تفسير سفر أعمال الرسل ٤ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع

بطرس ويوحنا أمام المجمع

كشف سفر الأعمال عن موقف القيادات اليهودية، فإنهم إذ رفضوا يسوع المصلوب استمروا بعد صعوده في مقاومته، ومقاومة إنجيل المسيح القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات الذي تكرز به الكنيسة.

يصف هذا الأصحاح بدء هذه المقاومة التي تستمر حتى زيارة الرسول بولس الأخيرة لأورشليم، فيدبروا مؤامرة لقتله (أع ٢٣: ١٢-١٥؛ ٢٥: ١-٣).

 

1- القبض على بطرس ويوحنا1-4

وبينما هما يخاطبان الشعب،

أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون“. [1]

لم يلتجئ الكهنة إلى الفريسيين بل إلى الصدوقيين لمقاومة هذا العمل الكرازي داخل رواق سليمان. وقد جاء معهم قائد جند الهيكل، وهو الشخص المسئول عن الحالة الأمنية للهيكل، وقد لاحظ جمهرة غير عادية في رواق سليمان، وكان هذا القائد هو الرجل الثاني بعد رئيس الكهنة من جهة الالتزام بحفظ نظام الهيكل والأمان فيه.

بلا شك لم يأتِ كل الكهنة، وإنما الكهنة أصحاب النفوذ، الأعضاء في مجمع السنهدرين.

كان قائد جند الهيكل يعسكر دومًا في قلعة انتونيا Antonia، خاصة في أيام الأعياد الكبرى. وقد خشي أن شفاء الأعرج من بطن أمه قد يسبب شغبًا، لذا شعر بالالتزام بالتدخل.

أقبل عليهما“: يحمل هذا التعبير أن مجيئهم كان فجأة وفيه نوع من العنف. فإذ كان بطرس ويوحنا يخاطبان الشعب بروح القوة والشهادة ليسوع القائم من الأموات، انفتحت أعين الكثيرين على معرفة الحق، حتى آمن نحو خمسة آلاف رجل [4]. لم يكن ممكنًا لقوات الظلمة أن تقف مكتوفة الأيدي، خاصة الصدوقيون الذين لا يؤمنون بالقيامة من الأموات. لقد حسبوا هذا الحدث مع حديث القديسين بطرس ويوحنا هدمًا كاملاً لطائفتهم، وتحطيمًا لعقيدتهم.

لم يكن لديهم مانع من اشتراك المسيحيين في العبادة في الهيكل حسب الطقس اليهودي، وأن يجتمعوا في رواق سليمان، وتكون لهم تدابيرهم الخاصة بهم، أما أن ينادوا باسم يسوع الناصري علانية، وقيامته من الأموات، ففي هذا اتهام علني ضد القيادات التي سلمت يسوع للصلب، إنهم سافكو دم بريء وقتلة، وأن المصلوب هو المسيا. لهذا كان لا بد من التحرك لمقاومة هذه الحركة الخطيرة حسب أفكارهم.

لا يتعجب القديس يوحنا الذهبي الفم من أن الذين ألقوا القبض على يسوع وصلبوه يعودوا حتى بعد قيامته ليمارسوا شرهم بكل جسارة ضد تلاميذه. فإذ تلد الأفكار عملاً يفقد الخاطي حياءه ليفعل ما يشاء. فالخاطي وهو لا يزال يصارع مع الأفكار يصغي إليها مع إحساسه بالخجل، لكن ما أن تلد، أي تتحول الأفكار إلى عملٍ كاملٍ حتى تجعل الذين يمارسونها في أكثر وقاحةٍ.

v في المرة الأولى ألقوا القبض على السيد المسيح في البستان كمن هم فى خجلٍ بعيدًا عن الشعب، أما الآن ففي شيء من الجسارة جاءوا إلى الرسولين وهما يخاطبان الشعب علانية في الهيكل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

متضجرين من تعليمهما الشعب،

وندائهما في يسوع بالقيامة من الأموات“. [2]

جاءت كلمة “متضجرين” تحمل السخط الشديد مع الغضب، لأنهم أدركوا أن في هذه الكرازة تعدٍ على سلطانهم، ومعارضة لتعاليمهم، بغض النظر عما إذا كانوا يكرزون بالحق الإلهي أم لا.

لم يكن من السهل أن يرى الكهنة والصدوقيون أن جماعة من الجليليين الأميين يحتلوا مركز التعليم بقوةٍ ونجاحٍ، وهم لا ينتمون إلى الكهنة ولا إلى القيادات الدينية. حسبوا هذا تحديًا وتمردًا على السلطات الدينية.

لم يشغلهم البحث عن ما وراء هذه المعجزة الفائقة وغيرها، وإنما كان يشغلهم سلطانهم الديني، وشعبيتهم التي صارت في وضعٍ حرجٍ. هذا ولم يكن ممكنًا لهم أن يسمعوا عن قيامة يسوع المسيح من الأموات.

لقد تضجروا وامتلأوا سخطًا حين رأوا الإنجيل يُكرز به، وكما يقول المرتل: “الشرير يرى فيغضب، يحرق أسنانه ويذوب، شهوة الشرير تبيد” (مز ١١٢: ١٠). هكذا تحولت كلمة الإنجيل المفرحة إلى اضطراب ومرارة بالنسبة لهم، وكما يقول الرسول: “لهؤلاء رائحة موتٍ لموتٍ، ولأولئك رائحة حياةٍ لحياةٍ” (٢ كو ٢: ١٦). هكذا يتحول مجد المسيح وفرح ملكوته إلى فقدانٍ للسلام وحزنٍ وموتٍ أبديٍ لمن لا يطيقه. وكما يقول إشعياء النبي: “لا سلام قال الرب للأشرار” (اش 48: 22).

اضجر الصدوقيون وامتلأوا حزنًا اقتنوه بسبب خطاياهم، بينما كان الرسل يكرزون بالقيامة المفرحة! واضجر الكهنة وهم يؤمنون بالقيامة أن يتحقق هذا باسم يسوع الناصري. فكان في نظرهم التحالف مع منكري القيامة أقل مرارة من قبول القيامة في المسيح يسوع.

v “متضجرين من تعليم الشعب” ليس لأنهم علموا الشعب، وإنما لأنهم أعلنوا أنه ليس المسيح وحده أُقيم من الأموات، وإنما خلاله نقوم نحن أيضًا… هكذا قيامته قديرة فإنه هو علة القيامة حتى بالنسبة للآخرين.

v تحفظ من أن تحوط نفسك بطاغية الحزن. يمكنك أن تسيطر على نفسك، فإن العاصفة ليست أعظم من مهارتك.

v لا تكون قط مكتئبًا، فإنه لا يوجد سوى شيء واحد مخيف وهو الخطية.

v الكل يطلب الفرح، لكنه لا يوجد على الأرض.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أمور النعمة يصاحبها فرح وسلام ومحبة وحق… أما أشكال الخطية فيصاحبها اضطراب وليس محبة ولا فرح نحو الله.

القديس مقاريوس الكبير

فألقوا عليهما الأيادي،

ووضعوهما في حبسٍ إلى الغد،

لأنه كان قد صار المساء“. [3]

ألقوا القبض على التلميذين وهما يخاطبان الشعب، ووضعوهما في السجن لمحاكمتهم في اليوم التالي. هذه بدء سلسلة آلام الكنيسة التي يليق بها أن تشارك مسيحها آلام صلبه. أُلقى القبض على التلميذين في المسيح وُوضعا تحت الحفظ، إذ لم يكن من عادة مجمع السنهدرين أن يجتمع مساءً. هذا بجانب أن أعضاء المجمع كانوا ملتزمين بممارسة صلوات المساء وتقديم الذبائح.

v لم يخشوا الشعب، لأنه كان معهم قائد الهيكل، هؤلاء كانت أياديهم لا تزال تتضرج بدم الضحية السابقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ربما يتساءل البعض: لماذا لم يقدموهما إلى بيلاطس كما فعلوا مع السيد المسيح عند محاكمته؟ بلا شك أدركوا أن بيلاطس قد حاول مرة ومرات أن يطلق هذا البريء، وتحت الضغط الشديد والتهديد بأنه ليس بصديقٍ لقيصر اضطر إلى الحكم بصلبه. أما الآن فحتمًا لن يقبل أن يصلبهما، وربما كان يُصر أن يبرئهما، أو يترك المجمع يقتلهما، فيثور الشعب عليهم.

v لم يأخذوهما إلى بيلاطس، لأنهم كانوا في خجلٍ وعارٍ من التفكير فيما حدث قبلاً (مع السيد المسيح) لئلا يُلزمهم أن يقوموا هم بفعل هذا (أي قتلهما).

القديس يوحنا الذهبي الفم

وكثيرون من الذين سمعوا الكلمة آمنوا،

وصار عدد الرجال نحو خمسة آلاف“. [4]

في يوم الخمسين كانت باكورة الكنيسة من القادمين إلى أورشليم، يهودًا كانوا أو متهودين، آمن منهم نحو ثلاثة آلاف نسمة، والآن “صار عدد الرجال نحو خمسة آلاف“، هؤلاء استناروا بالكلمة، وحُسبوا بالحق أبناء إبراهيم وأبناء الأنبياء، وتأهلوا أن يكونوا بالحق أبناء الموعد.

القبض على التلميذين بأمر القيادات الدينية الرسمية وحبسهما في السجن لم يعق هذه الآلاف عن الإيمان، بل حسبوا كل ألم تجتازه الكنيسة هو إلقاء بالبذار في التربة لكي تأتي بثمرٍ كثيرٍ.

هنا صورة حية ومثل رائع لنمو الكنيسة في وسط الآلام، فقد ظهر عمليًا أن دم الشهداء هو بذار الكنيسة. في المظهر كان عدد التلاميذ قليلاً جدًا، بلا إمكانيات مادية أو علم ومعرفة زمنية أو سلطة، وكان يُظن أنه ما أسهل سحق هذه الحركة تمامًا، لكن الضيق وهب الكنيسة نموًا فائقًا وامتدادًا لا يُمكن مقاومته. إذ لا يقدر الضيق أن يحطم الحق الإنجيلي أو يقيد الكلمة، بل هو مناخ طيب للعمل الإلهي.

v موت الشهداء يدافع عن الدين، وينمي الإيمان، ويقوي الكنيسة. لقد انتصر الذين ماتوا، وانهزم المضطهِدون… موت الشهداء هو مكافأة حياتهم. مرة أخرى بموتهم، على اختلاف صوره، وضع نهاية للكراهية.

القديس أمبروسيوس

يرى البعض أن رقم ٥٠٠٠ هنا يضم المائة وعشرين المذكورين في أع ١: ١٥ والثلاثة آلاف الذين آمنوا في يوم البنطقستي (أع ٢: ٤١). وقد اجتمع الخمسة آلاف في رواق سليمان (أع ٣: ١١) بمناسبة شفاء الأعرج.

v هذا أيضًا حدث بتدبير الله، لأن الذين آمنوا كانوا أكثر ممن آمنوا قبلاً. لهذا قيدوا الرسولين فى حضور الشعب لكي يجعلوهم في رعبٍ شديدٍ. لكن حدث العكس، فقد فحصوهما ليس أمام الشعب، بل سرًا حتى لا يتشجع السامعون لهما.

القديس يوحنا الذهبي الفم

2- الرسولان أمام المجمع 5-12

وحدث في الغد أن رؤساءهم وشيوخهم وكتبتهم،

اجتمعوا إلى أورشليم“. [5]

اجتمع مجمع السنهدرين (السنهدريم)، وقد سبق لنا الحديث عنه في تفسير الإنجيل بحسب يوحنا. اجتمع الآن بعد مرور عدة أسابيع لاجتماعه وأخذ القرار بالخلاص من شخص يسوع، وبالفعل خططوا وسلموه للقتل، وإذا باسمه يتمجد بالأكثر، وعدد المؤمنين بلغوا الآلاف في أيام قليلة، وصاروا شهودًا جادين أن يسوع المصلوب هو المسيا مخلص العالم. في اجتماعهم الأول كانوا يشعرون أن وجود يسوع يزعزع مكانتهم، ويفقدهم موارد رزقهم. أما الآن إذ انتشرت الكرازة بقيامته وصعوده، هذا لا معنى له سوى أن الذين صلبوه قتلة وسافكو دم بريء.

كانت الجلسة بلا شك عاجلة تمت في اليوم التالي مباشرة، وإن لم تكن بذات العجلة كما عند محاكمة السيد المسيح، إذ لم يجتمع المجمع مساءً.

تمت المحاكمة في أورشليم، المدينة الذي ينتظر الكل أن يتمتعوا فيها بالخلاص، لأنها مدينة الله، صارت مقاومة للحق الإنجيلي. يقول النبي: “كيف صارت القرية الأمينة زانية؛ ملآنة حقًا، كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون” (إش ١: ٢١). وقد ناح عليها السيد المسيح نفسه، قائلاً: “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت ٢٣: ٣٧).

ضمت هيئة القضاء الرؤساء والشيوخ وهم أصحاب سلطان جاءوا ليصدروا الحكم عليهم على الأقل بأن يكفوا عن الكرازة، أما الكتبة فهم الطبقة المتعلمة، كانوا يظنون أنهم قادرون أن يفحموا هؤلاء الرسل الأميين ويردعوهم بالحجج والبراهين.

مع حنّان رئيس الكهنة وقيافا ويوحنا والإسكندر،

وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة”. [6]

ولما أقاموهما في الوسط،

جعلوا يسألونهما:

بآيّة قوة، وبأيّ اسم صنعتما أنتما هذا؟” [7]

يجتمع المجمع في شكل دائرة، ويقف المتهمون في المنتصف (لو ٢: ٤٦). بهذا يتحقق قول الكتاب: “جماعة من الأشرار اكتنفتني” (مز ٢٢: ١٦)، “أحاطوا بي مثل النحل” (مز ١١٨: ١٢)، إذ كانوا يجلسون حولهما من كل جانب.

استدعوا التلميذين وبدأوا يستجوبوهما: “بأية قوة، وبأي اسم صنعتما أنتما هذا؟” لم يكن ممكنًا لهم أن ينكروا صنع المعجزة، فإن آلاف مؤلفة تشهد بها، ولا يمكن إخفائها، لكنهم كالعادة غايتهم تحويل الحق إلى باطل، فينسبوا الشفاء إلى بعلزبول رئيس الشياطين كما اتهموا السيد قبلاً، أو لقوةٍ سحريةٍ، ولعلهم ظنوا أن بالتهديد يضطر التلاميذ أن ينسبوا العمل لأحد أنبياء العهد القديم.

تحدثوا معهما في شيء من السخرية، فإن النص اليوناني الذي ترجمته: “بأي اسم صنع مثلكما هذا؟” يحمل معنى “أنتما لا تنتميان إلى الكهنة، ولا إلى سبط لاوي، ولستما نبيين، ولا من القادة، فبأي سلطان تفعلان هذا؟ من أين أتيتما بالقوة؟ وتحت أي اسم تتجاسران وتفعلان هذا؟”

إنهم يعرفون تمامًا أنه باسم يسوع الناصري وبسلطانه وقوته فعلا هذا، لكنهم أرادوا أن يبثوا روح الرعب فيهما، ويلفقان لهما اتهامًا أنهما يعملان باسمٍ غير شرعيٍ، وأنهما مرتكبان جريمة ضد الله والناموس وموسى.

وُجه إليهم نفس السؤال الذي وُجه لسيدهم: “بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟” (مت ٢١: ٢٣).

حنان: وهو حما قيافا رئيس الكهنة، ذُكر أولاً بسبب كرامته، إذ كان رئيسًا للكهنة قبل استلام زوج ابنته هذا المركز. وقد رأينا في دراستنا لإنجيل يوحنا كيف كان ملتهبًا بالكراهية نحو شخص يسوع المسيح.

يوحنا والاسكندر: لا نعرف عنهما شيئًا، غير أن ذكرهما بالاسم يشير إلى أنهما صاحبا سلطان ونفوذ، يظن المجمع أنهما قادران أن يُسكتا الرسل.

أورشليم: واضح من هذا أن المجمع كان ينعقد أحيانًا في بلاد أخرى. وقد ذكر الكتَّاب اليهود أنه كان ينعقد في كل مرة في بلدة مختلفة، وذلك خلال الأربعين عامًا قبل خراب أورشليم.

“حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس، وقال لهم:

يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل”. [8]

لقد حقق الرب وعده لتلاميذه: “فضعوا في قلوبكم أن لا تهتموا من قبل لكي تحتجوا، لأني أنا أعطيكم فمًا وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها” (لو 21: 14-15). كما وعدهم بأن الروح القدس يعطيهم كلمة عند مقاومتهم.

ألم يكن بطرس ممتلئًا بالروح حين حلّ عليه في عيد العنصرة مع بقية التلاميذ، فلماذا يقول: “حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس؟ الامتلاء هنا يحمل معنى التمتع بإلهام جديد، وإعلان مساندة خاصة لموقف متأزم، فمع كل ظرف يعيش فيه المؤمن، يتحرك روح الله داخله ليهبه قوة وفهمًا وحكمة ومشورة إلهية.

تحدث القديس بطرس مع أعضاء المجمع بكل وقارٍ واحترامٍ، وفي نفس الوقت بكل شجاعةٍ، حاسبًا ذلك فرصة للشهادة للحق، وذلك حسب مبدأه: “مستعدين دائمًا لمجاوبة من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعةٍ وخوفٍ” (١ بط ٣: ١٥).

لقد سبق فجحد القديس بطرس سيده في نفس المدينة أمام ذات المجمع وفي حضور ذات الأشخاص، لهذا وجد الرسول فرصته ليحمل شهادة صادقة لمسيحه الذي سبق فأنكره.

كل مؤمنٍ يذوق عذوبة الحياة في المسيح يسوع بالحق لن يكف عن الشهادة له، مشتهيًا أن يختبر كل البشرية ما يتمتع به.

v عندما تكتشفون أن شيئًا ما نافع لكم، تريدون أن تخبروا الآخرين عنه… طبّق هذا السلوك الإنساني في المجال الروحي. عندما تذهب إلى اللَّه، لا تذهب وحدك.

v عندما تتحرّك متقدًّما، اجتذب آخرين ليذهبوا معك. لتكن لك رغبة في أن يكون لك رفقاء في الطريق إلى الرب.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v قلب محب واحد يلهب قلبًا آخر بالنار.

v ماذا اشتهي؟ ماذا أريد؟ لماذا أتكلّم؟ لماذا أعيش إن لم يكن لهذا السبب: أن نحيا معًا مع المسيح… أنني لا أريد أن أخلص بدونكم.

v ضرورة الحب تبحث عن ممارسة العمل الرسولي.

القدّيس أغسطينوس

v خلص نفسك في خلاص الآخرين.

القدّيس جيروم

v لو كنتم مسيحيّون بالحق لما بقي وثني واحد.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

إن كنا نفحص اليوم عن إحسان إلى إنسانٍ سقيم،

بماذا شُفي هذا“. [9]

في شجاعة بعمل الروح القدس يعلن بطرس الرسول شهادته ليس أمام مجمع السنهدرين وحده، بل وأمام جميع شعب إسرائيل، أن ما حدث هو بقوة يسوع المسيح الناصري وباسمه. هكذا يصر الرسول أنه لن يتوقف عن الشهادة ليسوع المسيح أمام جميع شعب إسرائيل. وأنه يوجه لهم الاتهام، إنهم هم قتلة ذاك الذي جاء ليشفي كساح الشعب وأمراضه، جاء ليشفي ويهب قوة وحركة عمل في حياة الشعب، فهل يودون محاكمتهم على هذا الإحسان كما سبق فحاكموا البار وقتلوه؟ ليكن، لكن رسالتهم هي أن يعلنوا للجميع عن صاحب هذا الاسم وقوته الإلهية الفائقة المقدمة لكل مؤمنٍ.

أوضح الرسول بطريقة غير مباشرة أنه ليس من شرٍ قد ارتكبه، وإنما يُحاكم من أجل إحسان قُدم لرجلٍ سقيمٍ لم يستطع مجمع السنهدرين ولا كل القيادات الدينية أن تفعله. فلا توجد مادة لجريمةٍ ما، بل مادة لإحسانٍ عظيمٍ وفريدٍ.

ومن جانب آخر، فإنه ليس من ينكر الشفاء، لأنه حقيقة ملموسة من الجميع، إنما موضع الاتهام هو “بماذا شفي هذا؟” الجريمة التي كانت تلاحق الكنيسة، ولا تزال تلاحقها، هي جريمة “الاسم“، أنه باسم يسوع يتم الخلاص، ويتحقق كل إحسان ونعم إلهية!

“فليكن معلومًا عند جميعكم، وجميع شعب إسرائيل،

أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم،

الذي أقامه اللَّه من الأموات،

بذاك وقف هذا أمامكم صحيحًا“. [10]

يؤكد حديث القديس بطرس أن السيد المسيح يتمم وعده الصادق لنا: “فمتى ساقوكم ليسلموكم فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا. بل مهما أُعطيتم في تلك الساعة بذلك تكلموا، لأن لستم أنتم المتكلمون بل الروح القدس” (مر ١٣: ١١).

يا للعجب! بطرس الذي أنكر أمام جارية وأصر على الإنكار يقف الآن أمام السنهدرين بكل قوةٍ ليشهد لاسم يسوع المسيح الناصري المصلوب والقائم من الأموات. إنه يعلن أن الذي قتلوه هو الحي غالب الموت، الذى يملك وليس من يقدر أن يقاومه.

في حكمة الروح القدس يكشف بجرأة أن حكمهم باطل، فقد قتلوا البار، وأن حكم الله الآب القدير لا يُقاوم إذ أقامه من الأموات. فقد نقضت السماء حكمهم، وكشفت عن فسادهم كقتلة مملوءين حسدًا وغيرة.

أما الشهادة على ذلك فظاهرة، لا تحتاج إلى دفاع: “بذاك وقف هذا أمامكم صحيحًا” [10].

كان لدى القديس بطرس الفرصة للهروب من الإجابة على تساؤلهم لو أراد، لكنه وجدها فرصة قد لا تتكرر كثيرًا أن يقف أمام مجمع السنهدرين يشهد للسيد المسيح وعمله الخلاصي، كما أنها فرصة ليصحح ما ارتكبه أثناء محاكمة السيد المسيح حيث أنكره ثلاث مرات. لم يعد بطرس الإنسان الخائف والمرتعب أمام جارية، بل الشاهد الأمين أمام أصحاب السلاطين، لقد اختبر بحق كيف صار صفا، إذ صار قلبه كالصخرة خلال الإيمان الحي، ويشتهي أن يختبر كل من هو حوله عمل الروح القدس ليحمل الكل صخرة الإيمان التي لن تهتز أمام تيارات العالم مهما بلغ عنفها.

لم يكن دافع شهادته كرامة شخصية ولا عن تعصبٍ، وإنما عن حبٍ صادق لله وللبشرية.

بقوله “باسم يسوع المسيح“، أي يربط الاسمين معًا، يتحدى مجمع السنهدرين الذي يرفض أن يكون يسوع هو المسيا الذي تنبأ عنه رجال العهد القديم، والذي تشتهي كل الأجيال اللقاء معه.

لم يعد لقب “الناصري” ولا “المصلوب” موضوع خزيٍ وعارٍ، بل شرف ومجد وقوة.

هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناءون،

الذي صار رأس الزاوية“. [11]

يعود فيوضح لهم أن ما فعلوه سبق فأعلنه المرتل: “الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأسًا للزاوية، ومن قِبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا”. (مز 118: 22)

قد سبق فأشار السيد المسيح نفسه أن فيه تتحقق هذه النبوة (مر 12: 11). سبق فتنبأ إشعياء عنه: “لذلك هكذا يقول السيد لرب: هاأنذا أؤسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان، حجر زاوية، كريمًا أساسًا مؤسًسا، من آمن لا يهرب”. (إش 28: 16)

إنه حجر مرفوض، لكن رفضه يكشف عن حقيقته، أنه “حجر الزاوية” الذي يضم اليهود مع الأمم كحائطين يلتحمان معًا في هيكل الرب الجديد، أو كنيسة العهد الجديد.

يقول القديس بولس: “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية الذي فيه كل البناء مركبًا معًا ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب؛ الذي فيه أنتم أيضا مبنيون معًا مسكنًا لله في الروح”. (في 2: 20-21)

هنا يصحح الجليلي مفاهيم علماء اليهود الذين ظنوا أن الحجر المرذول هو داود النبي والملك، فقد جاء في الترجوم Targum تعليقًا على مز ١١٨: ٢٢: “الطفل الذي كان بين أبناء يسى، والذي كان مستحقًا أن يجلس ملكًا، رذله البناءون”.

v لقد ذكَّرهم أيضًا بالقول الكافي أن يرعبهم. فقد قيل: “من سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه” (مت 21: 44). يقول بطرس أنه ليس بأحد غيره الخلاص [12]. أية جراحات تظنون أصابتهم بهذه الكلمات!… إنه بهذا أخمد تهديدهم.

v إنه أمر واضح لكل أحدٍ أنه يشير إلى المسيح. ففي الأناجيل أورد بنفسه هذه العبارة الموحاة بكلماته: “أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رذله البنّاؤون هو قد صار رأس الزاوية؟” (مت 21: 42، لو 20: 17)… هنا يعني اليهود، معلّمي الناموس والكتبة والفرّيسيّين، لأنهم رفضوه قائلين: “إنّك سامري وبك شيطان” (يو 8: 48). وأيضًا: “لا يمكن أن يكون من عند اللَّه، إنّه يخدع الجموع”. لكن هذا الإنسان الذي رُفض ظهر للعيان أنّه مقبول أن يصير رأس الزاوية.

أنتم ترون أنّه ليس أيّ حجر يصلح أن يكون للزاوية، وإنما الحجر المقبول جدًا، القادر أن يربط حائطين من الجانبين. هكذا فإن الكاتب الملهم يقصد أن الشخص الذي يرفضه اليهود ويحتقروه يظهر علانيّة أنّه عجيب ليس فقط ليكون في البناء بل يربط الحائطين.

أيّ حائطين بالحقيقة (اللذين يربطهما)؟

أولئك الذين آمنوا من اليهود والذين من الأمم، وكما يقول أيضًا بولس: “لأنّه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا، ونقض حائط السياج المتوسّط، أيّ العداوة، مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائضٍ، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا” (أف2: 14-15). وأيضًا: “مبنيّين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية” (أف2: 20).

الآن، هذه العبارة هي اتّهام خطير ضد اليهود، إذ لم يحسبوه حجرًا لائقًا لبنائهم، بل طرحوه خارجًا كمن هو غير مقبول، مع أنّه قادر على أقامة البناء. إن أردتّم أن تتعلّموا من هما الحائطين، فلتصغوا إلى المسيح نفسه القائل: “ليّ خراف آخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا… وتكون رعيّة واحدة وراعٍ واحد” (يو10: 16).

هذا أيضًا حدث قبلاً في رمزٍ، إذ كان إبراهيم أبًا لكلٍ من المجموعتين: أهل الختان وأهل الغرلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يوضح القديس أمبروسيوس كيف يُدعى السيد المسيح الجبل العظيم وأيضُا حجرًا، فيقول:

v إن حسبنا لاهوتَ المسيح هو الجبل العظيم فهذا حق: “أما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب؟” (إر 23: 24) فإن كان بالحق لاهوت المسيح هو الجبل العظيم، فإن تجسده يقينًا هو التل الصغير (الجبل الصغير مز 42 :6). لهذا فالمسيح هو كلاهما معًا. فهو جبل عظيم وجبل أقل! عظيم حقًا، لأنه “عظيم هو الرب وعظيمة هي قوته” (مز 147: 5). وأقل لأنه مكتوب: “تنقصه قليلاً عن الملائِكة” (مز 8 :5). لهذا يقول إشعياء: “رأيناه، لا صورةَ له ولا جمالَ” (إش 53:2 LXX)، ومع أنه عظيمٌ نزلَ صائرًا أقل! وحال كونه أقلَ صارَ عظيمًا. وحال كونه عظيمًا صار أقل، لأنه “بالرغم من أنه بالطبيعة هو الله، أخلى ذاته وأخذ طبيعة عبد” (في 2 :6-7) وحال كونه أقل صار عظيمًا، لأن دانيال يقول: “أما الحجر الذي ضرب التمثال، فصار جبلاً كبيرًا، وملأَ الأرضَ كلها” (دا 2: 35). وإن كنتم تطلبون معرفة من هو ذلك الحجر، فاعرفوا أنه “الحجر الذي رفضه البناءون، هذا صار رأس الزاوية” (قابل مز 118 :22،إش 28 :16، مت 21: 42، لو 20 :17، أع 4: 11، 1 بط 2 :6-7). كان هو نفسه، مع ذلك وبالرغم من أنه ظهر صغيرًا، كان عظيمًا. ويوضح إشعياء موافقته لتلك الحقيقة لأنه يقول: “يولد لنا ولد ونُعطى ابنا الذي بدايته على كتفيه، ويُدعى الرسول المشير العظيم ” (إش 9: 5 LXX).

المسيح هو كل شيء لأجلكم:

هو حجر لأجلكم، ليبنيكم، وجبلٌ لأجلكم، لتصعدوا!

فاصعدوا الجبل إذن، يا من تطلبون السماويات.

لهذا السبب طأطأ (أحنى) السماوات، لتكونوا أقربَ إِليه!

ولهذا السببِ صعد إلى أعلى قمة الجبل ليرفعكم معه.

القديس أمبروسيوس

وليس بأحد غيره الخلاص،

لأن ليس اسم آخر تحت السماء،

قد أُعطي بين الناس،

به ينبغي أن نخلص“. [12]

وقف الجليلي الأمي يدعو رجال العلم والمعرفة الدينية والسلطة إلى التوبة والتمتع بالخلاص.

رفعهم الرسول بطرس من الانشغال بشفاء الكسيح إلى شفاء نفوسهم العاجزة عن العبور إلى السماء، أو خلاصها لتتمتع بالمجد المُعد للمؤمنين. هذا الذي شفي الكسيح هو طبيب النفوس والأجساد، باسمه وحده ينعم الإنسان بالخلاص. ليس من وجهٍ للمقارنة بين الأسماء التي عرفوها واعتزوا بها مثل إبراهيم أب الآباء أو موسى مستلم الشريعة أو أحد الأنبياء، فإنه ليس أحد منهم قادرًا أن يخلص النفوس من الفساد وينعم عليها بالمجد، إنما اسم ذاك الذي رفضوه واحتقروه وقتلوه.

قدم لهم الرسول جوهر الإيمان، وهو أن الخلاص لا يتحقق بحرفية الناموس، وإنما بالإيمان باسم يسوع المسيح، أي بالقادر وحده أن يخلص: يمحو الخطايا، ويهب البرّ، يحول آلام الضيق إلى بهجة قيامة، يرفع القلب إلى السماء، ليتذوق المؤمن عربون الأبدية. يحطم متاريس الهاوية، ويفتح أمامنا أحضان الآب السماوي، لنتمتع بالاتحاد معه.

v الإيمان المسيحي يشبه حبة خردل يبدو للنظرة الأولى شيئًا صغيرًا تافهًا وضعيفًا، لا يُظهر بوضوح قوته الحقيقية؛ عندما تبدأ تهاجمه تجارب متنوعة، عندئذ يظهر نشاطه خارجيًا وقوته، ويتنسم إيمانه الناري بالرب، ويُثير نوعًا من الهوى الإلهي، لا ليلتهب هو نفسه فقط، بل ويلهب كل ما في داخل مجاله.

القديس أمبروسيوس

v سيأتي زمن أرى فيه ما كنت أؤمن به ولا أراه.

v سأرى في الأبدية ما أؤمن به هنا… وما أرجوه هنا سأحصل عليه هناك.

v عظيم هو الإيمان، إنما لا فائدة منه إن خلا من المحبة.

v يلزم على الإيمان أن يسبق الإدراك، ليكون الإدراك جزء من الإيمان.

v نستطيع أن نلمس ذاك الجالس في السماء بإيماننا وليس بأيدينا.

القديس أغسطينوس

v تكمن قوة الفضيلة في الإيمان، والتعرف على أن الله يمكن أن يحفظنا من الموت الحاضر؛ وفي نفس الوقت لا نرهب الموت ولا نخضع له، حيث يتزكى به الإيمان بأكثر غيرة.

v نُضوج الإيمان يا إخوتي الأعزاء يُسند داخلنا بثبات. بعد كل هجوم عنيف تقف الفضيلة ثابتة كصخرة ضخمة في مقاومة هائلة.

الشهيد كبريانوس

ليس اسم آخر“: لا يعني الرسول تجاهل اسم الله الآب، لكن بذل الآب ابنه الوحيد ليهب الخلاص خلال اسم ابنه، فمن يدعو اسم الابن الوحيد إنما يدعو الثالوث القدوس، حيث لا انفصال بين الأقانيم، بل توجد وحدة عمل.

قد أُعطي“: هذا الاسم أو شخص ربنا يسوع المسيح أُعطي لنا مجانًا، أو كما يقول الرسول: “فشكرًا لله على عطيته التي لا يُعبر عنها” (٢ كو ٩: ١٥).

v أنصت إلى المخلص: أنا جددتك، يا من وُلدت في العالم بالشقاء للموت. لقد حررتك، وشفيتك وخلصتك. سأهبك الحياة التي بلا نهاية، السرمدية، الفائقة للطبيعة. سأريك وجه الله الآب الصالح.

v أني أحثك على الخلاص، هذا ما يشتهيه المسيح.

v سخي هو ذاك الذي يهبنا أعظم كل العطايا، حياته ذاتها.

v من هو؟ تعلموا باختصار، إنه كلمة الحق، كلمة عدم الفساد، الذي يجدد الإنسان إذ يرده إلى الحق. إنه المهماز الذي يحث على الخلاص. هو محطم الهلاك، وطارد الموت. أنه يبني هيكل اللّه في الناس، فيأخذهم للّه مسكنًا له.

يحتاج المرضى إلى مخلص،

ويحتاج الضالون إلى مرشد،

يحتاج العميان إلى من يقودهم إلى النور،

والعطاش إلى الينبوع الحيَّ الذي من يشرب منه لا يعطش أبدًا والموتى إلى الحياة،

والخراف إلى راعى،

والأبناء إلى معلم؛

تحتاج كل البشرية إلى يسوع!

القديس إكليمنضس السكندري

v ليكن المسيح هو كل شيء. من يترك كل شيء من أجل المسيح، حتمًا يجد أمرًا واحدًا فيه الكل، لكي يصرخ: نصيبي هو الرب.

القديس چيروم

v وُلد اسحق رمزًا للمسيح، لأن الأمم لا تتبارك في اسحق بل في المسيح، يقول الرسول بطرس: “ليس بأحدٍٍ غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص”.

أمبروسياستر

3- ارتباك المجمع 13-18

فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا،

ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا،

فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع“. [13]

كان حديث الرسولين بطرس وبولس مقنعًا، يتكلمان بمجاهرة، في ثقةٍ وكمن لهما سلطان، مع أنهما في أعين القيادات عاميان عديما العلم، لأنهما لم يتربيا في مدارس الربيين. إنهما عاميان أي من عامة الشعب، ليس لهما مركز مرموق ولا هما من أصحاب المواهب. لقد كشفا عن مفاهيم جديدة للنبوات بمنطقٍ لاهوتيٍ عميقٍ، ومحاجاة يصعب على محامٍ أن يأتي بها. كلماتهما كانت من عمل الروح القدس نفسه صاحب الكلمة، والذي وحده يقدر أن يعلن عن الحق.

لقد بحثوا في أمرهما، فاكتشفوا أن سرّ قوتهما والهالة التي تحيط بهما “أنهما كان مع يسوع“، وأنهما قد حملا انعكاس بهائه عليهما.

لقد أدركوا أنهما من رسل السيد المسيح الذين تبعوه والتصقوا به، وآمنوا به ولعلهم بلغوا هذه النتيجة من الآتي:

  1. يحملان قوة في صنع العجائب، خاصة شفاء هذا الأعرج باسم يسوع المسيح الناصري.
  2. يحملان روح المجاهرة والشجاعة في الشهادة له دون خوف أو تردد.
  3. حملا روحه والمناداة بالحق الإلهي.
  4. إدراكهما لأسرار العهد القديم بمفهومٍ جديدٍ.
  5. مع عدم تعليمهما بثقافةٍ زمنيةٍ، يتحدان الحكماء (١ كو ١: ٢٧-٢٨)، بل ويفحمان مجمع السنهدرين نفسه، الذي يظن أنه حامي الإيمان والحق. إنهما مثل سيدهما الذي كان يتكلم كمن له سلطان (مر ١: ٢٢)، مع أنه لم يتعلم الكتب في مدارس الربيين (يو ٧: ١٥).

v تفَّوق العاميان على بلاغتهم وعلى رؤساء الكهنة، لأنهما لم يكونا المتكلمين بل نعمة الروح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v ليس للمعرفة الحقيقية الروحية فصاحة زمنية، تلك التي هي مدنسة بوصمات الخطايا الجسدية، فإننا نعرف أنه أحيانًا ينالها بصورة عظيمة من هم بلا فصاحة لسان بل والأميون. هذا يظهر بوضوح في حالة الرسل وكثير من القديسين الذين ليس لهم مظهر أوراق (الشجر) الكثيرة لكنهم منحنون بفعل ثقل ثمار المعرفة الروحية الحقيقية. عن هؤلاء جاء في أعمال الرسل: “فلما رأَوا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعامّيَّان تعجَّبوا، فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع” (أع 13:4).

الأب نسطور

ولكن إذ نظروا الإنسان الذي شُفي واقفًا معهما،

لم يكن لهم شيء يناقضون به“. [14]

الأعرج الذي شُفي هو برهان أكيد لا مجال للحوار فيه على الحق الذي ينادي به الرسولان. فالمعجزة علنية وواضحة وحاسمة، والأعرج رجل معروف تمامًا.

لم يكن القادة قادرين على المغالطة، فالشفاء واقعة حقيقية تمت لرجلٍ يعرفه كل أهل أورشليم، والحديث منطقي كتابي، مستمد من النبوات التي بين أيديهم.

هنا يمتدح القديس يوحنا الذهبي الفم شهامة وشجاعة الرجل الذي شُفي.

v عظيمة هي جرأة الرجل، فإنه لم يتركهما حتى في قاعة المحكمة، فإنهما وإن قالا هذه الحقيقة لا تكون بذات القوة عندما يحاججهم هو.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فأمروهما أن يخرجا إلى خارج المجمع،

وتآمروا فيما بينهم”. [15]

“قائلين: ماذا نفعل بهذين الرجلين؟

لأنه ظاهر لجميع سكان أورشليم أن آية معلومة قد جرت بأيديهما،

ولا نقدر أن ننكر”. [16]

رُفعت الجلسة للمداولة وهم في خزي، دون إمكانية إصدار حكم ضد الرسولين، فإنهما لم يكسرا الشريعة، والشعب كله قد عرف ما قد تم على أيديهما، وكرازتهما عن قيامة المسيح لا يمكن نقضها.

تحوّل المجمع إلى موضع مؤامرة، لا محكمة تمثل العدالة. لكن من الذي أخبر لوقا البشير بأنهم تآمروا فيما بينهم، بينما كان الرسولان خارجًا؟ غالبًا ما كان شاول الطرسوسي من بينهم، إذ كان فريسيًا وعلى علاقة قوية بغمالائيل، وكان مملوء غيرة على تقليدات آبائه، وكان رؤساء الكهنة يحسبونه سندهم القوي في مقاومة اسم يسوع. شاول هذا بعد تحوله إلى الإيمان قدم للقديس لوقا المعلومات الخاصة بما جرى داخل المجمع، سواء في هذا الحدث أو غيره من الأحداث، ولعله اشترك معهم في هذه المؤامرة أو كانت له اليد الكبرى في تشجيعهم على ذلك.

طلبوا من الرسولين أن ينسحبا إلى خارج المجمع، لا ليتدارسوا صحة إيمانهما أو بطلانه، إنما ليخططا ضد الكنيسة في بدء انطلاقها، ولم يدركوا أن رأس الكنيسة حاضر في كل موضع يدافع عنها، ويبطل مؤامرات العدو. لم يدركوا أنهم يحققون النبوات: “تآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه” (مز ٢: ٢).

v “ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا” (رو 8: 37). فإنه بالحق عجيب هو هذا الأمر، أننا لسنا فقط منتصرين فحسب، بل نحن منتصرون بنفس الأمور التي وضعت كخططٍ ضدنا. وإننا “أعظم من منتصرين”، أي أننا منتصرون بسهولة بدون تعبٍ أو مجهودٍ… انظروا، فإن اليهود يقولون: “ماذا نفعل بهذين الرجلين؟” (أع 4: 16). حقًا إنه لأمر عجيب، مع أنهم أمسكوا بهما، وجعلوهما تحت المحاكمة، وسجنوهما، وضربوهما، لكنهم شعروا أنهم في ضياع وارتباك كمن انهزموا بنفس الأمور التي توقعوا أنهم بها ينتصرون. لم يكن للملوك ولا للشعب ولا لطغمات الشياطين ولا لإبليس نفسه سلطان لينالوا شيئًا منهما، بل الكل انهزموا في خسارة عظيمة، إذ وجدوا أن كل ما قد خططوه ضدهما آل إلى صالحهما. لهذا يقول: “نحن أعظم من منتصرين” (راجع رو 8: 37). هذا قانون جديد للنصرة به ينال البشر الغلبة على أعدائهم، لن ينهزموا بأية وسيلة، بل يدخلون هذه الصراعات كأن الأمر في أيديهم…

إنّهما ليس فقط انتصرا، وإنّما انتصرا بطريقة مدهشة، حتى يظهر بوضوح أن الذين خطّطوا ضدّهما كانوا في معركة ضد اللَّه وليس ضد بشر مجرّدين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولكن لئلاّ تشيع أكثر في الشعب لنهددهما تهديدًا،

أن لا يُكلّما أحدًا من الناس فيما بعد بهذا الاسم”. [17]

“فدعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتّة،

ولا يُعلما باسم يسوع”. [18]

كان رؤساء المجمع في موقف لا يُحسدون عليه، فإن حكموا بموت الرسولين يخشون الشعب الذي شاهد بنفسه معجزة فريدة من نوعها. وإن أطلقوهما بلا مؤاخذه يحسب ذلك موافقة علنية على أن اسم يسوع المصلوب يصنع معجزات بواسطة تلاميذه. أخيرًا استقروا على تهديد الرسولين حتى لا ينطقا البتة، ولا يعلما بهذا الاسم.

أصاب الرؤساء حالة إحباط فمن محاكمة إلى تهديد، وأخيرًا مجرد توصية. بسبب حقدهم الشديد لم يستطيعوا حتى أن ينطقوا اسم يسوع، بل أوصوهما إلا يعلما “بهذا الاسم“. لقد حملوا روح شاول الملك الذي في كراهيته الشديدة لداود كثيرًا ما كان غير قادر أن ينطق باسمه بل يدعوه “ابن يسي” (1 صم 20: 72، 30، 31؛ 22: 8، 13).

ليس من خدمة يمكن أن تُقدم لمملكة إبليس أعظم من أن توقف خدمة رجال الله الأمناء، ظنًا من أنه يمكن أن يُوضع النور تحت مكيال، لكن هذا محال.

v كلما أرادوا أن يعوقهم (عن الكرازة) كان العمل بالأكثر يزداد على أيديهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

4- تهديد الرسولين19-22

فأجابهم بطرس ويوحنا وقالا:

إن كان حقًا أمام اللَّه أن نسمع لكم أكثر من اللَّه فاحكموا“. [19]

استطاع هذان الأميان عديما العلم أن يبكما أكثر من سبعين شخصًا على أعلى مستوى من المعرفة والسلطة. فقد اعتقد أعضاء مجمع السنهدرين أنهم مُعينون من قبل الله نفسه، وأنهم مدافعون عن الحق الإلهي. الآن يسألهم الرسولان: تلقينا أمرًا من الله بالكرازة، وتلقينا أمرًا منكم بالصمت، فأي الأمرين يلزم طاعته: الأمر الإلهي أم البشري؟ هكذا وُضع المجمع في مأزقٍ رهيبٍ، إذ لم يعد يمثل فكر الله، ولا يبالي بالوصية الإلهية وتتميم مشيئة الله ولا بقبول تنفيذ النبوات.

طلب الرسولان من رؤساء المجمع أن يحكموا بأنفسهم: هل يسمع الرسل لهم أكثر من الله؟ هل يصمتون عن الشهادة للحق الذي رأوه وسمعوه واختبروه؟ كيف يمكنهم أن يخفوا إشراق نور القيامة عن الناس؟ فالضرورة موضوعة عليهم أن يكرزوا (١ كو ٩: ١٦؛ إر ٢٠: ٩؛ أع ١٨: ٥).

“لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا”. [20]

الشهادة للسيد المسيح هي حق بل والتزام من جانب من يرى الرب في حياته، ويسمع صوته الإلهي في داخله. ليس من صوتٍ بشريٍ مهما كان سلطانه يقف ضد الصوت الإلهي، كلمة الإنجيل الحي العامل في حياة المؤمن.

v يلتزم العبد الذي يرسله الرب أن يفعل ما يجب عليه أن يعمله، حتى ولو كان ذلك بغير إرادته، فإنّه إن لم يفعل ذلك يتعرّض للعقوبة. لقد كرز موسى لفرعون، مع أنّه لم يكن يريد ذلك (خر 4: 10؛ 5: 1)، والتزم يونان أن يبشّر أهل نينوى (يو1: 1- 3: 4).

إمبرسياستر

v أود أن أسأل: من الذي كان مرتعبًا؟ هل الذين قالوا: “لا يكلما أحدًا من الناس” أم القائلان: “لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا“؟

لقد وجدوا بهجة وحرية للتكلم، وفرحًا فائقًا على الكل، أما أولئك فكان يلحق بهم القنوط والخزي والخوف، إذ كانوا يخشون الشعب.

لم يكونا خائفين منهم، بل بالعكس بينما قال هؤلاء ما يريدونه، إذا بالرسولين لم ينفذا ما أراد هؤلاء، فمن إذن الذين كان في قيودٍ ومخاطرٍ؟ ألم يكن هؤلاء (أعضاء المجمع)؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

وبعدما هدّدوهما أيضًا أطلقوهما،

إذ لم يجدوا البتّة كيف يعاقبونهما بسبب الشعب،

لأن الجميع كانوا يمجّدون اللَّه على ما جرى“. [21]

“لأن الإنسان الذي صارت فيه آية الشفاء هذه،

كان له أكثر من أربعين سنة”. [22]

كان لابد للمجمع أن ينهي جلسته، فقد كان الجمع يمجد الله على شفاء الأعرج بطريقة فائقة. فإنه يستحيل لأعرج له أكثر من أربعين عامًا يعاني من الكساح وقد وُلد هكذا أن يُشفى.

5- صلاة من أجل الكرازة 23- 31

ولما أُطلقا أتيا إلى رفقائهما،

وأخبراهم بكل ما قاله لهما رؤساء الكهنة والشيوخ“. [23]

ما أن انطلقا حتى ذهبا إلى الكنيسة التي كانت غالبًا مجتمعة للصلاة من أجلهما لكي يعطيهما الرب كلمة شهادة حية وسط الضيق. ذهبا ليشترك الكل معهما في الفرح بعمل الله، ويقدم الكل معًا ذبيحة تسبيح وشكر لله.

لقد قدما تقريرًا عن عمل الناس وعمل الله معهما، فمن جهة الناس بذلوا كل الجهد لإعاقة كلمة الله ومقاومة الحق، ومن جهة الله فحوّل كل الأمور لبنيان الكنيسة.

قدموا هذا التقرير ليشترك الكل في التسبيح للرب، ولكي يتشجع الكل للعمل الكرازي، وكما كتب الرسول بولس: “وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف” (في ١: ١٤).

v ليس من أجل مجدهما أخبرا بالقصة؛ كيف يمكن أن يكون هذا دافعهما؟ وإنما ما أخبرا به هو البراهين التي تكشف عن نعمة المسيح. قالا ما نطق به المقاومون، أما ما قالاه هما فحذفاه. هذا يجعل السامعين أكثر شجاعة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فلما سمعوا رفعوا بنفسٍ واحدةٍ صوتًا إلى اللَّه وقالوا:

أيها السيد،

أنت هو الإله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيه“. [24]

روى الرسولان أول خبرة لهما في بدء طريق الألم. لقد خرجا منتصرين لكن تحت تهديد استخدام أساليب سرية للخلاص منهما بغير محاكمة حتى لا يثور الشعب.

دفعتهم التجربة إلى حياة النصرة الجماعية بنفسٍ واحدةٍ، في يقينٍ بقدرة الله خالق السماء والأرض.

لما كانت القضية والاتهام ضد “اسم يسوع” لذا قدموا الصلاة لله الآب على أساس أنها قضية الابن الوحيد الذي أرسله ليقدم الخلاص للعالم.

من ثمار الضيق حفظ روح الوحدة، لا على مستوى التجمع والتكتل، بل على مستوى الروح بالحب والصلاة المشتركة، إذ صلوا “بنفسٍ واحدةٍ“.

جاءت الكلمة اليونانية المترجمة هنا “السيد” أو “الربDespota، وهي تعني “الحاكم”، تخص من يدبر أمور الآخرين بسلطانٍ وقوةٍ. ففي وسط الضيق يشعر المؤمنين أن كل أمورهم الكبيرة والصغيرة لن تحدث اعتباطًا، بل يوجد ملك الملوك يدبرها بحكمته وقدرته الفائقة، وأن حياتهم ليست في يد بشرٍ ما مهما كان سلطانهم.

v هؤلاء مرة أخرى هربوا إلى الله الملجأ الحقيقي، إلى الاتحاد الذي لا ينفك، مرة أخرى “رفعوا بنفس واحدة صوتًا إلى الله وقالوا” [24] بغيرة عظيمة، فإنه لا تُقام صلاة بغير هدف.

v لنخضع نحن أنفسنا للصلاة. إنها سلاح قدير، إن قدمت بغيرة، إن كانت بدون عجب، إن كانت بذهنٍ مخلصٍ. إنها تصد حروبًا، وتفيد الأمة كلها مع عدم استحقاقها. يقول: “سمعت أنينهم ونزلت لأنقذهم”. إنها هي عينها دواء منقذ، له قوة لمنع الخطايا وشفاء الأفعال الشريرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لنجتمع معًا في جماعة تقدم صلاة متحدة معًا، ولنصارع معه في طلباتنا، هذا يبهج الله.

العلامة ترتليان

القائل بفم داود فتاك:

لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب بالباطل؟” [25]

في صلاتهم قدموا كلمات ليست من عندهم، بل اقتبسوا لغة الروح القدس، إذ اختاروا المزمور الثاني الذي يحمل رؤية شاملة لقضية الصليب وكيف أقام الشيطان تحالفًا بين اليهود والرومان والرؤساء ضد الرب ومسيحه.

يقدّم لنا رجل الصلاة والسكون مار اسحق السرياني خبرته العمليّة في حياة النصرة على إبليس وكل قوّات الظلمة، وذلك بممارسة الصلاة المنسوجة من المزامير والصلاة الربّانيّة والصلاة الارتجاليّة، يصوبها المؤمن كسهم أو ثلاثة سهام يطعن بها عدو الخير.

v خدمة المزامير، والصلاة الربانية لأبينا السماوي، وصلاة التلاوة التي يرتجلها الإنسان ويطلب بها الرحمة والعون والخلاص، هذه الثلاثة مثل ثلاثة سهام بها تطعن الشياطين وتقتلهم.

مار اسحق السرياني

دعا داود النبي يسوع “فتاك“. وفى اليونانية paidasou يمكن ترجمتها “عبد” كما ورد في تسابيح العبد المتألم فى إشعياء النبي، وأيضا “ابن” كما دعاه الآب أثناء العماد والتجلي (مت 3: 17؛ لو 3: 22).

“قامت ملوك الأرض، واجتمع الرؤساء معًا،

على الرب وعلى مسيحه”. [26]

كأنهم يشكرون الله الذي سبق وأنبأ على لسان داود النبي عن مقاومة الأمم والشعوب بملوكهم ورؤسائهم للسيد المسيح ولمملكته. كأن كل مقاومة أيا كان مصدرها، مادامت من أجل المسيح، فهي تأكيد أننا في الطريق الحقيقي. وكل اتحاد لقوات الشر ضد الكنيسة، إنما يكشف عن عجزهم عن تحطيمها. إن كان الله قد وهبهم عطايا هذا مقدارها، من بينها أنهم صاروا ملوكًا ورؤساء وأصحاب سلطان، لكنهم حوّلوا هذه النعم لمقاومة واهبها.

v إنهم كمن يقاضون الله هكذا يقدمون له عهوده، مقدمين هذه النبوة، وفي نفس الوقت يجدون فى هذا راحة، أن كل تخيلات أعدائهم باطلة. هذا هو ما يقولونه: لتُحقق هذه الكلمات، ولتُظهر أنهم يتخيلون أمورا باطلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع،

الذي مسحته،

هيرودس وبيلاطس بنطس مع أمم وشعوب إسرائيل“. [27]

v تلك المسحة لا ترفع من شأن الابن الوحيد الجنس الطوباوي غير الفاسد، ذاك الذي يقطن فى طبيعة الله، إنما ثبتت سرّ جسده وقدست الناسوت الذي أخذه.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

كثيرًا ما جاء عن بيلاطس لقب “البنطي” وهي ترجمة خاطئة، والأصح هي “بنطس” لأن اسمه بيلاطس بنطس، وهو ليس من بلد تدعى بنطس أو بنط حتى ندعوه “البنطي”. وقد اتفق اللاهوتيون في مجلس كنائس الشرق الأوسط على تصحيح هذا الخطأ في الترجمات.

ليفعلوا كل ما سبقت فعينت يدك ومشورتك أن يكون”. [28]

“والآن يا رب انظر إلى تهديداتهم،

وامنح عبيدك أن يتكلّموا بكلامك بكل مجاهرة“. [29]

لم تطلب الكنيسة المجتمعة في عصر الرسل أن يرفع الرب الضيق، ويحطم الأعداء ويهلكهم، بل طلبوا أن يحول الرب كل ضيقة للشهادة بمجاهرة وبكل قوته لملكوته السماوي.

ارتجت“: بينما يقدم الإيمان المسيحي المصالحة التي تتحقق بين الناس والآب خلال دم الابن الوحيد، ومصالحة الإنسان مع أخيه ومحبته حتى لأعدائه المقاومين له، مع المصالحة الداخلية بين النفس والجسد بعمل روح الله القدوس، إذا بالشعوب والأمم ترتج في ثورة عارمة، لأنها لا تطيق النور الإلهي. يستخدم العالم كل عنف لمقاومة الكنيسة الحاملة طبيعة عريسها: “لا يصيح ولا يسمع أحد صوته”.

تفكرت“: أي تحول الفكر البشري بكل طاقاته لهدفٍ واحدٍ، وهو تحطيم مملكة النور، ورفض المسيا المصلوب.

بالباطل“: الكلمة اليونانية kena وترجمتها الحرفية في العبرية reeyq وتعني “الفراغ”، فقد صارت الشعوب أشبه بإناءٍ فارغٍ لا يقبل أن يمتلئ بمصدر الشبع، المخلص ربنا يسوع. هذا الفراغ أيضًا يحمل العجز، فكل مقاومة بكل عنف من جانبهم تنتهي إلى لاشيء. إنهم يبددون طاقاتهم في مقاومتهم للحق، فيسمعون مع شاول الطرسوسي: “صعب عليك أن ترفس مناخس”. (أع ٩: ٥)

بقولهم: “انظر إلى تهديداتهم” يشيرون إلى اهتمام الله الخاص بمقاومة الأشرار لأولاده، فإنها لا تعبر هكذا، إنما تشغل ذهن الله. وكما صلى حزقيا الملك البار: “أملْ يا رب أذنك واسمع. افتح يا رب عينيك وانظر، واسمع كل كلام سنحاريب الذي أرسله ليعير الله الحي” (إش ٣٧: ١٧)، ويقول المرتل: “قد رأيت لأنك تبصر المشقة والغم لتجازي بيدك، إليك يسلم المسكين أمره”. (مز ١٠: ١٤)

v قد يقول أحد: “لكن أنظر، قال المسيح لرسله القدّيسين: “حبّوا أعداءكم…” (لو6: 27)، فكيف يصرخون ضدّهم دون ان يستخفّوا بالوصيّة الإلهيّة؟” نجيب على هذا: “إذن هل نصلّي ان ينالوا جسارة وقوّة من اللَّه ليهاجموا بعنفٍ الذين يمجّدون أعماله، فلا يسمحوا لهم بالتعليم، ويقاومون مجد ذاك الذي تُقدّم له الطلبة؟” كيف لا يُحسب ذلك غباوة؟ لذلك إن قدّمت المقاومة من أي شخصٍ ضدّنا شخصيًا، نحسب ذلك للحال مجدًا لنا أن نغفر لهم، ونحمل حبًا مشتركًا، مقتدين بالآباء القدّيسين حتى عندما يضربوننا ويهينوننا، نعم وإن استخدموا كل نوعٍ من العنف. إذ ليتنا لا نلوم (الرسل) فإنّهم كانوا أسمى من الغضب والكراهيّة. مثل هذا يمجّد القدّيسين ويسر اللَّه…

الصلاة التي نطق بها الرسل القدّيسون ليست أمرًا عديم المنفعة، بل لأجل إنجاح الرسالة الإلهيّة وإضعاف يد المضطهدين. يقول الرسل: “انظر يا رب إلى تهديداتهم“، أي اجعل مقاومتهم لنا باطلة، وامنح عبيدك أن يتكلّموا بكلامك بكل مجاهرة” (أع 4: 29).

القديس كيرلس الكبير

v لا يعطي أحد اهتمامًا للمخاطر التي يجلبها الشيطان في الاضطهادات، بل بالأحرى يهتم بالعون الذي يقدمه لنا الله.

ليته لا يرتبك الذهن بالكارثة البشرية بل بالأحرى يتقوى الإيمان بالصون الإلهي، فإنه حسب الوعد الإلهي كل واحدٍ ينال من الله عونًا حسب إيمانه، إن آمن أنه ينال.

لا يوجد شيء ما لا يستطيع القدير أن يهبه إن لم يعقه عدم الإيمان من جانب الذي يستقبل العون.

الشهيد كبريانوس

v لاحظوا أنهم لم يقولوا: “حطمهم، واطرحهم، بل ماذا قالوا؟

امنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة” [29].

لنتعلم نحن أن نصلي هكذا. ومع هذا كيف يمتلئ الشخص سخطًا عندما يسقط بين أناس يقصدون قتله، ويهددونه بهذا؟ كم يمتلئ بالعداء؟ لكن ليس كذلك موقف هؤلاء القديسين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

بمدْ يدك للشفاء،

ولتجرَ آيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع“. [30]

لا تقف طلبتهم عند نوالهم كلمة جريئة للشهادة للحق، وإنما يسألون الرب أن يهبهم آيات وعجائب باسم ربنا يسوع المسيح. لم يطلبوا هذا لحفظ حياتهم الزمنية، ولا لنوال كرامة زمنية.

جاءت صلاتهم بخصوص التهديدات، أنهم لا يضعون اعتبارًا لحياتهم الزمنية أو راحتهم، فإنهم وضعوا حياتهم مبذولة من أجل الشهادة للحق، لكن ما يشغلهم أن ينالوا قوة الروح وحكمته للمجاهرة بكلمة الله، وأن يسندهم بالعجائب والآيات لحساب اسم يسوع القدوس.

طلبوا عمل الآيات، إذ رأوا كيف مجد الشعب اسم يسوع وآمن كثيرون به، وكيف استطاعت آية واحدة أن تلجم رؤساء مجمع السنهدرين وتكتمهم.

ولما صلّوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه،

وامتلأ الجميع من الروح القدس،

وكانوا يتكلّمون بكلام اللَّه بمجاهرة“. [31]

في تعليق القديس كيرلس الكبير على كلمات السيّد المسيح في لوقا 17: 6 عن قوّة الإيمان يقول: [إن كانت قوّة الإيمان تحرّك (تهز) ما هو ثابت… يمكن القول بكل يقين أنّه ليس شيء ثابت لن يهزّه الإيمان، متى كان هناك داعٍ لاهتزازه. لذلك عندما صلّى الرسل تزعزع المكان، كما سجّل أعمال الرسل.]

لماذا تزعزع المكان؟ هذا استعلان عن حضور الله نفسه: “الأرض ارتعدت، السماوات أيضًا قطرت أمام وجه الله” (مز ٦٨: ٨)، “من قبل رب الجنود تُفتقد برعدٍ وزلزلةٍ وصوتٍ عظيمٍ بزوبعةٍ وعواصفٍ ولهيب نار آكلة” (إش ٢٩: ٦). وأيضًا عن قبول الله للصلاة الكنسية من أجل الخدمة ولحلول الروح القدس ليهب الرسل قوة خارقة للطبيعة. فالمكان يتزعزع، والزمان ينتهي حيث يحل روح الحق الذي يفرق الزمان والمكان.

بحلول روح الحق الأبدي ينفضح ضعف الطبيعة، فلا يرتبط الإنسان بالزمان والمكان بل بالأبدي وحده.

يا لعظمة الصلاة وقدرتها فهي تفتح قلوب البشر على خالقهم، لينهلوا من قوته الإلهية التي تزعزع المكان، وتثبت قلوبهم.

تحول الضيق والمرارة والتهديدات إلى صلاة لها قوتها، لتهب إمكانيات الروح القدس للكرازة والشهادة.

v من يفهم القول السري للطوباوي بولس: “فإن مصارعتنا… مع أجناد الشر الروحية” (أف 12:6)، يفهم أيضًا مثل الرب الذي انتهي بقوله: “ينبغي أن يُصلى كل حين ولا يُمل” (لو 1:18).

القديس مرقس الناسك

غاية هذا الملء المتجدد هو النطق بكلام الله بمجاهرة.

6- حياة الشركة 32- 37

وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة،

ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أمواله له،

بل كان عندهم كل شيء مشتركًا“. [32]

يقدم لنا الإنجيلي لوقا صورة رائعة عن سمات الكنيسة في عصر الرسل تتقدمها سمة الحب العميق والوحدة الصادقة على مستوى الروح والقلب كما على مستوى العمل.

إذ امتلأ الجميع من الروح القدس، ليس فقط تزعزع المكان الذين كانوا يقيمون فيه الصلاة، بل وتزعزع العالم أمام أعين التلاميذ، فلم يسمحوا له بالتسلل إلى قلوبهم. تجلت أمامهم اللؤلؤة الكثيرة الثمن فلم يجدوا حاجة إلى تغصب لبيع ما لديهم لاقتنائها.

تجمعت هذه الآلاف من جنسيات مختلفة ولغات متباينة، كانوا قبلاً يشعرون أنهم غرباء عن بعضهم البعض، حتى وإن اجتمعوا في هيكلٍ واحدٍ ليقدموا عبادة واحدة. كان منهم كثيرون قادمون من بلاد مختلفة، وحتى الذين من أورشليم كانوا ينتسبون إلى جماعات متعارضة في الفكر. الآن تجمع الكل كأعضاء في جسد المسيح الواحد، يقودهم الروح القدس الواحد خلال رباط الحب.

وهبهم الروح روح الحب والوحدة، فلم يحسب أحد أن له شيئًا ما، بل كل ما في يديه هو لاخوته. لم يعد للإحساس بالملكية الفردية وجود في حياة المؤمنين، لذلك تحققت الوحدة قلبًا ونفسًا.

والعجيب أن هذا الشعور لم يتحقق من أوامر إلهية أو قوانين كنسية أو وصايا رسولية صدرت لهم، لكنه تحقق طبيعيًا بامتلائهم من الروح القدس فصاروا أعضاء جسد المسيح القدوس، الذي بذل ذاته عن الجميع، وأخلى ذاته من أجل خلاص الكل.

v في كنيسة أورشليم كما لو وُجد جمر والتهاب بنار الروح القدس، عندما كان للكل نفس واحدة وقلب واحد نحو اللََّه. عندما رُجم إسطفانوس تحمّلت تلك الكومة الاضطهاد، وتبعثر الجمر فانطلقت النار في العالم.

القديس أغسطينوس

v عندما يصير المسيحيون هكذا (في توافقٍ) يصدرون موسيقى، أو يصدرون صوتًا متناغمًا يسر الله، ويتحقق فيهم ما هو مكتوب: “كانوا بقلبٍ واحدٍ ونفسٍ واحدةٍ”.

الأب قيصريوس أسقف آرل

v الآن اخبروني هل حبهم أنجب فقرهم، أم الفقر ولَّد الحب؟ في رأيي إن الحب ولَّد الفقر، وبعد ذلك سحب الفقر بقوه حبال الحب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v هذا الحب الذي هو من الله لا يمكن فصله عن شخص الله، لأن الله والحب واحد. وحيث أن الحب الذي في ذاته غير منفصل عن مصدره، فإنه ليس فقط يقتني الكائنات البشرية الذين يمكن للواحد أن يعتزل الآخر، وإنما يجعل قلوب كثيرة ونفوس متعددة قلبًَا واحدًا ونفسًا واحدة، فأي جنون هو القول بأن هذا الحب الذي يعتاد أن يربط العقول المنفصلة في حب لا ينفصل يمكن فصله عن الكائنات البشرية الذين يعبرون عنه؟ لهذا يقول بولس: “فإني وإن كنت غائبًا في الجسد لكني معكم في الروح، فرحًا وناظرًا ترتيبكم” (كو 2 :5). وجاء في أعمال الرسل أنه كان لجمهور المؤمنين قلب واحد ونفس واحدة… الأمر الذي ما كان يتحقق إلا بروح الإيمان والحب.

الأب فلجنتيوس أسقف روسب

v مجّدوا الرب معي ولنرفع اسمه معًا (مز 34: 3). فإنه يوجد أمر واحد ضروري، وهو سماوي (علوي)، الوحدة! الوحدة التي فيها الآب والابن والروح القدس هم واحد. انظروا، كيف اُستودعت الوحدة لدينا… الثالوث كلّه هو اللََّه الواحد، والحاجة إلى واحد. ليس شيء يجلبنا إلى هذا الأمر (اللََّه الواحد) إلا إذ صرنا نحن الكثيرون قلبًا واحدًا.

القديس أغسطينوس

v أقول الآن أن كل الكنيسة آنذاك كانت مثل الحفنة القليلة التي تسلك الآن في نظام الشركة، ولكن بعد موت الرسل، وقد بدأت جموع المؤمنين تفتر وتبرد، خاصة الجموع التي جاءت إلى الإيمان من أممٍ مختلفةٍ، والذين بسبب حداثة إيمانهم وعبادتهم الوثنية المتأصلة فيهم لم يُطالبوا سوى بضرورة أن “تمتنعوا عمَّا ذُبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنى” (أع 29:15). هذه الحرية التي وُهبت للأمم لحداثة إيمانهم، قللت من الصورة الكاملة التي كانت لكنيسة أورشليم… بل وحتى بعض القادة تهاونوا بعض الشيء ظانين أنه ما قد سُمح به للأمم من أجل ضعفهم مسموح به لهم أيضًا، معتقدين أنهم لن يُضاروا شيئًا إن اتبعوا إيمان المسيح، واعترفوا به محتفظين بمقتنياتهم وما يمتلكونه.

الأب بيامون

v كيف إذن يمكن أن تحدث أي بذار للنقاش (المثير) ممن لا يطلب ما لنفسه بل ما هو لقريبه؟! بهذا يصير تابعًا لربه وسيده القائل عن نفسه: “لأني قد نزلت من السماءِ ليس لأعمل مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني” (يو 38:6).

كيف يمكن أن يثير نزاعًا لسببٍ ما، ذاك الذي صمم أن يأخذ برأي قريبه، ولا يسلك حسب إرادته الذاتية، محققًا بقلبٍ ورعٍ متواضعٍ ما جاء في الإنجيل: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعض لبعض” (يو 35:13)؟

لأنه بهذا، كما بعلامة خاصة، أراد السيد المسيح أن يميز قطيعه في هذا العالم، فارزًا إياهم عن غيرهم، مختومين بالختم الذي نتكلم عنه! على أي أساس يقبل أية ضغينة تتسرب إلى نفسه أو تبقى في نفس أخيه؟! فإن قراره ثابت وهو أنه لا يمكن أن يترك أساسًا للغضب، لأنه أمر خطير وخاطئ، وإذا ما كان أخوه غاضبًا معه لا يقدر أن يصلي كما لو كان نفسه غاضبًا، حافظًا كلمات ربنا ومخلصنا يسوع في قلبه بتواضع: “فإن قدَّمت قُربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قُربانك قُدّّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدِّم قُربانك” (مت 23:5، 24).

الأب يوسف

يرى القديس أمبروسيوس أن أساس الوحدة التي تقوم بين الجماعة المقدسة هي وحدة الإنسان، والتناغم بين عناصره بعمل الروح القدس، فتصير النفس أشبه بحمامة واحدة (نش 6: 9)، وتتمتع بالسلام الداخلي بين النفس والجسد، فيصير الاثنان واحدًا (أف 2: 14)، بهذا تتشبه بالقائل: “ليكون الجميع واحدًا كما أننا واحد. أنا فيهم، وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد (وحدة)” (يو 17: 22-32). لهذا مثل هذه النفس هي حمامة واحدة، صادقة، روحية، لا تضطرب بشهوات الجسد مع وجود صراعات من الخارج ومخاوف من الداخل (2 كو 7: 5).

v لقد أمرنا الرب بصوته، قائلاً: “هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا” (يو 15: 12). وأيضًا: “إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات” (مت 18: 19). فإن كان اثنان بفكرٍ واحدٍ يمكنهما أن يفعلا هذا، كم يكون بالأكثر إن حدث اتفاق جماعي بين الكل؟

الشهيد كبريانوس

يرى الشهيد كبريانوس أن الله يقدم عطايا للجميع، ونحن كأبناء لله نسلك بالناموس السماوي، نتمثل بالله فنُشرك الكل فيما نملكه.

إذ قدم لنا القديس يوحنا كاسيان وصفًا رائعًا عن حياة الشركة الرهبانية في مصر أبرز أهمية الشركة على نمط الكنيسة الأولي، كما جاء في سفر الأعمال. وقد أضاف إليها أن البعض خرجوا خارج المدن ليعيشوا حياة نسكية عجيبة، فقد انشغلوا بدراسة الكتب المقدسة والصلوات والأعمال اليدوية ليلاً ونهارًا بغيرة متقدة حتى أنهم كانوا ينسون الطعام ولا يفكرون فيه كل يومين أو ثلاثة أيام حيث يذكرهم الجوع الجسدي بذلك.

“وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع،

ونعمة عظيمة كانت على جميعهم”. [33]

أما السمة الثانية للكنيسة فهي تمتع الرسل بقوة عظيمة، أي إمكانية قبول المستمعين لكلماتهم، يتكلمون كمن لهم سلطان إذ يحملون واهب السلطان في داخلهم. لهم نعمة عظيمة أمام من يلتقي بهم، حتى المقاومون لهم يشعرون بنعمة الله وإشراق النور الإلهي على حياتهم. يتلمس الكل في أعماقهم أنهم يحملون انعكاس بهاء مجد الرب وجماله، هذا الذي هو “أبرع جمالاً من بني البشر”.

خرج التلاميذ من تجربة السجن والتهديدات بقوةٍ مضاعفة، فقد قدمت الكنيسة صلاة بحرارة، بنفس واحدة، وامتلأ الكل من الروح القدس، وصار للجميع قوة عظيمة للشهادة، وتمتعوا بنعمة إلهية عظيمة.

هنا يكاد الإنجيلي لوقا أن يسجل عجز اللغة البشرية عن وصف حال الكنيسة الحاملة لقوة الله والمتمتعة بنعمته، فتنطلق في طريق الشهادة لقيامة الرب من الأموات بكل قوةٍ ونجاحٍ، مع نموٍ دائمٍ لملكوت الله.

v “ها أنا أعطيكم سلطانًا أن تدوسوا الحيّات والعقارب”. هذا ليس بعمل إنسان مجرّد، ولا يقدر أحد مثلنا أن يمنح آخرين مثل هذا السلطان المجيد والعجيب لكي يكون لهم القدرة أن يدوسوا كل قوّة العدوّ. هذا بالأحرى هو عمل خاص باللَّه وحده، العالي فوق الكل والمكلّل بالكرامات الفائقة… إنّه لم يترك للتلاميذ أي عذر للاستسلام للجبن، بل بالأحرى يطلب منهم أن يكونوا أقوياء القلب وشجعانًا، لأنّه هكذا ينبغي أن يكون خدّام كلمة الإلهيَّة، لا جبناء، ولا مقهورين بالكسل، وإنّما يكرزون “بقوّة عظيمة” كما يقول الكتاب (أع4: 33).

القديس كيرلس الكبير

إذ لم يكن فيهم أحد محتاجًا،

لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها،

ويأتون بأثمان المبيعات“. [34]

بعد أن تحدث الإنجيلي عن سمات الحب والوحدة الكنسية، والشهادة بروح القوة، والكشف عن بهاء المسيح الساكن فيهم تطرق إلى سمتين عمليتين هما سمة واحدة ذات وجهين: السخاء في العطاء خاصة للمحتاجين، والموت عن العالم وكل غناه وكراماته.

v كانت مشاعرهم كما لو كانوا تحت سقف أبوي، صار الكل في لحظة يشتركون معًا. إنه لا يُقال أنهم أعانوا الآخرين وإن كانوا بالحقيقة فعلوا هكذا، إلا أنهم شعروا بأن كل شيء هو لهم. لا، الأمر العجيب هو هذا، أنهم أولاً نقلوا ممتلكاتهم، وهكذا سندوا الآخرين، على أن هذا العون لم يأتِ من ممتلكاتهم الخاصة بل من الملكية العامة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أولئك الذين بالإيمان نالوا في داخلهم ذاك الذي يجعل كل الأشياء جديدة… إذ يقبلون منه كلمة رسالة الإنجيل الذي يبهج قلب الإنسان جديدةً، يصيرون فوق الغنى ومحبّة المال، وتتشدّد عقولهم، فلا يعطون اعتبارًا للأمور الزمنيّة، بل يتعطّشون للأبديّات.

يكرمون الفقر الاختياري ويشغفون بمحبّة الإخوة. وكما جاء في أعمال الرسل القدّيسين أن كثيرين من أصحاب الأراضي والبيوت باعوها وجاءوا بأثمانها ووضعوها عند أقدام الرسل، وكانت توزّع على كل أحد حسب احتياجه.

القديس كيرلس الكبير

يصور لنا القديس يوحنا الذهبي الفم هذا المنظر السماوي الرائع قائمًا على الأرض، حيث يرى أن الثلاثة آلاف الذين آمنوا مع الخمسة الآلاف بعد ذلك يمارس جميعهم نفس الشيء في نجاحٍ سامٍ، ولم يعد واحد منهم يشتكي من الفقر. أي مجد يمكن أن يوجد أكثر مما كان لهذا الشعب؟

حقًا إن الحب والوحدة يجعلان من الكنيسة سماءً مجيدة، فإن الشركة العملية الصادقة والنابعة عن الحب لهي شهادة لعمل نعمة الله الفائقة.

v ألم تسمع الرسل يقولون أن الذين نالوا الكلمة أولاً باعوا البيوت والأراضي، لكي يسدوا احتياجات الرسل؟ أما أنتم فتسلبون البيوت والأراضي لكي تزينون فرسًا، أو قطعة (أثاث) خشبية أو جلدية، أو حائطًا، أو رصيفًا. وما هو أردأ من هذا أنه ليس فقط الرجال، بل وحتى النساء أيضًا تأثرن بهذا الجنون، ودفعن رجالهن إلى هذا النوع من الهوى الفارغ، فيدفعنهم أن ينفقوا أموالهم في شراء ما هو أكثر من الضروريات.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ويضعونها عند أرجل الرسل،

فكان يُوزع على كل واحدٍ كما يكون له احتياج“. [35]

خرجت الكنيسة من الضيقة لا لتعاني من متاعب مادية، بل لتمارس الحب الأخوي في أروع صوره، وتكشف عن وضع المال في كنيسة العهد الجيد، إنه ليس في صندوقٍ خاصٍ، ولا في أرصدةٍ لدى مصارف، بل عند أرجل الرسل.

ما يعجز عن تحقيقه في كل أنظمة العالم الاقتصادية والاجتماعية لتوفير احتياجات الفقراء والمعوزين تحقق طبيعيًا عندما تمتعت الجماعة بملء الروح. فصارت الأموال عند أقدام الرسل، لينال منها كل شخصٍ احتياجه بروح الأمانة والخشوع.

v إنه عمل رمزي يشير إلى أن يليق بالناس أن يطأوا بأقدامهم على الطمع. فإن الرب يشتاق أن يهب نفوس المؤمنين ما هو أعظم من غناهم. نقرأ في الأمثال: “فدية نفس الإنسان غناه” (أم 13: 8 LXX).

القديس جيروم

v أقر سليمان أيضًا في الروح القدس وشهد وعلم بالسلطان الكهنوتي قائلاً: “خف الرب بكل نفسك وكرم كهنته” (حكمة سليمان 7: 29). وأيضًا: “أكرم الله من كل نفسك وكرم كهنته” (حكمة سليمان 7: 31)… علاوة على هذا فإن ربنا يسوع المسيح نفسه ملكنا ودياننا وإلهنا في ذات يوم آلامه لاحظ كرامة الكهنة ورؤساء الكهنة مع أنهم لم يحفظوا صوت الله، ولا معرفة المسيح. فعندما طهر الأبرص قال له: “اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدم القربان” (مت 8: 4). بهذا التواضع علمنا التواضع، فقد دعاه كاهنًا مع أنه يعرف أنه مدنس للمقدسات.

الشهيد كبريانوس

ويوسف الذي دُعي من الرسل برنابا،

الذي يترجم ابن الوعظ،

وهو لاوي قبرسي الجنس“. [36]

إذ كان له حقل باعه،

وأتى بالدراهم، ووضعها عند أرجل الرسل“. [37]

بلا شك باع المئات وربما الألوف ممتلكاتهم ووضعوا أثمانها عند أقدام الرسل، فلماذا انفرد السفر بما فعله برنابا الذي من سبط لاوي؟

أولاً: بكونه لاويًا ليس من حقه شراء أرض فى إسرائيل، فلعل الأرض كانت فى قبرص، إذ كان قبرصي الجنسية.

ثانيًا: يبدو أنها كانت أرض متسعة جدًا، بيعت بثمنٍ مرتفعٍ جدًا، فصار ذلك مثلاً حيًا لمن تحرر من كل محبةٍ للاقتناء.

 

من وحي أعمال الرسل ٤

آلام مجيدة!

v تآمرت قوات الظلمة عليك،

حكموا عليك بالموت، لكنهم عجزوا عن منع قيامتك!

تتآمر قوات الظلمة بعينها على رسلك!

هي بعينها لن تكف عن التآمر على كنيستك عبر الأجيال!

v وضعوا الرسولين في السجن،

فأقبل الآلاف إلى الإيمان بك.

مع كل ضيقة تنمو كنيستك،

ومع كل اضطهاد لشعبك تتجلى قوة اسمك القدوس.

v المجمع الذي حكم عليك بالموت،

يهدد رسلك بالموت.

بطرس الذي خاف جارية،

يدين أعضاء مجمع السنهدرين الأعظم.

اتهمهم بمقاومة الله: صلبوا يسوع وأقامه الآب.

اتهمهم بالجهالة: رفضوا الحجر رأس الزاوية.

اتهمهم بالفشل: ليس بأحد غير يسوع الخلاص.

اتهمهم بعدم الحكمة: يطلبون الطاعة لهم أكثر من الطاعة لله.

v وسط الآلام تمجدت في كنيستك.

جرت آيات وعجائب كثيرة،

صارت لها صلوات قوية زعزعت الموضع.

v وسط الآلام صارت كنيستك سماءً ثابتة،

وتحول المؤمنون إلى شبه ملائكة.

صار للجميع قلب واحد ونفس واحدة… يا لها من سمة سماوية!

تحول الكل إلى الشهادة بقيامتك،

فلم يعد للموت سلطان ولا قوة.

لم يعد للعالم سلطان عليهم، ولا للمادة إغراء.

صار كل شيء بينهم مشتركًا.

أتوا بأموالهم عند أقدام رسلك، إذ لا مكان آخر لها.

قدموا الأموال كأمانة تسلموها من يدك،

وها هم بفرحٍ يقدمونها لخدمة الجميع!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى