تفسير رسالة كورنثوس الثانية ٩ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح التاسع

 

«فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْخِدْمَةِ لِلْقِدِّيسِينَ، هُوَ فُضُولٌ مِنِّي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ.»(ع1) .

إذ كتب بولس الرسول عن الخدمة أقوالاً هذا مقدارها قد يكون ذلك فضولاً زائداً عنده بكتابته عنها أيضاً.

«لأَنِّي أَعْلَمُ نَشَاطَكُمُ الَّذِي أَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَدَى الْمَكِدُونِيِّينَ، أَنَّ أَخَائِيَةَ مُسْتَعِدَّةٌ مُنْذُ الْعَامِ الْمَاضِي. وَغَيْرَتُكُمْ قَدْ حَرَّضَتِ الأَكْثَرِينَ.»(ع2) .

أمر عظيم هو معرفة بولس الرسول بذلك النشاط وأحرى كثيراً تشجيعه للآخرين لأن في هذا قوة عظيمة.

«وَلكِنْ أَرْسَلْتُ الإِخْوَةَ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ افْتِخَارُنَا مِنْ جِهَتِكُمْ مِنْ هذَا الْقَبِيلِ، كَيْ تَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ كَمَا قُلْتُ.»(ع3) .

قول بولس الرسول « ولكن أرسلت الإخوة لئلا يتعطل افتخارنا من جهتكم » يبدو أنه جعل نفسه من أهل كورنثوس عن الكل مع أنه يعتنى بالكل على حد سواء . 

«حَتَّى إِذَا جَاءَ مَعِي مَكِدُونِيُّونَ وَوَجَدُوكُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لاَ نُخْجَلُ نَحْنُ ­ حَتَّى لاَ أَقُولُ أَنْتُمْ ­ فِي جَسَارَةِ الافْتِخَارِ هذِهِ.»(ع4) .

لم يقل بولس الرسول أحضرت معى مكدونيين لئلا يبدو أنه يفعل ذلك متعمداً، لكنه كيف قال ؟ قال « حتى إذا جاء معى مكدونيون » لأنه ربما يتفق أن يحدث هذا الأمر وهو من الممكن لأنه صير القول هكذا خالياً من الشك ، لأنه لو قال غير ذلك لكان الجأهم إلى المقاومة. 

انظر كيف أن بولس الرسول لم يحثهم على الروحيات فقط بل وعلى البشريات ، فجعلهم ينتبـهـون لئلا إذا جاء المكدونيون يجدونهم غير مستعدين مما يتسبب في خجل بولس الرسول وخجلهم أيضاً.

«فَرَأَيْتُ لاَزِمًا أَنْ أَطْلُبَ إِلَى الإِخْوَةِ أَنْ يَسْبِقُوا إِلَيْكُمْ، وَيُهَيِّئُوا قَبْلاً بَرَكَتَكُمُ الَّتِي سَبَقَ التَّخْبِيرُ بِهَا، لِتَكُونَ هِيَ مُعَدَّةً هكَذَا كَأَنَّهَا بَرَكَةٌ، لاَ كَأَنَّهَا بُخْلٌ.»(ع5) .

قـول بولس الرسـول « كـأنـهـا بـركـة لا كـأنهـا بخل » أي أن الذين أ أعطوا هم ممتلئون من البركة ، إذ أننا نأخذ هذا الإحسان لنكون لكم سبباً للبركة.

«هذَا وَإِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ.»(ع6).

لم يقل بولس الرسول قولاً صغيراً ، بل أحسن الكلام فسمى القضية زرعاً ، لتلتفت حالاً نحو الجزاء ، وإذا ما تفطنت في الحصاد تعرف أنك تأخذ أكثر مما تعطى ، ولذلك لـم يقـل من يعطى وإنما قـال « من يزرع » ولم يقل من يزرع بسعة وإنما قال « من يزرع بالبركات » الأمر الذي هو أعظم من ذلك.

«كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ اضْطِرَارٍ. لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ.»(ع7).

قول بولس الرسول « ليس عن حزن أو اضطرار » رأيت كيف يضع هذا دائماً ،  أي أن قوله لا على سبيل الأمر بل على سبيل الرأى ، لأن العطية هي فضيلة ، والعطية بالقهر عديمة الثواب ، لذلك يجب أن تكون اختياراً .

وقـوله « الـمـعطى المسـرور » على ما يلوح لى قد تعنى السخي ، بل وبولس الرسول نفسه عنى هذا.

«وَاللهُ قَادِرٌ أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ، لِكَيْ تَكُونُوا وَلَكُمْ كُلُّ اكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ.»(ع8).

قول بولس الرسول « والله قادر أن يزيدكم كل نعمة » بهذا القول أزال الفكرة التي تظن أن عطية الصدقة تجلب الفـقـر والعوز إلى الغير ولذلك قال « يزيدكم » أي ليس ليملأكم فقط بهذا المقدار بل تزيدوا في هذه العطية.

وقوله « ولكم كل اكـتـفـاء » لم يطلب لهم الغنى ولا الزيادة فقط بل الكفاية كلها.

أما قوله « في كل عمل صالح » ليس الزيادة في الصدقة فقط بل وفي الأمور الأخرى كلها.

«كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«فَرَّقَ. أَعْطَى الْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ». »(ع9).

قول بولس الرسول « فرق » لا تعنى شيئاً آخر سوى العطية بالسعة والجود ، لأنه إن كانت الأموال لا تبقى بل ما ينتج منها هو الذي يبقى ، فالأمر العجيب أن الأموال إذا حفظت تفقد وإذا فرقت تدوم ، ، وتدوم دائماً.

«وَالَّذِي يُقَدِّمُ بِذَارًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلأَكْلِ، سَيُقَدِّمُ وَيُكَثِّرُ بِذَارَكُمْ وَيُنْمِي غَّلاَتِ بِرِّكُمْ.»(ع10).

قول بولس الرسول « يكثر بذاركم » هذه هي قضية المكافأة الجسدانية.

وقـوله « ينمى غلات بركم » وهنا انتقل إلى الروحـانيـات ، لأن الله إن كـان يعطى الذين يزرعون الأرض ويمنح الخيرات للذين يغذون الجسد فبالحرى كثيراً يعطى الذين يفلحون السماء مهتمين بالنفس. 

«ومُسْتَغْنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ سَخَاءٍ يُنْشِئُ بِنَا شُكْرًا ِللهِ. »(ع11).

لا لكي تصرفوا الصدقة في الأمور الغير واجبة بل في الأشياء التي توجب لله شكراً كثيراً ، لأنه صيرنا للأمور العظيمة أرباباً ، لأننا نحن أرباب حقـولنا في أن نجعلها مخصبة لأنها لا تحتاج أمطاراً ولا أوقاتاً للخصب وإنما تحتاج إلى النية فقط والسعى نحو ا السماء.

«لأَنَّ افْتِعَالَ هذِهِ الْخِدْمَةِ لَيْسَ يَسُدُّ إِعْوَازَ الْقِدِّيسِينَ فَقَطْ، بَلْ يَزِيدُ بِشُكْرٍ كَثِيرٍ ِللهِ إِذْ هُمْ بِاخْتِبَارِ هذِهِ الْخِدْمَةِ، يُمَجِّدُونَ اللهَ عَلَى طَاعَةِ اعْتِرَافِكُمْ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَسَخَاءِ التَّوْزِيعِ لَهُمْ وَلِلْجَمِيعِ.وَبِدُعَائِهِمْ لأَجْلِكُمْ، مُشْتَاقِينَ إِلَيْكُمْ مِنْ أَجْلِ نِعْمَةِ اللهِ الْفَائِقَةِ لَدَيْكُمْ. »(ع12-14).

قول بولس الرسول « ليس يسد أعواز القديسين فقط بل يزيد » أي أنكم جدتم بأكثر من الحاجة المطلوبة .

وقـوله « إذ هم باخـتـبـار هذه الخـدمـة يمجـدون الله » رأيت فطنة بولس الرسول كيف أنه رفعهم ناسباً الكل لله إذ سمى القضية نعمة لأنه قال فيهم أقوالاً عظيمة ، فقال إنهم خدام إذ كانوا يخدمون وهو يخدم وسماهم مختبرين ، فأثبت أن الله هو سبب هذه كلها .

«فَشُكْرًا ِللهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ الَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا.»(ع15).

يقول بولس الرسول هنا « عطيته » معبراً عن الخيرات الكثيرة التي صارت بهذه الصـدقـة والذين أخذوها والذين أعطوها ومـواهب الكرامة التي منحت للمسكونة كلها بحضوره ، فذكرهم بالمواهب التي حظوا بها من الله ، لأن هذا الأمر عظيم.

وقوله « التي لا يعبر عنها » فأى جنون يعادل جنون الذين يبحثون مفتشين عن جوهر الله وليس عن عطية هبته التي لا يعبر عنها فقط بل وسلامه الذي يفـوق كل عقل ، الذي به صالح الذي فوق مع الذي تحت.

فاصل

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 8 تفسير رسالة كورنثوس الثانية تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 10
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى