تفسير رسالة رومية اصحاح 7 للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير رسالة رومية – الاصحاح السابع

 

بعد أن انتهى من الكلام عن التعاليم العملية الأخلاقية، نجده يعـود مـرة أخرى للتعاليم الإيمانية قائلا:

” أم تجهلون أيها الاخوة؟ لأني أكلم العارفين بالناموس ” (رو۱:۷).

إذن بعد أن قال إننا متنا عن الخطية، يوضح هنا أنه ليس الخطية فقط هي التي لن تسود عليهم، بل ولا الناموس أيضا. فإن كان الناموس لا يسود عليهم فبالأولى جدا لن تسود عليهم الخطية. بعد ذلك يجعل كلامه مريحا ، موضحا ذلك بمثال من الواقع. ويتضح من هذا المثال أنه يتكلم حقاً عن أمر واحد ، له دلالتين، الأولى أن المرأة لا تُعد تخضع لناموس الرجل بعد موته، ولا يوجد ما يمنعها أن تصبح زوجة لآخر. والثانية أنه ليس فقط الرجل هو الذي مات في هذه الحالة، بل والمرأة أيضا، ولكن بالنسبة لناموس الرجل – أي التزامها به كزوجة ـ وبناء على ذلك فإنها تتمتع بحرية مزدوجة، فعندما يموت الرجل، تكون قد تحررت من السلطة (أي من سلطة الرجل)، وعندما يظهر أنها هي ذاتها قد ماتت (عن التزامها بناموس الرجل)، فقد صارت بالأولى جدا ، حرة . فلو أن حدثا واحدا ـ أي موت الرجل – يحررها من السلطة ـ أي من سلطة الرجل – فبالأولى كثيرا عندما يتحدا الحدثان معا ـ أي موت الزوج وموت الزوجة عن التزامها بناموس الرجل ـ وحيث إنه أراد أن يتقدم في الكلام للتدليل على كل هذا ، فإنه يبدأ في مدح المتلقين لرسالته قائلاً: أم تجهلون أيها الاخوة؟ لأني أكلم العارفين بالناموس”. بمعنى أننى أتكلم عن أمر معروف وواضح جدا لأناس يعرفون كل هذه الأمور بكل دقة ويقول: ” أن الناموس يسود على الإنسان مادام حيا ” . لم يقل يسود على الرجل أو على المرأة بل “على الإنسان”، وهو لفظ واحد يطلق على الاثنين معا. “لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية” . وبناء على ذلك فإن الناموس هو ملزم للأحياء، أما بالنسبة للأموات فهو لم يعد ملزما لهم في شيء بعد. أرأيت كيف أنه أظهر أن للحرية جانبان؟ وبعدما أشار في البداية إلى سلطة الناموس، نجده يبرهن على ما يقوله بالإشارة إلى المرأة بقوله:

” فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي. ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل. فإذا مادام الرجل حيا تدعي زانية إن صارت لرجل آخر. ولكن إن مات الرجل فهي حرة من الناموس حتى إنها ليست زانية إن صارت لرجل آخر” (رو2:7۔3).

يشير الرسول بولس إلى هذه الحقيقة بصفة دائمة ـ أي التحرر من الناموس – وبدقة شديدة، لأنه يؤمن تماما بها. وهو هنا يضع الرجل في موضع الناموس، بينما يضع كل أولئك الذين آمنوا بالمسيح في موضع المرأة. غير أننا نجد أنه لم يعبر صراحة عن قناعته بأن الناموس قد مات وفقا لما قاله، لأنه كان من الممكن أن يقول ” يا اخوتى لا يسودكم الناموس لأنه مات”. إلا أنه لم يقل هذا، لأنه أشار إليه من قبل، بل يستنتج من كلامه حقيقية كيف أن المرأة ماتت بالنسبة للناموس، حتى يجعل تأثير كلامه أقل ألما، وهذا يتضح من قوله:

” إذا يا اخوتى أنتم أيضا قد متم للناموس” (رو4:7).

فإذا كانت الحرية هي ذاتها التي يمنحها هذا وذاك، ـ أي عندما يموت الرجل، وعندما تموت المرأة عن التزامها بناموس الرجل – فلن يكون هناك ما يمنع أن يمتدح الناموس من حيث إنه لا يتسبب في أية أضرار. “لأن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس مادام هو حي”. أين هم الآن أولئك الذين يسيئون إلى الناموس؟ فليسمعوا هذا، فبالرغم من أنه لا يمكن إلغاء الناموس عندما تكون هناك ضرورة لوجوده، إذ يتحتم على اليهودي أن يخضع له، بل إن من يخالفونه يعتبرون زناة، إلا أنه لن تكون هناك حجة إذا هجر اليهود ذلك الناموس، عندما يصبح ميثا، فلن يوجه أحد أية إساءة لهم في هذه الحالة. ” ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل “. أرأيت كيف أنه هنا في المثال يوضح أن الناموس قد مات؟ ولكنه لا يتحدث عن موت الناموس كلية. “فإذا مادام الرجل حيا تُدعى زانية إن صارت لرجل آخر”.

انتبه كيف أنه يصر على توجيه إدانة لأولئك الذين يخالفون الناموس، طالما أنه لا يزال باقيا. أما عندما يبطل، فيمكن للزوجة أن توهب لآخر دون خوف من الإدانة، إذ هي لا تخالف الناموس في هذه الحالة. لكن ” مادام الرجل حيا تدعى زانية إن صارت لرجل آخر”. “إذا يا اخوتي أنتم أيضا “، وكان متوقعا أن يقول ، طالما أن الناموس قد مات، لن تدانوا بالزنا، عندما ترتبطوا فيما بينكم بطريقة أخرى، ولكنه لم يقل هذا، بل قال “قد مثم للناموس”. فإن صرتم أمواتا للناموس، فإنكم لستم تحت الناموس. إذا طالما أن المرأة تصير متحررة بموت الرجل، فبالأولى جدا عندما تموت المرأة ـ عن التزامها بناموس الرجل كزوجة ـ تصير متحررة منه .

أرأيت كم هي عظيمة حكمة الرسول بولس، إذ أظهر أن الناموس قد أراد هذا الأمر، أن للمرأة الحق في أن ترتبط برجل آخر بعد موت زوجها؟ فكما يقول إنه ليس هناك ما يعيقها أن تتزوج برجل آخر، طالما أن الأول قد مات . فكيف يسمح (الناموس) أن تُعطى الزوجة كتاب طلاق بينما الزوج لا يزال حيا؟ أقول إن هذا يتعلق بالأكثر بالخطية التي قد تسقط فيها المرأة. لذا لم يشر هنا إلى هذا الأمر، وحتى لو سمح به، إلا أنه لم يكن بالنسبة للرسول بولس معفى من الاتهام. وعلينا أن نلاحظ مبدأ عند القديس بولس، هو أنه غير مجبر على الحديث عن حالات اضطرارية أو مسائل خاصة أثناء حديثه، هكذا لا يتطرق إلى أمور غير ملزمة للجميع أو أقل ضرورة، لأنه لا يهتم إلا بجوهر الأشياء. 

إذن فالأمر المدهش هو أن الناموس نفسه يقودنا إلى أن نتخلص من الخطايا عندما نتحرر منه، فهو يريدنا أن ننقاد إلى المسيح . إذ أن الناموس قد مات بالحقيقة، ونحن متنا (للناموس) وبطل سلطانه تماما. ولكن الرسول بولس لم يكتف بهذا ، بل أضاف السبب، لأنه لم يشر إلى الموت فقط، بل إلى الصليب أيضا الذي حقق كل هذا، وهكذا جعلنا مميزين، لأننا لم نخلص بسهولة، ولكن خلاصنا قد تم بموت الرب. لأنه كما يقول: ” إذا يا أخوتي أنتم قد متم للناموس بجسد المسيح “.

ولكنه لا يعظ بهذا فقط، بل يعظ ويؤكد أيضا على امتياز آدم الثاني. ولهذا أضاف: ” لكي تصيروا لآخر للذي قد أقيم من الأموات لنثمر لله “.

 

 حتى لا يقولوا فيما بعد، ماذا سيحدث إن لم نصر لآخر؟ وأقول إن الأمر المؤكد هو أن الناموس لم يجعل الأرملة زانية عندما تتزوج للمرة الثانية ، كما أنه لا يجبرها أن تتزوج . إذا فلكي لا يقولوا هذا، وضح لهم ضرورة أن نكون لآخر، بسبب ما أصبحنا نتمتع به، وهذا ما أشار إليه في مواضع أخرى بأكثر وضوح، قائلا: ” إنكم لستم لأنفسكم” و” أشتريتم بثمن” و” لا تصيروا عبيدا للناس”، وأيضا ” وهو مات لأجل الجميع لكي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم..” هذا بالتحديد ما أشار إليه هنا بقوله متم للناموس “بجسد المسيح”. ثم بعد ذلك يبشر برجاء عظيم، قائلاً: “لنثمر لله”. لأنكم من قبل ـ أي حين كنتم تسلكون بالجسد ـ كنتم تُثمرون للموت، أما الآن فأنتم تثمرون لله.

” لأنه لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطية التي بالناموس تعمل في أعضاءنا لكي نثمر للموت ” (رو7: 5).

هل ربح الإنسان الأول أي شيء؟ لم يقل الرسول بولس عندما كنا تحت سلطان الناموس، متجنبا دائما أن يتيح فرصة للهراطقة، ولكنه قال “لما كنا في الجسد”، أي كنا نسلك في الأعمال الشريرة، والحياة الجسدية. فهو لم يقل إن السلوك حسب الجسد كان قبل الناموس، بل مع وجود الناموس، ولكنه أوضح كيف أنهم صاروا يشتهونه، حتى بعدما أصبحوا متحررين من سلطة الجسد . ولكن بعدما أوضح هذا، لم يقل إن الناموس هو السبب في ارتكاب الخطايا، ولا أعفاه من اللوم. لأنه كان في موضع الاتهام، بسبب كشفه للخطايا. لأن هذا الناموس الذي كثيرا ما يأمر الإنسان بالخضوع لوصايا الله يكشف مدى ضعف الإنسان المتمثل في رفضه الخضوع لتلك الوصايا، وارتكابه للخطايا. ولهذا لم يقل أهواء الخطية التي صارت بالناموس، بل ” التي بالناموس”، أي لم يضف التي صارت، ولكن اكتفى بعبارة “التي بالناموس”، أي تلك التي تكشف بالناموس، والتي تُعرف بواسطة الناموس.

ثم بعد ذلك ولكي لا يتهم الجسد، لم يقل تلك الأهواء التي تعمل من خلال أعضاء جسدنا، بل ” أهواء الخطية.. تعمل في أعضاء الجسد” مظهرا كيف أن بداية الشر مصدرها الأفكار التي تحرض على ارتكاب الخطايا. كأن النفس هي كالعازف، بينما الجسد هو كالقيثارة، فتخرج النغمات كما يريدها العازف، وبناء على ذلك فإن النغمة الرديئة لا تنسب للقيثارة (الجسد)، إنما يجب أن ننسبها للنفس.

3 ـ ” وأما الآن فقد تحررنا من الناموس” (رو6:7).

أرأيت كيف أنه هنا أيضا يهتم بالحديث عن الجسد ، بجانب حديثه عن الناموس؟ لأنه لم يقل إن الناموس تحرر، ولا قال إن الجسد تحرر، بل قال “تحررنا”. وكيف تحررنا؟ تحررنا بعدما مات الإنسان العتيق الذي كنا ممسكين فيه ودفن. لأن هذا هو ما أعلنه قائلاً: ” إذ مات الذي كنا ممسكين فيه”. كما لو كان قد قال إن القيد الذي كنا ممسكين به قد سقط وانتهى، حتى لا نكون ممسكين بالخطية التي أمسكتنا قديما. إلا أنك لا يجب أن تستكين، ولا أن تكون غير مبال، لقد تحررت لكي تصير مرة أخرى عبدا، ولكن ليس بنفس الطريقة، بل ” بجدة الروح لا بعتق الحرف”.

فما الذي يعنيه الرسول بولس من كلامه هنا، هذا ما يجب أن نوضحه حتى لا ننزعج عندما نصل إلى هذا الجزء.

عندما يقول الرسول بولس إن آدم أخطأ، وصار جسده فاسدا، وخضع للشهوات وجاز نقائص كثيرة، يكون بهذا قد أصبح أكثر حزئا وعصيانا. لكنه يصف لنا حالتنا بعدما أتى المسيح قائلا إنه أتى وجعل جسدنا أكثر خفة بواسطة معموديتنا، مانحاً هذا الجسد أجنحة الروح . ولهذا السبب تحديدا فإننا لن نجوز نفس التجارب التي جازاها القدماء، لأن الطريق لم يكن سهلا في ذلك الوقت. ولذلك فإن المسيح له المجد لا يطلب منا نحن الذين اعتمدنا باسمه أن نكون مبغضين فقط للقتل ـ مثلما كان قديما ـ بل مبغضين للغضب أيضا. كذلك لا نكون متحررين فقط من الزنا، لكن متحررين أيضا من النظرة الشريرة. ولا أن نبتعد فقط عن إعطاء الوعد عن طريق القسم، لكن أن نبتعد عن القسم تماما، بل ويوصينا أن نحب الأعداء. وفي كل الأمور الأخرى جعل طرق خلاصنا ممكنة وسهلة، وإن لم نخضع فإنه ينذرنا بجهنم، وقد أوضح لنا أن المطلوب – بالنسبة للذين يجاهدون – ليس هو مجرد الرغبة في الافتخار بالعفة والتجرد مثلاً، بل بالحري ينبغي على كل حال أن نتمم هذه الفضائل عمليا. لأن هناك ضرورة ملحة لتطبيقها، والذي لا يفعلها يعاقب بأشد العقاب. ولهذا قال: ” إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات” والذي لن يرى الملكوت بالطبع سيوجد حتما في جهنم. ولذلك قال الرسول بولس: ” فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة”. وهنا أيضا يقول: ” حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف”. لأنه لا يوجد حرف يدين، أي الناموس القديم، بل يوجد الروح الذي يعين. فإذا استطاع شخص – في فترة الخضوع للناموس ـ أن يحفظ البتولية، فهذا في حد ذاته كان يعد أمرا عظيما جدا، أما الآن في المسيح فإن هذا الأمر منتشر في كل أرجاء الأرض . وكذلك بالنسبة للموت أيضا، الذي استطاع بعض الرجال أن يستهينوا به، بينما الآن في المسيح توجد أعداد لا تحصى من الشهداء في القرى والمدن، ليس من الرجال فقط، بل ومن النساء أيضا جميعهم لم يقيموا للموت حسابا.

 ٤ ـ ثم يشرح بعد ذلك أن ثمة مفارقة قد ظهرت، موضحا في هذا الشرح ما يريد أن يقوله. الأمر الذي لم يفعله من قبل . إذ انطلق من هذه المفارقة والتي تبدو أنها مستنتجة من كلامه السابق . وهذا الشرح يُظهر أنه لا يريد أن يوجه أي إدانة قاسية للناموس. إذا بعدما قال:

” حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف “ أضاف” فماذا نقول؟ هل الناموس خطية؟ حاشا ” (رو۷:۷).

 وقبل هذا قال: ” لأنه لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطية التي بالناموس تعمل في أعضاءنا”، وأن ” الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة” وأيضا “إذ حيث ليس ناموس ليس أيضا تعد” ” وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية”. وأيضا ” الناموس ينشئ غضبا “. من الواضح أن كل ذلك يعتبر إدانة للناموس، فكما لو كان قد أراد أن يزيل هذا الشك، فإنه يشير إلى المفارقة قائلاً: ” فماذا نقول؟ هل الناموس خطية؟ حاشا “.

فقد كان هدفه أن يقترب من المستمع، وأن يجعله لا يتعثر. لأنه بعد أن عرض هذا الكلام عليه، وعرف ما يجول بخاطره، يشاركه الرغبة في شرح ما هو غير مفهوم، حتى لا يشك في كلام محدثه . ولهذا ألحق بكلامه تلك المفارقة مشيرا إلى الناموس. لأنه لم يقل، ماذا يمكن أن نقول؟ لكنه قال “فماذا نقول”؟ كما لو كان الأمر متعلقا بقناعة جمع كبير هو منهم، إذ استنتجوا هذا السؤال الاعتراضي النابع منهم كنتيجة لما قيل، وهذا ما تظهره حقيقة الأمور، لأنه يقول إن حرف الناموس يقتل، ولم يعترض أحد ، وأن الروح يحيي وهذا واضح، ولا يستطيع أحد أن يختلف على ذلك أو يعارض فيه . إذا لو كانت هذه الأمور مقبولة، فماذا يمكن أن نقول من جهة الناموس؟ هل الناموس خطية؟ حاشا، إذا فقد رفع الشك والحيرة . أرأيت كيف يزيل هذا الاعتراض، ويقدم الشرح آخذا مكانة المعلم (الذي يشرح أمرا ما)؟ وما هو هذا الشرح ؟ هو أن الخطية لم تكن موجودة، إذ يقول “بل لم أعرف الخطية إلا بالناموس”. انتبه إلى قوة الحكمة، فقد فهمنا من خلال سؤاله الاعتراضي “هل نبقى في الخطية “؟ أن الخطية ليست هي الناموس، ثم يمضي في إقناع اليهودى بقبول ما هو أقل، لكن ما هو الأقل؟ هو “لم أعرف الخطية إلا بالناموس”. ” فإننى لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته “. أرأيت كيف أنه لا يدين الخطية فقط، بل ويشير أيضا إلى أن الناموس ينشئها؟ لكنه لا يعرض لذلك باعتبار أن الناموس هو السبب وراء ما يحدث – أي خطية الشهوة ـ بل أن السبب في بروزها يعود إلى اليهود التعساء. وهنا ينبغي أن نسد أفواه المانويين الذين أدانوا الناموس. لأنه بعدما قال: ” لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته” أضاف:

” ولكن الخطية وهى متخذة فرصة بالوصية أنشأت في كل شهوة ” (رو8:7).

أرأيت كيف أنه برأ الناموس من الإدانة؟ لأنه بعدما أظهر الدافع، يقول إن الخطية وليس الناموس، هي التي ضخمت الشهوة، الأمر الذي يعتبر دليلاً على الضعف، وليس على الخبث. لأنه عندما نشتهي ثم تمنع من إتمام الشهوة، تزداد اشتعالاً أكثر . إلا أن هذا ليس عمل الناموس. لأن الناموس ينهي عن ارتكاب الخطية، لكي يبعد الإنسان عنها، بينما الخطية التي تتمثل في لامبالاتك، وفي الرغبة الخبيثة، استخدمت الشيء الحسن بطريقة سيئة.

ولكن هذا لا يعد إدانة للطبيب، بل للمريض الذي استخدم الدواء بشكل سيئ. فالناموس لم يعط لكي يشعل الشهوة، بل لكي يطفئها. ولكن ما حدث هو العكس، ولذلك فالإدانة ليست موجهة للناموس، بل لنا. فالطبيب الذي يعالج مريضا يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة، وهذا المريض لدية رغبة في شرب ماء مثلج، فمن حق الطبيب بل ومن واجبه أن يمنعه من هذا الفعل، وهو حين يفعل هذا، فهو يزيد من هذه الرغبة، المؤدية إلى ضرره، ولن يدان الطبيب من أجل هذا، لأن له وحده الحق في أن يمنعه، ولكن إذا شرب المريض فالمسئولية تقع على عاتقه. إذا ماذا يعني أن الخطية تأخذ الدافع من الناموس؟ لأن الكثيرين من الخبثاء، زادوا من خبثهم اعتمادا على وصايا صالحة. والشيطان سبق وأضر يهوذا بهذه الطريقة، لأنه جعله يسقط في البخل ويسرق الفقراء . فالضرر الذي لحق به لم يكن راجعا لاستئمانه على خزينة النقود ، بل أن ما أضره هو رغبته الخبيثة . نفس الأمر هو الذي أدى إلى طرد آدم من الفردوس، لأن حواء جعلته يأكل من الشجرة. وحتى في هذه الحالة أيضا لم تكن الشجرة هي السبب، على الرغم من أنها كانت الوسيلة التي دفعت آدم للسقوط. وإن كان الرسول بولس يستخدم الكلمة بحكمة من جهة حديثه عن الناموس، فلا يجب أن ينتابك الشك. لأنه أراد أن يضع حدا لهذا الأمر على وجه السرعة، ودون أن يترك هؤلاء الذين أخذوا كلامه بشكل مختلف، أن يكون لديهم دافعا للخطية. وقد ركز اهتمامه على تصحيح ما يحدث في الزمن الحاضر.

إذن لا نفحص هذا الكلام الذي قيل هنا هكذا بدون دقة، بل علينا أن نعرف الدافع الذي جعله يقول كل ذلك، وعليك أيضا أن تفكر في هوس اليهود ورغبتهم الشديدة في الجدال، وهذا ما يريد الرسول بولس أن يمحوه ، ومن الواضح أنه قاسي جدا أثناء حديثه عن الناموس، لا لكي يدينه، ولكن لكي يبطل حجة اليهود. لأنه إن كانت هناك إدانة للناموس، باعتبار أن الخطية اتخذت فرصة بالوصية، فإن هذا سيحدث في العهد الجديد. لأنه بالحقيقة توجد وصايا كثيرة جدا في العهد الجديد متعلقة بأمور أكثر أهمية. ويستطيع المرء أيضا أن يرى نفس الشيء يتكرر، ليس فقط بالنسبة للشهوة، بل بالنسبة لأى خطية بشكل عام. لقد قال المسيح له المجد ” لو لم  أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية”. وهكذا صارت الخطية ظاهرة، وأيضا العقاب الشديد المترتب عليها. وعندما تكلم الرسول بولس عن النعمة أيضا، يقول ” فكم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله “. وبالتالي فإن سبب العقاب الأشر يكون من الازدراء بروح النعمة، برغم عطايا النعمة الوفيرة جدا. ولهذا السبب أيضا فإن اليونانيين مدانيين، كما يقول الرسول بولس، لأنه على الرغم من أنهم كرموا بعطية العقل ـ التي وهبها الله لهم ـ وأدركوا جيدا جمال الكون، وكان يجب من خلاله أن ينقادوا إلى معرفة خالقه، إلا أنهم لم يستخدموا الحكمة الإلهية كما ينبغي.

أرأيت أنه في كل موضع يؤكد على أن الدوافع لعقاب الأشرار، تأتي بالأكثر من سوء استخدام الأمور الصالحة؟ لكن من المؤكد أننا لن لدين إحسانات الله لهذا السبب، بل سوف نقدرها بالأكثر، بينما سندين رغبة هؤلاء الذين يستخدمون الأمور الصالحة لممارسة عكس ما تهدف إليه . إذا فهذا هو ما  ينبغي أن نفعله في حالة الناموس. ومن المؤكد أن ذلك يعد أمرا بسيطا وسهلاً، بينما الغير المفهوم هو قوله ” فإننى لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته”؟ لأنه إن لم يعرف الإنسان الشهوة قبل أن يأخذ الناموس، فمن أين أتى الطوفان؟ ومن أين أتى حرق سدوم؟ ماذا يعني الرسول بولس بهذه العبارة؟ إنه يعني ازدياد الشهوة. ولهذا لم يقل أثار ي شهوة، لكن “كل شهوة”، وهو يعني هنا الشهوة المفرطة. وما هي الفائدة من الناموس لو أنه جعل الشهوة تزاد فينا؟ لا يوجد أي فائدة من وراء هذا، بل على العكس فإنه يسبب خسارة كبيرة . غير أن اللوم لا يوجه للناموس، بل لأولئك الذين قبلوه. لأن الخطية أثارت الشهوة المفرطة، ولكن هذا لم يكن موضع اهتمام الناموس، بل إن اهتمامه كان على عكس من ذلك. إذا الذي ظهر بوضوح، هو أن للخطية قوة كبيرة في إثارة الشهوة . غير أنه ولا هذا الأمر أيضا يعد لوما موجها للناموس، بل موجه ضد أولئك الجاحدين.

لأن بدون الناموس الخطية ميتة ” بمعنى أنها ليست معروفة بهذا القدر. لأنه من المؤكد أن الذين عاشوا قبل أن يعطى الناموس قد أخطأوا، وهذا يعني أنهم قد عرفوا حجم الخطية بعد إعطاء الناموس . ولذلك كانوا موضع مساءلة لإدانة أكبر. هكذا فإن هناك فرق بين أن يدين المرء نفسه، وبين أن يصاحب الناموس الذي يعلن هذه الإدانة بوضوح .

5 ـ ” أما أنا فكنت بدون الناموس عائشا قبلا ” (رو9:7).

أخبرني متى حدث ذلك؟ حدث قبل موسى. لاحظ كيف أنه يحاول أن يبين من خلال ما فعله، وما لم يفعله، أن الناموس كان متعسفا أو مارس ضغوطا على البشر. لأن الرسول بولس يقول لأنني عندما كنت عائشا بدون الناموس، لم أدان هكذا ، ” ولكن لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمت أنا”. قد يبدو أن هذا اتهام موجه للناموس. ولكن إذا دقق المرء في فهم ذلك، فسيتضح أنه مدح للناموس أيضا. لأن الناموس لم يعط كيانا للخطية دون أن تكون موجودة، ولكنه أظهرها باعتباره أنها كانت مختفية، الأمر الذي يعد مدحا للناموس، طالما أنه من المؤكد أن الخطايا كانت غير محسوسة قبل الناموس، أما عندما أتي الناموس، وإن كان ـ هؤلاء الذين أعطي لهم الناموس ـ لم يربحوا أي شيء آخر، إلا أنهم على الأقل عرفوا جيدا الأمر نفسه، أنهم أخطأوا، وهذا ليس هيئا من جهة الاحساس بضرورة التخلص من الخطية. إلا أنه حتى وإن لم يتخلصوا من الخطية، فهذا لا يشكل إدانة للناموس، الذي يسعى لهذا الهدف عينه، إذا الإدانة كلها توجه إلى رغبة الذين فسدوا تماما وفقدوا كل رجاء . ومن المؤكد أنه لم يكن منطقيا أن يضاروا بتلك الأمور التي استفادوا منها. ولهذا قال أيضا:

” فوجدت الوصية التي للحياة هي نفسها لى للموت” (رو10:7).

لم يقل إن الوصية ” أحدثت موتا”، ولا ” ولدت موئا”، بل “وجدت” مفسراً بذلك ما هو غريب وجديد في هذا الفكر غير المعقول، ومحولاً كل شيء ضدهم.

لأنه إن أردت أن تعرف هدف الوصية، فالرسول بولس يشرح أنها قادت للحياة، ولهذا أعطيت، ولكن عندما ينتج عن ذلك موتا، فإن الإدانة توجه للذين أخذوا الوصية، ولا توجه ضد الوصية في حد ذاتها التي تقود للحياة. وقد أعلن هذا الأمر نفسه، وبوضوح أكثر في الآيات اللاحقة، قائلا:

” لأن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية خدعتنى بها وقتلتني” (رو11:7).

أرأيت كيف أنه ينشغل في كل موضع بموضوع الخطية، مبرئا الناموس من كل إدانة؟ ولهذا أضاف قائلاً:

” إذا الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة ” (رو12:7).

بل إن أردتم، فلنشير أيضا إلى شروحات أولئك الذين يزيفون هذه الأمور. إذ أن كلامنا سيصبح بذلك أكثر وضوحا. لقد إدعي البعض أن الرسول بولس لا يتكلم هنا عن ناموس موسى، بل عن الناموس الطبيعي، بينما يقول البعض الآخر إنه يتكلم عن الوصية التي أعطيت في الفردوس. إلا أنه كان يهدف إلى إثبات الكلام عن هذا الناموس (أي المكتوب)، ولم يتكلم قط عن النواميس الأخرى. وهذا أمر طبيعي جدا، لأن هذا الناموس (ناموس موسى) هو ما خافه اليهود وارتعبوا منه، فإنهم بسبب الناموس تخاصموا مع النعمة . على الجانب الآخر لم يظهر على وجه الاطلاق سواء من جانب الرسول بولس أو أي أحد غيره، أن الوصية التي أعطيت في الفردوس، تُدعى ناموسا. 

ولكي يصير هذا الكلام أكثر وضوحا مما قيل، لنفحص كلام القديس بولس بدقة، مستحضرين قليلا الكلام السابق. فعندما كلّمهم عن السلوك الحسن، أضاف قائلا: “أما تجهلون أيها الاخوة… أن الناموس يسود على الإنسان مادام حيا؟ .. أنتم قد متم للناموس”. وبناء على ذلك لو أن هذا الكلام قيل عن الناموس الطبيعي، فلابد أنك ستوجد بلا ناموس طبيعي. ولو صح ذلك فستكون أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة. ولكن هذا ليس من الحقيقة في شيء . فليس هناك خلافا على أن الوصية قد أعطيت في الفردوس، حتى لا تحمل أنفسنا بجهد زائد، ونخوض صراعا حول تلك الأمور التي صارت مقبولة. إذا كيف يقول: ” لم أعرف الخطية إلا بالناموس؟” إنه لا يعني بذلك الجهالة التامة بالخطية، بل عدم المعرفة الدقيقة لها، فلو أن هذا الكلام قيل عن الناموس الطبيعي، فكيف يمكن تبرير الكلام اللاحق؟ إذ قال ” أما أنا فكنت بدون الناموس عائشا قبلا”. فمن الواضح أنه لا آدم ولا أي إنسان آخر، قد عاش بدون الناموس الطبيعي. الله خلق آدم ووضع فيه الناموس الطبيعي في نفس الوقت، جاعلاً إياه رفيقاً مخلصا لكل الطبيعة.

بالإضافة إلى ذلك، لا يظهر مطلقا أن الرسول بولس قد أطلق على الناموس الطبيعي كلمة وصية، ولكنه دعى ناموس موسى وصية، وهي عادلة ومقدسة وناموس روحي . وكذلك الناموس الطبيعى لم يعط لنا بالروح القدس، لأن العبرانيين واليونانيين وكل الأمم الأخرى، لديهم هذا الناموس – أى الناموس الطبيعي ـ وبناء على ذلك يكون من الواضح أن الرسول بولس يقصد بكلمة الناموس – سابقا ولاحقا وفي كل موضع – بأنه ناموس موسى. لہذا دعاه مقدسا قائلاً: ” الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة ” إذا لو أن اليهود قد صاروا نجسين وظالمين وطماعين، بعدما أخذوا الناموس، فإن هذا لا يبطل عمل الناموس، تماما كما أن عدم إيمانهم لا يبطل الإيمان بالله. هكذا يتضح ـ من خلال كل هذا ـ أن الرسول بولس يتكلم عن الناموس الموسوي.

6 . ” فهل صار لي الصالح موتا حاشا بل الخطية. لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتا ” (رو13:7).

يبدأ بهذا التساؤل، لكي يظهر أن الخطية خاطئة جدا، ويظهر مدى اللامبالاة، والاندفاع نحو الأسوأ، وفعل الخطية ذاته، والشهوة الشريرة من جانب الإنسان . لأن هذا هو سبب كل الشرور . وهو يكثر الحديث عن الخطية ومدى تأثيرها السيء، لكى يبين امتياز نعمة المسيح، ولكي يعلم الجميع بمقدار الشر الذي تحرر منه الجنس البشري، والذي لم تفلح معه أدوية الأطباء، بل أنه مع هذه الأدوية قد صار أسوأ،  ويؤكد على ذلك أيضاً من خلال أولئك الذين أوصوا البشر بالامتناع عن ارتكاب الخطية، ومع هذا ازدادت الخطية. ولهذا أضاف قائلا: ” لكي تصير الخطية خاطئة جدا بالوصية “. أرأيت كيف أن معركته ضد الخطية قائمة في كل موضع، وأنه من خلال تلك الأمور التي بها يبطل الخطية، يبين أكثر عمل الناموس، لأنه ليس بالأمر اليسير أن يظهر أن الخطية خاطئة جدا، حيث يبين ويعرض على الملأ سم الخطية المميت . ومن أجل هذا أعلن قائلاً: “لكي تصير الخطية خاطئة جدا بالوصية”. أي لكي يظهر أن الخطية هي شر عظيم جدا، وتؤدى إلى هلاك محقق، من خلال كل هذا يبين أيضا أن امتياز النعمة في مقابل الناموس، يعد امتيازا حقيقيا وليس مجرد أمر قابل للنزاع.

إذن لا تعتبر أن الذين قبلوه صاروا أسوأ، بل عليك أن تنتبه لأمر هام، أن الناموس لم يشأ أن يقود إلى زيادة الخطية، وليس هذا فقط، بل أنه حاول أن ينتزع تلك التي كانت موجودة من قبل. لكن وإن كان لم يستطع أن ينجح في هذا، فعليك أن تمتدحه على موقفه هذا، وعلى الجانب الآخر عليك أن تسجد بالأكثر لقوة المسيح الفاعلة في كل مواقف الحياة، والتي أطاحت بالخطية التي يصعب هزيمتها، وحطمتها بعدما اقتلعتها من جذورها . غير أنك عندما تسمع عن الخطية، لا تتصور أنها قوة لها كيان، بل هي فعل الشر الذي دائما ما يظهر ثم يختفي، وهو قبل أن يصير واقع، لم يكن له وجود ، وحين يصير واقع يبدأ في الاختفاء مرة أخرى. ولهذا أعطي الناموس، لكن الناموس لم يعط قط لإبطال التصرفات الناتجة عن ضعف الطبيعة البشرية (بسبب السقوط)، بل لأجل إبطال الأعمال الخبيثة التي تصدر من رغبة شريرة. وهذا الأمر يعرفه المشرعون الأمميون وكل الجنس البشرى فالشرور التي تحدث لا تتوقف إلا عندما لا نهتم بها، المشرعون لم يقدموا وعد بانتزاع (الخطايا) المتعلقة بالطبيعة البشرية، لأن هذا غير ممكن، حيث إن تلك (الخطايا) المتعلقة بالطبيعة، تبقى ثابتة، الأمر الذي حدثتكم عنه في عظات أخرى مرات عديدة.

7 ـ ولهذا تحديدا، بعدما نترك هذه الصراعات، لنهتم مرة أخرى بالحديث الأخلاقي، أو من الأفضل أن نقول إن هذا الجزء الخاص بالصراعات يتعلق بهؤلاء اليهود. لأنه لو طرحنا عنا الشر، وتحلينا بالفضيلة، فإننا سنعلم بوضوح أن الشر ليس له كيان أو طبيعة. وأولئك الذين يحاولون أن يعرفوا من أين تأتي الشرور، سنحاول أن نجعلهم يصمتون، ليس فقط بالكلام، بل بالحقائق، لأننا نشترك في نفس الطبيعة البشرية مع هؤلاء، ولكننا قد تحررنا من خبثهم. إذا ينبغي ألا نتصور أن الفضيلة هي أمر صعب، بل من الممكن تحقيقها ، فلو أننا حاولنا سيصير الأمر بسيطا وسهلاً. أما إذا كنت تفضل الحديث عن لذة الخطية، فيجب عليك أن تتحدث أيضا عن نهايتها ، لأن الخطية تقود إلى الموت، تماما كما أن الفضيلة تقود إلى الحياة. أو من الأفضل القول ـ إن أردت ـ فلتفحص كل منهما قبل أن تصل كل واحدة إلى نهايتها، وسوف ترى كيف أن الخطية تحمل ألما كثيرا، بينما الفضيلة تحمل متعة . إذا هل يوجد شيئا أكثر سعادة من الرجاء الصالح؟ لأنه لا يوجد شيئا يجرحنا ويضيق علينا بهذا القدر، أكثر من التوجه نحو الشر، وأيضا لا يوجد شيء يسندنا بهذا القدر، ويجعلنا نسمو، أكثر من الضمير الصالح.

ويمكن أن نتعلم هذا من خلال تلك الأمور التي تحدث لنا. انظر إلى المتسولين الذين يتسكعون في الطرقات الضيقة، لا يخشون أي أذى، أما المسجونون الذين ينتظرون المحاكمة، بالرغم من أن لهم مأوى، إلا أنهم يعيشون في بؤس، لأن انتظار القرارات السيئة، لا يجعلهم يشعرون بأى بهجة. ولماذا أُشير إلى المسجونين؟ إن أولئك الذين يحيون خارج أسوار السجن في غنى فاحش ولا ينتابهم أي شعور بأنهم خطاة، هم أدنى من العمال الذين يشتغلون بأيديهم، ويمضون اليوم كله في أتعاب ومشاق، هؤلاء العمال هم أفضل منهم بكثير ، لذلك نحن نأسف للمصارعين، فعلى الرغم من أننا نراهم يسكرون في الحانات، ويلهون ويأكلون بشراهة، إلا أننا نقول إنهم أكثر تعاسة من الجميع، لأن كارثة الموت التي تنتظرهم هي أكبر بكثير من تلك المتع الوقتية. ولكن لو ظنوا أن الحياة هي للمتعة فقط، فعليهم أن يتذكروا دائما ما سبق أن قلته لكم: أن من يحيا في الخطية لابد أن يكابد مرارتها وحزنها. هكذا فالأمر المكروه جدا يبدو للذين يسعون نحوه أمرا محبوبا. ولكننا لا نطوبهم من أجل ذلك، بل لهذا تحديدا نحن نأسف لهم، لأنهم لا يعلمون مدى خطورة الحالة التي وصلوا إليها في ممارسة الخطية.

ولكن ماذا يمكن أن نقول للزناة الذين لأجل قليل من المتعة يعانون من أتعاب كثيرة جدا ونفقات ومخاوف مستمرة وحياة تشبه حياة قايين بشكل عام. ومن الأفضل أن نقول إنها أسوأ بكثير من حياة قايين، لأنهم يخشون من الأمور الحاضرة ويرتعبون من الأمور المستقبلية، وينتابهم الشك في الأصدقاء وفي الأعداء، وفي أولئك الذين يعرفون شيئا عنهم، وأولئك الذين لا يعرفون أى شيء؟ أنهم لا يستطيعون التخلص من هذا القلق حتى عندما ينامون، لأن ضميرهم الشرير يسترجع فيهم أحلاما مملوءة بمخاوف كثيرة، وهكذا يرتعبون بشدة. أما العفيف فليس هكذا، بل إنه يعيش كل حياته في راحة وحرية كاملة. إذا لو قارنت بين أمواج الخوف الكثيرة لهؤلاء بما يحققونه من متعة زائلة، وبين سكينة أو سلام الحياة الأبدية الذي يحصل عليه كل من يسلك بالعفة، عندئذ ستدرك أن هذه العفة هي أكثر سعادة من الشهوة. فذاك الذي يريد أن يختطف (ما ليس له)، ويعتدى على أموال الغير، ألا يعاني من متاعب كثيرة عندما يركض هنا وهناك، وينافق عبيدا وأحرارا ، ويرهب ويهدد ويسلك بسفه، ولا ينام، ودائما يرتعب، ويقلق، ويشك في كل شيء؟ أما الذي يحتقر المال، فليس هكذا، بل أنه يتمتع بمباهج كثيرة ، طالما أنه يحيا بلا خوف وبأمان كامل. 

ولو فحص المرء أنواع الخطايا الأخرى، سيرى أنها تسبب لمرتكبيها قلائق كثيرة، وصعوبات بالغة. ومن الجدير بالملاحظة أن الصعوبات تأتى أولا أثناء سير الإنسان في طريق الفضيلة، ثم بعد ذلك الأمور المفرحة، وهكذا تهدأ الآلام. أما في ممارسة الشر فالأمر يكون على النقيض، حيث تأتي على الإنسان الآلام والعقوبات بعد المباهج، وهنا تختفي هذه البهجة. فكما أن ذاك الذي ينتظر التيجان لا يشعر بشيء من أثقال العالم الحاضر، هكذا فإن ذاك الذي يبتهج بالخطية ينتظر العقوبات، ولا يستطيع أن يتمتع بفرح حقيقي، طالما أن الخوف يبطل كل شيء. والأفضل أن نقول، لو أن المرء فحص الأمر بعناية سيدرك حجم الألم الذي يعانيه الأشرار في الوقت الذي يتجرأون فيه على فعل الخطية، حتى قبل العقاب المعد لهم. ولو أردت فلتفحص حياة أولئك الذين يختطفون ما ليس لهم، وأولئك الذين يحاولون أن يكسبوا أموالاً بطرق ملتوية. دعنا نبتعد عن المخاوف والأخطار والفزع والقلق، وكل هذه الأمور، ونفترض أن هناك شخص قد اغتنى بدون تعب ، وأنه يسعى في الحفاظ على أمور الحياة الحاضرة، وإن كان هذا يعد أمر مستحيل، لكن ليفترض هذا، فأي سعادة يمكن أن يتمتع بها هذا الإنسان؟ هل لأنه ربح الكثير؟ لكن هذا تحديدا لا يترك له مجالا للسعادة. وإذ يشتهي أمورا أكثر تزداد آلامه أكثر.

لأن السعادة تُمنح حين تتوقف الشهوة. فعندما نعطش، فإننا نشرب ما نريد، لكي نروى ظمأنا، بينما بقدر ما يزداد عطشنا لأمور هذا العالم، فحتى ولو أفرغنا كل الآبار في جوفنا، تصير معاناتنا أكبر، بل ولو شربنا أنهارا كثيرة، وسيصير العقاب أكثر فزعا. هكذا فيما يتعلق بأمور هذا العالم لو أنك قبلتها، مع استمرارك في اشتهاءها، فإنك تجعل العقاب أكبر بكثير، على قدر ما يزيد نهمك لهذه الأمور، ولا ينبغي أن تعتقد أن من بين الشهوات الكثيرة في هذه الحياة، هناك شهوة محددة خصصت لأجلك (أي الغني)، وأنه ينبغي أن تسعى في تحقيقها باستمرار، لكن يجب عليك ألا تشتهي الثراء، لأنه إن اشتهيته، فلن يتوقف عذابك، وسوف تعاني، وسوف تتساءل هل هذا الطريق هو بلا نهاية؟ نعم بقدر ما تقطع شوطا كبيرا في هذا الطريق، بقدر ما تبتعد عن النهاية. إذا أليست هذه الرغبة في الثراء هي شيء محير وهوس فقط، بل هي أسوأ أنواع الهوس؟

إذن فأول كل شيء هو أن نبتعد عن الخطية أو من الأفضل أن نقول ينبغي ألا نشرع مطلقا في السعي نحو الشهوة، ولكن إن انخدعنا وشرعنا في ممارسة الشهوة فلنبتعد عن البداية، الأمر الذي يفصح عنه كاتب سفر الأمثال، بالنسبة للتعامل مع المرأة الزانية، قائلا: “ابعد طريقك عنها ولا تقترب إلى باب بيتها “”””. نفس الشيء أقوله لك من جهة البخل. لأنه إن سقطت ولو قليلاً في هذا البحر من الهوس، فمن الصعب أن تتمكن من النجاة. تماما كما في حالة المصابين بالدوخة أو الدوار، فلو أنك حاولت آلاف المرات، فلن تُنقذ بسهولة، وهكذا فإنك ستُصاب بهذا الدوار، بل وأسوأ منه بكثير. وعندما تسقط في أعماق هذه الرذيلة (البخل)، ستدمر نفسك وكل ما حولك.

8 . ولهذا أرجو أن نتنبه للبداية، ولنتجنب الخطايا الصغيرة، لأن منها تأتي الخطايا الكبيرة. لأن من تعود ـ عندما يسقط في كل خطية ـ أن يقول لن أرتكب إلا هذه الخطية فقط، فإنه سيفقد كل شيء تدريجيا. إن هذا الأسلوب في التفكير هو ما يجلب الخطية، هو ما فتح الباب أمام اللص (أي الشيطان) وهو هدم أسوار المدينة، هكذا أيضا من جهة الجسد، فإن الأمراض الخطيرة تزداد ، عندما تهمل الأمراض البسيطة. فعيسو إن لم يسلم البكورية، لما أصبح غير مستحق للبركة، وإن لم يجعل نفسه غير مستحق للبركة، ما كان سيصل إلى مرحلة يريد فيها قتل أخيه. وقايين لو لم تكن لديه هذه الرغبة الملحة في أن يكون الأول في كل شيء، ولو أنه تنازل عن هذه المكانة لله، ما كان له أن يصير في المرتبة الثانية ، وأيضا عندما أتى في المرتبة الثانية، لو أنه سمع النصيحة، ما كان له أن يرتكب القتل، وأيضا بعدما ارتكب القتل، لو أنه قدم توبة عندما دعاه الله، ولم يجب بسفاهة ، ما كان ليعاني من المآسي والشدائد التي أعقبت القتل.

فإن كان الذين عاشوا قبل الناموس قد وصلوا إلى أعماق الخطية بسبب اللامبالاة واقتراف الاثم على نحو تدريجي، فيجب علينا أن نفكر فيما سنعانيه نحن الذين دعينا إلى اختبارات أكبر، فإن لم تلاحظ أنفسنا بمنتهى الدقة، وإن لم تُسرع في أن يطفئ شرارة الخطية، قبل أن تشتعل النيران، ستُعرض أنفسنا لعقاب شديد. هل فهمت ما أريد قوله؟ إنك دائما ما تنقض الوعد، ولذلك لا يجب عليك أن تتوقف عند هذا فقط، بل يجب أن تتحرر من أي وعد، ولن تحتاج إلى بذل الجهد فيما بعد. لأن عدم تقديم وعد يعتبر أفضل من أن تعد ولا تفي بالوعد فيما بعد. هل أنت شتام ومسيء ومحب للنزاعات؟ حدد لنفسك قانون، ألا تغضب، وألا تصرخ مطلقا، وسوف تقتلع الخطية من جذورها، ولن يكون لها ثمر. هل أنت شهوانی ومسرف؟ ضع لنفسك أيضا حدا، حتى لا تنظر إلى امرأة بشهوة، ولا أن تذهب لحفلات مشينة، وتتفحص في تفاصيل الحسناوات الغريبات في السوق. لأن . عدم النظر منذ البداية إلى امرأة جميلة والشهوة مشتعلة داخلك، يعد أسهل من أن تتغلب على الاضطرابات التي تأتي من وراء هذه النظرة. لأن الجهاد من البداية هو أكثر سهولة، أو من الأفضل القول إننا لا نحتاج ولا حتى للجهاد، إن لم نفتح الأبواب للعدو، وإن لم نقبل بذور الشر.

ولهذا فإن المسيح له المجد أدان ذاك الذي ينظر إلى المرأة ليشتهيها، لكي ينقذنا من متاعب كثيرة، ويوصينا أن نطرد العدو من البيت قبل أن يصير قويا ، عندئذ يكون من غير الممكن طرده بسهولة. فإن كان ما يملكه المرء ليس ذو قيمة، فعلى أي شيء يتشاجر مع خصومه، بينما يستطيع أن يربح ما يريده بدون أي شجار، ويختطف الجائزة قبل النزال؟ فبالرغم من أنه ليس بالمشقة الكبيرة ألا ينظر أحد لامرأة جميلة، إلا أن المرء يبذل مشقة كبيرة ي أن يضبط نفسه عندما ينظر إلى امرأة، أو من الأفضل أن نقول إنه لا يمكن أن توجد مشقة في حالة عدم النظر، أما الجهد الكبير والتعب فإنه يأتي عند النظر، ثم بعد ذلك محاولة ضبط النفس. إذا عندما تكون المشقة أقل، أو من الأفضل القول عندما لا توجد مشقة مطلقا ولا تعب، فالربح سيكون أوفر، فلماذا تصارع من أجل السقوط في قاع محيط الخطايا التي لا تُحصى؟ لأن من لا ينظر إلى امرأة لا يسهل عليه فقط أن يهزم الشهوة، بل أنه يصبح أكثر نقاء، كما أن ذاك الذي ينظر لن يتمكن من التخلص من هذه الشهوة ـ كما قلنا ـ إلا بجهد كبير ومحاولات كثيرة . لأن الذي لم ير وجهاً جميلا هو في منأى عن الشهوة التي تأتى عن طريق النظر، أما من اشتهى أن يرى، يكون بهذا قد لوث نفسه. فإنه بعدما ينتصر على الفكر، يبدأ بعد ذلك مرحلة التخلص من الشهوة، غير أن هذا ليس بالأمر الهين.

ولهذا تحديدا فإن المسيح له المجد، لكي يجنبنا معاناة كل هذا، لم يمنع القتل فقط، بل والغضب أيضا، ليس الزنا فقط، بل والنظرة الشريرة ، وليس فقط من جهة نقض القسم، ولكن القسم بشكل عام . وأستطيع أن أقول ولا بهذا أيضا يتحدد معيار الفضيلة، بل أنه بعدما شرع كل هذا ، يتقدم نحو ما هو أكثر من ذلك. فبعدما أبعد الإنسان عن طريق القتل وأوصاه أن يكون نقيا من الغضب، يوصيه أن يكون مستعدا لأن يتألم ، ويعد نفسه مسبقا لتحمل الآلام، ليست فقط تلك التي تأتي ممن يرغب في الإيقاع به، بل أكثر من ذلك. وعليه أيضا أن ينتصر على قوة شهوته بالعفة التي يمتلكها، لأنه لم يقل من لطمك على خدك الأيمن يجب أن تتحمله بشهامة وهدوء، بل قال: ” فحول له الآخر أيضا”. ولذلك فإنه انتصار عظيم لنا، أن نتحمل أكثر بكثير، مما يريده ذاك الذي يرغب في أن يؤذينا، وأن نتجاوز حدود شهوته الخبيثة، بما لنا من غنى في طول الأناة. لأنه هكذا سنقضي على غيظه، وستنال مكافأة عظيمة، بعدما نقضي على الغضب من خلال تصرفنا هكذا مع المسيء.

أرأيت كيف أنه في كل موضع يؤكد على أن عدم شعورنا بالخزي والألم يتوقف علينا، ولا يتوقف على الذين يسيئون إلينا؟ أو من الأفضل أن نقول إن الأمر لا يتعلق بعدم شعورنا بالخزي فقط، بل إذا أردنا أن ننعم بالخير فهذا أمر في أيدينا. وبالطبع هذا ما يستحق الإعجاب بصفة خاصة، أي أنه ليس فقط لن ينالنا ظلم، إن كنا نسلك بعفة، بل يمكننا أن ننعم بالخير بواسطة تلك الأمور التي يظلمنا آخرين. ولكن انتبه. هل أهانك أحد؟ الأمر يعتمد عليك في أن تحول هذه الإهانة إلى مديح لك. لأن من المؤكد إن رددت الإهانة، فإنك تجعل العيب أكبر، أما إن باركت الذي أهانك، سترى أن كل الحاضرين يتوجونك، ويمتدحونك، ويشيدون بك. أرأيت كيف أننا ننعم بالخير من خلال قبولنا للظلم الواقع علينا، نفس الشيء يمكن أن نراه يحدث فيما يتعلق بالأموال، وكل الأمور الأخرى. لأنه إن كان جوابنا أو ردود أفعالنا هي عكس أفعالهم، التي تعاني بسببها، والتي تجعلنا أيضا ننعم بالخير، فإننا بهذا ننسج لأنفسنا تاجا مزدوجا. إذا لو أن شخصا ما أتى وقال لك إن أحد قد أهانك، ونقل إليك ما قيل عنك بالسوء أمام الجميع، فينبغي أن تمتدح الشخص الذي أهانك، أمام أولئك الذين نقلوا لك هذه الإهانة ، لأنك بهذه الطريقة تستطيع أن تكسب الحق إن أردت أن تدافع عن نفسك.

لأن هؤلاء الذين يسمعون سوف يمتدحونك، حتى ولو كانوا يتسمون بحماقة شديدة، لأن ذاك دون أن تظلمه البتة، قد أحزنك، أما أنت وإن كنت قد تألمت، إلا أنك تجعله يدان بردود أفعالك التي هي عكس أفعاله. وسيمكنك بهذا المسلك الطيب أن تبرهن على أن الكلام الذي وجه لك، يعتبر كريه ومنفر. لأن ذاك الذي لا يحتمل كلام الإهانة بمسرة، يقدم دليلاً على أنه مازال يعاني، بينما ذاك الذي يزدري بهذا الكلام، يكون قد برأ نفسه أمام الحاضرين من كل ريبة أو شك. لاحظ إذا مقدار الخير الذي تناله من وراء سلوكك هذا. أولا أنك تنقذ نفسك من الارتباك والقلق، حتى ولو كنت مثقلاً بالخطايا، فإنك تمحو هذه الخطايا بردودك الحسنة، مثل العشار الذي احتمل باختياره اتهام الفريسي. وبالإضافة إلى هذا فأنت تجعل نفسك عفيفة بهذه التداريب والممارسات، وستنال من الجميع مديحا كثيرا جدا ، ا، وستنفي كل تهمة قد قيلت عنك. أما إذا أردت أن تنتقم لنفسك من المسيء إليك، فسوف يكون مصيرك مثله، بل وأكثر، إذ أن الله يعاقبه على تلك الأمور التي قالها ، وقبل هذا العقاب، عليك أن تعلم أن عفة نفسك تصير بالنسبة له طعنة مميتة، فعليك أن تزدري بما يقال عنك، لأنه عادة لا يوجد شيئا يضايق المسيئين إلينا سوى أن نزدري، بهذه الشتائم.

إذن فكما أننا سنحصل على كل الخير من وراء العفة، هكذا سيصير كل شيء على نحو عكسي، إن تصرفنا بطريقة مغايرة وكنا صغار النفوس. لأننا بالحقيقة نسيء إلى أنفسنا (إن سلكنا بعكس عفة النفس)، وسنظهر أمام الجميع أننا مسئولون عما يقال، ونشعر بالاضطراب الشديد ، وتفرح عدونا، وتغضيب الله، وتضيف إلى خطايانا السابقة، خطايا أخرى. إذا فلنفكر في كل هذا، ولنتجنب الوقوع في هوة صغر النفس، ولنلجأ إلى ميناء طول الأناة، حتى نجد راحة لنفوسنا، كما قال المسيح له المجد ، ونحصل على خيرات الدهر الآتى بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى دهر الدهور آمين.

فاصل

العظة الرابعة عشر: رو7: 14-

” فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدى مبيع تحت الخطية” (رو14:7).

1 ـ ولأن الرسول بولس قال سابقا إن هناك شرور كثيرة قد صارت، وإن الخطية قد أصبحت أكثر قوة عندما كانت هناك الوصية، وإن ما حاول الناموس تحقيقه قد حدث عكسه، فإنه بذلك يكون قد وضع المتلقي لرسالته في حيرة كبيرة. لذلك أخذ هنا يتحدث عن كيف صارت هذه الأمور على هذا النحو بعدما برأ الناموس من الشبهة الخبيثة. وحتى لا يعتقد أحد أنه خدع وقتل بناء على قول الرسول بولس بأن الخطية اتخذت فرصة بالوصية ، وأنه عندما أتت الوصية عاشت الخطية، ، وأن الناموس هو سبب كل هذه الشرور، راح يدافع أولاً عنه بكلام مستفيض، ليس فقط مبرءا إياه من الإدانة، ولكن موجها له أعظم المديح. وهو يذكر ذلك، ليس باعتباره متفضلاً على الناموس، بل كمن يعبر عن حكم عام معروف لدينا جميعا. إذ يقول: ” لأننا نعلم أن الناموس روحى”. كما لو أنه قال إنه لأمر معروف وواضح، أن الناموس روحي، وأنه بعيدا كل البعد عن أن يكون سببا للخطية، ومسئولا عن الشرور التي تحدث.

لاحظ أنه لم يبرئ الناموس من الإدانة فقط، ولكنه يمتدحه بشدة. لأنه يقول عنه إنه “روحي” موضحا كيف أن الناموس هو معلم الفضيلة، وعدو للخطية. لأن هذا هو معنى أن “الناموس روحي”، بمعنى أنه منزها عن كل الخطايا، الأمر الذي جعل الناموس هو المحذر، والمرشد، والمصحح، والمقدم لكل النصائح التي تساعد على ممارسة الفضيلة. إذا من أين وجدت الخطية، طالما أن المعلم (أي الناموس) كان رائعا؟ أقول وجدت الخطية نتيجة لامبالاة التلاميذ. ولهذا أضاف قائلا: “وأما أنا فجسدى” واصفا الإنسان الذي عاش في ظل الناموس، والإنسان الذي عاش قبل الناموس، أنه “مبيع تحت الخطية” لأن آلاما كثيرة ظهرت مع الموت (الناتج عن الخطية)، وعندما صار الجسد فاسدا، تعرض فيما بعد بالضرورة للشهوة والغضب والحزن وكل الأمور الأخرى التي تحتاج لعفة كبيرة. أقول هذا حتى لا تغمر نفوسنا هذه الأشياء، ويغرق فكرنا في قاع الخطية. لأن هذه الأشياء لم تكن في حد ذاتها خطية، ولكن المغالاة فيها، وعدم قمعها هو ما جلب علينا كل هذه النتائج. وتوضيحا لذلك أسوق هذا المثل وأقول إن الرغبة المشروعة في حد ذاتها ليست خطية بالطبع، ولكن عندما تسقط في المغالاة، وترفض البقاء في إطار قوانين الزواج، بل وتذهب إلى نساء غريبات، عندئذ يصير هذا المسلك زني، إلا أن الشهوة في حد ذاتها ليست هي السبب في ذلك، بل السبب يكمن في الشراهة التي هي وراء الشهوة.

وانتبه إلى حكمة الرسول بولس، لأنه بعدما امتدح الناموس، انتقل سريعا وبطريقة مباشرة إلى الزمن السابق على الناموس، مظهرا كيف عاش الجنس البشرى آنذاك، وكذلك كيف عاش عندما أخذ الناموس، لكي يبين أن مجيء النعمة كان أمرا ضروريا، الأمر الذي حرص على أن يظهره في كل موضع. لأنه عندما يقول ” مبيع تحت الخطية”، لا يتحدث فقط عن أولئك الذين عاشوا في ظل الناموس، بل وعن الذين عاشوا قبل الناموس، وأيضا عن الذين وجدوا في عهد النعمة.

2 ـ ثم يتحدث بعد ذلك عن طريقة البيع (تحت الخطية)، وإعلان الحكم

” لأني لست أعرف ما أنا فاعله” (رو15:7).

 ماذا تعني عبارة “لست أعرف”؟ تعني أجهل. ومتى حدث هذا، إذ لا يوجد أحد مطلقاً يكون قد أخطأ دون أن يعرف. أرأيت كيف أنه إن لم نقبل الكلمات بالورع المناسب، وإن لم نفهم الهدف الرسولي، فإننا سنتبع أمورا كثيرة في غير موضعها، لأنه، إن كانوا قد أخطأوا دون أن يعرفوا، تماما كما قال سابقا ” لأن بدون الناموس الخطية ميتة ، فإنه يقول هذا لا لكي يبرئهم أنهم أخطأوا بدون معرفة، بل لأنهم كانوا بالطبع يعرفون، ولكن ليست المعرفة الدقيقة. ولهذا أدينوا، ولكن ليس بقسوة شديدة وأيضا قال: ” بل لم أعرف الخطية”، وعدم المعرفة هنا، لا يقصد به الجهل التام، بل ما يشير إليه هو عدم المعرفة الواضحة جدا. وقال إن الخطية بالوصية أنشأت في كل شهوة، وهو لا يعني بهذا أن الوصية أنشأت الشهوة، ولكن ما يعنيه هو أن الشهوة التي بالخطية قد ظهرت وازدادت بالوصية. هكذا هنا أيضا لا يعلن عن جهل كامل، قائلا: “لأنى لست أعرف ما أنا فاعله”، لأنه كيف يسر بناموس ا الله بحسب الإنسان الباطن؟

إذن ما معنى ” لست أعرف “؟ يعني صار لى الأمر غامضا، وخدعت، وهددت، فإننا غالبا ما نقول: لا أعرف كيف أن هذا الإنسان أتى وخدعني، ذلك رغبة منا في ألا ننسب الجهل لأنفسنا، إلا أن هذا يظهر خداعا معينا، وظروفا محددة، وتسلطا. ” إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل”. إذا كيف لا يعرف هذا الذي يفعله؟ لأنه إن أردت الخير وأبغضت الشر، فهذا يدل على أنني لدي معرفة كاملة. وبناء على ذلك فإنه من الواضح أن الرسول بولس قال عبارة ” لست أفعل ما أريده”، لا لكي يبطل الحرية، ولا لكي يشير إلى قوة تُجبره على ذلك. لأنه إن أخطأنا بدون إرادتنا، وكانت هناك قوة تدفعنا لهذا، فلن تكون العقوبات التي كانت من قبل، مبررة . ولكن كما يقول “لست أعرف”، وهي عبارة لا تعلن عن جهل، تماما كما سبق وأشرنا، لذا أضيفت عبارة “لست أفعل ما أريده” وهي لا تُعلن أنه لا يفعل ما يريده نتيجة لإحتياج ما، بل إنه أراد لنا ألا نمتدح تلك الأمور التي تحدث . وهذا ما أراد أن يقوله، لذلك بعدما قال: “ما لست أريده إياه أفعل” لم يقل ما أجبر عليه وأدفع إليه، إياه أفعل، وهذا هو ضد إرادتنا وضد سلطاننا، بل قال ” ما أبغضه فإياه أفعل” لكي تعلم أن بقوله “ما أريده” يجرد نفسه من القدرة على فعل ما يريده. وأتساءل ماذا يعني بعبارة ” ما لم لست أريده”؟ أجيب: يعني هذا الذي لا أمتدحه، هذا الذي لا أقبله، هذا الذي لا أحبه، ولتوضيح ذلك، أضاف:

” بل ما أبغضه. إياه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن ” (رو16:7).

3 ـ أرأيت كيف أن الفكر ليس فاسدا ، بل هو في الواقع يحتفظ بحيائه؟ إذ بالرغم من أنه انشغل بالخطية، إلا أنه يبغضها، الأمر الذي يمكن أن ينشئ مدحا كبيرا للناموس الطبيعي، والناموس المكتوب. لأنه كما يقول الرسول بولس، من حيث إن الناموس حسن، فهذا واضح بالنسبة للأمور التي أدين بها نفسي، بسبب مخالفتي للناموس، وأبغض ما قد حدث (من خطايا). فلو كان الناموس هو سبب الخطية، فكيف أبغض ما أمر به الناموس، إذ هو – في نفس الوقت – يسر بالناموس؟ لأنه يقول: ” أصادق الناموس أنه حسن”.

” فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة في. فإني أعلم أنه ليس ساكن في أى في جسدى شيء صالح “(رو17:7-18).

هنا تتحدث هذه الآيات عن الذين يحتقرون الجسد، حاسبين إياه شرا. ماذا سنقول إذا؟ سنقول ما سبق وقلناه، عندما تحدثنا عن الناموس، أي أنه كما تكلم القديس بولس سابقا، عن أن كل شيء يعود إلى الخطية وما تحدثه فينا، هكذا يقول هنا أيضا، لأنه لم يقل إن الجسد يفعل هذا، بل قال العكس ” لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة ي”. ولكن كون أنه يقول لا يسكن في الجسد شيء صالح، فإن هذا لا يمثل إدانة للجسد ، لأن عدم سكنى شيء صالح في الجسد لا يدل على أن الجسد شر.

نحن بالطبع نقبل أن طبيعة الجسد المادية، هي أقل وأدنى في القيمة والنوعية من طبيعة النفس الروحية، لكنها ليست مضادا ولا عدوا ولا شرا ، بل إنها تخضع للنفس، مثل القيثارة التي في يد العازف، ومثل السفينة بالنسبة للقبطان، والتي هي ليست مضادة لمن يستخدمها أو يقودها، لكنه يقودها بشعور من الحب الكبير جدا دون أن تكون بالطبع مساوية للفنان أو القائد. تماما كما يقول قائل: كون إن الفن لا يوجد في القيثارة، بل في العازف، ولا في السفينة، بل في القبطان، فهذا لا يلغي دور هذه الآلات، ولكنه يظهر الفرق بينها وبين الفنان، هكذا القديس بولس يقول ” ليس ساكن .. في جسدى شيء صالح” لم يبطل الجسد، لكنه أظهر امتياز النفس. لأن النفس هي تلك التي تعهدت كل القيادة والعزف، الأمر الذي يظهره الرسول بولس هنا مشيرا إلى سلطة أو سيادة النفس، مخبرا إيانا أن الإنسان مكون من النفس والجسد، وأن الجسد أقل فهما وبدون عقل، وأنه مرتبط بالأشياء التي تُقاد عن طريق آخر، وليس بالأشياء التي تقود، بينما النفس هي أكثر حكمة، وأنها تعرف جيدا ما ينبغي فعله وما لا ينبغي، دون أن تنقصها القوة لكي تقود الجواد حيثما تريد، الأمر الذي سيمثل إدانة، ليس فقط للجسد ، بل للنفس أيضا عندما تعرف ما يجب فعله، ولكنها لا تفعل ذلك الذي قررته “لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسني فلست أجد “.

 ومرة أخرى يقول “لست بعد أفعل” لا يقصد بذلك عدم معرفة أو شك، بل يشير إلى وجود خلل ما، وخداع الخطية، ولكي يبين هذا بوضوح، أضاف:

” لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده إياه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة في ” (رو19:7-20).

أرأيت كيف أنه برأ طبيعة النفس وطبيعة الجسد من الإدانة، ونسب كل شيء للعمل الخبيث؟ لأنه إن كان لا يريد الشر، فالجسد أيضا حر، وأن كل شيء يتوقف على الاختيار الشرير. لأن جوهر النفس وجوهر الجسد كلاهما خلقة الله، بينما الحركة التي تأتي من أنفسنا فهي مرتبطة بإرادتنا التي تقرر اختيار الطريق الذي تسلكه, بمعنى أن الإرادة هي شيء فطري أو غريزي وتأتي من الله، بينما إرادة فعل الشر التي هي من ابتداعنا ، فهي تتعلق بنا نحن وبقرارنا الذي نتخذه.

4. ” إذا أجد الناموس لى حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندی ” (رو21:7).

هذا الكلام غير واضح. فما الذي يعنيه؟ يعني أن الرسول بولس يمتدح الناموس وفقا لضميره، ويجد نفسه مدافعا عنه فيما يتعلق برغبته في فعل الحسني، إذ هو يشدد عزيمته. تماما مثل “أسر بناموس الله”، هكذا فإن الناموس يمتدحه على ما يفعل من حسنات . أرأيت كيف أن معرفة الأمور الحسنة والأمور الشريرة هي أمور مغروسة داخلنا منذ البداية، بينما الناموس الموسوى يمدحها ويمتدح منها؟ لأنه لم يقل من قبل، إنني أتعلم من الناموس، لكنه قال: ” أسر بناموس الله “، كما أنه لم يقل قبلا إني أتعلم منه بل قال: ” أصادق الناموس ” وهكذا فلم يقل أيضا إنني أتدرب أو أتعلم من الناموس، بل “أسر بناموس الله”. وماذا يعني بقوله ” أصادق”؟ يعنى أننى أقبل أنه حسن، تماما كما أن الناموس أيضا يصادقني أو يوافقني عندما أريد أن أفعل الحسنى . وبناء على ذلك فكوننا نريد فعل الحسني ولا نريد أن نفعل الشر، فهذا أمر قد غرسه الله في طبيعتنا منذ البداية، لكن عندما أتى الناموس، بدأ يدين الشرور بشدة، ويثني على الأعمال الحسنة أيضا.

أرأيت كيف أن الرسول بولس يريد أن يوضح أبعاد الدور الحقيقي الذي يقوم به الناموس وليس أكثر من ذلك؟ وكأنه يقول إن الناموس حينما يثني على ما أفعل، وعندما أسر وأريد أن أفعل الحسني، فهذا لا يعني أن الشر بعيدا عني، بل مازال قريبا مني وعمله لم يبطل. وبالتالي فإن الناموس وفقا لما سبق عرضه، يصير مجرد ممتدحا للمرء حين يفعل الحسني، طالما أن الناموس يريد نفس الأشياء التي يفعلها.

ثم بعد ذلك يتقدم ويفسر هذا الموقف، ويجعله أكثر وضوحا لأنه أشار إلى هذه الحالة بغموض، مبينا كيف أن الشر قريب، وأن الناموس هو فقط ناموس لذاك الذي يريد أن يفعل الحسني.

” فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ” (رو22:7).

ما يقوله هنا أنه قد عرف الحسني بالطبع قبل أن يأتي الناموس، ولكن عندما أدرك أن هذا يوجد في الناموس، فقد امتدحه.

” ولكنني أرى ناموس آخر في أعضائى يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي ” (رو23:7).

هنا أيضا دعى الخطية، “بناموس يحارب” وليس “بناموس يخضع”. ويتحدث عن الانقياد المغالى فيه لمن يخضعون للخطية. تماما كما يسمي الغنى سيدا، والبطن إلها، لا من أجل أهميتهما في حد ذاتهما، بل من أجل خضوع من هم عبيد للخطية لهما، وهم يخشون أن يتركونهما، تماما مثل الذين وضعوا هذا الناموس، هم الذين يخشون أن يهجروه، هؤلاء يحاربون الناموس الطبيعي، لأن هذا هو معنى ” ناموس ذهني”.

ثم يبرهن لنا أن الجهاد كله هو للناموس الطبيعي، لأن الناموس الموسوي أضيف مؤخرا . فبالنسبة للناموس الطبيعي والناموس الموسوي، نجد أن الأول يعد معلما، والآخر يمتدح الأمور التي ينبغي أن تحدث، وهما لم يتمكنا من تحقيق أي شيء في هذه المعركة، للتصدي لقوة الخطية التي تسود علينا ، هذا ما يذكره الرسول بولس تحديدا، معلنا الهزيمة الكاملة، قائلاً: ” ولكننى أرى ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية”. لم يقل فقط إنه ينتصر، بل “يسبيني إلى ناموس الخطية”. لم يقل يسبيني إلى شهوة الجسد، ولا إلى طبيعة الجسد، بل “إلى ناموس الخطية”، أي إلى سيادة ناموس الخطية الجائر وإلى قوته. إذا كيف يقول “ي أعضائي”؟ وما معنى هذا؟ معناه أنه لا يجعل الأعضاء خاطئة، ولكن بقوله هذا يميز جيدا بين الأعضاء وبين الخطية، لأنه يوجد فرق بين الوعاء وما يحتويه الوعاء، تماما كما أن الوصية ليست شرا، لمجرد أن الخطية اتخذت فرصة بالوصية، هكذا فإن طبيعة الجسد ليست شرا، على الرغم من أن الخطية تحاربنا عن طريق الجسد. لأنه بهذا المنطق ستكون النفس أيضا شر ـ لو فكرنا بهذه الطريقة ـ مادام أن لها السلطان على كل الأمور التي ينبغي أن تحدث.

ولكن الأمر ليس هكذا. لأنه لو كان هناك شخصا طاغيا ولصا قد سرق بيتًا فخما أو قصرا ملكيا، فإن هذا الحدث لا يعد إدانة للبيت الفخم، بل إن كل الإدانة تتعلق بمن فعلوا هذه الأمور . غير أن أعداء الحقيقة ، بالإضافة إلى جحودهم، يسقطون في حماقة كبيرة، ولا يشعرون بهذا ، لأنهم لا يدينون الجسد فقط، بل يدينون الناموس أيضا.

فلو افترضنا ـ حسب قولهم ـ أن الجسد شرا، فالناموس يكون صالحاً ، لأنه يعارضه ويتصدى له. ولكن إن كان العكس، أي أن الناموس ليس صالحا، فالجسد يعتبر صالح ـ لأنه وفقا لرأى هؤلاء ـ هو يجاهد ضد الناموس ويحاربه. إذا فكيف يقولون أن الاثنين (أي الجسد والناموس) ينتسبان إلى الشيطان ويقدمانهما على أنهما متضادين فيما بينهما؟ أرأيت مدى وضوح حالة الجحود التي يعيشون فيها، بالإضافة إلى حماقتهم؟! لكن إيمان الكنيسة ليس هكذا، لكنه إيمان يدين الخطية فقط، ويقر بأن كل ناموس أعطي من الله، أي الناموس الطبيعي والناموس الموسوي، هو عدوا للخطية، وليس عدوا للجسد. لأن إيمان الكنيسة لا يقول بأن الجسد خطية، بل هو خليقة الله، وهو مخلوق لتحقيق الفضيلة، إن كنا نتصف بالعفة.

5 . ” ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت ” (رو24:7).

 أرأيت مقدار القوة التي للخطية، حيث إنها تنتصر على الذهن، برغم أن الرسول بولس يستر بناموس الله؟ لأنه لا يستطيع أحد أن يزعم بأن الخطية هزمت، إذا أبغض الناموس، لأنه يقول لأنني أسر بالناموس وأصادقه وألجأ إليه، لكن بالرغم من ذلك ـ كأنه يقول ـ إن الناموس لم يستطع أن يخلصني، حتى عندما لجأت إليه، بينما المسيح خلصني، على الرغم من ابتعادي عنه . أرأيت مقدار امتياز النعمة؟ ولم يذكر الرسول بولس الأمر هكذا، لكنه بعدما تنهد وحزن جدا – كما لو أن الذين سيقدمون المساعدة غير موجودين ـ يظهر قوة المسيح وهو في هذه الحيرة، بقوله: “ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت”؟ فالناموس لم يستطع أن ينقذه، والضمير أيضا لم يتمكن أن يفعل هذا، وإن كان قد أثنى على الأمور الصالحة، وليس هذا فقط، بل وحارب الأمور المضادة للصلاح. لأنه إذ يقول ” ناموس آخر… يحارب ” فإنه يظهر أن هذا الناموس أيضا يحارب وأتساءل هنا من أين سيأتي رجاء الخلاص؟ الإجابة تأتي في قوله:

” أشكر الله بيسوع المسيح ربنا إذا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية” (رو25:7).

أرأيت كيف أنه أظهر ضرورة أن تعطى النعمة وهبات الآب والابن؟ لأنه وإن كان يشير إلى الآب، لكن السبب في هذا الشكر يرجع إلى الابن. لكن عندما تسمعه يقول ” من ينقذني من جسد هذا الموت”، فيجب ألا تتصور أنه يدين الجسد. لأنه لم يقل من ينقذني من “جسد الخطية”، بل من ” جسد هذا الموت”. أي الجسد الفاني، الذي هزم من الموت، إذ ليس الجسد هو السبب في الموت، بل هو الذي تضرر بالموت، كما أن هذا التغيير ليس دليلاً على أن الجسد في حد ذاته هو خطية. تماما كما لو كان شخص قد أسير من البربر، فيقال إنه ينتسب إلى البربر، لا لأنه بربرى، بل لأنه أسير منهم، هكذا الجسد يدعى “جسد الموت”، لأن الموت ساد عليه، وليس لأنه أنتج الموت. ولهذا تحديدا، لم يشأ التحرر من الجسد في حد ذاته، ولكن يريد أن يتحرر من الفناء الذي أصاب الجسد، قاصدا هذا الذي قاله مرات عديدة، طالما أن الجسد قد صار ضعيفا، فإنه من السهل أن تسود عليه الخطية بعد ذلك. لماذا يقال إن أولئك الذين أخطأوا قبل النعمة عوقبوا ، طالما أن سلطان الخطية كان قويا قبل مجيء النعمة؟ لكنني أقول قد عوقبوا لأنهم أخذوا وصايا كان من الممكن أن ينفذوها ، بصرف النظر عن سيادة الخطية.

إن الناموس لم يقودهم إلى حياة كاملة، بل سمح لهم بأن يتمتعوا بالأموال، ولم يمنعهم من أن يأخذوا لهم نساء كثيرات، وأن يغضبوا إن كان الأمر يستلزم ذلك، وأن يستمتعوا باعتدال، وكان التساهل كبيرا جدا من جانب الناموس، حتى أن متطلباته المكتوبة كانت أقل من تلك التي حددها الناموس الطبيعي. لأن الناموس الطبيعي أمر بأن يكون للرجل علاقة جسدية مع امرأة واحدة، الأمر الذي أراد المسيح أن يعلنه، بقوله: “الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى”. لكن الناموس الموسوي لم يمنع الرجل من أن يطرد زوجته، ويأخذ أخرى بدلاً عنها، ولا منع أن يكون لديه زوجتين في آن واحد. بالإضافة إلى كل هذا، يستطيع المرء أن يرى أن أولئك الذين عاشوا قبل الناموس المكتوب قد أنجزوا أمورا أخرى أكثر من تلك التي وردت في الناموس الموسوي، وقد أعانهم الناموس الطبيعي في هذا الأمر. إذا لم يمارس الناموس ضغطا على الذين عاشوا في العهد القديم، طالما أنه قد أعطي لهم مثل هذا التشريع الذي كان يتفق وقدراتهم. ولكن إذا كانوا لم يتمكنوا أن يخلصوا ولا حتى هكذا، فإن اللوم يوجه إلى لامبالاتهم. ولهذا فإن الرسول بولس يشكر الله، لأن المسيح له المجد دون أن يفحص أي أمر من هذه الأمور بالتفصيل، وليس هذا فقط، بل لم يطلب منا حسابا عن تلك الأمور التي كانت وفقا لقدراتنا، قد جعلنا قادرين على السير في طريق أفضل، ولهذا قال: “أشكر الله بيسوع المسيح ربنا.

تفسير رومية 6 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية 8
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى