تفسير رسالة كورنثوس الثانية ١٢ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح الثاني عشر
«إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ. فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ.»(ع1).
قول بولس الرسول « إنه لا يوافقنى أن أفتخر » لئلا الافتخار يقوده إلى الترفع والجهالة ، ولكي يكون مثالاً للجميع في أن يهربوا كثيراً من أمثال هذا الافتخار لأن القضية خالية من الربح بل وضارة.
«أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. اخْتُطِفَ هذَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. وَأَعْرِفُ هذَا الإِنْسَانَ: أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا. مِنْ جِهَةِ هذَا أَفْتَخِرُ. وَلكِنْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِي لاَ أَفْتَخِرُ إِلاَّ بِضَعَفَاتِي.»(ع2-5).
لو لم تكن الضـرورة أوجبت ذلك كثيراً لما ذكر بولس الرسول القضية التي ذكرها الآن بل كان يسكت عنها لو لم ير الإخوة متهورين في الهلاك.
وتفطن كيف أن بولس الرسول استحق مثل هذا الإعلان بعد أربع عشرة سنة ، وانظر كيف أنه يتواضع في الأمر عينه إذ يذكر بعضاً ، والبعض الآخر يعترف بأنه يجهله.
وتأمل من جهة أخرى عدم تشامخ بولس الرسول إذ أن الذي اختطف كان أحد غيره وحسب ما استطاع وأمكنه ذكر القضية وأزال القول عن نفسه جهراً هكذا.
وقول بولس الرسول « إنه اختطف إلى الفردوس » ولكن لماذا اختطف ؟ على ما يبدو لي إنه اختطف لكي لا يظن به أنه يحتسب أقل من باقى الرسل لأن أولئك تعاملوا مع المسيح ، وأما بولس الرسول فلم يكن كذلك ، لذلك اختطفه المسيح ليشرفه ، هذا ولأن المسيح قال للص من قبل « الحق أقول إنك اليوم تكون معى في الفردوس » ( لو 23: 43).
أما قوله « من جهة هذا افتخر » فلأى سبب إذاً يفتخر إن كان الذي اختطف هو شخص آخر، ولذلك من المعلوم أن بولس الرسول يقول هذا عن نفسه.
«فَإِنِّي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفْتَخِرَ لاَ أَكُونُ غَبِيًّا، لأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ. وَلكِنِّي أَتَحَاشَى لِئَلاَّ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْ جِهَتِي فَوْقَ مَا يَرَانِي أَوْ يَسْمَعُ مِنِّي.»(ع6).
إن قول بولس الرسول هذا يوضح أن أقواله كلها عن نفسه.
«وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ لِيَلْطِمَنِي، لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ.»(ع7).
إن الله قد يسمح للشيطان ، وبما إنه قد يسمح له فلا يمنعه.
«مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي.»(ع8).
قول بولس الرسول « تضرعت إلى الرب ثلاث مرات » أي مراراً كثيرة ، وهذا عن تواضع كثير وإقراره بعدم احتماله الاغتيالات ، أى أنه فعل التوسل وكان محتاجاً لذلك من أجل النجاة.
«فَقَالَ لِي:«تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ.»(ع9).
قول بولس الرسول « فقال لى تكفيك نعمتي » أي يكفيك أنك تقيم الموتى وتفتح العميان وتشفى البرص وتفعل العجائب الأخرى ، ، فلا تطلب منع الشدائد وعدم الخوف.
وقوله « لأن قوتي في الضعف تكمل » تُكمل عندما تطردون وتغلبون الطاردين وتستولون عليهم ، عندما تضطهدون وتحكمون على المضطهدين ، وعندما تقيدون وتسترون الذين يقيدونكم وتستميلونهم إليكم.
إن كثرة المغتالين والمتآمرين والضاربين والطاردين والجلادين، يوضح قوة الرب.
وقوله « فبكل سرور أفتخر » أي إننى أعطيت شوكة فلا أعيش حزيناً بل مفتخراً ومستمداً قوة أكثر.
أمـا قـوله « لكي تحل على قـوة المسيح » أى أنه بمقـدار مـا تتـزايد المحن بهـذا المقدار تنمو أمور النعمة وتستقر.
«لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ.»(ع10).
كان بولس الرسول يشتهى النجاة سمع من الله أنه الشدائد، ولكن عندما سمع من الله أنه لا يجـب أن يكون هذا طلبه وإذ لم ينل المطلـوب ليس إنه لم يحزن فقـط بل قال « لذلك أسـر بالـضـيـقـات والـشـتـائـم والـضـرورات والاضطهادات والضـيـقـات لأجل من المسيح ».
وقوله « لأنى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى » فما بالك تتعجب إذ كانت قوة الله تتضح وقتئذ، لأن وقتئذ بالحرى تأتى النعمة فأكون قوياً لأنه كلما تتزايد الآلام كلما يتزايد عزاؤنا.
«قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي! لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ، إِذْ لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئًا.»(ع11).
قول بولس الرسول « لأنه كان ينبغي أن أمدح منكم»، إذ تكلم هنا بسيادة أكثر وبسلطان بليغ إذ كان له الدالة بما قاله ، فلم يذكر الاستعلانات ولا الآيات ولا المحن.
وقوله « إذ لم أنقص شيئاً عن فائقى الرسل » انظر هنا كيف أن بولس الرسول يتكلم بسيادة وسلطان أزيد لأنه قال من قبل « لأنى أحسب أني لم أنقص شيئاً عن فائقى الرسل» ( 2کو 11: 5 ) أما هنا فتكلم بثقة حاسماً الأمر فقال « إذ لم أنقص شيئاً عن فائقى الرسل».
ولأن بولس الرسول قال أمراً عظيماً ورافعاً منزلته أي أنه أحصى نفسه مع الرسل نراه يتواضع هنا فقال « وإن كنت لست شيئاً».
«إِنَّ عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ.»(ع12).
انظر هنا ، أى أمر ذكره بولس الرسول أولاً؟ ذكر الصبر ، لأن الصبر هو علامة الرسول أي احتمال الأمور كلها بشهامة.
«لأَنَّهُ مَا هُوَ الَّذِي نَقَصْتُمْ عَنْ سَائِرِ الْكَنَائِسِ، إِلاَّ أَنِّي أَنَا لَمْ أُثَقِّلْ عَلَيْكُمْ؟ سَامِحُونِي بِهذَا الظُّلْمِ!»(ع13).
قول بولس الرسول « لأنه ما هو الذي نقصتم عن سائر الكنائس » أي أنكم لم تعطوا نعـمـة أقل من البـقـيـة ، كـمـا أوضح بولس الرسول هنا أنه ليس أفضل من أولئك فقط بل وليس بأقل من الرسل المعظمين أيضاً.
لم يقـل إنـكـم تعـمـلـون عـمــلاً رديئـاً إذ تلومونى ، وإنما قال بكل عذوبة «سامحوني بهذا الظلم» أي إن كنتم تحسبون هذا ذنباً أسألكم المسامحة.
«هُوَذَا الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ أَنَا مُسْتَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ وَلاَ أُثَقِّلَ عَلَيْكُمْ. لأَنِّي لَسْتُ أَطْلُبُ مَا هُوَ لَكُمْ بَلْ إِيَّاكُمْ. لأَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنَّ الأَوْلاَدَ يَذْخَرُونَ لِلْوَالِدِينَ، بَلِ الْوَالِدُونَ لِلأَوْلاَدِ.»(ع14).
قول بولس الرسول « لأنى لست أطلب ما هو لكم بل إياكم » أى أطلبكم أنتم ، أطلب الأشياء العظيمة ، أي الأنفس عوض الأموال ، الخلاص عوض الذهب.
وقوله « لأنه لا ينبغى أن الأولاد يذخـرون للوالدين بل الوالدون للأولاد » إذ وضع الوالدين والأولاد عوض المعلمين والتلاميذ، وأوضح بولس الرسول أنه يفعل أمراً كـان مـديناً به وهو لا يعزم على ذلك لأن السيد المسيح لم يأمر هكذا وإنما اشفاقاً عليهم قال هكذا.
«وَأَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ كُنْتُ كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ أُحَبُّ أَقَلَّ!»(ع15).
لأن ناموس الطبيعة أمر الوالدين بأن يكنزوا للأولاد ، أما بولس الرسول فلم يفعل هذا فقط بل وقـد يدفع ويدفع ، هذا الأمـر الزائد البـلاغـة ، أي ليس عـدم أخـذ الأموال فقط بل والانفاق لأجلهم الذي هو ليس شيئاً قليلاً بل زيادة جود وإكرام.
«فَلْيَكُنْ. أَنَا لَمْ أُثَقِّلْ عَلَيْكُمْ، لكِنْ إِذْ كُنْتُ مُحْتَالاً أَخَذْتُكُمْ بِمَكْرٍ! هَلْ طَمِعْتُ فِيكُمْ بِأَحَدٍ مِنَ الَّذِينَ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْكُمْ؟ طَلَبْتُ إِلَى تِيطُسَ وَأَرْسَلْتُ مَعَهُ الأَخَ. هَلْ طَمِعَ فِيكُمْ تِيطُسُ؟ أَمَا سَلَكْنَا بِذَاتِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ؟ أَمَا بِذَاتِ الْخَطَوَاتِ الْوَاحِدَةِ؟»(ع16-18).
أقوال بولس الرسول هذه غامضة جداً إلا إنها ما قيلت عبثاً ولا سدى ، إذ يقول هنا إنه لم يطمع فيهم ، وربما يقول أحد إن بولس الرسول نفسه لم يأخذ لكنه إذ كان ذا مكر استدعى الذين أرسلهم من قبله ليطلبوا منهم شيئاً لشخصهم وتسلم ذلك بواسطتهم جاعلاً ذاته خارج الأخذ أخذاً عن طريق الغير ، إلا أن ولا هذا يمكن أحد أن يقوله وهم الشاهدون بذلك ، ولذلك قدم بولس الرسول القول على سبيل السؤال فقال « هل طمعت فيكم بأحد من الذين أرسلتهم إليكم ، طلبت إلى تيطس وأرسلت معه الأخ».
رأيت كم هي زيادة التدقيق في ألا يحفظ ذاته فقط ناهياً عن التبعية بل ويحمى المرسلين من قبله لكى لا تكون حجة ولا فيما قل للذين يريدون أن يأخذوا حجة ، فأبكم بذلك بزيادة أفواه المدعين.
وقوله « أما سلكنا بذات الروح الواحد » إذ نسب كل شيء للنعمة وأوضح أن هذا المديح كله ليس هو نتيجة لأتعابهم بل هو عمل موهبة الروح والنعمة ، لأنها كانت نعمة عظيمة أن يحتاجوا ويجوعوا ولا يأخذون شيئاً من أبنائهم.
«أَتَظُنُّونَ أَيْضًا أَنَّنَا نَحْتَجُّ لَكُمْ؟ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ نَتَكَلَّمُ. وَلكِنَّ الْكُلَّ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لأَجْلِ بُنْيَانِكُمْ.»(ع19).
قول بولس الرسول « ولكن الكل أيها الأحباء لأجل بنيانكم » أي أننا لهذا لا نأخذ لسبب ضعفكم وإنما لبنيانكم.
«لأَنِّي أَخَافُ إِذَا جِئْتُ أَنْ لاَ أَجِدَكُمْ كَمَا أُرِيدُ، وَأُوجَدَ مِنْكُمْ كَمَا لاَ تُرِيدُونَ. أَنْ تُوجَدَ خُصُومَاتٌ وَمُحَاسَدَاتٌ وَسَخَطَاتٌ وَتَحَزُّبَاتٌ وَمَذَمَّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وَتَكَبُّرَاتٌ وَتَشْوِيشَاتٌ.»(ع20).
لم يقل إذا جئت أن لا أجدكم فضلاء بل قال « إذا جئت أن لا أجدكم كما أريد » وبهذا أوضح أسلوب المحبة تجاههم.
ولم يقل وأوجـد منكـم كـمـا لا أريد بل قـال مـوبـخـاً « وأوجـد منـكـم كـمـا لا تريدون » وأظهر ذاته وديعاً لأن هذا الأمر من طبيعة حكمته أن يبكت بوداعة.
«أَنْ يُذِلَّنِي إِلهِي عِنْدَكُمْ، إِذَا جِئْتُ أَيْضًا وَأَنُوحُ عَلَى كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَتُوبُوا عَنِ النَّجَاسَةِ وَالزِّنَا وَالْعَهَارَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا.»(ع20).
لم يقل لئلا إذا جئت أذل وإنما قال « أن يذلني إلهى » لأنه لو لم يكن ذلك لأجل الله لما اهتم بأمره.
وقوله « أنوح على كثيرين من الذين أخطأوا ولم يتوبوا » إذ بوداعة ورقة ينوح ليس عليهم فقط بل « على كـثـيـرين » فتأمل إذاً الفضيلة الرسولية ، عندما لا يعرف بولس الرسول في نفسه شيئاً خبيثاً فينوح على شرور الغير وينذل بسبب هفـوات الغرباء لأنه هذا هو بالحرى عمل المعلم أن يتألم مع التـلامـيـذ لسبب مصابهم وأن يحزن ويكتئب على جراح الذين تحت طاعته. (
والمقصود من قول بولس الرسول « عن النجاسة » فقد يشير هنا إلى الزنا ، وأما إن فتش أحد بتدقيق يمكنه أن یعنی بالنجاسة عن كل نوع من الخطية ، لأنه وإن كان الزاني والفاسق خاصة يُقال له نجس إلا أن الخطايا الأخرى تنجس النفس ولهذا السبب سمى السيد المسيح اليهود أنجاساً لأنه لا يبكتهم على الزنى فقط بل وعلى شرور أخرى ، ولذلك قال السيد المسيح « ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان » ( مت 15 :11).
تفسير 2 كورنثوس 11 | تفسير رسالة كورنثوس الثانية | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 13 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية | تفاسير العهد الجديد |