمع فقط صوت بولس هنا في هذه الحياة، بل وحين نرحل للحياة الأخرى، نكون مستحقين لرؤية المسيح. أو من الأفضل أن نقول، إن كنا نسمعه هنا، فسنراه هناك في حياة الـدهر الآتي، حتى وإن كنا لا نقف بالقرب منه، لكننا سنراه على كل الأحوال وهـو يشـرق بجـوار العرش الملوكي، حيث الشاروبيم يمجدون، والسيرافيم يطيرون، وسنرى بولس مع بطرس، وسنرى إحتفال القديسين، ويكون هـو في القمة والأول في الترتيب، وسنتمتع بمحبته الحقيقيـة . لأنـه إن كـان وهـو في هـذه الحيـاة الحاضرة، قد أحب الناس بهذا القدر الكبير، حتى أنه يشتهي أن ينطلق لكي يكـون مـع المسيح، إلا أنه فضل أن يبقـى هـنـا في هذه الحياة ليتمم رسالته، فبالأكثر جدا ستظهر محبته في الحياة الأبدية أكثر دفئا.
ولأجل هـذا فأنا أحب رومية، على الرغم من أنني استطيع أن أمتدحها لأسباب أخـرى، مثـل مسـاحتها، وآثارهـا ، وجمالها ، وكثافـة سـكانها ، وسلطتها ، وبسبب ثرائها، وانتصاراتها في الحروب، لكنني أتـرك كـل الأمور الأخرى، وأراها سعيدة الحظ، لأن الرسول بولس كان يعيش بين أهلها وكتب لهم رسائل، وأحبهم بشكل فائق، وعندما كان يقيم هناك تكلم لهؤلاء، وهناك إنتهت حياته. ولهذا السبب صارت مدينة رومية معروفة ومشهورة، أكثـر مـن أي سبب آخـر، وأصبح جسـدا بطرس وبولس، مثل جسـد كـبير وقـوي لـه عيـنـان مشـرقتان. إن إشـراقه السماء ـ عنـدما ترسـل الشمس أشعتها ـ ليست بقدر إشراقه مدينة رومية، التي تُرسل هذين المشعلين إلى كل أجزاء المسكونة. مـن هـنـاك سيختطفا بولس وبطرس إلى السماء. فكروا وأرتعدوا ، أي مشهدا سترى رومية، سترى بولس وهـو يقـوم فـجـأة مع بطـرس مـن ذلـك القبر، ويقـف لمقابلة المسيح، أي زهـرة سترسل رومـا إلى المسيح، أي تاجا مزدوجا سترتدي روما ، أي سلاسل ذهبية ستلبس، أي منابع تملكها.
ولهذا أنا معجب بالمدينة، ليس بسبب الذهب الكثير الموجود فيها، وليس للأعمدة، ولا لأي أمر آخر يتعلق بمظهرها، بل لأجـل عـامودي الكنيسة : بولس وبطرس.
4. من الذي جعلني الآن أتحول إلى جسد بولس وأحدق النظر في قبره، وأرى رماد جسد ذاك الذي تحمل نيابة عن المسيح القليل من الآلام، الذي تحمل آثار الضربات، الذي نشر البشارة في كل مكان؟ رماد ذلك الجسد الذي ركض به في كل مكان، رماد هذا الجسد الذي تكلم به المسيح، وأبرق بالنور الأكثر بهاء من كل برق، وتحدث في مواجهة الشياطين بصوت أكثر قوة ورعبا من كل رعد، والذي قال به ذلك الكلام الطوباوي: ” كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح لأجل أخوتي”، وقد تحدث به ضد ملوك ولم يخجل، والذي عرفنا به من هو بولس وإله بولس؟ إن الرعد لا يخيفنا بالقدر الذي تخاف به الشياطين من صوت بولس. لأنه إن كانوا قد إرتعبوا من ملابسه، فبالأكثر جدا سيرتعبون من صوته. هذا الصوت هو الذي ساقهم مقيدين، هذا الصوت هو الذي جاب المسكونة ، وشفى مرضى، وأبعد الشر، وإستحضر الحق مرة أخرى، هذا الصوت كان يحمل المسيح داخله ومعا ذهبا إلى كل مكان.
لقد كان صوت بولس بمثابة الشاروبيم. لأنه كما أن المسيح يجلس فوق هذه القوات، هكذا يجلس فوق كلام بولس. خاصة وقد صارت كلماته مستحقة أن تحمل المسيح للجميع، بعدما نطق بتلك الكلمات وتكلم بهذا الحديث الذي كان محبوبا للمسيح، وطار إلى ارتفاع لا يمكن وصفه، تماما مثل السيرافيم. إذا هل يوجد ما هو أعلـى مـن ذلـك الصـوت الـذي قـال ” فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قـوات ولا أمـور حاضرة ولا مستقبلة. ولا علو ولا عمق ولا خليقـة أخـرى تقـدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا “. كم من الأجنحة يحمل هذا الصـوت كما يبدو لك؟ كم من الأعين يمتلك هـذا الصـوت؟ ومـن أجـل هـذا هربت الشياطين، ليس فقط حين كانوا يسمعونه وهو يتكلم، بل حين رأوا رداءه وهـو عـن بعـد. لقـد أردت أن أرى رماد الفم، الذي بواسطته تكلم المسيح بالعظائم والأسرار، بل وأعظم مما تحدث بها عن نفسه، لأنه كما أنه صنع عظائم مع تلاميذه هكذا تكلم بعظائم أيضا، والتي بها أعطى أولئك المدهشون النافعون، الروح القدس لكل للمسكونة.
إذن أي صلاح لم يتكلم به ذلك الفم؟ طرد شياطين، صفح عن الكثير من الخطايا ، سد أفواه طغاة ومستبدين، ألجم ألسنة فلاسفة، قاد المسكونة إلى الله، أقنع برابرة بالإيمان، غير كـل أمـور الأرض. بل وأمـور السموات أدارها كما أراد، ربط وحل كل من أراد بحسب السلطان الذي أعطى لـه. لكن ليس رماد فمه فقط، بل رماد قلبه أيضا أردت أن أراه، ولن يرتكب المـرء خطـأ لـو دعـاه قلـب المسكونة، ومصدر صـلاح لا حصر لـه، ومبـدأ ترتكز عليه حياتنا. لأن روح الحياة من هناك منح للجميع، ووزع على أعضاء المسيح، وأرسل ليس عبر شريان، بل بواسطة الصالحين، هذا القلب كان متسعا بهذا القدر الكبير، حتى أنه إحتوى مـدئا كاملة، وشعوبا، وأمما. يقول: “قلبنـا متسع”. لكـن هـذا القلب المتسع بهذا القدر الكبير، قد ذبحته وأثارت حزنه مرات كثيرة هذه المحبة التي جعلته متسعا. يقول: “لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم” .
كم كنت أتمنى أن أرى بصفة دائمة ذلك القلب (قلب ق. بولس) الذي كـان يحترق عنـدما يعثـر أحـد، والذي ولـد كـل مـن تمخض بهم، ولادة جديدة، لأن كل من لهم قلـب نقـي يقـول عنهم الكتاب ” يعاينون الله” ، القلب الذي صار ذبيحة “ذبائح الله هي روح منكسرة” رة”، القلب الذي كان أعلى من السموات، وأوسع من المسكونة. الأكثر إشراقا من أشعة الشمس، والأكثـر وهـجـا مـن النـار، والأقـوى مـن المـاس. القلـب الـذي عـاش الحيـاة الجديدة بحـق لأنـه يقـول: ” فأحيـا لا أنـا بـل المسيح يحيا ي”. إذا فقلب كان قلب المسيح، وكان إناء للروح القدس، وكتابا للنعمة. إنه القلب الذي كـان ينزعج مـن الشـرور والخطايا التي هـي غريبة عن الطبيعة الجديدة. يقول: “أخاف عليكم أن أكون قد تعبت فيكم عبثا “. “وكما خدعت الحية حواء بمكرها “8”، “لأني أخاف إذا جئت لا أجدكم كما أريد” بينما هذا القلب كان يخاف لأجل نفسه، وكانت لديه الشجاعة (لأنه يقول: ” حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضا ” وأيضا “فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ملائكة.. تقـدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنـا ” ، هذا القلب إستحق أن يحـب المسيح، كما لم يحبه أحد قط، واستهان بالموت وإحتقر جهنم، وإنسحق بدموع الأخوة، لأنه يقول: “ماذا تفعلون تبكون وتكسرون قلبي”، وكان قلبا صبورا إلى أقصى حد، ولم يحتمل أن يبتعد عن أهل تسالونيكي ساعة واحدة.
أردت أن أرى رماد يديه اللتين كانتا في سلاسل، فمن خلال وضعهما على الآخرين كـان يمنح الروح القدس، واللتين كتبت بهمـا الحـروف الإلهيـة “أنظروا ما أكبر الأحرف التي كتبتها إليكم بيدي”، وأيضا “السلام بيدي أنا بولس” . أردت أن أرى رماد هاتين اليدين، اللتين بمجرد أن رأتهما الأفعى سقطت في النار.
أردت أن أرى رماد تلك العينين اللتين أصيبتا بعمـى حسـن، العمـى الـذي نظر إلى خلاص كل المسكونة، واللتين إستحقتا أن تنظرا المسيح بالجسد ، اللتين نظرتا الأمور الأرضية والأمور غير المرئية. العينان اللتان لم تعرفا النوم، وظلتا متيقظتان في منتصف الليل، واللتان لم تُعاينا تلك الأمور التي تعانيها الأعين. أردت أن أرى رماد الرجلين اللتان ركضتا في أرجاء المسكونة، دون أن تتعبا. الرجلان اللتان كانتا مقيدتين في المقطرة الخشبية، عندما حدثت زلزلة في السجن، واللتان ذهبتا إلى مناطق آهلة بالسكان ومناطق مقفرة ، وسارتا على الطريق مرات عديدة.
ولماذا يجب أن أراهما بشكل منفصل؟ أردت أن أرى القبر، الذي فيـه حفظت أسلحة البر، أسلحة النور، الأعضاء الـتـي هـي حيـه اليـوم، بـل الـتي جازت الموت وهي حية ، التي كان المسيح يحيا فيها، الأعضاء المصلوبة لأجل العالم، أعضاء المسيح، اللابسة المسيح، هيكـل الـروح القدس، البنـاء المقدس، الأعضاء الموثوقة في الروح القدس، الراسخة في خوف الله، التي إقتفت آثار خطوات المسيح.
هذا الجسد الذي كان مثل سياج يحمي هذه المدينة، وهو أكثر أمانا من كل برج، ومن أسوار (تحيط بالمدن). ومع هذا الجسد يوجد جسد بطـرس. لأنـه في حياتـه أيضا، كـرمـه إذ قـال ” صـعدت إلى أورشليم لأتعـرف ببطرس”. ولهذا عندما رقد، أقرت النعمة بأنه مستحق أن يكون تحت خيمة واحدة مع بطرس. أردت أن أرى الأسد الروحي، لأنه مثل أسـد يبـث نيران في قطعان من الذئاب، هكذا وقع بين حزب الشياطين والفلاسفة ، ومثل هجوم الصاعقة نزل على كتائب الشيطان. لأن (الشيطان) لم يجرؤ على دخول معركة في مواجهة بولس، بل كان يخاف جدا ويرتعد ، حتى عن بعد، وكان يرحل سرا، إذا رأي ظل بولس فقط أو سمع صوته. هكذا فإن ذاك الذي صار زانيا، قد سلمه للشيطان، وبالرغم من أنه كان بعيدا، إلا أنه إختطفه مـرة أخـرى مـن يـده. وهكذا صنع بآخرين، لكي يتعلموا ألا يجدفوا.
لكن لاحظ كيف يقـود أولئك الذين ينضمون تحت لوائه في المعركة ، فيحـث إياهم ويشجعهم لهم، وكـان الـرسـول بـولس قـد سـبـق وقـال لأهـل أفسس: “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين ثم بعد ذلك يذكر المكافأة، قائلاً: ” في السماويات”. لأننا لا نصارع من أجل الأمـور الأرضية، بـل مـن أجـل السـماويات، ومـن أجـل الأمـور السـمائية. وقـد كتب أيضا لآخرين يقول: “ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة. فبالأولي أمور هذه الحياة”
إذن ونحن نتفهم هذه الأمور، لنقف (ثابتين) بشجاعة، كذلك فإن بولس كان إنسانا ، له نفس طبيعتنا، وكل الأمور المشتركة معنا، لكنه أظهـر محبة كبيرة للمسيح، عبر إلى السموات، ووقف بجوار الملائكة . بناء على ذلك فإن أردنا أن ننهض قليلاً، وأن نشعل داخلنـا تلـك النـار، سنستطيع أن نتمثل بالقديس بولس. لأنه إن كان هذا مستحيلاً، مـا كـان لـه أن يصرخ، قائلاً: ” كونوا متمثلين بي كما أنا بالمسيح”.
إذن لا يجب علينا أن نعجب به فقط، ولا أن نكتفي بالإندهاش، بل علينا أن نقتدي به لنكون مستحقين أن نراه عندما نرحل من هذه الحياة، ونشارك في المجد المحفوظ لنا. والذي ليتنا جميعا نكون مستحقين له بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق بـه مـع الآب والروح القدس المجـد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين .
” وللقادر أن يثبتكم حسب إنجيلي والكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السر الذي كان مكتوما في الأزمنة الأزلية. ولكن ظهر الآن وأعلم به جميع الأمم بالكتب النبوية حسب أمر الإله الأزلي لإطاعة الإيمان لله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد أمين” (رو16: 25-27).
1ـ لقد إعتاد الرسول بولس أن يختم نصيحته بتمنيات وتمجيدات، لأنه يعرف كيف أن الأمر يحمل نتيجة عظيمة، وإعتاد أن يصنع هـذا بحنـو وورع. خاصة وأن سمات المعلم الذي يحب التلاميذ، ويحب الله، أن لا يعلم فقـط بالكلام، بل وبالتضـرعات أيضا، وأن يدخل إلى نفـوس تلاميذه، فكـرة العهد مع الله، الأمر الذي صنعه هنا أيضا. لكن الصـلاة هـي هـذه: “وللقـادر أن يثبتكم. له المجد إلى الأبد أمين”. أي إنـه مـرة أخـرى يعود إلى الضعفاء، ويوجه حديثه لأنه حين وبخ، جعل التوبيخ عاما، أما الآن عندما يطلب أو يتمنى، فإنه يتضرع من أجل الضعفاء. ولكنه بعدما قال “أن يثبتكم”، أضاف، الطريقة التي سيتم بها هذا التثبيت “حسب إنجيلي”. هـذا بالطبع كان يعني، إنهم لم يكونوا بعد ثابتين في الإيمان، وإن كانوا حقا قائمين في الإيمان، إلا أنهم كانوا مهتزين. ولكي يجعل كلامـه موضع تصديق، أضاف “والكرازة بيسوع المسيح”، أي الكرازة التي كرز بها القديس بولس. لكن إن كان قد كرز بهذه الكرازة، فإن التعاليم ـ التي نعلم بها ـ ليست لنا، بل إنه هو الذي وضع المبادئ أي مبادئ الكرازة.
ثم بعد ذلك يقدم رؤية حكيمة للكرازة، ويظهر أن هذه العطية هي دليـل إنعام كبير، وكرامة فائقة. ويدلل أولاً على ذلك من خلال الكرازة بيسوع المسيح، وعن طريق الأمور ذاتها التي كرز بها ، لأنها كانت بشائر مفرحة ، وأيضا من حيث أنه لم يكرز بها لأحد آخر قبلنا. وهـذا مـا أشار إليه قائلاً: “حسب إعلان السر”، الأمر الذي هو دليل على محبة عظيمة جدا ، أي إنه يجعلنا شركاء في الأسرار التي لم يطلع عليها أحد آخر قبلنا. “الذي كان مكتوما في الأزمنة الأزلية. ولكن ظهر الآن”. أي إنه منذ القديم سبق وتقرر، لكـنـه أعلـن الآن. كيـف أعلـن “بالكتـب النبوية”. هنا أيضـا يـزيـل خـوف الضعيف في الإيمان. إذا فمما تخاف؟ هل تخاف أن تبتعد عن الناموس؟ أهـذا ما يريده الناموس؟ هذا ما بشر به منذ البداية، لكن إن كنت تفحص عن سبب إعـلان السر الآن، فإنك تصنع أمرا خطيرا ، بأن تفحص بتدقيق في أسرار الله، وتحمل الله المسئولية. لأنه لا ينبغي أن نبحث كثيرا في مثل هذه الأمور، بل يجب أن نقبلها بحب، وأن نفرح. ولهذا فإن القديس بولس أيضا يوقف هذه الرغبة، عندما أضاف “حسب أمر الإله الأزلي لإطاعة الإيمان”، لأن الإيمان يحتاج إلى طاعة، وليس إلى كثير من البحث والتفكير، وعندما يأمر الله، فيجب أن نخضع، وليس أن نبحث كثيرا.
ثم يعطيهم بعـد ذلك شجاعة من جهة أخرى، قائلاً: “وأعلـم بـه جميـع الأمـم”. أي ليس أنـت وحـدك، بـل أن كـل المسكونة هكـذا تـؤمن، لأن الرسـول بـولس إتخـذ الله، وليس شخصا آخـرا، معلمـا لـه . ولهذا أضـاف “بيسوع المسيح”. وليس فقط قد صار معلوما، بل وتأكد بعد. ولهذا يجب أن يقرأ هـكـذا أيضا، “وللقادر أن يثبتكم بيسوع المسيح”. لأنـه كمـا سـبق وذكرنا أن الرسول بولس يشير إلى الأمرين أيضا (أي التثبيت وإعلان السـر) يشير من جهة يسوع المسيح، أو من الأفضل أن تقـول، إنه لم يشير إلى هذين الأمرين فقط، بل إلى المجد الذي يعطى للآب. ولهذا قال: “له المجد إلى الأبد أمين”. يمـجـد مـرة أخـرى أيضا. متعجبا لهذه الأسرار غير المدركة، لأنه ولا حتى الآن حيـث ظهـر (في الجسد) يمكـن أن نفهـم هـذه الأسـرار بواسـطة التفكير، بل أن نختبرها بالإيمان، لأنه بغير ذلك لا يمكننا فهمها، وحسنا جدا قال : ” لله الحكيم وحـده”. أي إنه عندما تدرك كيـف أنـه قـاد الأمم وضمهم لأولئك الذين سلكوا بإستقامة منذ سنوات عديدة، وقـد كـانوا يائسين، أنقذهم، وكانوا غير مستحقين للأرض، أصعدهم إلى السموات ، وبينما قل شأنهم في الحياة الحاضرة، قادهم إلى تلك الحياة الأبدية السرية ، وبينما داست الشياطين عليهم، جعلهم مساويين للملائكة في الإستحقاق، وفتح لهـم الفـردوس، ومحـا كـل الشـرور القديمة، وتم ذلك كلـه في فترة وجيزة، وبطريقة سهلة وسريعة جدا ، حينئذ ستعرف الحكمة، عندما ترى أن الملائكة ورؤساء الملائكة لم يعرفوه، لكنـه عـرف أولئك بهذا السر العجيب وبصورة فجائية، أولئك الذين أتوا من الأمم بواسطة يسوع.
إذن بينمـا كـان يجـب عليـك أن تنـدهش لحكمته، وتمجـده، إلا إنـك تتحول وتبحث في الأمور الصغيرة، وتجلس بعد في الظل، الأمر الذي ليس من سمات ذاك الذي يمجد بالحقيقة، فالذي ليس لديه ثقة في المسيح، ولا في الإيمان، لا يمكنه أن يشهد لعظمة الأحداث. بيد أن القديس بولس أشار إلى المجد من أجلهم، حاثا هؤلاء أيضا على الغيرة ذاتها. أما عندما تسمعه يقـول: “الله الحكيم وحده”، لا تعتقد أن هذا يقال لإنكار حكمة الإبن . لأنه إن كان كل هذا قد صار عن طريق المسيح، وبرهن على حكمة الإبن، والذي بدونـه مـا تحقـق شـيء واحـد ، فإنـه مـن الواضـح جـدا، أن حكمته مساوية لحكمـة الآب. إذا لأي سـبـب قـال “وحـده؟” قـال هـذا للتمييز بينـه وبـين المخلوقات[1].
فلنعطي المجد والقدرة والكرامة والسلطان للآب والإبن والروح القدس الآن وكل آوان وإلى دهر الدهور آمين .
- هنا كلمة “وحده” للتشديد على أن الله واحد، وهذا يأتي ضد إيمان الوثنيين بتعدد الآلهة. والقديس أثناسيوس وهو يشرح آية يوحنا: “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”. يوضح نفس الفكرة أن “وحدك” هنا لتمييز الآب عن آلهة الوثنيين. أنظر الرسالة الثالثة ضد الآريوسيين. إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد و د. مجدي وهبة، الطبعة الثانية، فصل ٢٤ ص٢١-٠٢٦
تفسير رومية 15 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | فهرس |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |