تفسير رسالة كورنثوس الأولى ٥ للقمص أنطونيوس فكري

شرح كورنثوس الأولى – الإصحاح الخامس

 

[راجع في المقدمة ” سلم الدرجات الروحية” وهي في الإصحاحات (5-6-7)] فإذ تحدث هنا عن الزاني الذي زنى مع امرأة أبيه وصار جسدًا واحدًا مع زانية، كأنه جسد بلا روح، بلا نصيب في الحياة الأبدية، فهو أطفأ الروح القدس الذي فيه، ويتعجب الرسول أن هناك من لا يزال في قاع السلم بينما أن الطريق مفتوح لكل واحد أن يكون روحًا واحدًا مع الله، هذا إذا التصق بالله. لذلك جاء في هذه الإصحاحات كل هذه الدرجات الروحية.

وبولس الرسول بدأ هنا في علاج كبريائهم بأن يفضح الخطية التي في وسطهم، فهو يقول أن الكبرياء الذي فيكم والغرور الذي ملأكم أعماكم عن الخطية التي في وسطكم وبدلًا من أن تنشغلوا بالتحزب والإدانة والمشاحنات، فلتنظروا للفساد الذي دخل فيكم وبدأ يقوض إمكانية تغييركم للقداسة. وهو يشير هنا لشخص يزني مع زوجة أبيه واشتهرت القصة ولم يلومه أحد، فربما كانوا معجبين بفصاحته وبلاغته. ويقول ذهبي الفم أن هذا الزاني كان رجلًا معروفًا ومن الأعيان. وأنه كان يعيش في زنا مع زوجة أبيه بينما كان أباه ما زال حيًا (2 كو 7: 12) (فيكون المُذنَب إليه في هذه الآية هو الأب نفسه الذي تخونه زوجته مع ابنه). وهم سكتوا عن هذه الخطية لأن كبريائهم أعمى عيونهم، فهم كانوا شاعرين بأنهم قد استغنوا وفيما كانوا يزعمون أنهم قديسين كانت الخطية تعبث داخلهم.

 

ملخص سلم الدرجات الروحية:

1- مضاجعو الذكور.

2- الزناة (1، 2 لا يرثون ملكوت الله).

3- أصحاب الزواج الثاني.

4- أصحاب الزواج الأول ولكن بلا ضوابط للعلاقات الجسدية حتى في الصوم.

5- أصحاب الزواج الأول وهؤلاء يضبطون أنفسهم في الأصوام فيمتنعون عن العلاقات الجسدية على أن يكون ذلك بموافقة الطرفين.

6- مَنْ يعيش في تعفف كأنهم بلا زواج.

7- البتوليون الذين يرفضون الزواج حبًا في الله ولتذوق السمائيات وحتى لا تشغلهم أمور الزواج عن الله.

8- كلما قمع الإنسان جسده واستعبده يرتفع في درجات السلم، بشرط أن يلتصق بالله.

آية 1: – “يُسْمَعُ مُطْلَقًا أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنًى! وَزِنًى هَكَذَا لاَ يُسَمَّى بَيْنَ الأُمَمِ، حَتَّى أَنْ تَكُونَ لِلإِنْسَانِ امْرَأَةُ أَبِيهِ.”

مطلقًا = ACTUALLY REPORTED. قد شاع فعلًا بينكم = ترجمة أخرى. أي أن الكل قد عَرِف، والموضوع صار معلنًا. هكذا لا يسمى بين الأمم = هذا أمر تعف عنه حتى أخلاق الأمميين أن تكون لإنسان امرأة أبيه.

 

آية 2: – “أَفَأَنْتُمْ مُنْتَفِخُونَ، وَبِالْحَرِيِّ لَمْ تَنُوحُوا حَتَّى يُرْفَعَ مِنْ وَسْطِكُمُ الَّذِي فَعَلَ هذَا الْفِعْلَ؟”

أفأنتم منتفخون = بهذا وضع الرسول يده على المشكلة، لقد صاروا عميانا بسبب انتفاخهم. وبدلًا من أن يخجلوا بسبب هذا التصرف فهم يمتلئون غرورًا بحكمتهم ومعرفتهم ومواهبهم، وربما تفاخروا بهذا الزاني، إذ كان بليغًا. ولم يظهروا رفضًا لهذا التصرف وحزنًا وخوفًا من غضب الله والخراب الآتي بسبب غضب الله = لم تنوحوا. فبسبب خطية عخان إنهزم الشعب في عاي وقيل “في وسطك حرام يا إسرائيل”، وبسبب هذا الحرام تخرب الحياة أو الكنيسة. وبعد ذلك إذ أدان الشعب عاخان انتصروا. وكلام الرسول يعني لومهم أن قلوبهم لم تتحرك لتنقية مجتمعهم المسيحي وعزل هذا الخاطئ. فالكنيسة كلها جسد واحد، ولو حدث فساد لعضو (Gangrene غرغرينا(1)) سيموت الجسد كله إن لم يقطع العضو الفاسد.

 

آية 3: – “فَإِنِّي أَنَا كَأَنِّي غَائِبٌ بِالْجَسَدِ، وَلكِنْ حَاضِرٌ بِالرُّوحِ، قَدْ حَكَمْتُ كَأَنِّي حَاضِرٌ فِي الَّذِي فَعَلَ هذَا، هكَذَا:”

كأني غائب بالجسد = فهو في أفسس. نرى الرسول هنا يستخدم السلطان الممنوح له من الله ليؤدب الخاطئ، وهو مع أنه غير موجود معهم بالجسد إلاّ أنه موجود معهم بعقله وروحه، وبهذا يحكم كما لو كان حاضرًا فعلًا.

 

آيات 4، 5: – “بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ­ إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ­ أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ.”

هنا نرى بولس الرسول يعقد مجمعًا، من الكنيسة كلها ومنه كرسول ولدهم في المسيح، وله سلطان رسولي. باسم ربنا يسوع = كرأس للكنيسة، وهو مصدر قوة الكنيسة وهو مصدر قوة وسلطان بولس كرسول للكنيسة. وهذه تشير لحضور المسيح المستمر في كنيسته. والروح القدس هو الذي يعطي الإرشاد في القرار. وهذه الكنيسة المجتمعة لها سلطان للعقوبة أعطاه الرب يسوع للكنيسة ممثلة في أساقفتها (مت 16: 19 + مت 18: 18 + يو20: 22، 23) وما هي العقوبة.؟ أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد = حرمان أو قطع الخاطئ الشرير من الكنيسة هو تسليمه في يد الشيطان، إذ قد فقد الحماية التي يحميها المسيح للكنيسة عروسه، مثل خروف أُبْعِدَ عن القطيع فيسلَّم للذئاب. وهذا يحدث مع كل خاطئ يستمر في خطيته فينفصل عن الكنيسة جسد المسيح ويكون عرضة لضربات إبليس مثل الأمراض الجسدية (أيوب كمثال). إذًا العقوبة هي القطع من الكنيسة حتى يعاقب الخاطئ على فعلته، وحتى يكون في هذا تأديب لجسده فيمكن أن تخلص نفسه في يوم مجيء الرب الثاني = لكي تخلص الروح والمقصود أن يؤدًّب هذا الإنسان بأمراض في جسده وبأتعاب وضيقات حتى يندم ويعود طالبًا المغفرة (2 كو 2: 6-8). والله استخدم الأسلوب نفسه مع أيوب لينقيه من خطية البر الذاتي، بل استخدم هذا الأسلوب مع بولس نفسه حتى يحميه من الانتفاخ (2 كو 12: 7). ولكن العقوبة الجسدية لا تعفي الإنسان من الهلاك الأبدي إن لم يقدم توبة. ولو قدم الإنسان توبة حتى بعد أن خسر يد أو رجل فهو سيدخل السماء بجسد كامل وليس ناقصًا. والعقوبات تتصاعد تدريجيًا. ولكن إن قدم توبة تتوقف عند هذا الحد، وهذا ما حدث مع الابن الضال ومع يونان. وكما نقول في القداس “ربطتني بكل الأدوية المؤدية للخلاص”.

والأدوية نوعان (1) لشفاء المرض (هذا الزاني) (2) لمنع المرض (بولس).

 

آية 6: – “لَيْسَ افْتِخَارُكُمْ حَسَنًا. أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ؟”

لَيْسَ افْتِخَارُكُمْ حَسَنًا = قال ذهبي الفم أن هذا الزاني كان من ذوي الحكمة العالمية فكانوا يفتخرون به، وهم افتخروا أيضًا بمواهبهم. ولكن الرسول يقول لهم لا تفتخروا بمثل هذا الخاطئ فوجوده بينكم سيفسد الكنيسة كلها، كالخميرة التي تعمل في العجين كله، عمل الخطية في إفساد الطبيعة البشرية. الخطية ترعي كآكلة (غرغرينا Gangrene) لا تكتفي بحد طالما لا تجد من يقاوم امتدادها. ولا ينفع معها أن يتجاهلها الإنسان بل الواجب قطعها وهذا ما عمله الرسول. وإذا فهمنا أن الافتخار الذي يشير إليه الرسول هنا بقوله ليس افتخاركم حسنًا، هو افتخارهم بمواهبهم. فالمعنى أن افتخارهم جعلهم لا يهتمون بمثل هذه الخطايا، ولم يدركوا أثارها السيئة وأنها ستؤثر على الآخرين. وكلمة خميرة استخدمت بالمعنى السيئ أي انتشار الشر في (مت 16: 6 + مر 8: 15 + لو 12: 1 + غل 5: 9) واستخدم المسيح معنى الخميرة بالمعنى الصالح أي امتداد وانتشار ملكوت السموات في (مت 13: 33 + لو 13: 21).

 

آية 7: – “إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا.”

نصيحة بولس الرسول لأهل كورنثوس أن يستأصلوا الشر وذلك باستبعاد الشخص الذي أخطأ، لأن قبولـه في الكنيسة سيؤثر على بقية الأعضاء مثل تأثير الخميرة في العجين كله، وكما أن اليهود بحسب الشريعة، كانوا يعيدون الفصح بالفطير ثم يعيدون 7 أيام عيد الفطير يأكلون فيها فطير دون خمير. وكانوا في تدقيق شديد يفتشون بيوتهم قبل ذبح الفصح حتى يضمنوا خلوها تمامًا من أي خمير طوال أيام الفطير السبعة، والتي تأتي بعد الفصح (خر 12: 15 + 13: 6، 7) هكذا نحن أيضًا وقد صار المسيح فصحنا، إذ قد ذبح لأجلنا فحررنا من الخطية، يجب علينا أن ننقي أنفسنا من أي شر ونسلك بما يليق بأولاد الله، إذ قد أصبحنا عجينًا جديدًا بالمعمودية لنعيد الفصح الإلهي وحياتنا كالفطير لا يوجد بها شرًا أو خبث. ورقم (7) هو رقم الكمال إشارة للحياة كلها التي يجب أن نقضيها بلا خطية. فلا فرح ولا عيد إن كان هناك شر وفساد.

الخميرة العتيقة = سواء خطية أو خطاة (كالزاني الذي كان يجب عزله عن الكنيسة) والمعمودية لنا هي عبور، هي عيد الفصح، عبور من الخطية للحياة الجديدة. إذًا لا بُد أن نحيا 7 أيام (العمر كله فرقم 7 يشير للكمال) على الفطير (بلا خطية).

 

آية 8: – “إِذًا لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ.”

إذًا لنعيد = ربما كان الوقت عيد الفصح أو أن الرسول يحسب أن الحياة الكنسية هي كحياة مقامة في الرب يسوع هي عيد فصح مستمر، نحتفل بلا انقطاع بممارسة الحياة النقية المقامة مع الرب فصحنا، أو هو العيد الدائم للكنيسة أي القداس والتناول، وما يجب أن يسبقها من توبة واعتراف. إن الحياة المسيحية تُشَبَّهْ بعيد دائم. ولنعيد بدون خطية أي بدون خميرة الشر = فالعيد والفرح لا يكونان إلاّ إذا امتنعنا عن الشر والخبث. إخلاص = تشير للسلوك والتصرف الخَيِّر الفاضل. والحق = تشير إلى المعرفة أي إلى الحقائق والعقائد السليمة، وليست معرفة وطرق العالم الباطل. فعلى المسيحي إذن أن يسلك حياة خيرة فاضلة تتفق مع الحقيقة الإلهية.

 

آية 9: – “كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ فِي الرِّسَالَةِ أَنْ لاَ تُخَالِطُوا الزُّنَاةَ.”

في الرسالة = يقول ذهبي الفم أن الرسول يقصد نفس هذه الرسالة أي الرسالة الأولى لكورنثوس، حيث طلب منهم في هذا الإصحاح بالذات ومن أول آية أن يرفعوا من وسطهم الذي فعل هذا الفعل الرديء. والبعض يقول أن هناك رسالة مفقودة قال لهم فيها هذا، وهذا رأي مستبعد.

 

آية 10: – “وَلَيْسَ مُطْلَقًا زُنَاةَ هذَا الْعَالَمِ، أَوِ الطَّمَّاعِينَ، أَوِ الْخَاطِفِينَ، أَوْ عَبَدَةَ الأَوْثَانِ، وَإِلاَّ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنَ الْعَالَمِ!”

وليس مطلقًا = لا أعني على وجه الإطلاق. أي الرسول لا يقصد قطع كل علاقة بأي خاطئ من غير المؤمنين، وإلاّ ستنقطع علاقتنا بالمجتمع البشري كله، فالعالم مملوء زناة وطماعين وخاطفين وعبدة أوثان. وبهذا المفهوم قال السيد المسيح “لست أسألك أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير” (يو 17: 15)

 

آية 11: – “وَأَمَّا الآنَ فَكَتَبْتُ إِلَيْكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخًا زَانِيًا أَوْ طَمَّاعًا أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّامًا أَوْ سِكِّيرًا أَوْ خَاطِفًا، أَنْ لاَ تُخَالِطُوا وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هذَا.”

إن كان أحد مدعو أخًا = أي المقصود عزل المسيحي الذي يشتهر بخطيته وحرمانه من الشركة الكنسية، وهذا سلطان الكنيسة أن تعزل من الشركة وبالذات من سر الإفخارستيا. فموضوع العزل والمقاطعة خاص بالمؤمنين.

أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا = قوله لا تؤاكلوا قد تفهم لا تشتركوا معهم في طعامهم, وبالأولى لا تشركوهم معكم في مائدة الإفخارستيا التي يجب أن يمنع عنها الخطاة، وذلك حتى يتوبوا. ويكون هدف القطع هو حثهم على التوبة.

 

آية 12:- “لأَنَّهُ مَاذَا لِي أَنْ أَدِينَ الَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ تَدِينُونَ الَّذِينَ مِنْ دَاخِل؟”

ماذا لي أن أدين الذين من خارج = أي لا سلطان للكنيسة على غير المؤمنين، ولكن فقط على المؤمنين، ليس من عمل الكنيسة أن تدين أحدًا من غير المؤمنين. ألستم أنتم تدينون الذين من داخل = أنا كما أنتم أحكم وأدين وأعاقب الذين هم مؤمنين. وليس المقصود هو الإدانة بمنطق أنني الأفضل، لكن بدافع المحبة الأخوية، وخوفًا على نفس الخاطئ من الهلاك وكمحاولة لإصلاحه، وخوفًا على الكنيسة من غضب الله. إذًا على الكنيسة أن تحرص باستمرار على تنقية نفسها من أي فساد للعالم يتسلل إليها عن طريق أي عضو فيها.

 

آية 13:- “أَمَّا الَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ فَاللهُ يَدِينُهُمْ. «فَاعْزِلُوا الْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ».”

الله يدين الجميع لكن من هم بالداخل أي المؤمنين، فالسلطان الكهنوتي له أن يطبق عقوبات وتأديبات عليهم. فإعزلوا الخبيث من بينكم = هذه هي العقوبة التي توقعها الكنيسة على كل مؤمن شرير.

الرسول في حديثه يقصد قرار الكنيسة بإدانة الأشخاص وقطعًا لا يقصد أن ندين بعضنا بعضًا كأفراد، فهذا ينطبق عليه ” لا تدينوا لكي لا تدانوا “.

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

تفسير كورنثوس الأولى 4 تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
تفسير كورنثوس الأولى 6
 القمص أنطونيوس فكري
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى