تفسير رسالة رومية اصحاح 6 للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير رسالة رومية – الاصحاح السادس
العظة الحادية عشر ج2 : رو6: 1-4
” فماذا نقول أنبقى في الخطية لكى تكثر النعمة؟ حاشا ” (رو1:6).
يبدأ الرسول هنا بالحديث عن السلوك الأخلاقي أيضا، دون أن يكون قد أشار إليه قبل ذلك، حتى لا يبدو في نظر الكثيرين أنه مزعج ومحزن، لكنه الآن يتحدث عن هذا الموضوع بسبب النتيجة الطبيعية للمنهج الذي تبناه في حديثه. ويظهر بوضوح هذا التنوع في أسلوبه وطريقة كلامه، ويرجع إلى رغبته في ألا تسبب رسالته امتعاضا لدى الذين يتلقونها، ولهذا قال: ” ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئيا” ، ولو إنه قد انتهج أسلوبا آخرا، لكان يبدو أمام هؤلاء بصورة أكثر قسوة. ولكن بعدما لجأ لهذا الأسلوب أظهر عظمة النعمة من حيث إنها شفت خطايا كثيرة وكبيرة، وقد بدا للحمقى أن هذا الكلام يمثل تحريضا على ارتكاب الخطية (فإن كان قد بدا لهم أن النعمة ازدادت بسبب ارتكاب خطايا كثيرة، فلنستمر في ارتكاب الخطية لتزداد النعمة). إذا ولكي لا يقولوا هذا ولا حتى يلمحون له، لاحظ كيف أنه يزيل التناقض أولاً بالنفي قائلاً “حاشا”، الأمر الذي اعتاد أن يفعله تجاه أولئك الذين يعترفون بما يتنافى مع الحقيقة، ثم بعد ذلك طرح فكرا لا يحتمل الخلاف. ما هو هذا الفكر؟ هو ما أشار إليه بقوله:
” نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها ؟ ” (رو2:6).
ما معنى “متنا”؟ يعني إما أننا جميعا قد قبلنا الخطية وخضعنا لها كقرار اتخذناه، أو أننا قد صرنا أمواتا بالنسبة للخطية لأننا آمنا واعتمدنا، وهو الأمر الذي ترجحه بالأكثر. هذا ما يظهره الكلام الذي يأتي فيما بعد. ولكن ما معنى نحن الذين متنا عن الخطية؟ تعني أننا لا نخضع بعد للخطية على الإطلاق، لأن هذا هو ما صنعته المعمودية مرة واحدة، إذ أمتتنا من جهة الخطية، لكن ينبغي علينا فيما بعد أن نتمكن من الاستمرار في ذلك أي في حالة الموت عن الخطية من خلال جهادنا، وحتى لو كانت الخطية تفرض علينا في مرات عديدة أن نخضع لها، فيجب ألا يخضع أحد لها بعد، بل ينبغي أن يبقى ثابتًا تماما في مواجهتها، مثل الميت ، وإن كان الرسول بولس يقول في موضع آخر إن الخطية ذاتها قد ماتت، فقد قال هذا لأنه أراد أن يبين كيف أن الفضيلة تعد أمرا سهلاً، بينما هنا لأنه أراد أن يثير انتباه المستمع لرسالته، فتحدث عن فكرة الموت . ولأن ما طرح لم يكن واضحا، فقد أخذ يفسره مرة أخرى ويتكلم بصورة التأنيب والتوبيخ قائلاً:
”أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟” (رو3:6).
إذن فإننا دفنا معه في المعمودية. ماذا تعني عبارة “اعتمدنا لموته؟” تعني أننا نحن أيضا نموت كما مات هو، لأن الصليب هو المعمودية. فهذا الذي جازه المسي أى الصليب والقبر، يتحقق في المعمودية التي تتممها، وإن لم يكن بنفس الطريقة. لأن المسيح مات بالجسد ودفن، بينما نحن نجوز نفس الأمر بالنسبة للخطية. ولهذا لم يقل إننا قد ذقنا نفس الموت، بل قال “تشبه موته”. لأن الموت يتم في المعمودية وفي الصليب، ولكن ليس بنفس الطريقة، كما أنه من نوعين مختلفين، موت المسيح كان موثا للجسد ، لكن موتنا هو موت عن الخطية. وكما أن موت المسيح كان موثا حقيقيا بالجسد، هكذا تماما فإن موتنا في المعمودية هو موت حقيقي عن الخطية. لكن على الرغم من أنه موتا حقيقيا، إلا أنه ينبغي علينا أيضا أن نسلك بما يتفق والحياة الجديدة. ولهذا أضاف:
” فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة” (رو4:6).
لاحظ أنه يشير هنا إلى موضوع القيامة بجانب الحديث عن الاهتمام بالسلوك اليومي في حياتنا. كيف؟ أتؤمن أن المسيح مات وقام؟ فإن كنت تؤمن بهذا، فيجب أن تؤمن بموتك أنت وبقيامتك أيضا. فموتك يشبه موت المسيح، لأن موتك (في المعمودية) هو أيضا صليب ودفن. إذا فلو كنت قد اجتزت الموت والدفن، فبالأولى جدا ستجوز القيامة والحياة ، لأنه طالما أن الأمر الأكبر قد اضمحل أى الخطية، فيجب ألا تشك بعد في أن الأمر الأصغر أي الموت قد بطل.
6 . بيد أننا نترك التفكير في هذه الأمور لذهن المستمعين أولاً . وبينما يتجه الحديث نحو الأمور الخاصة بالدهر الآتي، نجد الرسول بولس يطالبنا بقيامة أخرى، أى السلوك وفق منهج الحياة الجديدة التي تستعلن في الحياة الحاضرة بواسطة تغيير سلوكنا . لأنه عندما يصير الزاني عفيفا، والطماع شفوقا ، ، والمتوحش هادئا، حينئذ تتجلى تلك القيامة التي تسبق القيامة من الموت. وكيف حدثت القيامة؟ حدثت بموت الخطية، واستعلان البر، صارت القيامة حين اضمحلت الحياة القديمة، وسادت الحياة الجديدة الملائكية. وعندما تسمع عن الحياة الجديدة يجب عليك أن تطلب التغيير وبإصرار، وأيضا أن تسعى نحو التحول الجذري . إلا أن ثمة إحساسا بالبكاء والتنهد العميق يتملكني، عندما أفكر في مقدار العفة التي يطلبها منا الرسول بولس، ومقارنتها بمدى اللامبالاة التي نحيا فيها، حيث إننا نعود بعد المعمودية إلى الأشياء العتيقة، نعود إلى الخلف، إلى عبودية مصر ونتذكر الثوم بعدما أكلنا المن السماوى . كما أننا نشرع مرة أخرى في ممارسة الأشياء العتيقة بعد أن نكون قد أحرزنا تغييرا لمدة عشرة أو عشرين يوما. ومن المؤكد أن الرسول بولس يطلب السلوك وفق منهج الحياة الجديدة لا لبضعة أيام، بل طوال أيام حياتنا، لكننا نعود مرة أخرى إلى سابق عهدنا في التفوه بكلام بذئ، ممهدين بذلك لعودة الأشياء العتيقة التي أوجدتها الخطايا، كل هذا بعدما دخلنا في الحياة الجديدة التي تأسست بالنعمة. إن محبة المال والعبودية للشهوات الجسدية، وبشكل عام كل خطية تُرتكب هي بالحقيقة التي تجعل من يرتكبها، يشيخ “وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال”. لأنه يستحيل أن يضعف الجسد بهذا القدر مع مرور الزمن، ولا تضعف النفس وتسقط معه من كثرة الخطايا. لأن الخاطئ سيصل فيما بعد إلى أسوأ حالة من الإسفاف بعد سقوطه المتكرر وسيهذي بكلامه، تماما مثل أولئك الذين شاخوا وصاروا يهذأون أو يتحدثون بلا اتزان، فإن نفوسهم ستكون مملوءة بالحماقة والخبل الشديد والغفلة، لأنه بالحقيقة، هذا هو جوهر النفوس التي تُخطئ.
أما نفوس الأبرار فليست هكذا، بل هي متجددة ومملوءة بالحيوية، وتقيم دائما في هذا العمر المزدهر، مستعدة بصفة دائمة لأية معركة وصراع، بينما النفوس الخاطئة عندما تتعرض لهجوم حتى لو كان بسيطا ، تسقط على الفور وتنهار. وهذا ما أظهره النبي بقوله: ” كالعصافة التي تذريها الريح “. هكذا فإن أولئك الذين يحيون في الخطية، ينساقون بسهولة هنا وهناك ويتأثرون بالجميع. لأنهم لا ينظرون بشكل صحيح، ولا يسمعون بانتباه، ولا يتكلمون بنقاوة، بل يسيل لعابهم من أفواههم بكثرة. وليته كان لعابا، فهذا لا يعد أمرا شاذا، بل إنهم يخرجون الآن من أفواههم كلاما أكثر بذاءة من أية بذاءة أخرى، والأكثر فظاعة من كل هذا، أنهم لا يستطيعون أن يبصقوا لعاب هذا الكلام، لكنهم يجمعوه في أيديهم بصورة مشمئزة جدا، ويمضغوه مرة أخرى، لأنه ثقيل ويصعب إذابته. ربما تشعرون بالاشمئزاز من هذا الكلام. غير أنه يجب عليكم بالأولى أن تشعروا بالاشمئزاز من الفعل ذاته، وليس من الكلام فقط . لأنه إن كان الكلام البذيء يدعو للاشمئزاز عندما يخرج من الفم، فبالأحرى جدا عندما يحدث داخل النفس، فإن هذا ما يدعو للإشمئزاز أكثر.
هكذا كان الشاب الصغير الذي بذَّر ثروته في عيش مسرف، وانحدر إلى أسوأ أنواع الشرور، وكان أكثر مرضا من أي إنسان مختل العقل ومن أي مريض. ولكن لأنه أراد العودة، صار فجأة جديدا بسبب رغبته الداخلية في التغيير، إذا عندما قال: “أقوم وأرجع إلى أبى” هذا القول جلب له كل الخيرات، أو من الأفضل أن نقول ليس مجرد القول هو ما جلب له الخيرات، بل العمل الذي تبع هذا القول. لأنه لم يقل “سأرجع” ثم انتظر، لكنه قال ”أرجع”، وبدأ خطوات الرجوع حيث إنه سلك في طريق العودة . هكذا ينبغي علينا نحن أيضا أن نفعل هذا، حتى لو كنّا قد رحلنا إلى بلد غريب، علينا ان نرجع إلى البيت الأبوى، ولا يجب أن نتردد في اتخاذ القرار بسبب طول الطريق . لأنه لو أردنا ذلك، فإن العودة تصير أسهل وأسرع جدا، علينا فقط أن نهجر البلد الأجنبي والغريب، لأن هذه هي طبيعة الخطية، أنها تقودنا بعيدا عن بيت أبينا. إذا فلنهجر الخطية، لكي نرجع بسرعة إلى البيت الأبوى، لأن الأب بطبيعته يحمل عاطفة قوية، وعندما تغير من سلوكنا، فلن يكون تكريمه لنا أقل من أولئك الذين يهنئون (داخل البيت)، بل سيكرمنا أكثر، لأن الابن الضال قد كرمه أبوه أكثر جدا من المقيمين معه . خاصةً وأن الأب شعر بسعادة غامرة لأنه ربح ابنه مرة أخرى.
وكيف قال أرجع؟ إنه لم يقل شيئا سوى الآن أبدأ العودة، وكل شيء سيتحقق. وأنت أيضا عليك أن تتوقف عن الشر ولا تذهب إلى كورة بعيدة. فإن فعلت هذا، فستكون قد حققت كل شيء، تماما مثلما يحدث مع المرضى، فعدم تفاقم حالتهم المرضية، يمكن أن يكون بداية لتحسن صحتهم، هذا ما يحدث أيضا في حالة ارتكابنا الشرور ، لا تذهب إلى أبعد من الحالة التي أنت فيها، وستنتهي حالة الخطية التي تحياها، فإن صنعت هذا لمدة يومين ستبتعد عن الشرف اليوم الثالث بأكثر سهولة، ثم بعد ذلك ستكرر هذا لثلاثة أيام، وستحاول أن تستمر لعشرة أيام، ثم لعشرين يوم، ثم لمائة يوم، ثم بعد ذلك كل حياتك. لأنه على قدر ما تتقدم في حياة الفضيلة، على قدر ما ترى الطريق بأكثر سهولة، وستقف فوق القمة، وستتمتع بخيرات وفيرة. لأنه حين عاد الابن الضال، أقيمت الموائد على الفور وعزفت آلات الطرب والقيثارات، وأقيمت الاحتفالات لأجل عودته، والأب الذي كان ينبغي أن يعاقب هذا الابن الضال بسبب إنفاقه لثروته بإسراف، وبسبب رحيله بعيدا جدا ، لم يفعل شيئا من هذا ، بل عندما رآه شعر بالسعادة ولم يوبخه ولا حتى بالكلام أو من الأفضل أن نقول إنه لم يرد حتى مجرد أن يذكره بالأمور السابقة، بل خرج خارجا وقبله وذبح العجل المثمن وألبسه الحلة الأولى، وزينه بحلى كثيرة.
7 ـ إذن إن كنا نعرف هذه الأمثلة، فلنتشجع ولا نيأس. لأن الله لا يفرح عندما يدعى سيدا، بل يفرح عندما يدعى أبا، ولا يفرح عندما يملك عبدا ، بقدر فرحه عندما يكون لديه ابنا. وهذا ما يريده بالأكثر. ولهذا تحديداً فإن الآب السماوي قد صنع كل شيء ولم يشفق على ابنه وحيد الجنس، لكي ننال نحن التبني، ولكي لا نحبه كسيد فقط، بل كأب، فإذا نجحنا في تحقيق ذلك فإنه يفتخر بنا، تماما كما لو أن شخصا قد نال مجدا، ثم يأتي ذاك الذي هو ليس في احتياج لشيء، ويعلن افتخاره بهذا أمام الجميع. هذا ما صنعه في حالة إبراهيم قائلا: “أنا إله إبراهيم واسحق ويعقوب “، على الرغم من أنه كان ينبغي على العبيد أن يفتخروا بسيدهم، بيد أنه من الواضح الآن أن السيد هو الذي يفتخر بعبيده. ولذلك فهو يقول للقديس بطرس “أتحبني أكثر من هؤلاء . لكي يبرهن على أنه لا يطلب شيئا آخرا سوى المحبة. ولهذا طلب من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، لكي يظهر للجميع أنه كان محبوبا جدا لدى إبراهيم (لأن إبراهيم شرع على الفور في تنفيذ ما أمره به الله). إنه يطلب المحبة من الجميع بهذا القدر، لأنه أحب الجميع بدرجة فائقة. ولذلك قال للرسل: “من أحب أبا أو أما أكثر منى فلا يستحقني.
ولذلك فهو يأمرنا بأن نضع أنفسنا التي تعد أكثر ألفة ومحبة لدينا من أي شيء آخر، في المرتبة التالية لمحبتنا له، لأنه يريد أن نحبه بكل ما نملك من قوة . هكذا نحن أيضا إن كانت العلاقة التي تربطنا بشخص ما ليست بهذا القدر من الألفة، فإننا لن نكون في حاجة إلى محبته، فإننا لا نحتاج كثيرا إلى محبته، حتى لو كان ذي شأن عظيم أو كان مشهورا. لكن عندما تحب شخصا ما بحق وبقوة، حتى لو لم يكن له شأن كبير، بل وكان صغيرا، فإننا نعتبر محبته لنا مجدا عظيما، ولهذا فإن ذاك (أي الابن) هو مستحق أن نبادله الحب، ليس فقط بسبب ما جازه من آلام، بل لأنه دعى العار الذي جازه من أجلنا مجدا”. هذه الأمور المخجلة التي جازها تُدعى مجدا بسبب محبته فقط، بينما الأمور التي سنعاينها نحن من أجله، يمكن أن تُدعى وبحق مجدا وهي كذلك بالفعل مجدا، ليس بسبب محبتنا فقط، بل بسبب عظمة وقيمة هذا الذي نترجاه من كل قلوبنا، فلنجوز المخاطر إذا لأجله كما لو كنا نركض للحصول على تيجان عظيمة جدا، وعلينا ألا نعتبر الفقر أو حتى الموت نفسه شيئا ثقيلاً أو محزنا ، عندما نحتمله من أجله. فلو كنا حريصين ومتيقظين فسنريح من وراء هذا الجهاد أمورا فائقة، بينما لو كنا غيرمتيقظين، فلن نربح أي شيء حسن.
لكن احذر. هل يهددك أحد ويحاربك؟ إن فعل هذا فهو بذلك يهيئك، لكي تكون يقظا ويعطيك الدافع لتكون متشبها بالله . لأنه إن أحببت ذاك الذي يفكر في أن يصنع بك شرا ، ستكون متشبها بذاك الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين. هل سلب أحد منك أموالاً؟ لو أنك إحتملته بشجاعة، ستأخذ نفس الشيء الذي سيأخذه أولئك الذين أعطوا كل شيء للفقراء، لأن الرسول بولس يقول ” قبلتم سلب أموالكم بفرح عالمين في أنفسكم أن لكم مالا أفضل في السموات وباقيا “. هل أساء إليك أحد واتهمك بشيء؟ فسواء كان ذلك حقيقة أم كذبا، فيكون قد نسج لك أعظم تاج، لو أنك احتملت هذه الإساءة بإختيارك. لأن المسيء إلينا يقدم لنا أجرا عظيما، لأن الكتاب يقول ” طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السموات”. وهذا أيضا الذي يقول أمور حقيقية يفيدنا جدا، إن احتملنا ما يقال باختيارنا. لأن الفريسي وهو يتكلم بالحقيقة أساء إلى العشار، ولكن هذا الذي قيل، حول العشار إلى بار.
ولماذا أشير إلى ما يحدث لكل واحد بشكل منفصل؟ فمن الممكن أن أشير إلى نجاح أيوب في اجتياز المصاعب الكثيرة، والتي يمكننا أن نعرف تفاصيلها. ولهذا أيضا قال الرسول بولس “إن كان الله معنا فمن علينا ” وهذا يتفق مع حقيقة أنه عندما نجاهد، فإننا سنربح كثيرا من خلال احتمالنا لتلك الأمور التي تسبب لنا الآلام، ولكن عندما لا نبالي بأي شيء فإننا لا نصير أفضل، حتى عن طريق الأمور التي تفيدنا. أخبرني إذا بماذا انتفع يهوذا من رفقته للمسيح؟ ماذا كان يعني الناموس بالنسبة لليهود؟ وما هو الفردوس بالنسبة لآدم؟ ما هي مكانة موسى بالنسبة لمن كانوا في البرية؟ أما نحن فإذ قد هجرنا كل شيء، ينبغي علينا أن نعتني بشيء واحد فقط وهي الطريقة التدبيرية التي سوف ننظم بها أمور حياتنا بشكل حسن . فلو أننا صنعنا ذلك، لن يستطيع ولا الشيطان ذاته أن ينتصر علينا أبدا، بل إن هذا سيصبح بالأكثر لفائدتنا إذ يهيئنا أن نكون متيقظين. هكذا شجع الرسول بولس أهل أفسس عندما أخبرهم بمدى وحشية المعاند.
لكننا نتكاسل وننام ونغط في نوم عميق في اللحظة التي تنشب فيها حرب شديدة ضد عدو مثل هذا خبيث ومخادع . فإذا عرفنا أن هناك ثعبان يعشش في فراشنا، فمن المؤكد أننا سنبذل قصارى جهدنا لنقتله، أما الآن فالذي يعشش داخل نفوسنا هو الشيطان، ومع هذا نعتقد أننا لن نصاب بأذى ونبقى غير مبالين. ويرجع السبب في ذلك إلى أننا لا نراه بعيوننا الجسدية. إلا أنه ـ لهذا السبب بالذات ـ ينبغي أن نكون متيقظين وحريصين أكثر . لأنه يمكن للمرء أن يحترس بسهولة، من العدو المرئي، أما من جهة العدو غير المرئي، فنحن لسنا على الدوام مسلحين ضده، ولن نستطيع أن نتجنبه بسهولة لأنه لم يعتاد على أن يحارب مواجهة أو علنا، لأنه يفرض حصاره وبسرعة، وبينما يتظاهر بالصداقة، نجده ينفث فينا سم وحشيته. هكذا هيأ زوجة أيوب بعدما ارتدى قناع الرأفة، لكي يعطيها تلك النصيحة الخبيثة””. وهكذا تملق حين تكلم مع آدم، مظهرا كيف أنه مهتم بحمايته وقال له: “الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما “. وهكذا سقط يفتاح الجلعادي بحجة التقوى، إذ ذبح ابنته وقدم ذبيحة لا تتفق مع وصايا الناموس. أرأيت أساليب العدو الخادعة؟ أرأيت حربه المتنوعة الأشكال؟ إذا فلتكن حذرا في كل مكان، تسلح بالأسلحة الروحية، وتعرف على دسائسه بالتدقيق، حتى تكون متحصنا، ولكي تنتصر عليه بسهولة، لأنه على هذا النحو انتصر الرسول بولس عليه، لأنه كان يعرف كل هذه الأمور بمنتهى الدقة. ولهذا قال: “لأننا لا نجهل أفكاره “. إذا فلنحاول أن نعرف وأن نتجنب سهامه، حتى عندما ننتصر عليه ينادى علينا كمنتصرين في الحياة الحاضرة وحياة الدهر الآتي، ونفوز بالخيرات الوفيرة بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة من الآن وإلى الأبد آمين.
العظة الثانية عشر: رو 6: 5-18
” لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته” (رو5:6).
۱ ـ هذا الذي قلته في العظة السابقة، سأقوله الآن أيضا. إن الرسول بولس دائما ما يلجأ إلى الحديث عن السلوك الأخلاقي بجانب التعليم الإيماني، بينما في أغلب رسائله الأخرى يقسم الرسالة إلى قسمين، الأول: يخصصه للأمور الإيمانية، والثاني: للاهتمام بالأمور الأخلاقية . إنه لا يصنع هنا نفس الشيء، بل يمزج الأمرين معا في كل الرسالة، حتى يصير حديثه مقبولاً بسهولة أكثر.
إنه يتكلم هنا عن نوعين من الموت. الأول حدث بالمسيح في المعمودية ، بينما الآخر يجب أن يصير من خلالنا، بواسطة جهادنا الذي يأتي بعد المعمودية. فإن دفن خطايانا السالفة، كان عملاً خاصا بعطية الله، أما من حيث أننا نظل بعد المعمودية أمواثا عن الخطية، فهو عمل خاص بجهادنا ، وإن كنا نرى أن الله هنا أيضا يساعدنا بصورة كبيرة جدا. لأن المعمودية لا تحقق فقط إزالة خطايانا السالفة، بل تؤمنا أيضا ضد الخطايا التي يمكن أن تحدث في المستقبل. فكما أنك تعلن الإيمان بفاعلية المعمودية، لكي تختفى الخطايا، هكذا بالنسبة للخطايا المستقبلية، يجب عليك أن تظهر تحولاً في الرغبة حتى لا تلوث نفسك مرة أخرى (بدنس الخطية). إذا فهو ينصح بهذه الأمور وأمور أخرى مشابهة بقوله: ” إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بقيامته”.
أرأيت كيف أنه قد سمى بالمستمع حتى قاده إلى الرب مباشرة، محاولاً أن يبين عظمة التشبه به؟ ولهذا لم يقل (متحدين معه في موته) لكي لا تعترض على ذلك، لكنه قال “بشبه موته”، لأننا حين نموت معه في المعمودية، فإن الذي يموت هو الإنسان الخاطئ، أي الشر، ولم يقل “لأنه وإن كنا قد صرنا مشتركين معه بشبه موته” لكنه قال “متحدين معه بشبه موته” قاصدا بهذه الكلمة تلك النبتة التي أثمرت، والتي أخذناها من المسيح . فكما أن . جسده بعدما دفن في الأرض أتى بثمار الخلاص للبشرية، هكذا فإن جسدنا بعدما دفن في المعمودية، نال ثمر البر والقداسة والتبنى وخيرات أخرى لا تحصى، وسينال العطية الأخيرة وهي القيامة، لأننا نحن دفنا في الماء، بينما هو قد دفن في الأرض، ونحن قد متنا من جهة الخطية، أما هو فقد مات بالجسد، ولهذا لم يقل: “متحدين معه في موته” لكن “بشبه موته”. لأن هناك موتان، موت المسيح وموتنا ولكنهما موتان مختلفان.
فإذا قال ” قد صرنا متحدين معه بشبه موته”، فإننا في القيامة “سنصير أيضا بقيامته”، وهو يقصد هنا القيامة العتيدة. لأنه تحدث سابقا عن الموت قائلاً: “أم تجهلون أيها الاخوة أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته”، لم يذكر شيئا واضحا عن القيامة، ولكنه أشار إلى طريقة حياتنا بعد المعمودية، حيث يحثنا على أن يتفق سلوكنا مع مقتضيات الحياة الجديدة، ولهذا فإنه هنا يذكر نفس الكلام، ويخبرنا مسبقا عن تلك القيامة العتيدة. ولكي تعرف أنه لا يتحدث عن القيامة من المعمودية، بل عن القيامة العتيدة، نجده بعدما قال: “لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته” لم يقل سنصير متحدين بشبه قيامته، لكنه قال:” نصير أيضا بقيامته”. ولكي لا نقول وكيف يحدث هذا، طالما أننا لم نمت كما مات، فكيف سنقوم كما قام؟ نقول إنه عندما أشار إلى الموت لم يقل متحدين بموته، لكن “بشبه موته”، إلا أنه عندما أشار إلى القيامة لم يقل بعد بشبه قيامته، بل قال سنصير متحدين بقيامته ذاتها. ولم يقل قد صيرنا، لكن “سنصير” مشيرا بهذه الكلمة أيضا إلى القيامة التي لم تحدث بعد، إنما التي ستحدث فيما بعد.
٢ ـ ثم أراد بعد ذلك أن يجعل حديثه موضع ثقة، فأظهر كيف أنه قد حدثت بالفعل قيامة هنا في هذه الحياة، قبل أن تأتي تلك القيامة العتيدة، وذلك حتى تؤمن من خلال هذه القيامة التي حدثت في الحياة الحاضرة، بالقيامة الأخرى. لأنه بعدما قال سنصيرمتحدين أيضا بقيامته، أضاف:
”عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية” (رو6:6).
يشير هنا إلى السبب، وكذلك الدليل على القيامة العتيدة. وهو لم يقل إن إنساننا العتيق قد صلب، بل قال ” قد صلب معه”، فيحضر المعمودية بجانب الصليب، ولذلك قال من قبل: “صرنا متحدين معه بشبه موته”. “ليبطل جسد الخطية” وهو لا يدعو هذا الجسد البشري، بجسد الخطية، لكن جسد الخطية هو كل أمر خبيث وشرير، لأنه تماما كما يدعو كافة الرذائل بالإنسان العتيق، هكذا فإنه يدعو الخبث أيضا جسد الخطية الذي يتشكل من أنواع مختلفة من الشرور.
وهذا الحديث ليس مجرد فكر بسيط، وأرجو أن تلاحظ الرسول بولس نفسه وهو يشرح ذات الأمر بالضبط في الآيات القادمة. لأنه بعدما قال “ليبطل جسد الخطية ” أضاف “كي لا نعود تستعبد أيضا للخطية ” إذا فهو يريد للجسد أن يصير ميثا من جهة الخطية. ولا يريد أن يموت الجسد ويفنى ، بل يريد ألا يخطئ . ثم يتقدم بعد ذلك شارحا هذا الأمر بأكثر وضوح قائلاً:
” لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية ” (رو7:6).
هذا ما يقوله لكل إنسان، لأنه كما أن المائت قد تحرر تماما من إمكانية أن يخطئ، طالما أنه مائت، هكذا أيضا الذي تعمد، فلأنه مات مرة واحدة في المعمودية، ينبغي أن يبقى على الدوام مائنا بالنسبة للخطية. إذا فإن كنت قد مت في المعمودية، فلتبقى مائتا على الدوام، لأن هذه هي الحقيقة، أن كل مائت لا يستطيع بعد أن يخطئ . بيد أنك لو أخطأت فستكون بذلك قد احتقرت عطية الله. وبعدما طلب منا أن نسلك بهذا القدر الكبير من الحكمة، أوضح على الفور قيمة المكافأة قائلا:
” فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضا معه ” (رو8:6).
إن كان هذا في حد ذاته يمثل كرامة كبيرة قبل نوال المكافأة، بمعنى أنك قد صرت شريكا مع الرب، إلا أنه يعطيك مكافأة أخرى. وما هي هذه المكافأة؟ هي الحياة الأبدية. لأنه يقول “نؤمن أننا سنحيا أيضا معه”.
ومن أين يتضح هذا؟ يتضح من قوله:
“عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضا لا يسود عليه الموت بعد ” (رو9:6).
ولاحظ محاولة الرسول بولس لإثبات هذا أيضا من خلال هذه المفارقة. لأنه كان طبيعيا أن يثير البعض لغطاً حول الصليب والموت، فبين كيف أن لهذا السبب بالتحديد ، ينبغي بالأحرى أن تكون لدينا الشجاعة حتى لا تعتقد أن المسيح فان، بل يبقى حيا إلى الأبد. لأن موته قد صار موثا للموت. ولأنه مات، فلهذا لن يموت (مرة ثانية).
” لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة ” (رو10:6).
ماذا يعني ” قد ماته للخطية؟” يعني أنه لم يكن مستحقا الموت، لكنه مات لأجل خطايانا، لكى يمحي الخطية ويقطع عصبها وكل قوتها، لهذا مات . أرأيت كيف أنه أرهب الموت حيث إنه لن يموت مرة ثانية، وحيث إنه لا توجد معمودية ثانية، فينبغي عليك أن تموت من جهة الخطية. إذا فهو يقول كل هذا بهدف أن يقاوم من يقول ” لنفعل السيئات لكى تأتى الخيرات ” وأيضا من يقول “أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة “. إذا هو يذكر كل هذا لكي يجتث مثل هذا الفكر من جذوره.
ثم يكمل ” والحياة التي يحياها فيحياها لله ” أي أنه يتحدث عن عدم الفناء، وأن الموت لن يسود بعد. لأنه إن كان الموت الأول قد جازه دون أن يكون مستحقا له، إذ إنه جازه لأجل خطايا الآخرين، فبالأحرى كثيرا أنه لن يموت الآن مادام أنه قد أبطل الموت. هذا ما قاله في الرسالة إلى العبرانيين: ” فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مرارا كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة هكذا المسيح أيضا بعدما قدم مرة لكى يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه” . لقد أوضح قوة الحياة التي هي بحسب مشيئة الله، وفي نفس الوقت أظهر قوة الخطية، وقوة الحياة التي تستعلن فينا بحسب مشيئة الله، لأنه لن يسود عليه الموت بعد، بينما ندرك مدى قوة الخطية من أنها قد جعلت الذي هو بلا خطية يموت (من أجل خطايا البشر)، فكيف لا تهلك أولئك الذين هم مسئولون عن إرتكاب الخطايا؟
3 ـ ثم بعد ذلك ـ ولأنه تكلم عن الحياة في المسيح ـ وحتى لا يقول أحد وما علاقة هذا الكلام بنا نحن، فقد أضاف:
” كذلك أنتم أيضا احسبوا أنفسكم أمواتا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا ” (رو11:6).
وحسنا قال “احسبوا” لأنه بواسطة اللغة الوصفية، لا يمكننا عرض حقيقة أننا متنا، لذلك استخدم هذه الكلمة “احسبوا”، للتأكيد على حقيقة هامة وهي (أننا بالفعل قد متنا عن الخطية). وماذا يعني بكلمة ” أحسبوا”؟ يعني أننا “أمواتا عن الخطية لكن أحياء الله بالمسيح يسوع ربنا “. ومن يحيا ء هكذا سيتمكن من الانتصار على الخطايا، لأن يسوع ذاته هو المعين له وهذا معنى عبارة ” في المسيح “.
فإن كان قد أقامهم عندما كانوا أمواتا، فبالأكثر جدا سيستطيع أن يحفظهم أحياءاً.
” إذا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكى تطيعوها في شهواته ” (رو12:6).
لم يقل ينبغى ألا يحيا الجسد وألا يعمل، لكنه قال “لا تملكن الخطية في جسدكم “، لأنه لم يأت لكى يهلك طبيعة الجسد، بل ليصلح الإرادة . بعد ذلك أظهر أن الخطية لا تملك علينا بالعنف والإجبار، بل بملء إرادتنا ، ولم يقل ينبغي ألا تستبد بكم الخطية، الأمر الذي يدلل على أنها بمثابة قوة متجبرة، لكنه قال: “لا تملكن الخطية”. لأنه بالحقيقة سيكون أمرا غير معقول وغير مقبول أن تسود الخطية عليهم كأنها ملكة ـ بينما هم ينقادون نحو ملكوت السموات، ومدعون أن يملكوا مع المسيح – يفضلون أن يصيروا أسرى للخطية. تماما كما أنه من غير المعقول أيضا لو أن شخصا ألقى تاج الملك من على رأسه، ويريد أن يصير عبدا لامرأة بها شيطان تتجول متسولة وترتدي ملابس ممزقة.
ولأن الانتصار على الخطية يبدو لنا أمرا صعبا، فقد أظهره على أنه أمرا سهلاً، وأثنى على الجهاد الذي يبذل، قائلاً: ” في جسدكم المائت”. ولهذا أوضح أن المتاعب ستكون وقتية وتنتهي سريعا . لكنه يذكرنا بالشرور السابقة وبالجذور التي أنبتت موتا، والتي إذا انقاد الجسد إليها لصار جسدا مائتا، لأنه لم يكن مائتا منذ بدء خلقته. بيد أنك من الممكن أيضا ألا تخطئ مع أنك تحمل جسدا قابلا للموت. أرأيت مدى فيض نعمة المسيح؟ يا لها من مفارقة عجيبة، لأن آدم على الرغم من أنه لم يكن بعد حاملاً لجسد مائت، إلا أنه سقط، بينما أنت على الرغم من أنك قد أخذت جسدا قابلاً للموت، إلا أنه بإمكانك أن تتوج . وكيف تملك الخطية؟ لا تملك من خلال قوتها، بل من خلال لامبالاتك أنت . ولهذا بعدما قال: “لا تملكن”، يوضح طريقة هذا التملك، بقوله: “لكي تطيعوها في شهواته (أي شهوات الجسد)”. لأنه ليس هو شيئا يدعو للكرامة أن ننهزم باختيارنا أمام شهوات الجسد ، بل يعد عبودية أسوأ واحتقار أكبر، لأن الجسد عندما يفعل كل ما يريده ، يكون قد فقد الحرية، لكنه يقدر أن يتحكم في رغباته، وعندئذ يصون قيمته وكرامته بشكل جوهري.
4 . ” ولا تقدموا أعضاءكم آلات اثم للخطية بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر لله ” (رو13:6).
وبناء على ذلك فإن الجسد يوجد بين حالة الاثم والبر، مثلما يحدث بالنسبة للآلات (هناك آلات إثم وآلات بر)، وإرتكاب الاثم أو ممارسة البر يتوقف على من يستخدم الآلات. كما يحدث مع الجندي الذي يحارب من أجل وطنه، والسارق الذي يتسلح ليهاجم المواطنين، الاثنان يتحصنان بنفس الأسلحة. إذن فالجريمة ليست عملا يتعلق بنوع السلاح المستخدم، بل هي مسئولية أولئك الذين يستخدمون هذه الأسلحة، لكي يفعلوا الشر. وهذا يمكن أن نقوله بالطبع في حالة الجسد، حيث يصير فعل الاثم أو فعل البر رهنا بموقف النفس، وهذا ليس له علاقة بطبيعتها. لأن العين إذا نظرت نظرة غير بريئة للجمال، صارت آلة للاثم، لا بحسب طبيعتها أو عملها، لأن عمل العين هو أن تنظر، لكن هذا النظر لا يكون للشر، ولكن إذا نظرت العين نظرة غيرنقية فسيكون ذلك راجعا للفكر الخبيث الذي أمر بهذا . بيد أنك لو استطعت أن تضبط العين، فسيصير الجسد آلة للبر. وهذا ينطبق على اللسان وعلى الأيدى، وعلى جميع الأعضاء الأخرى. وحسنا يدعو الرسول بولس الخطية اثما. لأن المرء عندما يخطئ إما أن يؤثم نفسه أو يؤثم قريبه، ومن الأفضل أن نقول إنه يؤثم نفسه قبل قريبه.
إذن بعدما نصحهم بعدم ممارسة الشر، بدأ يقودهم نحو ممارسة الفضيلة قائلاً: ” بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات”. لاحظ كيف أنه يحثهم على حياة البر بمسميات بسيطة، فهو يشير في الفقرة السابقة إلى الخطية، بينما يشيرهنا إلى الله. لأنه بعدما أوضح الفرق الضخم بين أولئك الذين يملكون (في ملكوت الله) وبين من هم عبيدا للخطية، نجده لا يتسامح مع المؤمن الذي ترك الله وأراد أن يخضع لسلطان الخطية . وليس هذا فقط، لكنه يوضح هذا الأمر بما سيحدث في المستقبل قائلاً: “كأحياء من الأموات”. لأنه بهذا الكلام يبين مدى بشاعة الخطية، ومدى غنى عطية الله. فلتفكروا في حقيقة ذواتكم، وكيف صرتم إذن. من أنتم؟ أنتم أموات، وهذا المصير المفقود لا يمكن لشيء أن يصلحه، لأنه لا يوجد أحد مهما كانت مقدرته، يستطيع أن يعينكم ، وأتساءل كيف صرتم بين أولئك الأموات الذين أنتم منهم؟ صرتم أناسا ترغبون في الحياة الأبدية. وأيضا بمعونة من صرتم (أحياءا من الأموات)؟ بمعونة الله القادر على كل شيء. وبناء على ذلك فمن العدل أن تخضعوا لأوامره برغبتكم الكاملة، وهذا بالطبع يليق بأناس صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتًا.
” وأعضاءكم آلات بر” ولذلك فإن الجسد ليس شرا، طالما أنه من الممكن أن يصير آلة بر. لكن قوله بأنه آلة، فهذا يبين أن هناك حربا مخيفة تواجهنا. ولهذا فإن الأمر ـ بالإضافة لضرورة تسلحنا القوى ـ يحتاج إلى إرادة شجاعة وأن نعرف كل ما يتعلق بهذه الحروب بشكل جيد ، وبالطبع وقبل كل شيء يجب أن نعرف القائد . بالنسبة لهذا القائد هو حاضر ومستعد على الدوام للمساعدة، ولا يستطيع أحد أن يسود عليه، ودوما ما يعد لنا أسلحة قوية. بيد أن الأمر يحتاج فيما بعد إلى إرادة تستخدم هذه الأسلحة كما ينبغي، وأن تطيع أوامر القائد، وأن تحمل السلاح من أجل خلاص أو حماية الوطن (أي النفس).
5 . إذن بعدما أخبرنا بالأمور العظيمة، وذكرنا بالأسلحة والمعركة والحروب، لاحظ كيف أنه أيضا يعطي شجاعة للجندي ويهيئ إرادته قائلاً:
” فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة ” (رو14:6).
فإن كانت الخطية لن تسودنا بعد، فلماذا يأمرنا أو يوصينا بهذه الأمور الكثيرة قائلاً: ” لا تملكن الخطية في جسدكم المائت” و” لا تقدموا أعضاءكم آلات اثم للخطية ” ماذا يعني بهذا الكلام؟ إنه يلقي هنا حديثا كمن يلقى بذرة، كمقدمة لما سيقوله فيما بعد، ويمهد لذلك كثيرا . وما هو هذا الحديث؟ كان من السهل قبل مجيء المسيح أن تسود الخطية على جسدنا. بل وبعد الموت كان ينتظرنا الكثير من الآلام . ولهذا السبب تحديداً لم يكن الطريق إلى البر سهلا أو مريحاً. لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي لكى يساعدنا، ولا المعمودية التي كان من الممكن أن ثميت الجسد مع شهواته . فقد كان (الجسد) يركض مثل جواد غير مروض، وكثيرا ما كان يرتكب الزلات في الوقت الذي كان فيه الناموس يوصي بتلك الأمور التي ينبغي فعلها، وتلك التي لا ينبغي فعلها، لكنه لم يقدم لأولئك الذين يجاهدون أكثر من مجرد نصيحة بالكلام فقط.
لكن عندما أتى المسيح صار الجهاد فيما بعد أكثر سهولة. ولذلك فإن تجارب أكبر تواجهنا، ذلك لأننا أخذنا معونة أكبر. ومن أجل هذا قال المسيح له المجد: ” إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات. وهذا ما يقوله بكل وضوح في الآيات اللاحقة، بينما هنا هو يشير إليه بكلام مختصر، مظهرا كيف أنه إن لم نتضع للغاية، فإن الخطية ستنتصر علينا. لأنه لا يوجد الآن الناموس الذي يحث على ممارسة الفضيلة فقط، لكن النعمة التي تصفح عن الأمور السالفة، والتي تؤمن الأمور المستقبلية . لأن الناموس كان يعد بالتيجان بعد اجتياز الأتعاب، بينما النعمة توجت أولا، ثم بعد ذلك دعت إلى الجهاد الروحي. يبدو لى أنه لا يشير إلى كل ما يتعلق بحياة المؤمن، لكنه يعقد مقارنة بين المعمودية والناموس، الأمر الذي يقوله في موضع آخر إن “الحرف يقتل ولكن الروح يحيي. لأن الناموس يدين التعدي، بينما النعمة تزيل التعدي، تماما كما أن الناموس يدين الخطية، فإن النعمة تصفح وتخلصك من سلطان الخطية. وبناء على ذلك فأنت متحرر من طغيان الخطية بشكل مضاعف، من حيث أنك تحررت من الخضوع للناموس، وأنك تمتعت بالنعمة.
6. بعد هذا الحديث الذي يجعل المستمع إليه يشعر بالارتياح وبالأمان يضيف إلى ذلك نصائح قائلاً:
” فماذا إذا أنخطئ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة؟ حاشا”(رو15:6).
إذن فهو أولاً يستخدم أسلوب المنع، لأن الكلام المشار إليه يعد مبالغ فيه وغير معقول على الاطلاق. لكن بعد ذلك يوجه الحديث نحو النصح، ويظهر أن اجتياز المصاعب برضى يعد أمرا عظيما ، قائلاً:
” ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيدا للطاعة أنتم عبيد للذي تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر” (رو16:6).
لم يشر بعد إلى جهنم ولا إلى ذلك الجحيم الكبير بل إلى العار الذي يظهر في هذه الحياة، عندما تصيرون عبيدا، وعبيدا بكامل إرادتكم، وعبيدا للخطية، وعندما يكون أجركم هو الموت مرة أخرى. وإن كانت الخطية قد سببت موت الجسد قبل نوال المعمودية، واحتاج الجرح لهذا القدر الكبير من العلاج، حتى أن سيد الكل ينزل من السماء ويموت، فينتهى الشر، فإنك تلقي بنفسك في الدناءة إذا استسلمت للخطية بكامل إرادتك بعد نوال الحرية، وهذه العطية العظيمة. وإني أتساءل مندهشا: ما الذي لم يفعله الله لك؟
إذن لا تركض نحو هذا الهلاك الكبير، ولا تسلم نفسك للخطية بإرادتك. لأنه مرات كثيرة قد يحدث في الحروب أن يستسلم الجنود، ولكن دون إرادتهم، إلا أنك هنا إذا لم تتقدم بنفسك نحو معسكر العدو (أي معسكر الشيطان)، فلن ينتصر عليك أحد. وبعدما قال لهم ما ينبغي فعله، يخيفهم من المجازاة ويذكر الأمرين، البر والموت. ليس الموت الجسدي، ولكنه موت أكثر رعبا من هذا الموت ( إنه الموت الروحي). لأنه إن كان المسيح لم يمت بعد، فمن كان يستطيع أن يقضي على ذلك الموت؟ لا يوجد أحد. وبناء على ذلك كان من المحتم علينا أن نتعذب وأن تعاقب على الدوام. لأن الموت المادي بالنسبة لنا لم يكن قد حدث بعد، حيث يستريح الجسد وينفصل عن النفس ” فآخر عدو يبطل هو الموت . بناء عليه فإن الجحيم سيظل قائما، لكن ليس للمؤمنين بل للأشرار، لأن المؤمنين تنتظرهم المكافآت والخيرات التي تنبع من البر.
7 ـ ” فشكرا لله إنكم كنتم عبيدا للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها ” (رو17:6).
وبعدما أخجلهم من جهة عبودية الخطية، وبعد أن أخافهم بالعقاب وحثهم على فعل الخير، يصحح مسيرتهم مرة أخرى بواسطة تذكيرهم بعمل الخير إذ أنه بواسطة هذه الأعمال يبرهنون على أنهم تخلصوا من شرور كثيرة ، لكن يذكرهم أيضا بأنه ليس بجهادهم قد تم هذا، وأن أمور الدهر الآتي هي أكثر راحة. تماما مثلما يحدث لو أن شخصا ما، أنقذ أسيرا من يد طاغية مستبد، ونصحه بعدم العودة لهذا الطاغية، وذلك بأن ذكره بالآلام المخيفة التي جازها، هكذا صنع الرسول بولس فهو يذكرهم بالخطايا السالفة التي ارتكبوها قبلاً، ويشكر الله لأجل الغفران. لأنه لم يكن في استطاعة أي قوة إنسانية أن تخلصنا من كل هذه الخطايا، لذلك يجب أن نشكر الله الذي أراد خلاصنا، وحقق لنا أمورا كثيرة. وحسنا قال: “أطعتم من القلب” لأنه لم يجبركم ولا أكرهكم، لكنكم بإرادتكم وبرغبتكم ابتعدتم عن الخطايا. إلا أن هذا الكلام يمثل مدحا لهؤلاء، وفي نفس الوقت إدانة لهم. وكأنه يقول لهم: يا من ابتعدتم عن الخطايا بإرادتكم ودون أي إجبار، أي عذر لكم وأى تبرير إذا عدتم للخطايا السالفة؟
ثم بعد ذلك لكى تعلم أنه لا يعرب عن امتنانه بهم فقط، بل يرجع الفضل إلى نعمة الله التي تشمل الكون كله، فبعدما قال: “أطعتم من القلب ” قال ‘صورة التعليم التي تسلمتموها ” لأن الطاعة من القلب تظهر بالتأكيد حرية قبولهم. وكون أنهم تسلموا التعليم، فهذا يعني أن الله قدم لهم هذه المعونة (النعمة). وما هي صورة التعليم؟ هي أن يحيوا بطريقة صحيحة، وبسلوك مرضي.
” وإذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيدا للبر ” (رو18:6).
هنا يظهر عطيتين لله، التحرر من الخطية، والعبودية للبر، الأمر الذي هو أفضل من كل حرية عالمية زائفة، لأن ما صنعه الله يشبه شخصا تعهد طفلاً يتيما قد انتقل من بلاد البربر إلى بلده، فهو لم يحرره من الأسر فقط، بل صار له أبا معتنيا به، ورفعه إلى أعظم كرامة . هذا بالضبط ما حدث معنا. لأنه لم يحررنا فقط من الخطايا السالفة، بل قادنا إلى الحياة الملائكية ، وفتح أمامنا طريق السلوك المرضي أمام الله، وبعد أن سلمنا إلى البر الآمن، أزال الخطايا السالفة، وأمات إنساننا العتيق، وقادنا إلى الحياة الأبدية.
8 . إذن فلنتمسك بأن نحيا هذه الحياة، لأن كثيرين من أولئك الذين يعتقدون أنهم يحيون هذه الحياة ويسيرون فيها، يسلكون بصورة أكثر تعاسة من الأموات بالخطية، لأنه بالحقيقة توجد أنواع مختلفة من الميتات. يوجد موت الجسد والذي بحسبه لم يكن إبراهيم مائتا على الرغم من أنه كان قد مات، لأن الله “ليس إله أموات بل إله أحياء. هناك موت آخر هو موت النفس والذي قصده المسيح بقوله: “دع الموتى يدفنون موتاهم”. ويوجد موت آخر والذي ينبغي أن يمتدح وهو الذي يصير من خلال ضبط النفس، والذي قال عنه الرسول بولس: ” فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض. ويوجد موت قد حدث بسبب الخطية، هذا الذي صار في المعمودية لأن: “إنساننا العتيق صلب” أي مات . وإذ نعرف كل هذا، لنتجنب ذلك الموت، والذي بحسبه وإن كنا أحياء، إلا أننا نجوز الموت، بينما يجب ألا نخشی ذلك الموت الجسدي الذي يشمل الجميع . فليكن لدينا تفضيل للموتين الآخرين، والذي يعد الواحد منهما مطوبا، ذلك الذي أعطي من الله، بينما الآخر ممتدحا، وهو الذي يتحقق من خلالنا، ومن خلال معونة الله وليكن سعينا نحوهما. لأن الواحد منهما يطوبه داود قائلاً: ” طوبى للذي غفر اثمه وسترت خطيته. بينما الآخر يمتدحه القديس بولس حين كتب إلى أهل غلاطية قائلاً :” الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات.
وبالنسبة للموتين الآخرين، قال المسيح عن الواحد أن ليس له أهمية “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها “، بينما الموت الآخر مخيف ” بل خافوا.. من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم. ولهذا طالما أننا نتجنب ذلك الموت (أي موت النفس)، فعلينا أن نجوز الموت الذي يطوب، والذي هو محط للإعجاب، حتى نأتي إلى الموتين الآخرين، فنتجنب الواحد منهما (أي موت النفس)، والآخر لا نخشى منه (أي موت الجسد). لأنه لا توجد أي منفعة لنا، نحن الذين نعيش ونرى الشمس ونأكل ونشرب، إن لم تكن هناك أعمالاً صالحة ترافق الحياة .
أخبرني ما هي المنفعة عندما يرتدي الملك الأرجوان، ويمتلك الأسلحة، دون أن يكون له مجموعات حماية تابعة له، ولا يكون في مأمن من أولئك الذين يرغبون في مهاجمته وإهانته؟ هكذا يكون المسيحي، فهو لن ينتفع بشيء لو كان لديه إيمائًا، ولديه العطية التي نالها في المعمودية، دون أن يكون محميا ي مواجهة الشهوات، لأن الإهانة ستكون أعظم، والخزي أكثر. لأنه كما أن الملك الذي يرتدي التاج والأرجوان، ليس فقط لن يربح أي شيء من وراء هذا الملبس فيما يختص بالكرامة التي ينالها، لكنه يسيء لهذا الملبس إذا كان سلوكه مخزيا، هكذا فإن المؤمن الذي يحيا حياة فاسدة، ليس فقط لن يكون موضع احترام، بسبب هذه الحياة الفاسدة، بل سيصير محطاً للسخرية بدرجة كبيرة. “لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك. وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يدان. وعندما كتب إلى العبرانيين قال: ” من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقا من داس ابن الله . وهذا أمرا طبيعيا جدا لأن كل الشهوات قد أخضعت لك بالمعمودية. ماذا حدث حتى تهين هذه العطية العظيمة، وتصير إنسائا آخر، بدلاً من أن تكون مختلفاً (عما كنت عليه سابقا)؟ لأن الله قد أمات ودفن خطاياك السابقة كما تُدفن الحشرات. لماذا تلد خطايا أخرى؟ علما بأن الخطايا هي أسوأ من الحشرات، إذ أن الحشرات تُدمر الجسد، بينما الخطايا تُدمر النفس، وتُثير عفونة أكثر. لكن نحن لا نشعر بهذه العفونة، لهذا فإننا لا نحرص على تنقية نفوسنا. لأن المخمور لا يعرف كيف يكون النبيذ الفاسد أو رائحته الكريهة، لكن الإنسان الواعي يعرف هذه الأشياء بالتدقيق. هذا ما يحدث مع الخطية. فذاك الذي يحيا بالعفة، يعرف بدقة مدى عفونة الخطية ووصمتها، بينما ذاك الذي أسلم نفسه للشر، كالمخمور، فهو لا يعرف أنه مريض.
وهذا على أية حال هو الشيء المخيف في ارتكاب الخطية، إنها لا تترك مجالا لأولئك الذين يسقطون فيها لكي يدركوا حجم التدمير الذي أصابهم. فبينما هم موجودون داخل العفونة، يعتقدون أنهم يتمتعون برائحة طيبة. ولهذا تحديدا لا يستطيعون أن يتخلصوا منها، وبينما هم مملئون بالحشرات، يفتخرون كما لو كانوا مزينين بأحجار كريمة. ومن أجل هذا فهم لا يريدون أن يميتوها، لكنهم يغذونها ويجعلونها تتكاثر داخلهم، حتى ذلك الحين الذي ستكون معهم في الجحيم، لأن هذه الحشرات هي سبب وجود الحشرات التي لا تموت في الجحيم حيث دودهم لا يموت. هذه الحشرات تشعل جهنم التي لا تُطفأ أبدا. ولكي لا يحدث هذا، فلنحرص على أن تدمر مصدر الشرور، ولنطفئ كمين النار، ولنقتلع الخطية من جذرها. لأنه لو قطعت شجرة الشر من أعلى، فإنك لم تفعل شيئا، طالما أن الجذر باق من أسفل وسينبت نفس الأشياء مرة أخرى.
9 ـ وأتساءل: ما هي جذور الخطايا؟ أجيب: تعلم من البستاني الصالح ، الذي يعرف هذه الأمور جيدا، الذي يعتني بالكرم الروحي ويرعى كل المسكونة.
أيضا ما هو أصل كل الشرور؟ أقول: هو محبة المال، لأن الرسول بولس يقول: “محبة المال أصل لكل الشرور”. من هنا تأتي المشاجرات والعداوات والحروب، من هنا تأتى المشاحنات والكلام البذيء والشكوك والإهانات، من هنا يأتي القتل والسرقات ونبش القبور. إن محبة المال لا نجعل المدن والقرى فقط، مملوءة بالدماء والقتل، بل أيضا الشوارع، والأرض الآهلة بالسكان، والأماكن المهجورة، والجبال والوديان والتلال، كلها بشكل عام. بل إن البحر أيضا لم ينجو من هذا الشر، فالقتل قد طاله بهوس شديد ، إذ أن القراصنة يحيطون به من كل ناحية، ويخترعون طرقا جديدة للسطو والسرقة. لقد انقلبت كل أواصر القرابة بسبب محبة المال، بل وديست بالأقدام كل الوصايا الإلهية الخاصة بقانون المحبة.
لأن سلطة المال الطاغية، لم تُسلح تلك الأيدي ضد الأحياء فقط، بل وضد الأموات أيضا، حتى الموت لا يجعل هؤلاء يتوقفون عن ممارسة شرورهم، لكنهم يفتحون القبور، ويمدون الأيدى الملوثة إلى أجساد الموتى، دون أن يتركوا حتى ذلك الذي فارق الحياة بعيدا عن عبثهم. إن حدث ورأيت مرتكبي هذه الخطايا مهما كان مقدارها، سواء في البيت أو في السوق أو في المحاكم أو في البرلمانات أو في القصور أو في أي مكان آخر، سترى أن كل هذه الخطايا تأتي نتيجة محبة المال. لأن هذه الخطية هي التي غمرت الجميع بالدماء والقتل، هذه الخطية هي التي أشعلت لهيب جهنم، وهي التي لم تجعل المدن أفضل من الصحراء (من حيث الأمان)، بل أسوأ. لأنه من السهل أن نتحصن من أولئك الذين يتربصون بنا في الصحراء، لأنهم لا يهاجمون بصفة دائمة، بل إن الذين يتمثلون بهم داخل المدن، هم أشر منهم، ومن الصعب أن نتحصن ضدهم، إنهم يشرعون في ارتكاب تلك الأمور علنا ، بينما أولئك يصنعونها سرا. لأن القوانين التي من المفترض أنها موجودة لتُحجم خطيتهم، هؤلاء جعلوها حليفة لهم، فملأوا المدن بالقتل وبكل ما يثير التلوث.
أخبرني أليس هو قتلا وأشر من القتل حين تُسلم الفقير إلى الجوع، ونضعه ي السجن، وبالإضافة إلى معاناة الجوع نسلمه إلى عذابات وإلى مساوئ غير محدودة؟ وحتى لو لم تصنع أنت هذه الأمور، لكنك تدفع آخر لكي ينفذها ، ا، إنك تمارس هذه الأمور بالأكثر عن طريق خدامك. لأن القاتل يستخدم سيفه وقت ارتكاب جريمته، والعذاب الناتج عن القتل لا يستمر إلا لوقت قصير. أما أنت فبوشاياتك، وإهاناتك، وهجماتك، تجعل النور بالنسبة له ظلاما، وتجعله يشتهى الموت آلاف المرات، فكر في كم تكون عدد الميتات التي ترتكبها مقابل الموت الواحد. والأكثر فزعا من كل شيء، أنك تسلب وتخطف، وأنك طماع وشره، لا لأن الفقر يضغط عليك، ولا لأن الجوع يجبرك على هذا، بل لكي تُغطي سرج الجواد بذهب كثير، وأيضا سقف البيت ورؤوس الأعمدة . كم أنت مستحقا لعذاب أكثر من جهنم، عندما تُلقي بالأخ الذي صار شريكا لك في الخيرات السمائية، والذي كرم بهذا القدر الكبير من سيدك، إلى هذه النكبات غير المحدودة، لكي تُزين أرضيات وحوائط مسكنك وأيضا أجساد الجياد التي في غنى عن هذه الزينة لأنها لا تشعر بها؟
يا للعجب فقد صار الكلب موضع اهتمام بالغ من الأغنياء، أما الإنسان أو من الأفضل أن نقول إن كل من دعى باسم المسيح، يواجه حالة أسوأ من الجوع بسبب اهتمام الأغنياء بالكلاب. وهل يوجد ما هو أسوأ من هذا الخلط وهذا الالتباس؟ وهل هناك أمرا أكثر فزعا من هذه المخالفة؟ وكم يكون عدد أنهار النار التي ستكفي لمثل هذه النفوس؟ عجبا فالإنسان الذي خلق على صورة الله، يترك هكذا في حالة بائسة، بسبب وحشيتك أيها الغني، بينما مناظر البغال التي تجر مركبة زوجتك، تلمع من كثرة الذهب، وأيضا من كثرة الأموال التي تنفق على تزيين العربة بالمعادن الثمينة والأخشاب والجلود . وإذا احتاج الأمر أن تصنع عرشا أو مسندا لراحة القدمين، فإنك تصنعها كلها من الذهب والفضة، بينما يوجد عضو من أعضاء المسيح، ذاك الذي من أجله أتى من السماء وسفك دمه الكريم، لا يتمتع حتى بالقوت الضروري لإعاشته، وذلك بسبب طمعك وشراهتك. وبالطبع فإن فراش النوم في قصرك أيضا يكون مغشى بالفضة من كل ناحية، بينما أجساد القديسين تُحرم من الغطاء الضروري، وبات المسيح (الفقير) بالنسبة لك، يستحق أقل مما يقدم للخدم، وللبغال، وللفراش، ولكرسي العرش، ولمسند القدمين . أما الأواني التي هي أكثر ثمنا من هذه الأشياء، فإني أتجاوزها تاركا لكم أن تُقدروها.
فإذا كنت تشعر بالفزع عندما تسمع هذه الأمور، امتنع عن ممارستها ، ولن يصيبك شيئا مما قيل، ابقى بعيدا عن هذا الهوس، لأن الاهتمام بهذه الأمور التي أشرنا إليها هو بالحقيقة جنون مطبق. ولذلك فبعدما نترك هذه الأمور، ليتنا نتطلع نحو السماء، حتى ولو جاء هذا متأخرا، لنتذكر يوم الدينونة، لنفكر في القضاء المخوف، والمسئوليات المؤكدة (التي نتحملها نتيجة أفعالنا)، وأحكام الله العادلة. وعلى الرغم من أن الله يرى هذه الأمور، إلا أنه لم يرسل علينا صاعقة من السماء، برغم أن ما يحدث لا يستحق صواعق فقط، بل كوارث أخرى أكثر هولاً، ومع هذا لم يفعل ذلك، ولا جعل فيضان البحر يتجه نحونا، ولا الأرض انفتحت من المنتصف، ولا الشمس انطفأت، ولم يلق ما في السماء من كواكب ونجوم، ولم يدمر شيء، لكنه مازال يترك كل شيء يسير في نظام، ومازال الكون كله في خدمتنا.
10 . إذن طالما أننا نفكر في هذه الأمور، لنرتعد أمام عظمة محبته للبشر، ولنعد إلى أصلنا النبيل، لأننا بالتأكيد لا نسلك الآن بطريقة أفضل من الحيوانات غير العاقلة، لكن بطريقة أسوأ منها بكثير. لأن هذه الحيوانات تحب الحيوانات، الأخرى التي من جنسها، وهي سعيدة بشركتها في هذه الطبيعة الحيوانية، وما يجمع بينها هو الحنو، بينما أنت على الرغم من أن لك دوافع غير محدودة، تقودك وتدفعك باتجاه آخرين هم أعضاء في جسد واحد – بسبب الشركة في نفس الطبيعة – والتي منها أنك كرمت بالعقل، وأنك تشترك معه في ممارسة التقوى، وأنك شريك معه في خيرات لا تحصی، ومع هذا صرت أكثر وحشية من تلك الحيوانات، مادمت تظهر اهتماما كبيرا بأشياء لا قيمة لها، وتتجرأ على هدم هياكل الله بأن تتركها فريسة للجوع والعرى، ومرات كثيرة تسبب لها شرور عديدة. وأقول لك إذا كنت تصنع كل هذا بسبب حبك الكبير للمجد، إلا أنه كان ينبغي عليك أن تهتم بأخيك أكثر من اهتمامك بالجواد . لأنه على قدر اهتمامك بالإنسان الذي هو أولى بالإهتمام من الحيوان، على قدر ما ينسج لك إكليل مشرق، بسبب رعايتك له واهتمامك به. لكن للأسف أنت الآن تسقط في هوة التناقضات وتجلب على نفسك إدانات كثيرة لا تشعر بها.
لأنه من ذا الذي يرى أفعالك ولا يدينك؟ ومن من البشر لن يتهمك بهذه القسوة الشديدة، وكراهية الناس، عندما يرى أنك تهين جنس البشر، وتهتم بالحيوانات، وبأثاث البيت على حساب البشر؟ ألم تسمع الرسل الذين قالوا إن أولئك الذين قبلوا الكلمة أولاً ، . قد باعوا البيوت والحقول لكي يطعموا الاخوة؟ إلا أنك للأسف تسلب بيوتًا وحقولاً، لكي تُزين جواد وأخشاب وجلود وحوائط وأرضيات. والمؤكد أنه ليس فقط رجال بل ونساء أيضا يعانون من هذا الهوس، للأسف يخصصون رجالاً لمثل هذا العمل المتعب والباطل ويلزموهم بالإنفاق على أمور نافلة، بدلاً من الاعتناء بالأمور الضرورية، وإن قام أحد باتهامهن لأجل اعتناءهن بهذه الأمور الباطلة فيكون دفاعهن حاضرا ومملوءا بالإدانة القاسية، ونستشف من دفاعهن أنهن أصبن بنفس الهوس، وأنهن يدفعن رجالهن نحو هذا الطريق.
وأتساءل ماذا تقول؟ ألا تخشى وتُحصي المسيح الذي يتضور جوعا، ضمن الجياد والبغال والفراش ومساند الأرجل؟ أو من الأفضل أن نقول إنك لا تحصه هذه الأشياء الباطلة، بل وتخصص الجزء الأكبر من أموالك لها ، بينما تعطي للمسيح أقل جزء. ألا تعرف أنك مدان، بسبب أن كل الأشياء التي تمتلكها هي ملك له؟ إلا أنك لا ترد الجميل ولا تريد أن تعطي له مكافأة صغيرة . إليك هذا المثال الذي سوف يوضح لك هذا الأمر، فلو أنك قد أجرت منزلاً صغيرا، فإنك تدقق في طلب الإيجار، ولكنك الآن وأنت تتمتع بكل ما في الكون الذي هو ملك له، وبهذا العالم الكبير كمسكن لك، ألا تتحمل مسئولية دفع إيجار قليل، إنك تسلم نفسك وكل أموالك للمجد الباطل، فكل هذه الأمور تعتمد على ما نحن فيه الآن، لأنه ليس من الممكن أن يصير الجواد أفضل من حيث القيمة أو الإمكانية، عندما توضع عليه هذه الزينة، ولا أيضا الإنسان الذي يجلس فوقه، بل في بعض الأحيان يصير بالأكثر غير مستحق للكرامة. لأن كثيرين يتركون الفارس، ويوجهون أنظارهم إلى زينة الجواد، وإلى الخدم المحيطين به، والذين يسيرون بطريقة رسمية، بينما ذاك المحاط من كل هؤلاء، يبغضونه وينصرفوا عنه كعدو لهم . بيد أن هذا لا يحدث لك عندما تُزين نفسك بالفضيلة، بل إن الناس والملائكة، ورب الملائكة، الجميع ينسجون لك الإكليل.
فلو أنك تشتهى المجد الحقيقي، اهرب بعيدا عن تلك الأمور التي تمارسها الآن، ولا تهتم بتزيين البيت، بل زين النفس بالفضيلة، لكي تصير مشرقاً ومعروفا. أما ما يحدث الآن فمن المؤكد أنه يجعلك أكثر تفاهة من أي شيء، طالما أنك تحمل نفسا مقفرة بلا ثمر، وتهتم بجمال البيت أولا أكثر من اهتمامك بالبشر.
إن لم تكن تعاني مما أقوله، اسمع ماذا فعل أحد الوثنيين، وسوف تشعر بخزي، على الأقل من أجل فلسفتهم، قيل أن شخصا من هؤلاء، عندما دخل إلى بيت يلمع من كثرة ما به من نقوش ذهبية، ومضيء من شدة جمال المرمر والأعمدة والأرضيات المفروشة بالسجاد ، بصق في وجه صاحب البيت. وعندما أدانوه لأجل هذا الفعل، قال بأنه لم يكن مسموحا له أن يبصق في أي موضع من مواضع البيت الأخرى، ولهذا اضطررت لإهانة وجهه”. أرأيت أن ذاك الذي يهتم بالزينة الخارجية هو مثار للسخرية، ويحتقر من أولئك الذين لهم رؤية ثاقبة؟ وهذا أمر طبيعي جدا. لأنه لو أن أحدا ترك زوجته ترتدي ملابس ممزقة، ولم يهتم بمظهرها الخارجي، ثم اعتنى بالخادمات فألبسهن حللاً براقة، فإنك لن تقبل هذا الأمر، بل ستغضب وستقول إن هذا التصرف هو عمل غير لائق بالمرة.
إذن فهذا ما ينبغي أن تفكر فيه بالنسبة للنفس. لأنه عندما ثزين الحوائط والأرضيات، والأثاث، وكل الأشياء الأخرى، ولا تقدم أعمال الرحمة بسخاء، وأيضا لا تعيش حياة العفة، فيكون كل ما تفعله مجرد تكرار لشيء واحد ، أو من الأفضل أن نقول إنك ترتكب شرورا مرعبة. لأنه لا يوجد أي فرق بين الخادمة وربة البيت (من جهة الجسد)، لكن يوجد فرقاً كبيرا بين النفس والجسد. وطالما أن هناك فرقا كبيرا بين النفس والجسد ، فبالأكثر جدا سيكون هناك فرقا كبير بينها وبين البيت، والفراش، ومساند الأرجل . إذا أي تبرير لديك يمكن أن تقدمه، عندما تغطي كل هذه الأشياء بالفضة، بينما تترك النفس رثه، مهملة، وجائعة ومليئة بالجروح، وتنهشها كلاب كثيرة (أي شرور كثيرة)، ثم بعد ذلك تعتقد أنك تنال مجدا حين تزين كل الأشياء التي تحيط بك من الخارج؟ هذا على أية حال دليل على أسوأ حالات فقدان العقل، فبينما تكون مثارا للسخرية والتهكم، وتسلك بسفه وتُحتقر، وتسقط في أشر عقوبة، فإنك لا تزال تفتخر بكل هذه الأمور. ولهذا أرجو، بعدما نفكر جيدا في كل ذلك، أن نستفيق ولو مرة واحدة على الأقل، وحتى ولو جاء هذا متأخرا، ولنرجع إلى عقولنا ، محولين الزينة من زينة خارجية إلى زينة النفس. لأنه هكذا ستبقى الزينة ثابتة، وستجعلنا مساويين للملائكة، وسنصير سببا لخيرات أكيدة. وليتنا جميعا ننال كل هذه الأمور الحسنة بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى دهر الدهور آمين.
العظة الثالثة عشر: رو6: 19-
” أتكلم إنسانيا من أجل ضعف جسدكم. لأنه كما قدمتم أجسادكم عبيدا للنجاسة والاثم للاثم هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيدا للبر للقداسة” (رو19:6).
لقد طلب منهم الرسول بولس أن يكونوا يقظين بالنسبة للحياة التي يعيشونها، حاثا إياهم أن يكونوا أمواثا عن العالم، وأن يكونوا قد ماتوا عن الشر، ويبقوا ثابتين في مواجهة الخطايا، والواضح أنه قال لهم أمرا كبيرا وثقيلاً ويفوق قدرات الطبيعة الإنسانية، إلا أنه أراد أن يبين أنه لم يطلب شيئا مبالغا فيه، ولم يعط انطباعا بأنه طلب من ذاك الذي تمتع بعطية عظيمة بهذا القدر أن يفعل فعلاً عظيما، لكنه أراد أن يظهر شيئا معتدلاً جدا وسهلاً، فاستخدم هذه المفارقة وقال: “أتكلم إنسانيا ” كما لو أنه قال إن هذه الأمور عادة ما تصير بالمنطق الإنساني، وسواء كان هذا الشيء كبيرا أو متوسطا، فإنه بيئه في بعده الإنساني . لأنه في موضع آخر يقول: ” لم تصبكم تجربة إلا بشرية أي بحسب قدرات الإنسان. كما قدمتم أجسادكم عبيدا للنجاسة والإثم للاثم. هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيدا للبر للقداسة “. وعلى الرغم من أنه يوجد اختلاف كبير بين السادة، لكنني أطلب معيارا متساويا من جهة العبودية (للبر)، وبالأكثر جدا أن تقدموا أعضاءكم عبيا للبر والقداسة، على قدر ما لهذه السيادة (سيادة البر) من عظمة وأفضلية، مقارنة بسيادة الخطية، لكنني لا أطلب منكم شيئا أكثر، بسبب ضعفكم.
ولم يقل ” اختياركم “، ولا ” رغبتكم “، لكنه قال ” أجسادكم “، جاعلاً حديثه أقل إيلاما . فإن كان هناك جسد للنجاسة، وآخر للقداسة ، وجسد إثم، وحياة بر، فمن هو ذاك البائس والتعس، الذي يفضل العبودية للخطية وللشيطان، على العبودية للمسيح؟ لذا عندما نسمع الآيات الآتية ، سنعرف جيدا ، إننا لا تقدم ولا حتى هذا الشيء اليسير.
لأنه حين قيل هذا الكلام، لم يكن محلا للثقة، ولم يلاق ترحيب، ولم يحتمل أحد أن يسمعه، ولم يكن أحد يخدم المسيح كعبد (للبر)، بقدر ما كان يخدم الشيطان، لذلك يبرهن على صدق كلامه بالآيات اللاحقة، مشيرا إلى تلك العبودية التي خضعوا لها قائلاً:
” لأنكم لما كنتم عبيدا للخطية كنتم أحرارا من البر ” (رو20:6).
ما يقوله يعني الآتي: عندما كنتم تعيشوا في الشر والجحود وترتكبوا أسوأ الخطايا ، كنتم تعيشوا في خضوع كبير، حتى إنكم لم تفعلوا أي صلاح على الاطلاق . هذا هو معنى “أحرارا من البر”. أي أنكم لم تكونوا خاضعين للبر، بل متغربين عنه تماما. وبالتأكيد ولا حتى قسمتم عبوديتكم تارة للبر، وتارة أخرى للخطية، لكنكم سلمتم أنفسكم بالكامل للشر.
وبناء على ذلك ولأنكم انتقلتم الآن إلى البر، فعليكم أن تسلموا أنفسكم بالكامل لحياة الفضيلة، ولا تفعلوا أي خطية على الإطلاق، فعلى الرغم من أن الفرق ـ بين سلطان الخطية وسلطان البر ـ كبيرا، إلا أن الفرق ي العبودية هو أيضا كبير جدا، الأمر الذي شرحه بوضوح كبير، وأظهره لمن كانوا عبيدا للخطية آنذاك، ولمن هم عبيدا للبر الآن. ولم يتكلم بعد عن الخسارة التي تأتي من (العبودية للخطية)، لكنه تكلم أولا عن الخجل أو الحياء.
“فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن ” (رو21:6).
لأن العبودية للخطية لم تأت بأي ثمر، حتى أن تذكرها الآن يثير خجلاً، فلو أن التذكر يثير ذلك، فبالأكثر جدا فعل الخطية، فإنكم الآن قد ربحتم بطريقة مزدوجة، إذ قد تحررتم من الخجل، وأيضا عرفتم الحالة التي كنتم فيها تحيون، تماما مثلما كانت الخسارة قبلا مزدوجة، لأنكم فعلتم أمور تستوجب الخجل، ولأنكم لم تعرفوا أن تستحون، وهو الأمر الذي يمثل صعوبة أكثر من الأمر الأول. لذلك وبعدما أظهر الرسول بولس الخسارة الكبيرة التي صارت من جراء الأفعال التي حدثت آنذاك، من خلال الخجل، يتقدم نحو نفس الأمر. وما هو هذا الأمر؟ ” لأن نهاية تلك الأمور هي الموت “. لأنه طالما أن الخجل لم يبدو أنه كان أمرا مزعجا على الاطلاق، فإنه يأتي إلى الأمر الأكثر فزعا، أي الموت، برغم أن ما قيل سابقا كان كافيا. فلتفكر إذا في مقدار قوة الخطية، إذ لم يكن في استطاعتهم أن يتخلصوا من الأمور التي تدعو للخجل في اللحظة التي كانوا فيها متحررين من الإدانة . فأى مكافأة تنتظر من كونكم عبيدا للخطية، عندما ترى أن مجرد تذكر الخطية في حد ذاته، يجعلك تختبئ وتخجل، وبالطبع في اللحظة التي فيها أنت متحرر من الإدانة، وإن كان من المؤكد، أنك مقيم في نعمة عظيمة جدا؟ لكن مثل هذه الأمور (الشائنة)، ليست من الله.
” أما الآن إذ أعتقتم من الخطية وصرتم عبيدا لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبدية ” (رو22:6).
الثمر لأولئك الذين فعلوا الخطية وصاروا عبيدا لها كان الخجل، ثم بعد ذلك التحرر، الثمر لهؤلاء الآن الذين صاروا عبيدا لله القداسة، وحيث توجد القداسة، يوجد كل شيء في العلن . إن نهاية أولئك ـ الخاضعين للخطية ـ هي الموت، بينما نهاية هؤلاء ـ الخاضعين للنعمة ـ هي الحياة الأبدية. أرأيت كيف أنه يظهر أمورا قد أعطيت، وأمورا أخرى على رجاء الانتظار، ويؤكد على حقيقة الأمور التي أعطيت، من خلال تقديس الحياة؟ هكذا لكي لا تقول، إن كل الأمور هي على رجاء الانتظار، يبين كيفأنك قد أثمرت.
أولا : أنك تحررت من الخطية وكل الشرور المشابهة، والتي تذكرها يثير خجلاً
ثانيا : أنك . صرت عبدا للبر
ثالثا : أنك تمتعت بالقداسة.
رابعا: أنك ستنال الحياة، ولكنها ليست الحياة الحاضرة، بل الحياة الأبدية.
أنا لا أطلب منكم شيئا كثيرا ، بل أطلب منكم أن تصيروا عبيدا للبر، إلا أن العبودية في هذه المرة، غير العبودية السابقة التي كانت للخطية. هذا ما أردت أن أوضحه لكم، أن الرب يمنح الكثير جدا، وأن الفرق في العبودية وفي المكافآت هو كبير جدا. وبعدما أشار سابقا إلى أسلحة وإلى ملك، يصر على المقارنة، قائلا:
“لأن أجرة الخطية هي موت. وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا ” (رو23:6).
بعدما قال ” أجرة الخطية”، فإنه لم يستخدم نفس الاسلوب بالنسبة للأمور الصالحة، لأنه لم يقل ” أجرة إنجازاتكم”، لكنه قال ” أما هبة الله”، مظهرا أنهم لم يتحرروا من تلقاء أنفسهم، ولا أخذوا منفعة ما، ولا مكافأة، ولا تعويضا عن أتعابهم، بل كل هذا قد صار بالنعمة الموهوبة لهم. حتى أن التمييز يأتى من هنا، لا لأنه قد خلصهم فقط، ولا لأنه غيرهم نحو الأفضل، لكن لأن هذا قد حدث دون جهد أو تعب بشري . فالله لم يخلصهم فقط، بل أعطاهم الكثير جدا، وهذه العطايا قد أعطاها بابنه. وقد ذكر الرسول بولس كل هذه العطايا، لأنه تكلم عن النعمة، وكان ينتوى أن يشير إلى الناموس فيما بعد. ولكي لا يصيروا غير مبالين أكثر بالنسبة للخطية ومدى سطوتها، والهبة ومدى عظمتها، يشير إلى أسلوب الحياة الصحيح، حاثا المستمع في كل موضع على الاهتمام بالفضيلة. فعندما أوضح أن الموت، هو أجرة الخطية، أراد أن يخيفهم مرة أخرى، ويؤمنهم من جهة الأمور المستقبلية. لأنه من خلال الأمور السابقة في حياتهم والتي يذكرهم بها دوما، يجعلهم يدركون مدى إحسانات الله ويعترفون بهبة الحياة ويثقوا أنهم ي أمان من جهة حياة الدهر الآتي .
تفسير رومية – 5 | رسالة رومية – 6 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية – 7 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير رومية – 6 | تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |