تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 14 للأب متى المسكين
الأصحاح الرابع عشر
حديث الوداع الأول
الحديث عن الآب والمضي إليه
(أ) المسيح يعزي تلاميذه بالرجاء السماوى.
(ب) يعّرف نفسه بأنه هو الطريق والحق والحياة، وأنه واحد مع الآب.
(ج) يعدهم بتأكيد استجابة الصلاة التي تُقدم باسمه.
(د) يوصي بالمحبة والطاعة.
(ه) الوعد بإرسال الروح القدس المعزى.
( و) يترك سلامه لهم.
تمهيد: جولة حول الاصحاح بأكمله:
القديس يوحنا، في الأصحاحات القادمة، يصف لنا المسيح من مستوى عملي وقيادى، كيف قاد تلاميذه بهدوء فائق الوصف في أعنف عاصفة هوجاء يمكن أن تواجه جماعة صغيرة للغاية, كقطيع وديع من خراف محاصرة من كل ناحية، ووسطها ذئب فاجر يعوي لتسمعه الذئاب في الخارج، لتتعرف على المكان وعلى أسراره. والراعي يطمئن خرافة أن لا تضطرب ولا تجزع، فقد اشترى حياتها بدمه، وهو ضامن سلامها، وها هو ذاهب في رحلة سماوية وسيعود بعدها إليهم محملاً بالأخبار السارة والمفرحة، ليسلمهم سر الطريق الصاعد إلى فوق، وسوف يتحدث مع الآب بخصومهم مع توصية خامة أن يستمع الآب نفسه أصواتهم. وقد أخذ يصف لهم صورة الآب، فأراهم نفسه مؤكدا لهم أنه هو هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور، وأنه هو والآب واحد في كل شيء, وفاجأهم بكشف أعظم سر عند الآب، وهو الروح القدس الذي يوحدهما بالحب, واعداً بأنه سيطلب من الآب أن يرسله إليهم ليعزيهم عن فراقه لهم بالعيان, وليملأهم بالمعرفة وكل الحق, ليتذكروا كل ما قاله لهم وما عمله أمامهم, حتى يتكلموا بكلمته عينها ويشهدوا بها ولها مقروءة ومكتوبة. ثم ترك المسيح لهم سلامه الخاص, الذي ينسكب من السماء من فوق مناطق العقل والاضطراب، فيكون لهم مصدر أمان سماوي واطمئنان دائم في كل زعازع العالم ومكايد الشيطان. وسلامه هذا سيكون عوض سلام العالم الذي يعطيه باليمين ويسحبه بالشمال، يمنحه اليوم وينزعه غداً، وبالنهاية هو قبض الريح.
وفي نهاية الحديث، اكفهر وجه الرب لمنظر، لم يتبينه يوحنا ولا التلاميذ، إذ ظهر للمسيح رئيس العالم قادماً للحرب، ولكن عبثاً يحارب، فليس له في المسيح مأخذ. لم يؤخذ المسيح، ولم يرتد، بل كف عن الحديث، وأعلن عن انتهاء زمان الأحاديث إلا قليلاً. ثم أمرهم أن يغادروا المكان فوراً، لأن العدو كان يترتص بهم, ولم يشأ الرب أن يقبض عليهم داخل البيت.
يعتقد العالم اللغوي وشارح الإنجيل بيورنى أن في الآيات من (1-10) يوجد شعر أرامي منظوم على أساس كل أربعة توقيعات وحدة شعرية. لذلك فهي تحوي خطاً فكرياً موحداً.
1:14 – لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي.
بعد أن حذر الرب بطرس، وهو مقدام التلاميذ, أنه سينكره هذه الليلة ثلاث مرات، صمت بطرس، وصمت أيضاً التلاميذ, مع جزع ورعبة؛ لأنه إن كان الرب ذاهباً ليموت، وإن كان هذا هو يهوذا، وهذا هو بطرس أيضاً، فمن نكون نحن؟
لتد ملأ الحزن قلوبهم … وفجأة قطع الرب الصمت بكلمات، افتتح بها كوى السماء لتفيض سلاماً في قلوب التلاميذ. فكانت كلمات الرب هذه تُعتبر الدرة الثمينة في إنجيل المسيح.
«لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ.»:
«يضطرب»: كلمة «يضطرب» باليونانية ( ) وباللاتينية ( ). فإن كنا قد عرفنا سابقاً أن المسيح «اضطرب بالروح» (27:12, 21:13)، فاضطراب المسيح لم يكن عن فقدان الصلة بالآب، التي هي قاعدة الثبوت العليا، ولا عن خوف لأنه لم يرهب للموت جانباً، إذ وطأ هامته بقدميه، ولا كان اضطرابه بسبب الخوف من المجهول لأنه كان «عالماً بكل شيء». ولكن اضطرابه، كما علمنا، كان ردة فعل الجسد لهول المعركة الروحية التي كان قابضاً على زمامها. فاضطراب المسيح شيء واضطراب التلاميذ شيء آخر، فالاضطراب لا يتملك على الإنسان إلا إذا تخلخل رباط الإيمان بالل . فاضطراب التلاميذ كان بسبب تزعزع رباط الإيمان بالله.
«قلوبكم»: الترجة العربية متصرف فيها، فهي في الأصل اليوناني مفرد ( )، وهذا أسلوب أرامي وعبري. و«القلب» في المفهوم الشرقي هو مصدر الشعور. أما في اللغة القبطية، فالقلب هو مصدر جميع العواطف والفهم والذكاء والغباء أيضأ، فالرجل الذكي يسمى ( ), والرجل القوي الشجاع يسمى ( ) والرجل الرحيم ( ) والرجل الغبي ( ) بلا قلب أصلاً.
و«تضطرب» باليونانية تُستخدم كالعربية في اضطراب البحر أيضاً، والشبه بين اضطراب القلب واضطراب أمواج البحر مصطلح يستخدمه الوحي الإلهي في الكتاب كثيراً . فالخوف من الموت, وأخطر منه الخوف من المجهول، يطيح بفكر الإنسان فلا يعود يستقر له قرار. والمعروف في الاختبار الإيماني، أن سبب الخوف دائماً وبلا استثناء هو فقدان الصلة مع الله. فأمان الإنسان الوحيد هو في تطلعه نحو الله والإمساك به بالإيمان، فإذا ركز الإنسان فكره في الواقع المفزع أمامه يغرق في الحال, هذا كان حال القديس بطرس أيضاً، إذ لماذا بدأ يغرق والرب واقف أمامه؟, «ولكن لما رأى الريح شديدة، خاف؛ وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلاً: يا رب نجني, ففي الحال مد يسوع يده، وأمسك به، وقال له: يا قليل الإيمان, لماذا شككت» (مت30:14-31). أي، لما ركز رؤيته في الريح, فقد رؤيته للمسيح، وهكذا فقد قاعدة ثبوته فوق الماء.
وهنا الرب أيضاً لا يتكلم مجرد كلمة «لا تضطرب قلوبكم»، بل يمد يده لينتشل التلاميذ، فحينما يأمر المسيح، فأمره ينفذ بقوة الكلمة الحية، ويحمل تنفيذه في طاعته, وهو، مع المعونة الإضافية التي يمنحها لهم بالكلمة، يذكرهم بالقاعدة الثابتة التي ينبغي أن يربطوا, أو يكونوا قد ربطوا فيها, ثقتهم وهي: الإيمان بالله.
« أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي»: «الإيمان» باللغة الآرامة (لغة القديس يوحنا تعني «الثبوت»)، لأن قاعدة الثبوت الجوهرة أو «الثبوت الحق» هو الله، في الأدب العبري. فالذي يؤمن بالله يعني الذي يثبت في الله أو يشترك في ثبوته، كما في الصخر، فالله «صخر الدهور» (إش4:26)، أي الثابت على مر الأيام وكر السنين.
خطر الثنائية في اللاهوت ينبغي أن نحترس منه دائمأ، عندما نضع المسيح نفسه في مقابل الله أو الآب، فالمعنى هنا هو: إن كنتم تؤمنون بالله فأنتم تؤمنون بي أيضاً، وبالضرورة، حتى وإن كنتم لا تعرفون الآن!! وهنا يلزم أن نربط هذه الآية بالكلام الوارد بعدها، لأنه يعطيها الرؤية اللازمة والتوهج اللاهوتي المطلوب. فالمسيح بعد ذكره الله, يعود ويذكره باسم «أبي» (2:14)، ثم يذكره باسم «الآب» (6:14)، وبذلك يكون المعنى، بمد ضم الصفات، كالآتي: أنتم تؤمنون بالله، هذا جيد جداً، وأنا أترككم لأذهب إلى الله, الذي هو أبي, وهو الآب (أبوكم). فإن كتم تؤمنون بالله حقاً، وهذا صحيح وواجب، فإيمانكم بالله فيه الكفاية ليجعلكم تؤمنون بي.
إذن، فاربطوا ثقتكم ورجاءكم بما هو فوق, ولا تنظروا إلى مفازع الموت وتهديداته، لأن الموت وارد حتماً كل حين. لهذا أنا ذاهب إلى الآب لأعد لكم هناك مكاناً، حتى إذا دعاكم داعي الموت, وهو حتماً سيدعو, فأنا آتي سريعا وأخذكم.
وهو بهذا الكلام يجعل من موته مهمة عظمى في السماء تختص بهم هم، أما موته بالنسبة له فهو مجرد سفر إلى موطنه السعيد الذي يذهب إليه ليعود أيضاً لنكون معه دائماً. فلماذا الخوف ولماذا الاضطراب؟
وحتى سفره السعيد هذا، لا يكون كأنه بلا عمل بل هو، في الحقيقة وواقع الأمر، يعبد طريقاً إلى الله، ومنه إلينا، ليعود إلى الآب، ومعه دائماً أبناء كثيرون إلى المجد (عب10:2)، لأن كل ما يصنعه المسيح هو لأجلنا.
2:14- فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً.
الصحيح ينبغي أن تُقرأ هذه الآية هكذا: «في بيت أبي مواضع كثيرة»، لأن البيت هو المقابل الروحي للهيكل الذى قال عنه المسيح: «بيتي بيت الصلاة يُدعى» (مت13:21)، «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (يو16:2)، وأما المواضع الكثيرة أو المساكن الكثيرة في البيت، فهي المقابل للأروقة. والأروقة بها غرف كثيرة (1مل 5:6-6)، وقد وصف القديس بولس الرسول ذلك: «فلنا في السموات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيد أبدي.» (2كو 1:5)
و«المواضع» قال عنها القديس بولس أيضاً: « فإنا في هذه أيضاً نئن، مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا, الذي من السماء.» (2كو2:5)
«مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ»: الكلمة اليوناية منحوتة من ( ) وتعني «مسكن دائم» أو «بيت» (وليس «منزل»). وهي التي جاءت في الأية (23): «وإليه نأتي وعنده نصنع بيتاً (منزلاً)», أي إقامة دائمة!!
ولكن كلمة «منزل» باللغة العربية خاطئة ومفسدة للمعنى، لأن «المنزل» غير«البيت». فالمنزل يعني مكاناً ينزل فيه الإنسان عابراً وليس مقيماً، وممه النزل أي الخان أو الاوتيل حيث الإقامة الدائمة منعدمة؛ أما البيت فللأقامة الدائمة. وفي كتابات هامة للقديس إيرينيئوس («ضد الهرطقات»، الجزء الخامس، المقطع 36:12) قطعة ينقلها لنا من أقوال الشيوخ, يقصد بهم بابياس وغيره، يُفهم منها أن الـ ( ) هي «المساكن» أو «المواضع» الدائمة للطوباويين التي تتمايز في المجد، ولكنها ليست مقيدة، بل ينتقل داخلها الطوبانيون من درجة إلى درجة أعلى.
ويقول في ( )، أيضاً، القديس كلمندس الإسكندري، أنها أماكن متراقية من مجد إلى مجد، وأن الله له ( ) الخاصة به.
وهنا يلزمنا أن نشير إلى المكان الرهباني الجغرافي المجاور لمنطقة القلال، بجوار هرموبوليس بارفا (دمنهور الآن)، والذي كان يسمى ( )؛ هذه الكلمة سُميت بالعربية «الُمنى» بالمدة المفتوحة دون ترجمة لجهل المترجم. وحقيقة الأمر أن الآباء الرهبان كانوا يرون في حياتهم وسكناهم صورة سماوية على الأرض، فأطلقوا على مساكنهم هذه اللفظة المستعارة من إنجيل يوحنا، أي ( ).
«وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً»: احتار علماء الكتاب في شرح هذه الآية ولكنهم استقروا على أنها استفهامية منفية هكذا: (إذا لم يكن هذا حقيقياً, أي أنه ليس في بيت أبي منازل كثيرة، فهل كنت قد قلت لكم إنى أمضى وأعد لكم مكاناً)
والمعنى يزداد وضوحاً إذا أخذنا أيضاً بمفهوم المسكن في سفر العبرانيين: «وأما المسيح, وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل, غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة. وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبدياً» (عب11:9-12). «حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا» (عب20:6). هذه الأية تنطبق انطباقاً عجيباً وعميقاً على آية إنجيل يوحنا، وتشرحها، وتشرح كيف وبماذا هيأ لنا المسكن السماوي، وكيف دشنه بدمه، حتى يصلح لسكنى الخطاة.
«أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً»: الموضوع كله تعزية، الرب يهون على أحبائه ثقل الفراق, ويدخل إلى الحقيقة الروحية مباشرة، فالإقامة في الأرض خرافة، الإقامة الحقيقية والدائمة هي فوق, الأرض ليست «موضعأ» للروح بل هي أولاً وأخيراً مقبرة حزينة للجسد, والجسد مهما تجمل فالذبول مآله. إذن، فالرجاء كله يتحتم أن يُربط بالموطن الحقيقي وعند من؟ عند الآب. وللابن عند الآب مجال إلهي، كله مجد وبهاء وسلطان، كان قد تخلى عنه ليتفرغ إلى مهمته على الأرض بالجسد.
والآن قد آن الأوان للعودة إلى الأحضان الأبوية واستعادة المجد الذي له عند الآب واستلام كل سلطانه على قوات السموات، ليس كابن الله فقط، بل وابن الإنسان أيضاً, فالابن يعود إلى الآب حاملاً البشرية فيه, فعندما يوطد سلطانه بوضعه الجديد من جهة «بشريته», أي عندما يوطد «للانسان» مكانة جديدة لدى الآب، ويوطن الإنسان بعد غربته الطويلة في موطنه الأول مع الله, من داخل البنوة العزيزة والفريدة التي له عند الآب، ويطمئن أن الحضن الأبوي يسع الإنسان الجديد المتبنى في ميراث بنوته الإلهية الوحيدة، حينئذ يعود ليأخذ الإنسان المفدي والمبرر والمتقدس والمولود جديداً من الماء الحي والروح المُحيي, المغسول بالدم الإلهي، المتهييء بالنعمة، والمستضيء بالنور الإلهي لميراثه الجديد في النور الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ في السموات.
وربما تكون هذه المهمة، أي توطين الإنسان عند الله مرة أخرى، هي أعظم وأخطر عمل للمسيح سيقوم به عند الآب بعد تكميل مهمة الصليب، فهي النتيجة النهائية وختام التدبير الإلهي المتحمل من عمليتي التجسد والفداء.
أما تعدد «المنازل» في البيت الأبوي فراجع إلى درجات الاستنارة والإنارة. فعالم الله فوق، هو عالم النور, ولا يوجد فيه أية خليقة غير منيرة. لذلك يقول عنه سفر الرؤيا إنه ليس فيه شمس ولا قمر، بل الله والخروف سراجه (رؤ23:21). فالمسيح هو النورالحقيقي، وباتحادنا به بالسر الآن يعطينا استنارة فقط, تنشط الذهن الروحي لإدراك ما لا يُدرك ورؤية ما لا يُرى، وهذا عربون ما سيكون بالقيامة أي بالا ستعلان والتجلي، حينها يتغير جسدنا المعتم, جسد الخطية المظلم، ليكون على شبه جسد مجد المسيح المضيء (في21:3). وهذا هو قول المسيح نفسه: «حينئذ يضيء الآبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (مت43:13), بأنوار تتعدد وتترقى درجاتها، تبعاً لتعدد وتميز درجات الاستنارة الذهنية فيما يخص الإلهيات الآن.
والكلام يكاد يكون واضحاً أنه، منذ الآن، أمامنا طريق الاستنارة بالكلمة وعمل البر مفتوحاً لتنقية القلب، لأن أنقياء القلب هم الذين يعاينون الله (مت8:5)، لنستزيد منه قدر ما نشتهي، وقدر ما نطلب ونسعى ونجتهد بالحب والحق، بانتظار القيامة والتجلي بنور المسيح, حينئذ نأخذ مواضعنا المناسبة لاستنارتنا في المنازل العليا المعدة في نور القديسين: «حينئذ يضىء الآبرار كالشمس في ملكوت أبيهم.» (مت43:13)
3:14 – وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً.
هنا يلطف المسيح من أثر صدمة الفراق، ويجعلها كأنها ضرورة حتمية، من أجل التلاميذ والعالم، فالمعنى يحمل العودة، والعودة ذات شأذ وشئون، من أجل ضمان الخلود، فكأني بالمسيح يقول لهم: أنتم الآن «غرباء» و «يتامى» ولا يمكن أن أترككم كذلك, فلابد أن أمضى لأعد لكم «موطناً» في «ينوة» الله، وآتي مرة أخرى، لا من أجل الخطية وغفرانها بعد، بل من أجل ميراث ومجد مُعد!! «هكذا المسيح أيضاً بعدما قُدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثاية بلا خطية، للخلاص للذين يتتظرونه» (عب28:9)، وبالأسلوب اللاهوتي: هي فرقة وقية الآن، لحساب اتحاد أبدي آت.
«آتي أيضاً»: مجيء المسيح الثاني أمر، وإن كان قد وقعه المسيح مسبقاً على مستوى الزمن، إلا أنه لا يستعلن زمنياُ، فلا هو معروف متى سيكون أو كيف سيكون، لأن ظهوره سيكون مقصوراً على ذوي البصائر المفتوحة بالروح فقط: «قال له يسوع: إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء, فماذا لك؟! اتبعني انت» (يو22:21)
+ «والآن، أيها الأولاد، اثبتوا فيه، حتى إذا أٌظهر، يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه.» (1يو28:2)
+ «أيها الأحباء، الأن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو.» (1يو2:3)
+ «وأخيراً قد وُضع لى إكليل البر، الذي تهبه لى، في ذلك اليوم, الرب الديان العادل، وليس لى فقط، بل لجميع الذي يحبون ظهوره أيضاً.» (2تى8:4)
+ «متى أُظهر المسيح حياتنا, فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
+ «فإن سيرتنا نحن هي في السموات، التي منها ننتظر أيضأ مخلصأ هو الرب يسوع المسيح, الذي سيغير شكل جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شىء»(فى20:3-21)
و«مجيء المسيح» في لاهوت إنجيل القديس يوحنا غير محدد، فهو، كما لخصه في المقدمة, في صورته الدائمة والمستمرة على مدى الزمن والأزمان كلها: «كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان أتيا إلى العالم» (يو9:1)، أي أن المسيح, كنور العالم, هو في حالة مجيء مستمر ومتعدد «آتياً». فهو أتى, ويأتي, وآت, وسيأتي. «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية, يقول الرب الكائن والذي كان, والذي يأتي, القادر على كل شيء» (رؤ8:1 )؛ «لأنه بعد قليل جداً سيأتي الآتي ولا يبطىء» (عب27:10)؛ «لا أترككم يتأمى، إني آتي إليكم.» (يو18:14)
وواضح أن مجيء المسيح خبرة إيمانية, فهو حالة استعلان أو ظهور أو حلول الحضرة الإلهية في الحياة الحاضرة كاختبار فرحة الإيمان بحضور المسيح، أو حالة انطلاق الروح بعد الموت واستعلان المسيح المفاجىء للروح وحصولها على حالة غبطة فائقة, أو مع مجيء الروح القدس للتوبيخ والتبكيت والإنذار، وظهور المسيح بمظهر القاضي والديان لردع النفس وفتح طريق التوبة أمامها، أو في مجيئه اليومي والأسبوعي في الكنيسة لقيادة صلواتها ومسيرتها، وتقديس أسرارها، ومنح نفسه لأولادها، أو في مجيئه الأخير لإخضاع كل شيء ولتغيير هيئة العالم واستعلان سماء جديدة وأرض جديدة, كل هذا واقع في صميم مجيء المسيح كحقيقة أبدية فائقة على الزمان ولكنها مُستعلنة فيه.
«آخذكم إلي»: التعبير اليوناني أغنى من العربى، وأكثر عمقاً: ( ) أي « أستقبلكم إلى نفسي», حيث كلمة ( ) باليونانية تفيد استمرار الاندفاع نحو الآخر, وكأنما التلاميذ، وهم مدفوعون بالشوق الشديد ومنجذبون بالروح نحو المسيح، من جراء الحب أو العشق الإلهي الذي احترقت به قلوبهم، إذ بالمسيح يستقبلهم ويضمهم إلى حضنه فيكمل عجز اندفاعهم نحوه، يجذبهم إلى نفسه حسب شدة قوة حبه الفائق على حبهم؛ وما نقص من استحقاقهم للقرب منه، يعوضه باستحقاق بره القادر أن يوحدهم بنفسه.
وهنا يلزمنا أيها القارىء العزيز أن ننوه بالفارق الكبير بين ما نستمتع به الآن من استعلانات حضرة المسيح التي ننعم بها في صلواتنا وحبنا وشدة فرحتنا التي تغمر مشاعرنا وكأننا بلغنا المنتهى، وبين ما أعده لنا المسيح في ملكوته؛ الأ مر الذي لو تأملناه لهانت علينا الآن كل آلام الزمان الحاضر مع أوجاع الجسد وهموم العالم…
«حتى حيث أكون أنا, تكونون أنتم أيضاً»: ما دفعه المسيح في تعذيبات الذبح وكل التغريمات التي فُرضت عليه ودفعها راضياً، سيذهب إلى الآب ليأخذ ثمنها بالكامل, كحقوق ثابتة تضاف بكاملها لحسابنا. فالمجد الذي يسترده، يُعطى له مضافاً إليه اتساعات تسع كل مدعويه الذين دعاهم ولبوا الدعوة لوليمة مجد سمائي، تهتز لها كل العروش والسيادات. إنها حفلة عرس الخروف والكنيسة، مزينة بكامل زينة المسيح عريسها. وتاج البنوة الإلهية. الذي للمسيح الفريد والوحيد في السلطان والعظمة والرئاسة، يتسع ليشمل رؤوس كل المدعوين، الذين رفعهم من درجات العبيد إلى درجة أصدقاء وأحباء العريس، بصك التبني المكتوب والمختوم بالدم؛ لأن العريس، وهو ابن الله الوحيد, المونوجانيس, أخذ في تغربه على الأرض جنسية البشر، وبهذا أعطى البشرية حق التجنس بجنسية العريس، فنالوا استحقاق التواجد الدائم معه، وكأنهم صاروا أهلية له، أو «أهل بيت الله» (أف19:2)، أو عروسأ مع عريسها فى خدر سمائى واحد.
قول المسيح: « حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً»، تعبير لاهوتي يعبر عن كيان غير مفترق، بحسب عمل شدة قوته, وتفاضل غنى نعمته، التي أكمل بها عجز الإنسان في عيني الله، هذا العمل الذي انتهى إلى عمل وحدة غير مفترقة مع المسيح والله (يو17). أما بحسب العيان, فقد رأى القديس يوحنا هذه الكينونة غير المفترقة على صورة راع ورعية: «… هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب… لأنهم بلا عيب قدام عرش الله (رؤ4:14-5)
وقد عاد المسيح وركز على هذا الوجود أو الكيان المتلازم بينه وبين أحبائه في صلاته الأخيرة للآب: «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني، يكونون معي حيث أكون أنا يكونون معى لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.» (يو24:17)
لذلك كان مئتهى شهوة القديسين أن يفلتوا من سطوة الجسد ويكونوا مع المسيح: «فإني محصور من الاثنين، لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم.» (في23:1-24)
4:14 – وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ».
المسيح يفترض في تلاميذه، أو هو يدعوهم إلى هذا الافتراض، أنه بحسب كل ما سمعره منه حتى الآن وكل ما صنعه أمامهم، فهم يعرفون أنه ذاهب إلى الصليب, ومن الصليب إلى أبيه, وبذهابه إلى الصليب بإرادته، وكأنه ذاهب إلى مهمة خاصة وعاجلة، ثم بارتفاعه, عن طريق الموت, إلى الآب كمن يقدم تقريراً عن اكتمال مهمته، يكون قد افتتح طريقاً جديداً من الأرض إلى السماء ومن الإنسان إلى الله، طريقأ صالحاً لعبور كل الذين نالوا العتق من حكم الموت.
تم جاء سؤال توما وسؤال فيلبس، فاستقبلهما المسيح كما استقبل حديث تلميذي عمواس, فما بعد, حيث أكمل عحز الفكر البشري وتخلفه عن متابعة استعلانات الروح من واقع الحوادث.
ألم يقدم لهم، منذ ساعة، جسده المكسور ودمه المسفوك؟ ألم يخرج أمامهم يهوذا بعد أن أخذ شهادة من الرب أنه المعين من قبل الشيطان لتسليم الرب للموت؟
5:14- قَالَ لَهُ تُومَا: «يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟».
ما معنى الذهاب إلى الآب، وما معنى إعداد المكان، وكيفية العودة؟ ما أسرار هذه الرحلة التي لم يسمح بها أحد قط ولا خطرت على قلب بشر؟ هل ستأخذه مركبة نارية؟ هل ستقوده ملائكة؟ هل على سلم يعقوب؟ ثم إلى أين، هل إلى حضن إبراهيم؟ أم إلى حضن أعلى؟ وكيف يتبعونه فى طريق لا يعرفونه, فكيف يقول لهم: تعرفون الطريق؟ تسرع على كل حال!!
ثم إن الصعوبة التي قامت في ذهن التلاميذ كانت تدور حول كيف يُنشىء الموت أملاً ورجاءً لأن «القيامة» كانت مختفية عن أذهانهم. والموقف هنا شبيه بموقف مرثا، فهي تعرف أن أخاها سيقوم في اليوم الأخير، ولكن ما علاقة ذلك بالمسيح؟ مما جعل المسيح يعلن نفسه لها أنه هو «القيامة والحياة»، وبرهن لها ذلك بالفعل، إذ أقام أخاها من الموت.
توما هنا يسأل عن معنى الذهاب وكيفية الذهاب وإلى أين يكون الذهاب, فكيف بعد هذا يعرفون الطريق؟ لقد بدا لهم الموضوع على مستوى جسدي، فتحيرت عقولهم كتلميذي عمواس, مما اضطر المسيح أن يقول له كما قال لمرثا: «أنا هو القيامة والحياة» ولكن بصورة أخرى: «أنا هو الطريق والحق والحياة». مرثا لم تفهم علاقة القيامة بالمسيح، وتوما لم يفهم علاقة «الطريق» بالمسيح. الموت وقف ليسد كل منافذ التفكير والأمل عند مرثا, وكذلك أيضاً عند توما. ولكن عند توما كانت العقبة هي في «حقيقة» الموت كطريق حياة، هذا كان أمراً صعباً «كحقيقة».
فالمسيح فسر كل هذه الخفيات واستعلنها «في نفسه» أنه هو الطريق، وهو الحقيقة التي تعلن الطريق وتقود إليه، وهو الحياة كنهاية وغاية. وبمعنى مختصر ولكن يفوق التصور الجسدي ولا يمكن أن يمسكه العقل، أن الذي يمسك بالمسيح يكون قد عبر الطريق دون أن يجوزه، وعبر الموت دون أن يعبر رُعبته، ويكون قد قام دون أن يموت، بل يكون قد بلغ موضعه في السماء واستقر دون أن يغادر الأرض، أو يكون قد غادرها، سيان. ألم يقل المسيح مرة أنه هو ابن الإنسان الذي على الأرض الذي هو في السماء؟ «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.» (يو13:3)، وكأنه هنا وهناك بآن واحد، ونزل وصعد دون أن يغادر لا هنا ولا هناك، وأنه وهو معنا لم يغادر حضن الآب، وألم يقل لهم في بكور أيام تلمذتهم أنهم من الأن… «يرون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان» (يو51:1)؟ فلمن كانت الملائكة تصعد بهذه السهولة؟ إلا للانسان، لتمهد له الصعود؟ ولمن كانت تنزل؟ إلا لنا، لكي تمسك بأيديا لنصعد بسهولة، فكيف لا يصعد الإنسان؟ والسلم قد أقامه لنا من جسده الذي ثبت به الأرض بالسماء، وأطعمهم به علنا ليثبت فيهم إلى الأبد ويثبتون فيه، فلا يحتاجون إلى من يعرفهم الطريق بعد، إذ هو قائم في داخلهم، وسقاهم دمه ليسكن فيهم روحه الأزلى، ليصيروا من الروحيين إلى الأبد، إذا نفضوا غربتهم عن الأرض والأرضيين.
ألم يظهر الله في الجسد، فصار معنا، لكي بالجسد نصير في الروح ونظهر معه؟ ألم يلتصق ببشريتنا، فصار واحداً منا، لنلتصق بروحه، فنصير فيه واحداً مع أبيه؟ «وأما من التصق بالرب فهو روح واحد» (اكو17:6)، ألم يتغرب عندنا قليلاً ليفك أسر غربتنا، ويأخذنا لنستوطن عنده إلى الأبد؟ ألم يأخذ من الآب كل شيء: «وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه…» (يو3:13)، ليعطيه لنا، ليمكننا من العودة معه إلى الآب، لنرث كل شيء: «وأنه من عند الله خرج (إلينا)، والى الله يمضي (ونحن معه)»؟ (يو3:13)
6:14- قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.
ثم ما هو الطريق؟ نحن قلنا، كما قالت الرسالة إلى العبرانيين، أن: «… لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأ قداس، بدم يسوع طريقاً كرسه لنا حديثاً، حيا، بالحجاب أي جسده» (عب19:10-20). ولكن أيضاً ما هو الطريق؟
لو علمنا أن جوهر رسالة المسيح تقوم على فعلين أساسيين أكملهما المسيح:
الفعل الأول: هو استعلان الآب السماوي. فالمسيح، وهوالابن المتجسد، استطاع بصفته هذه، أي من خلاء بنوته المطيعة المحبة للآب، أن يعلن لنا الآب, والأفضل أن نقول يستعلن لنا الآب, لأن الإعلان يختص بالمعرفة عن شيء مُدرك, أما الاستعلان فهو معرفة الخفيات وما لا يُدرك. فالمسيح استطاع بتعليمه وبروحه الأزلى وطاعته المطلقة للآب، أن يستعلن لنا الآب غير المُدرك، ولا معروف. وذلك من خلال تكميل مشيئته والعمل بوصاياه: «أنا قد حفظت وصايا أبي» (يو10:15), «الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يو18:1)
هذا هو الفعل الأول والهام جداً الذى قام به المسيح، وهو استعلان الآب للعالم.
أما الفعل الثاني: فهو أنه, وهو حامل لجسد البشرية, سمتطاع كابن الصعود به إلى الآب من حيث جاء, وذلك من خلال قوة قيامته, وبواسطة روح الحياة الأبدية التى فيه «… أنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي.» (يو3:13)
بهذين الفعلين: أي باستعلان الآب للعالم، وبرفع البشرية التي فيه إلى الآب السماوي، يكون المسيح هو الطريق الوحيد الموصل إلى الآب, باستعلان شخص الآب فى نفسه, وبالوصول إلى الآب وهو حامل لجسم بشريتنا, وبذلك يكون المسيح حقاً وبالفعل الطريق الوحيد إلى الآب, ولا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلا به.
أما فيما يخص الرد على سؤال توما فقد أصبح على توما أن يفهم من كلام المسيح أن المسيح ذاهب إلى الآب، رداً على قوله: «لسنا نعرف أين تذهب»؛ وأن المسيح، بموته عنا وقيامته بنا وصعودنا معه إل الآب, يكون هو الطريق الوحيد المؤدي بنا إلى الآب، ردا على قوله: «فكيف نعرف الطريق».
والمسيح بقوله المختصر والمركز والمشدد: «أنا هو الطريق», حيث التشديد يأتي مركزاً في اللفظ «أنا هو»، وحيث «أنا» ككيان حي إلهي, أنا وليس أي كيان أو شيء آخر, حيث تأتي «أنا» لتجيب عل كل ما هو مطلوب للمعرفة، وكل ما هو«كيف», وبأي «قوة», وبأي «استحقاق», وبأي «عمل». فتكون المسألة لا تعود تحتمل سؤالاً واستفساراً عن الذهاب وعن الط يق، يكفي الإنسان أن يمسك بالمسيح ليصل إلى الآب: «لأن به لنا كلينا قدوماً، في روح واحد، إلى الآب» (أف18:2)، لأنه هو الطريق بكل مستلزماته، من معرفة كل الحقائق عنه، ومن الحصول على جوهر الحياة اللائقة به.
وبقول الرب هذا، يكون المسيح قد قطع خط الرجعة على أي ادعاء بأي وساطة أخرى، لأي علم أو معرفة أو روح، ليشترك من قريب أو بعيد في الوصول إلى الله. فهو طريق الخلاص الوحيد الموصل للأب، كما رأيناه سابقاً «نَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (9:10) أنه هو الباب الوحيد أيضاً .
«أنا هو… الحق والحياة»: المسيح لا يعلم الحق عن الله، بل هو الحق الإلهي, هو الله الابن، وهو استعلان «الآب» في ذاته مباشرة وبلا أي وسيط آخر. فهو «الحق» وهو الوحيد الذي يشهد للحق: «لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق.» (يو37:18)
أي أن الذي يدرك المسيح، يدرك الله الآب. فالمسيح هو استعلان الآب، يستعلن في ذاته من خلال «الكلمة والعمل».
كذلك «الحياة», فالمسيح لا يمنح حياة غير حياته، وحياته هي ذاته: «فيه كانت الحياة» (يو4:1)؛ «فمن يأكلني، فهو يحيا بي» (يو57:6). وحياته هي الحياة الأبدية، وهي حياة الآب، وهي رسالته: «أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل» (يو10:10)، وكلماته هي روح وحياة (يو 63:6)، والذي يسمع كلام المسيح يحيا ولو كان ميتاً(يو24:5)، «ولكي تكون لكم، إذا آمنتم، حياة باسمه.» (يو31:20)
كثير من الشراح لم ينتبهوا إلى أن المسيح يركز على الفصل بين الطريق، والحق، والحياة، فهو كل واحد من هذه؛ فهو الطريق، وهو الحق، وهو الحياة, والحق طريق يؤدي إلى الآب, والحق هو استعلان الآب, والحياة هى فى ذاته وفى الآب.
لذلك لا يستقيم القول بأن الطريق يؤدي إلى الحق والحق يؤدي إلى الحياة، هذا خلط بين النظريات الفكرية والواقع الالهي القائم بالكيان الذاتي في المسيح . فالمسيح, بالكيان الذاتي، هو الطريق الموصل إلى الآب، وبالكيان الذاتي يستعلن الحق، وهو الآب فيه, وبالكيان الذاتي هو الحياة, فيه وفي الآب. فالمجال هنا لا يتسع لنظريات يصطنعها الفكر البشري، لتولف بين الطريق والحق والحياة وكأنها مراضيع، هذا خروج عن المعنى اللاهوتي الصحيح، فهي «ذات» وليست موضوعاً.
كذلك يقول أحد العلماء الكبار، وهو توما الأكويني، في نظريته التي وضعها في القرون الوسطى بأن المسيح هو طريق بحسب بشريته، ولكنه هو الحق والحياة بلاهوته. هذا تمزيق للمسيح لا يقبله الفكر اللاهوتي الصحيح. فبشرية المسيح لا وجود لها بدون لاهوته، ولا عمل لها خارج عمل لاهوته. وجسد المسيح صار طريقاً حديثاً إلى الأقداس العليا بلاهوته لأنه ««جسد الكلمة», و «الكلمة المتجسد» قام بقوة الحياة الإلهية التي فيه، وصعد كجسد مجد الابن الوحيد. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنه وهو يقول: «أنا هو الطريق»، فهو يعبر عن كيانه الذاتي الإلهي الكلي وليس عن «جزء» منه أى جسده؟؟؟ وللأسفر قد جرى مجرى هذا العالم الكبير كثير من العلماء المحدثين, بلا وعى.
كذلك أيضأ يرى بعض علماء اللاهوت الغربيين أن «الطريق» هو الأساس ويأتي بعد ذلك «الحق» و «الحياة». بمعنى أن المسيح هو الطريق وأن الحق والحياة هما مجرد شرح للطريق، وهذا خلط لا ينبغي أن يكون, والخطأ واضح هنا، لأن المسيح اتخذ كل من الطريق والحق والحياة معياراً لاهوتياً قائمأ بذاته، وكل منهم بمفرده جعله هويته، أي منسوباً لذاته وكأنه هو، بمعنى: أنا هو الطريق, أنا هو الحق, أنا هو الحياة, فالطريق والحق والحياة لم تعد صفات في ذاتها يمكن التمايز والتواصل بينها، بل صفات لذاته, وذاته يستحيل التمايز فيها ما هو أول وثان وثالث, هذه الصفات التي اتخذها هوية ذاتية له، طرحها أمام تلاميذه لتكون ملكاً لهم بالإيمان به، فيعرفون الطريق به، ويعرفون الحق فيه، ويعرفون الحياة معه؛ والمعرفة في الإلهيات خبرة وممارسة وشركة, وهكذا يطرح المسيح أمامهم معرفته، لتكون لهم منهجاً كاملاً للحياة الأبدية مح الله.
لذلك سنسمعه يوضح هذا، بكل بيان، بقوله: «لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً. ومن الأن تعرفونه وقد رأيتموه… الذي رآنى فقد رأى الآب». كلام الرب هنا يؤكد للقارىء أن المسيح يركز على نفسه، أي على ذاته هو، «أنا هو»، فلا طريق خارجاً عنه، ولا حق بدونه، ولا حياة إلا فيه, ولا آب إلا بواسطته وفيه.
كذلك، لا ينبغي أن تغيب عنا البداية التي بدأ بها الحديث: «لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي». فالرب وجد التلاميذ في حالة انزعاج لأنهم شعروا أنهم على وشك أن يفقدوا المسيح، وأنهم بذلك سيصيرون يتامى، فاختلت موازين إيمانهم، وضاعت من أمامهم علامات الطريق. وأصبح على الرب أن يثبتهم في قاعدة إيمانهم بالله، ويقدم لهم نفسه, أي ذاته, كحقيقة دائمة حية، كغاية لكل شيء، فهو باق لهم، وان ذهب إلى الآب فسيأتى, وفي ذهابه ومجيئه يكون قد عبد الطريق لهم في ذاته، وأنه هو باقي لهم بذاته وبجسده ودمه، مصدر الحق لاستعلان كل حقأثق الله في ذاته, وهو أيضاً باق لهم ينبوع الحياة الأبدية التي تسري لهم من ذاته فلا يخافوا من الموت.
«ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي»: الأن قد استعلن لهم أن الله هو آب وابن معأ، فأصبح من البين والواضح أن القصد الأساسي للاستعلان الذي جاء في ملء الزمان, بواسطة تجسد الابن وظهوره، هو وصول الله للانسان، ثم وصول الإنسان إلى الآب. هذا أكمله الابن بتجسده أولاً، ثم بموته وقيامته وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب. فهي عملية أكملها الابن في ذاته حسب مشورة الآب، ليُصالح العالم لنفسه بواسطة المسيح، فأصبح الوصول إلى الآب في المسيح وبواسطته حقيقة إلهية وبشرية فى آن واحده يتحتم الإيمان بها وقبولها. كما أصبح الدخول إلى الآب هو من داخل الحياة الأبدية التي في المسيح والتي يتحتم الإيمان بها وقبولها. كما أصبح واضحاً أنه من المستيل الوصول إلى الله بدون المسيح، لأن الله «آب وابن»، إذن: «كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً» (1يو23:2)، حتماً وبالضرورة، لأن الآب لا يوجد ولا يُرى إلا بالابن وفيه.
وهكذا يقرر المسيح أن: «ليس أحد يأتي إل الآب إلا بي». وواضح أن الطريق الذي اتحذه الله بواسطة المسيح» ليبلغ به الإنسان إلى الحقيقة الإلهية والحياة الأبدية معه كان:
أولاً: نزل باللاهوت إلى الطبيعة البشرية في ذاته بسر إلهي لا يُنطق به.
ثئانياً: استعلن هذا السر منظوراً ومحسوساً ومدركاً في ذاته بالقول والعمل, ليوصله إلى كل إنسان «كحق».
ثالثاً: ثم سكب حياته بموته, ليمنحها لكل من يتقبلها بالسر وبالروح القدس، ليحيا في الله الى الأبد.
هذه الثلاث الخطوات يقدمها السيح لتلاميذه وللعالم في ثلاث عمليات أو ثلاثة أعمال روحية:
أولاً: الإيمان بابن الله آتياً إلى العالم بالجسد.
ثانيا: قبول حقيقة استعلان سر الله الآب في المسيح.
ثالثا: قبول حياة المسيح المنسكبة بالموت والمستعلنة بالقيامة والممنوحة بالروح القدس في السر.
هذه الثلائة أعمال الروحية هي المعبر عنها: «أنا هو الطريق والحق والحياة»، والمشروحة باختصار في قوله: «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي».
7:14- لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ.
مراجعة وعتاب لا بد منهما. كم سنة وأنا معكم أعلن لكم نفسي «أنا هو» وآستعلن في ذلك أبي أيضاً؟ كم من الإعلانات قدمتها لكم عن من هو انا ومن هو أبي؟ ثم كم من الآيات والمعجزات الكاشفة, الواحدة تلو الأخرى والواحدة أوضح من الأخرى، لتدركوا رسالتي وتدركوا من آرسلني؟ والآن تسألونني عن أين أنا ذاهب؟ وتسألونني عن الطريق التي تذهبون أنتم فيها ورائي.
لقد لخص القديس يوحنا في مقدمة إنجيله رسالة الابن الكلمة المتجسد في آية واحدة: «الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يو18:1), لقد استعلن الابن ظاهراً في الجسد، ليعلن الآب غير المرئي، ليكون منظوراً فيه؛ وهذا ما أوضحه سفر العبرانيين بقوله: «الله… كلمنا… في ابنه… الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي, وهوبهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته, بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرأ أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم» (عب1:1-4), «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14)، لأن الابن والآب واحد، فإن نظر الواحد (بالروح) نظر الآخر، وان عرف الواحد (بالروح) عرف الآخر. الابن والآب ذات واحدة, إن قال الابن: «أنا هو الكائن بذاتى, كان الآب هو المتكلم بفم الابن, لأن هذا هو اسم الآب, وكان الابن متكلماً باسم الآب. إن صنع الابن آية، فهي مشيئة الآب مُعلنة. وان أجرى الابن قوات، فهي قوة الآب مُعلنة. وإن رأيتموني مصلوباً، فهذه وصية الآب مُطاعة، وإن رأيتموني أسلم الروح، ففي يد الآب أستودعها، ومن يده آخذها. وموتي هو موتكم أموته لأجلكم لاحييكم بقيامتي. حياتي هي بالآب، وفي الآب قائمة، حياتي أعطيكم، فاعطيكم الآب الذي في، أنا أظهرت ثبوتي في الآب بتكميل وصيته حتى الموت، فإن ثبتم في وصيتي حتى الموت ثبتم في، وثبتم في أبي أيضاً. لقد عرفتكم نفسي بحياتي، وعرفتكم حياتي بموتي، وعرفتكم أبي الذي يعمل فىّ.
«ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه»: «من الآن» هنا، تعني «من هذه الساعة»، ساعة المحنة العظمى التي تُكمل فيها كل مشيئة الآب وكل طاعة الابن، فتستعلن رسالة الحب الآبوي في قمة بذلها، ورسالة حب الابن في قمة طاعتها وسحقها. والرائي يرى الآب من خلال تكميل عمل حبه الفائق في ابنه من نحونا, سواء بالصليب أو بالقيامة: «لا أزال شاكرا لأجلكم، ذاكراً إياكم في صلواتي، كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد وروح الحكمة والإعلان في معرفته, مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا (لتروا) ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدررته الفائقة نحوناء نحن المؤمنين, حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح, إذ أقامه من الأموات, وأجلسه عن يمينه في السماويات.» (أف16:1-20)
وليلاحظ القارىء أن كلمة «تعرفونه» هنا: «من الآن تعرفونه» تأتي في زمن المضارع القابل للامتداد, كما يوحي اللفظ اليوناني ( ) أي من ساعة الآلام هذه التي تبلغ شدتها بالموت, وقوتها بالقيامة، واستعلان كل ذلك يوم الخمسين, ولكن الألام عند المسيح, وفي إتجيل القديس يوحنا، هي هي المجد بعينه، والمجد في قمة استعلانه، حيث تُرى المحبة متجلية بدمها، ومسرة الآب تحيطها من كل جانب: «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم» (إش10:53)، «الآن تمجد ابن الإنسان, وتمجد الله فيه» (يو31:13).
إن أعظم استعلان للآب حققه المسيح، هو بتكميل مشيئته في قبوله للموت, إذ من هذا المنطلق تفجرت «الحياة الأبدية» من دمه المسفوك, والتي فيها اُستعلن الآب: «وهذه هي الحياة الأبدية, يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض, العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته … أنا أظهرت اسمك للناس … وعرفتهم اسمك وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذي أحببتي به، وأكون أنا فيهم» (يو 17)
فالآب غير مُدرك ولا منظور، استطاع الابن أن يعلنه في نفسه ويعرف العالم به قولاً وعملاً، إنما فقط للذين آمنوا وقبلوا الابن. لأن الآب لا يُدرك ولا يُرى قط إلا في الابن (أي في البنوة التي له): «ليس أحد يعرف من هو الابن، إلا الآب ولا من هوا لآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له.» (لو22:10)
وفي لحظات تجلي الابن، التي انفعل لها التلاميذ مراراً وتكراراً وصرخوا وشهدوا أنه هو ابن الله الحي، لفت المسيح نظرهم: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك, لكن أبي الذي في السموات» (مت17:16)
أي أن بتجلي الابن، كان الآب يتجلى للتلاميذ من خلال الرؤية الإيمانية الروحية: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14). على أن معرفة الآب لم تكتمل للتلاميذ إلآ بعد الصعود وحلول الروح القدس، الذي استعلن لهم سر الابن والآب، استعلانأ هو الرؤيا بعينها. لذلك نسمع القديس يوحنا يفتخر بمعرفة الآب التي سلمها للأبناء: «أكتب إليكم أيها الأحداث, لأنكم قد غلبتم الشرير، أكتب إليكم أيها الأولاد لأنكم قد عرفتم الآب» (1يو13:2)، حيث تقع معرفة الآب عملياً عند القديس يوحنا على التوازي مع غلبة الشرير، رافعاً أمام أولاده بعد ذلك المضادة العظمى بين محبة العالم ومحبة الآب:«إن أحب أحد العالم» فليست فيه محبة الآب» (ايو15:2)؟ بمعنى أن معرفة الآب, يكون صدق وجودها من واقع فعلها المنحصر في بغضة شهوة الأشياء الزائلة التي في هذا العالم. والقديس بولس الرسول يعطي نفسه نموذجاً: «… قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم.» (غل14:4)
ويا قارئي العزيز، إن الذي يذوق صليب المسيح من داخل بغضة واضطهاد العالم له، وبغضته هو للعالم واحتقاره لأباطيله, يدرك عملياً معنى معرفة الآب بل وتستعلن له، بل وتنسكب فيه محبته.
لذلك، فقول المسيح: «ومن الآن تعرفونه»، أي من ساعة الصليب، قول صادق يحمل سر نصرة المسيح في معركته مع العالم: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء»؛ «ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو30:14, 33:16)، لأنه حيما اكتملت وصية الآب بالموت، وجب كذلك أستعلان شخصه.
كذلك يلزم، للغاية، أن ندرك كم كانت «معرفة الآب» رسالة هامة جداً عند المسيح، بل وكأعز ما جاء ليعلنه ويسلمه للتلاميذ, وبالتالي للعالم كله, وعلينا أن نتمعن في قوله عن ذلك:
«وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ (معرفة الآب) عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابن إِلاَّ الآبُ وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابن وَمَنْ أَرَادَ الابن أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَه (شخص الآب فى صورة المسيح). لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (الله) وَلَمْ يَنْظُرُوا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (صوت الآب) وَلَمْ يَسْمَعُوا».» (لو21:10-24)
ولم يدرك التلاميذ معنى هذه الطوبى وقيمتها العظمى، إلا بعد أن حل عليهم الروح القدس وعرفهم سر الآب في الابن: «وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو3:1)
على أنه يتبقى أمامنا استجلاء إضافي لمعنى «ومن الآن تعرفونه، وقد رأيتموه»، فإن كنا قد رأينا أن الذي استطاع أن يؤمن حقاً بالمسيح ويحبه في ذاته، يكون قد رأى فعلاً الآب، لأن المسيح هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور:« الله ظهر في الجسد» (1تي16:3)؛ كذلك، والعكس أيضاً صحيح، فإن كل من بلغ الإيمان الحقيقي بالله وأحبه من كل قلبه بإخلاص العبادة والتقوى، فإنه حتماً سيكشف له الآب عن المسيح أنه هو صورته الخاصة ورسم جوهره.
لذلك، فالذين رفضوا المسيح يكونون قد برهنوا عملياً أن ليس لهم إيمان حقيقي كامل بالله، ولا محبة صادقة أو تقوى مخلصة، وإلا كيف يرفضون وينبذون صورة من أحبوه وآمنوا به؟
أما التلاميذ فيقول لهم الرب: «من الآن»، أي من خلال الصليب والقيامة، سيبلغون حتماً إلى الإيمان الصحيح بالمسيح أنه فعلاً ابن الله، وبالتالي سيستعلن لهم الآب في المسيح على أساس إيمانهم الصادق بالله، لهذا بدأ المسيح قوله بهذه الحقيقة: «أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي».
وفي موضع قادم سينعي المسيح إيمان اليهود الكاذب بالله، مؤكداً أنه بسبب عدم إيمانهم الحقيقي أو الصادق بالله أخطأوا معرفة المسيح، وعثروا فيه، وأبغضوه: «الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً … وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي … إنهم أبغضوني بلا سبب.» (يو23:15-25).
كما أنه في موضع سابق أراد المسيح أن يؤكد لسامعيه, أنه جاء حاملاً كل ملامح من أرسله قولاً وعملاً، واسماً وروحاً، ومشيئة وحباً, لذلك فإنه يصبح من تحصيل الحاصل أن الذي يراه يكون قد رأى من أرسله بالفعل وبالصدق: «الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني. والذي يراني، يرى الذي أرسلني» (يو44:12-45). وهكذا يتضح أمامنا الآن بكل جلاء قوله عن الآب: «من الأن تعرفونه وقد رأيتموه».
7:14- لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ.
مراجعة وعتاب لا بد منهما. كم سنة وأنا معكم أعلن لكم نفسي «أنا هو» وآستعلن في ذلك أبي أيضاً؟ كم من الإعلانات قدمتها لكم عن من هو انا ومن هو أبي؟ ثم كم من الآيات والمعجزات الكاشفة, الواحدة تلو الأخرى والواحدة أوضح من الأخرى، لتدركوا رسالتي وتدركوا من آرسلني؟ والآن تسألونني عن أين أنا ذاهب؟ وتسألونني عن الطريق التي تذهبون أنتم فيها ورائي.
لقد لخص القديس يوحنا في مقدمة إنجيله رسالة الابن الكلمة المتجسد في آية واحدة: «الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يو18:1), لقد استعلن الابن ظاهراً في الجسد، ليعلن الآب غير المرئي، ليكون منظوراً فيه؛ وهذا ما أوضحه سفر العبرانيين بقوله: «الله… كلمنا… في ابنه… الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي, وهوبهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته, بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرأ أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم» (عب1:1-4), «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14)، لأن الابن والآب واحد، فإن نظر الواحد (بالروح) نظر الآخر، وان عرف الواحد (بالروح) عرف الآخر. الابن والآب ذات واحدة, إن قال الابن: «أنا هو الكائن بذاتى, كان الآب هو المتكلم بفم الابن, لأن هذا هو اسم الآب, وكان الابن متكلماً باسم الآب. إن صنع الابن آية، فهي مشيئة الآب مُعلنة. وان أجرى الابن قوات، فهي قوة الآب مُعلنة. وإن رأيتموني مصلوباً، فهذه وصية الآب مُطاعة، وإن رأيتموني أسلم الروح، ففي يد الآب أستودعها، ومن يده آخذها. وموتي هو موتكم أموته لأجلكم لاحييكم بقيامتي. حياتي هي بالآب، وفي الآب قائمة، حياتي أعطيكم، فاعطيكم الآب الذي في، أنا أظهرت ثبوتي في الآب بتكميل وصيته حتى الموت، فإن ثبتم في وصيتي حتى الموت ثبتم في، وثبتم في أبي أيضاً. لقد عرفتكم نفسي بحياتي، وعرفتكم حياتي بموتي، وعرفتكم أبي الذي يعمل فىّ.
«ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه»: «من الآن» هنا، تعني «من هذه الساعة»، ساعة المحنة العظمى التي تُكمل فيها كل مشيئة الآب وكل طاعة الابن، فتستعلن رسالة الحب الآبوي في قمة بذلها، ورسالة حب الابن في قمة طاعتها وسحقها. والرائي يرى الآب من خلال تكميل عمل حبه الفائق في ابنه من نحونا, سواء بالصليب أو بالقيامة: «لا أزال شاكرا لأجلكم، ذاكراً إياكم في صلواتي، كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد وروح الحكمة والإعلان في معرفته, مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا (لتروا) ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدررته الفائقة نحوناء نحن المؤمنين, حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح, إذ أقامه من الأموات, وأجلسه عن يمينه في السماويات.» (أف16:1-20)
وليلاحظ القارىء أن كلمة «تعرفونه» هنا: «من الآن تعرفونه» تأتي في زمن المضارع القابل للامتداد, كما يوحي اللفظ اليوناني ( ) أي من ساعة الآلام هذه التي تبلغ شدتها بالموت, وقوتها بالقيامة، واستعلان كل ذلك يوم الخمسين, ولكن الألام عند المسيح, وفي إتجيل القديس يوحنا، هي هي المجد بعينه، والمجد في قمة استعلانه، حيث تُرى المحبة متجلية بدمها، ومسرة الآب تحيطها من كل جانب: «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم» (إش10:53)، «الآن تمجد ابن الإنسان, وتمجد الله فيه» (يو31:13).
إن أعظم استعلان للآب حققه المسيح، هو بتكميل مشيئته في قبوله للموت, إذ من هذا المنطلق تفجرت «الحياة الأبدية» من دمه المسفوك, والتي فيها اُستعلن الآب: «وهذه هي الحياة الأبدية, يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض, العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته … أنا أظهرت اسمك للناس … وعرفتهم اسمك وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذي أحببتي به، وأكون أنا فيهم» (يو 17)
فالآب غير مُدرك ولا منظور، استطاع الابن أن يعلنه في نفسه ويعرف العالم به قولاً وعملاً، إنما فقط للذين آمنوا وقبلوا الابن. لأن الآب لا يُدرك ولا يُرى قط إلا في الابن (أي في البنوة التي له): «ليس أحد يعرف من هو الابن، إلا الآب ولا من هوا لآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له.» (لو22:10)
وفي لحظات تجلي الابن، التي انفعل لها التلاميذ مراراً وتكراراً وصرخوا وشهدوا أنه هو ابن الله الحي، لفت المسيح نظرهم: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك, لكن أبي الذي في السموات» (مت17:16)
أي أن بتجلي الابن، كان الآب يتجلى للتلاميذ من خلال الرؤية الإيمانية الروحية: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14). على أن معرفة الآب لم تكتمل للتلاميذ إلآ بعد الصعود وحلول الروح القدس، الذي استعلن لهم سر الابن والآب، استعلانأ هو الرؤيا بعينها. لذلك نسمع القديس يوحنا يفتخر بمعرفة الآب التي سلمها للأبناء: «أكتب إليكم أيها الأحداث, لأنكم قد غلبتم الشرير، أكتب إليكم أيها الأولاد لأنكم قد عرفتم الآب» (1يو13:2)، حيث تقع معرفة الآب عملياً عند القديس يوحنا على التوازي مع غلبة الشرير، رافعاً أمام أولاده بعد ذلك المضادة العظمى بين محبة العالم ومحبة الآب:«إن أحب أحد العالم» فليست فيه محبة الآب» (ايو15:2)؟ بمعنى أن معرفة الآب, يكون صدق وجودها من واقع فعلها المنحصر في بغضة شهوة الأشياء الزائلة التي في هذا العالم. والقديس بولس الرسول يعطي نفسه نموذجاً: «… قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم.» (غل14:4)
ويا قارئي العزيز، إن الذي يذوق صليب المسيح من داخل بغضة واضطهاد العالم له، وبغضته هو للعالم واحتقاره لأباطيله, يدرك عملياً معنى معرفة الآب بل وتستعلن له، بل وتنسكب فيه محبته.
لذلك، فقول المسيح: «ومن الآن تعرفونه»، أي من ساعة الصليب، قول صادق يحمل سر نصرة المسيح في معركته مع العالم: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء»؛ «ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو30:14, 33:16)، لأنه حيما اكتملت وصية الآب بالموت، وجب كذلك أستعلان شخصه.
كذلك يلزم، للغاية، أن ندرك كم كانت «معرفة الآب» رسالة هامة جداً عند المسيح، بل وكأعز ما جاء ليعلنه ويسلمه للتلاميذ, وبالتالي للعالم كله, وعلينا أن نتمعن في قوله عن ذلك:
«وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ (معرفة الآب) عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابن إِلاَّ الآبُ وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابن وَمَنْ أَرَادَ الابن أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». وَالْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَه (شخص الآب فى صورة المسيح). لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (الله) وَلَمْ يَنْظُرُوا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (صوت الآب) وَلَمْ يَسْمَعُوا».» (لو21:10-24)
ولم يدرك التلاميذ معنى هذه الطوبى وقيمتها العظمى، إلا بعد أن حل عليهم الروح القدس وعرفهم سر الآب في الابن: «وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو3:1)
على أنه يتبقى أمامنا استجلاء إضافي لمعنى «ومن الآن تعرفونه، وقد رأيتموه»، فإن كنا قد رأينا أن الذي استطاع أن يؤمن حقاً بالمسيح ويحبه في ذاته، يكون قد رأى فعلاً الآب، لأن المسيح هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور:« الله ظهر في الجسد» (1تي16:3)؛ كذلك، والعكس أيضاً صحيح، فإن كل من بلغ الإيمان الحقيقي بالله وأحبه من كل قلبه بإخلاص العبادة والتقوى، فإنه حتماً سيكشف له الآب عن المسيح أنه هو صورته الخاصة ورسم جوهره.
لذلك، فالذين رفضوا المسيح يكونون قد برهنوا عملياً أن ليس لهم إيمان حقيقي كامل بالله، ولا محبة صادقة أو تقوى مخلصة، وإلا كيف يرفضون وينبذون صورة من أحبوه وآمنوا به؟
أما التلاميذ فيقول لهم الرب: «من الآن»، أي من خلال الصليب والقيامة، سيبلغون حتماً إلى الإيمان الصحيح بالمسيح أنه فعلاً ابن الله، وبالتالي سيستعلن لهم الآب في المسيح على أساس إيمانهم الصادق بالله، لهذا بدأ المسيح قوله بهذه الحقيقة: «أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي».
وفي موضع قادم سينعي المسيح إيمان اليهود الكاذب بالله، مؤكداً أنه بسبب عدم إيمانهم الحقيقي أو الصادق بالله أخطأوا معرفة المسيح، وعثروا فيه، وأبغضوه: «الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً … وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي … إنهم أبغضوني بلا سبب.» (يو23:15-25).
كما أنه في موضع سابق أراد المسيح أن يؤكد لسامعيه, أنه جاء حاملاً كل ملامح من أرسله قولاً وعملاً، واسماً وروحاً، ومشيئة وحباً, لذلك فإنه يصبح من تحصيل الحاصل أن الذي يراه يكون قد رأى من أرسله بالفعل وبالصدق: «الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني. والذي يراني، يرى الذي أرسلني» (يو44:12-45). وهكذا يتضح أمامنا الآن بكل جلاء قوله عن الآب: «من الأن تعرفونه وقد رأيتموه».
8:14- قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «يَا سَيِّدُ أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا».
سؤال حسي, يخرج بالذهن، أو ينم عن ذهن, خارج دائرة اللاهوت كلية, فيلبس يريد أن يرى بعينيه اللامحدود والمطلق، كطفل يحاول ان يقيس الاوقيانوس (المحيط) بمسطرة, او يجمع الرياح في كفه. لقد تهيأ له أن يرى المسيح بالعين وهو الابن، إذن فالآب قد يُرى على هذا القياس, غير مدرك أن تجسد الابن هو الذي وفر للعين أن تراه جسديأ فقط، ورؤية العين لا توفر رؤيا اللاهوت قط. وهذا يعني أن فيلبس لم ير المسيح قط ، ولم يعرفه بعد.
فالله لم يره أحد قط (يو18:1). وان كان الله قد ظهرفي الجسد فهو ظهور بسر الإيمان وليس بالعيان؛ أما الجسد فوعاء حل فيه كل مل ء اللاهوت جسدياً، «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا» (يو16:1). الجسد يُرى ويُسمع ويُلمس بالحواس, واللاهوت فيه لا يُرى ولا يُحس إلا بالروح. فاته أخذ جسد إنسان ليتكلم مع الإنسان بالكلمة، والكلمة هي أيضاً منطوقة جسدياً, فالجسد للكلمة وعاء، ومن داخل وعاء الصوت المسموع والمحدود يسكن اللاهوت بكل ملئه الفعال، وهو الذي لا تسعه السموات والأرض.
فإذا أخذت كلمة المسيح جسدياً، فلن تسمع إلا مجرد صوت إنسان نعرف أباه وأمه (يو42:6) )، وإخوته وأخوانه أليسوا جميعاً عندنا (مت55:13-56)؟… ولكن إذا سكنت « الكلمة» قلب الإنسان بغنى اللاهوت الذي فيها, احتضن الإنسان الله وأدرك أبعاده التي لا تُدرك ولا تُحد: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا كلمتي (أي اللوغس)» (يو43:8). هنا سمع الكلمة، هو تقبل حقيقة المسيح، بمعنى انفتاح الوعي المسيحي لتقبل الله: «وتعرفون محبة الله الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3).
الله لاهوت، لاهوت خالص، ليس له جسد ولا وعاء يظهر فيه أو يتكلم منه. ولكن من أجل هذا، تجسد الابن، فصار وعاؤه يتكلم فيه الله الآب ويعمل. جسد الابن يُظهر الابن للعين جسداً فقط؛ ولكن إذا تكلم الابن أو عمل، يظهر فيه الله الآب غير المنظور المتكلم والعامل في الابن وبه.
فيلبس أخفق تماماً فى أن يرى الآب المتكلم والعامل بالابن وفيه، هذه السنين كلها!! وبكل صراحة، فإن فيلبس لم ير اللاهوت في الابن، وإلا لكان رأى الآب حتماً؛ لهذا فإن سؤال فيلبس أحزن قلب المسيح، وجعله ينظر إلى تعب السنين هذه وكأنها بلا فائدة …
9:14- قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟
المسيح يندهش كيف أنه لم يُستعلن بعد كما ينبغي عند التلاميذ، حتى يتعرف عليه فيلبس؟ حيث يجيء التركيز على «أنا معكم» ولم يقل المسيح «أنت معي». فالملامة التي يطرحها المسيح يطرحها على أساس احتجاب لاهوته عن فيلبس والبقية دون سبب، فلا هو يوم واحد قضاه متكلماً أو عاملاً أعمالاً لم يعملها أحد غيره قط, ولا هو شهر ولا سنة, بل ثلاث سنوات ويزيد وعن قرب شديد، وهو يستعلن الآب الذي فيه بالكلمة والعمل! ولكن إخفاق فيليس في إدراك لاهوت المسيح, وهو التعرف الصحيح على المسيح: «لم تعرفني», لم يكن نتيجة تقصير في اجتهاد فيلبس. فالاستعلان لا يأتي كثمرة للاجتهاد بل بانفتاح الذهن الروحي، الأمر الذي يتوقف أساساً على مقدار عدم ارتباط الروح بالماديات وعلى الاستعداد لفقدان الصلة بالعالم.
فحينما يتحرر الإنسان من جذب العالم، ويتحرر من الجسد والخوف من الموت، يبدأ يستعلن ما وراء العالم وما وراء الموت, وهذا الأمر قد أثبتته الأيام, بل الاعوام القليلة القادمة, أن فيلبس كان مربوطاً فعلاً بالعالم ولا يزال, بل لا يزال أيضاً يخاف من الموت، فقد ترك معلمه وهرب مع البقية ساعة المحنة، خوفا من القبض عليه والمحاكمة والعقاب: «هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي…» (يو32:16). فكيف يستقيم مثل هذا السلوك مع ذهن يفترض أنه قد استعلت لاهوت المسيح، وتعرف على حقيقة المسيح، كابن الله وكحامل للآب في كيانه؟
لذلك صح أن تجيء مراجعة المسيح لفيلبس على أساس طول الزمان الذي توفر لفيلبس, لكي يقرر وينفذ فك ربطه من العالم والجسد والخوف, كاستجابة لوعظ المسيح وارشاده وإعلانه واستعلانه، حتى يتسنى له الدخول في مجال الروح والإلهيات، فيدرك حقيقة المسيح، وتنفك من أمام ذهنه رموز استعلان الآب في المسيح، وهو ما كان شغل المسيح الشاغل.
يستحيل لأي إنسان أن يتعرف عى المسيح كإله, ومعرفة الإلهيات أخذ واشتراك, أو يستعلن له لاهوته ووحدته مع الآب, والاستعلان بصيرة من الله، والإنسان لا يزال منجذباً نحو محبة العالم، لأن: «محبة العالم عداوة لله» (يع4:4)، أي بعد ورفض .
«الذي رآني, فقد رأى الآب, فكيف تقول أنت أرنا الآب»: هنا حقيقة صارخة مفضوحة، وهي أن فيلبس لم ير المسيح بعد. هنا عتاب آخر لا يخلو من الملامة، وهو لفت نظر حزين إلى حقيقة مقطوع بها ما كان ينبغي أن تفوت على فيلبس وهي: أن الآب منظور في الابن بالنظرة الروحية العميقة. فحياة المسيح كلها استقلان للآب فيه, فإن كان فيلبس يطلب رؤية الآب، فعليه أن يعيد النظر في رؤية المسيح، لأن كل رسالة المسيح قولاً وعملاً، هي لاستعلان الآب الذي فيه.
10:14- أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ.
هنا دعنا نترك موضوع الرؤيا جانباً، ونعود إلى الإيمان من حيث كونه حقائق الله في الحياة مع الإنسان، والتي أعلنها المسيح مراراً وتكراراً، وهي أن المسيح، كابن، كيانه هو في كيان الآب، ويظل قائمأ فيه، وغير مفصل منه، لأنهما كيان واحد، ذات واحدة: «أنا والآب واحد» (يو30:10). أما الجسد الذي أخذه الابن لذاته ووحده بلاهوته، فقد دخل في هذا الكيان دخولاً أبدياً متميزاً، كإنسان في ابن الله، فشملته وحدة الابن بالآب بالضرورة. وهكذا صار المسيح فى آن واحد يٌعبر عنه بـ «ابن الإنسان, الذي هو على الأرض, الذي هو في السماء» (يو13:3)، بل وإنه، وهو متجسد، بقي كما كان في حضن الآب، كأعظم تعبير عاطفي من الكيان المتحد، أو وحدة الكيان للمسيح في الآب والآب في المسيح: «الابن الوحيد، الذي هو في حضن الآب، هو خبر.» (يو18:1)
هنا يلزم العقل البشري أن يرتفع فوق القصور المادى للأمور، لأننا الآن نتكلم عن طبيعة الله التي ليست من طبيعة الماديات، ولكننا مرغمون، أو بالأصح، مُصرح لنا أن نتكلم كبشر عن ما هو للمسيح بسبب الجسد الذي أخذه منا وكيف وحده بذاته الإلهية.
أما في الماديات، فلا يوجد قط هذا التصور الذي نتصور به تساوي شيئين أو شخصين تساويا مطلقا أى تساوياً كلياً، لأن المطلقات أو الكليات هي صفة ما فوق الطبيعة، وبالتحديد هي صفة الله. فالله مُدرك كامل يُدرك، ولكن لا يُدرك كماله.
والحقيقة العظمى المطروحة للادراك بالنسبة للانسان، هي الابوة والبنوة في الله «الذي يراني يرى الذق أرسلني» (يو45:12)؛ وصفة الابن صفة مطلقة وكلية في الله، لأنها من صميم جوهره وطبيعته، والآب كذلك صفة مطلقة وكيلة في ذات الله, لذلك، فبسهولة غاية السهولة، نقول إنهما واحد، لأن جوهرهما واحد وذاتهما واحدة، أى متحدان كلية الاتحاد عل وجه الإطلاق الإلهي، فهما واحد. هذا سهل الإدراك فيما نحن نتكلم عن الله، ولكن تصوره مادياً يكون عسيراً غاية العسر، بل تعترضه الاستحالة، لأنه لا يوجد في الخليقة كلها أو في المخلوقات عامة ما يناظر هذا التساوى. لأن جوهر المخلوقات، عموماً وبلا استثناء قط، مركب، أما جوهر الله فبسيط لا ينقسم قط، وذات الله كاملة أزلية.
لذلك لا يلجأ المسيح في شرح وحدته مع الآب إلى التشبيه، ولا إلى أسلوب التعليم، ولا يستحث الفهم البشرق ليدرك هذه الحقيقة الإلهية، ولكنه يلجأ إلى الايمان، وهو التصديق على حقائق ليست أصلاً من اختصاص العقل وليست من اختصاص طبيعة الإنسان، ولكن مجرد التصديق عليها يرفع مخصصات الذهن فوق طبيعته ليدخل بالروح أو بالنعمة الموهوبة إليه والمضافة عليه إلى مجال الإلهيات ليتقبل معرفة حقائق الله. وتقبل حقائق الله والتصديق عليها, وهو المعبر عنه بالإيمان، يعطي الإنسان شركة فيها. لأن إدراك الله بالتصديق والإيمان لا يمكن فصله عن طبيعة الله، حتى يصبح معلومة قائمة بذاتها؛ هذا مستحيل.
فمعرفة الله بالايمان هي دخول إلى الله مُصرح به، والدخول في طبيعة الله هو أخذ وشركة وامتلاك، وهذه هي نعمة الله في عطاء ذاته المجاني. هذا العمق، أدركه الآباء العظماء اللاهوتيون الأوائل، فقالوا باختصار إن اللاهوتي هو من دخل إلى الله وخرج وخبّر.
والمسيح، بقوله لفيلبس: «ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في؟»، وهو سؤال يستنكر النفي، يستحثه أن يخرج من دائرة الجهالة ليدخل إلى دائرة معرفة طبيعة الله، يدخلها بسهولة الإيمان، بتصديق كلمة الله. المسيح يأخذ يد فيلبس، أو بالأصح، يأخذ بيد عقله ليدخل إلى دائرة ما فوق العقل ليتقبل بالإيمان، ليس مجرد معرفة حقيقة الابن في الآب والآب في الابن، بل يتقبل معرفة أخذ واستيعاب ليتبرر بها ويحياها أو يحيا بها، إنها هي الحق، بل هي روح الحياة: «من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو في الله» (ايو15:4). هذا هو الدخول بالإيمان إلى طبيعة الله، والثبوت فيها!!
+ «من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (1يو5:5). هذا هو الخروج من طبيعة العالم والمادة، الذي يؤهل للدخول إلى طبيعة الله، حيث الغلبة هنا هي العبور المنتصر فوق العالم.
+ «من له الابن (بالإيمان)، فله الحياة (في الله). ومن ليس له ابن الله، فليست له الحياة» (1يو12:5)، هذا الامتلاك للحياة الأبدية هو بالدخول بالإيمان إلى حقيقة طبيعة الله، وذلك بإدراك حقيقة ابن الله:
+ «الذي يؤمن بالابن (دخل بالإيمان في طبيعة الله)، له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالابن (لم يدخل إلى معرفة حقيقة الله)، لن يرى حياة، بل يمكث (في الطبيعة البشرية الساقطة) عليه غضب الله» (يو36:3). هذا هو الفارق الهائل بين البقاء في محيط العقل المادي، وبين تجاوزه بالإيمان، لإدراك ما هو ليس من طبيعة الماديات. وهو نفس الفرق بين الموت والحياة، بين البقاء في الخطية تحت الغضب الإلهي والدخول إلى نعمة الله، وهذا هو قيمة الإيمان وعمله .
«الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي, لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال»: هذا ما يعبر عنه سفر العبرانيين بقوله: «الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه…» (عب1:1-2)
فالله كلمنا في المسيح, لم يكن الكلام الذي تكلم به المسيح كلاماً بشرياً بل هو كلام الله، لذلك وصفه المسيح أن: «الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6), وأن من يسمعه يحيا ولو كان ميتاً (يو24:5 و 28 و 29)، لأن الكلام يحمل طبيعة الله الحية والمحيية. فكلام المسيح فعل نافذ المفعول, لا يرتد فارغاً (إش11:55)، ولعازر يشهد على ذلك.
ويلاحظ أن المسيح يقدم برهان وحدة كيانه في الآب والآب فيه على مستويين، الأول: الكلام، والثاني: الأعمال، وواضح أن الرب يهدف بهما إلى تحديد شخص الآب الحال فيه على مستوى الفكر والقوة, وهو تغطية كاملة لوجود الآب كأقنوم إلهي فعال. فكان كلام المسيح بمثابة استعلان لصفات الآب جميعاً، كما كانت أعمال المسيح استعلاناً لسلطان الآب ومشيئته من نحو الإنسان. فكان الآب يهدف بكلامه، بفم المسيح، إلى مخاطبة ذهن الإنسان، لإنارة بصيرته بقوة الروح القدس في كلمته ولفتح آفاق رؤيته الروحية، ليدخل الإنسان أكثر في أعماق معرفة الآب ليعده للحياة معه بواسطة المسيح. كما كان الآب يهدف من وراء أعماله الإعجازية التي كانت كآيات تشير إلى شخصه العامل والفعال، إلى توصيل «الفعل» الإلهي الناطق إلى الطبيعة، لكي يبدأ يأخذ عمله في طبيعة الإنسان العاجزة, ليرفعها إلى مستوى خليقة أخرى جديدة ومنيرة.
فمعجزة تحويل الماء إلى خمر تحوي سر التحول من طبيعة ميتة إلى طبيعة حية؛ ومعجزة شفاء المقعد المشلول بعد 38 سنة تحوي سر تصحيح ما فسد في الطبيعة العتيقة، ورفعها إلى مستوى الصحة؛ ومعجزة تفتيح الأعمى المولود هكذا من بطن أمه تحوي سر عمل النور الإلهي في الطبيعة العتيقة المظلمة لتأخذ النور والاستنارة؛ ومعجزة إقامة الميت بعد أن أنتن تحوي سر القيامة الجديدة للانسان للحياة الأبدية.
وهكذا كانت أعمال المسيح هي استعلاناً لمشيئة الآب بخصوص القوة الإلهية، التي قصد أن يبثها في طبيعة الإنسان، ليؤهله للحياة الأفضل، أي الروحية.
وبكلام أكثر وضوحاً, كان الآب العامل والمتكلم في المسيح قد بدأ خطته العظمى في تجديد طبيعة الإنسان وصياغة ذهن جديد فيه، منذ أن بدأ المسيح يكرز للانسان بملكوت الله. وكان المسيح يقدم نفسه للناس دائماً كالمثل الأعلى للانسان الجديد, الذي يسمع الآب ويطيع, ولكن كانت طاعة المسيح بصورة ممتازة, إذ كانت طاعة المثيل للمثيل!!
ولا ينبغي أن يفوتنا أبداً أن الآب أرسل ابنه متجسدا ليتكلم فيه معنا، ولنسمع بآذاننا صوت الآب غير المسموع الذي انحجب عنا كل الأزمنة السابقة، أزمنة تغرب الإنسان على الأرض.
فالمسيح عاد بالإنسان إلى جنة عدن الجديدة, فردوس الله الروحي، حيث اجتمعنا فيه مع الآب مرة أخرى، في شخص ابنه, وسمعنا صوت تعزيته وانسكبت علينا محبته ونعمته، عوض اللعنة القديمة.
لذلك، ينبهنا المسيح دائماً أبداً: «الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال».
11:14- صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا.
يلتجىء المسيح إلى شهادة نفسه لنفسه, حينها يتحدث إلى أخصائه، معتمداً على ما سبق وقاله: «وان كنت أشهد لنفسي، فشهادتي حق» (يو14:8), وهذا يعتبر بالنسبة لنا تنازلاً ما بعده تنازل. فإلحاح الرب على توصيل رسالة الآب التي تنفجر في أحشائه جعلته وكأنه يتوسل لدينا أن نقبل ما هو لحياتنا وما هو لسلامنا. إن أقصى ما يشتهيه المسيح,» وكأنه طعامه الفاخر, هو أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله. ومشيئة الآب تتركز في إسعاد البشرية وعودتها إلى الحياة مح الله، أما سعادة المسيح الخاصة جداً فتتركز فى توصيلنا إلى الآب، لنشترك فى نفس الحب الذى به يحب الآب الابن: «وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني، وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.» (يو25:17-26)
المسيح هنا انتقل من مخاطبة فيلبس إلى مخاطبة التلاميذ، فهي رسالة للجميع. وعوض أن يقول: «الحق الحق أقول لكم»، أراد هنا أن يسند هذا الحق بشهادته الخاصة, وكأنه يرهن نفسه ويجازف بكل ثقله الإلهي والبشري معاً ليرفع ما يقوله إلى مستوى الصدق المختوم بختم الله، لكي يقبلوا هذه الحقيقة الجوهرية بكل يقين، والتي يتوقف عليها كل الإيمان، بل كل الخلاص، وينتهي عندها كل غاية استعلان المسيح للآب: «أني في الآب والآب في». هذا الوجود المتبادل يجعل بالفعل كل ما للآب للابن وكل ما للابن للآب، ويستعلن, بقوة، الذات الواحدة للآب والابن؛ وهذا هو السر الأعظم للثالوث، باعتبار الروح القدس هو ثالث الأقانيم, وهو ينبثق من الآب في الابن، وهو الذي يوثق هذه الوحدة وينقلها إلى أذهاننا كحقيقة محيية!
أما إذا أخفق أي إنسان في تصديق المسيح، كشاهد صادق فيما لنفسه، فإن المسيح يعود ويتنازل عن حتمية شهادته, مشيراً إلى أعماله الفائقة للطبيعة التي عملها كآيات تشير وتحكي عن سلطان الآب الذي يعمل به المسيح وكأنه سلطانه: «… وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها».
فالأعمال تتكلم من ذاتها وتؤمن أن ما يقوله المسيح عن نفسه صدق؛ لأن ما يعمله، يشهد أن سلطانه هو من سلطان الله وعلى مستواه. أما كون الآب هو العامل بالمسيح أو أن المسيح هو العامل بالآب، فسيان, يكفي أن المسيح في الآب والآب في المسيح، فهذه حقيقة العمل ذاته.
12:14- اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي.
في الآيات السابقة (8-11) كان التركيز على العلاقة الداخلية بين الآب والابن, والآن ينتقل المسيح لتوضيح هذه العلاقة بالنسبة للتلاميذ.
وفي الآيات الأخيرة، كان التركيز على الأقوال والأعمال التي يعملها المسيح بأنها معمولة بالآب، أو أن الآب الحال في المسيح هو الذي يعمل الأعمال.
ومن هذا المنطلق، يبدأ المسيح يسلم تلاميذه هذه الحقيقة الإلهية. والحقائق الإلهية أو اللاهوتية لم يستعلنها المسيح من أجل أن يدركها العالم في ذاتها كحقائق الله وحسب, بل ولكي يحياها المؤمنون ويعملوا بها. فهنا نحن بصدد الأعمال التي يعملها المسيح، والتي هي في حقيقتها يعملها الآب الحال في المسيح، هذه الأعمال عينها أعطي للذين يؤمنون بالمسيح (وبالآب حتماً) أن يعملوها.
والنقطة الهامة في الموضوع والتي لا ينبغي أن تفوت على عقولنا، هي أن المؤمنين يعملون أعمال المسيح نفسها, ولكنهم بحسب مجرى الكلام لن يكونوا هم العاملين لهذه الأعمال, بل المسيح، بل الآب في الحقيقة وعين الأمر! أما تلك الأعمال التي كان يعملها المسيح، فقد كانت قاصرة على فترة محددة وعلى غاية محددة, محورها استعلان الآب والتمهيد لرسالة الخلاص بالصليب. أما بعد صعود المسيح إل الآب, ونواله كل سلطان مما في السماء وما على الأرض واستعادة مجده الأسنى, فالمسيح سوف يعمل حتماً فيهم وبهم هم أعمالاً أعظم, تتناسب مع طول الأجيال وضيق الأيام وشدة اضطهاد العالم، وتتناسب كذلك مح استعلان الخلاص وتكميله، ومجد المسيح العامل فيهم والحال فيهم، ومع أعوازتنا الكثيرة وطلباتنا مهما غالينا فيها: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم … لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله, والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفكر بحسب القوة التي تعمل فينا.» (أف17:3-20)
ونعود وننبه ذهن القارىء، أن ذهاب المسيح إلى الآب هو محور الحديث كله، ولسان حال الواقع, حسب موضوع الحديث والحاح الساعة، فالمسيح يعدد لتلاميذه مميزات موته وصعوده وذهابه إلى الآب، من حيث أنها ستعود عليهم بفيض من القوة الغامرة ليعملوا ما كان يعمله هو أمامهم، تلك الأمور التي أبهرتهم, بل وكيف أنهم سيعملون أعظم منها بسبب صعوده وذهابه إلى الآب. وهو في ذلك يجاهد ليرفع عنهم مسحة الحزن والكآبة والخوف من جهة, ومن جهة أخرى هو يسبق الزمن والحوادث ويكشف لهم ما سيكون، حتى إذا كان، يزدادون إيماناً وثقة وقوة، ويشعرون بحقوقهم الممنوحة لهم رسمياً حسب الوعد، ليطالبوا بها ويتمسكوا بسلطانها، لتكميل خدمة الخلاص وتمجيد المسيح والآب.
والآن، أيها القارىء العزيز, أرجو أن ألفت نظرك إلى أن هذا الوعد غير مقصور على التلاميذ، فأرجو الرجوع إلى نص الآية إذ تقرأ: «الحق الحق … من يؤمن بي (أي كل من يؤمن بي)» … فأنت مستهدف لهذه العطية الفائقة. فإن كنت تشعر بالخجل والصغر دون ألطاف الله وعظم سخائه، فلا مانع، ولكن لا تشك في صدق وعده. ثم إني أشرح لك لماذا تستكثر على نفسك أن تعمل أعمالاً أعظم مما عمل المسيح، فالسبب ينطوي على نقطتين:
الأولى: ظنك أنك أنت الذي ستعمل, وهنا أحيلك لما سبق وأوضحنا: «لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا.» (في13:2)
والثانية: أن عمل المسيح فينا يبدو، بحسب خدع البصر، غير متكافى, مع ضعفنا وهوان طبيعتنا وأخطائنا التي يحسبها علينا الضمير بإلحاح.
ولكن أنبه ضميرك, أن الرب سبق وقاس هذه المفارقة الخطيرة بين ما هو لائق لناء وما هو لائق له، بقوله في الآية السابقة أن عطاياه ستكون: «أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر»، لأنها ستكون «بحسب القوة التي تعمل فينا». فالأمر يخص المسيح أولاً وأخراً، فأمسك به، يمسك بك …
13:14 – وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابن.
هنا مزيد من التوضيح بحسب الشرح الذي قدمناه، أن المسيح هو العامل فينا. ولكنه يتمادى في رفع حدود الطلب إلى أقص تصورنا ويزيد: «مهما». وهنا يسأل سائل: هل هذا معقول أن كل ما يطرأ على فكري أو قلبي، أطلبه، فآخذه؟
هنا أيضاً الرد منبث ضمنا في «القوة التي تعمل فينا» التي تباشر التنفيذ من قبل الله. وهي لن تكون غير قوة الروح المشير والمدبر. لأن كلمة «مهما سألتم» تفيد حالة صلاة وتوسل ولجاجة، والصلاة الصحيحة الفعالة هي تحت هيمنة الروح القدس بصورة قانونية: «لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نقسه يشفع فينا بآنات لا يُنطق بها» (رو26:8). هكذا يتبين أن «مهما سألتم» تقع ضمن اختصاصات الروح القدس، الذي يقدم السؤالات بفمنا، بكل حكمة وفطنة بما يليق أن يُقدم لله الآب، ليكون السؤال حسب مشيئة الله!!
ويلاحظ أن السؤال يقدم إلى الآب باسم المسيح, والمسيح يقوم بالتنفيذ: «أنا أفعله»، والاستجابة هنا تكون أكيدة بقدر استيفاء تقديم السؤال، بحسب القوانين المعمول بها في دائرة الله، وهي كالآتي:
1- يلزم أن يكون الروح القدس هو صاحب الاستشارة والموكل إليه التدبير على طول المدى, سواء في حالة ما قبل السؤال، أو حالة السؤال، أو حالة ما بعد السؤال، بمعنى أن يكون الإنسان عائشاً في ملء تدبير الروح القدس.
2- أن يكون الروح القدس مشتركاً إشتراكاً محسوساً في تقديم السؤال، ولدى الضمير شهادة برضى الروح القدس وموافقته على كل كلمة من كلمات السؤال. وهنا إذا توفر ذلك حقاً، فإن الإنسان يحس في الحال أثناء الصلاة أن الصلاة استجيبت.
3- أن يكون السؤال مقدما للآب، كما من فم ابنه يسوع، لأن الذي يوازن سؤالنا ويزيد هو بر المسيح الشخصي.
4- أن يكون السؤال مُقدماً باسم المسيح، لأنه يستحيل أستحالة كلية أن تبلغ كلماتنا مسامع الآب إلآ بواسطة المسيح: «لأن به لنا كلينا قدوما في روح واحد إلى الآب» (أف18:2)، لأنه هو الطريق الوحيد والباب الوحيد الموصل إل الآب؛ «لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو5:15)، لأن المسيح هو الحامل لصك غفران خطايا كل إنسان وهو يتراءى أمام الله الآب «ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا» (عب24:9)، حاملاً أسماءنا المكتوبة على كفه, كل واحد باسمه, محسوباً: «برا وقداسة وفداءً» (اكو30:1)، لكل من يتقدم به إلى الله (عب25:7). وهكذا إذ نرفق اسم المسيح بسؤالنا الذي نقدمه للآب، نكوذ كمن يرفق كل وثائق الصلاحيات التي تجعل السؤال مستجاباً.
«ليتمجد الآب بالابن»: واضح من تسلل المعاني أن الاستجابة تكون من عند الآب, والتنفيذ بواسطة المسيح. وهنا يكمن سر تمجيد الآب, لأن المسيح إنما ينفذ بكل سخاء الآب وحبه, بحسب صلاحياته لدى الآب, والتي حازها لنا بالصليب، حتى إنه أصبح قادراً أن «يملأنا إلى كل ملىء الله» (أف19:3), أي أن يملأنا بالعطايا والنعم والمواهب المدخرة لنا في قلب الآب بلا حدود، والتي كانت محجوزة عنا بسبب عدم لياقتنا روحيا؛ ثم لما صار المسيح وسيطاً مؤتمناً، فك حجوزاتها، واستعلن كل سخاء الآب من نحونا: «لأن الآب نفسه يحبكم» (يو27:16)
وهكذا صار المسيح، بتنفيذه لكل استجابة ننالها من الآب من جهة سؤالاتنا، هو سبب تمجيد للآب دائماً، وسبب استعلان حبه وسخاء عطائه الذي لا يُحد. ونحن لا يمكن أن ننسى ما كرره المسيح كثيراً جداء أن الابن لا يعمل من نفسه شيئاً, أي أن أعمال المسيح التي يعملها لنا لتغطية كل أعوازنا وسؤالاتنا هي بالآب معمولة ولمجده. وبالنهاية، تكون طلباتنا وسؤالاتنا التي نطلبها هى لمجد الله! فكيف لا نطلب وكيف لا نلح في السؤال والطلبة، إن كان ذلك لحساب مجد الله؟
«إن سألتم شيئا باسمي فإني أفعله». تكرار حرفي للآية السابقة, فهل من جديد فيها؟ واضح في الآية 13 السابقة، أن عمل المسيح في الاستجابة لسؤالنا، وضعه المسيح كعمل يدخل ضمن رسالته الخاصة بالنسبة للآب: «ليتمجد الآب بالابن»، فهو يقرب من أن يكون واجباً على المسيح بالنسبة للآب، أو بتعبر أصح، عملآ وظيفياً من اختصاص الابن المتجسد نحو الآب، فهو يدخل ضمن رسالة الخلاص. وهذاء بحد ذاته أمر يسعدنا إسعاداً, إذ يجعل سؤالاتنا وطلباتنا لدى الآب عملاً يهم الآب جداً، وبالتالي يهم المسيح ويسره.
أما في الآية 14، فهو عمل يدخل في العلاقة المتوطدة بيننا وبينه. فهو بمثابة وعد خاص يضع فيه المسيح كل إمكانياته رهن سؤالنا، وأنه وإن كان ليس له هدف مباشر، إلا أنه يتضمن استعلان قدرته الفائقة بالضرورة، لذلك فهو لمجد المسيح بلا نزاع. كذلك «باسمى» تشير إلى اسم المسيح الخاص، حيث الاسم في لاهوت العهد القديم يعبر عن الشخص بكل قوته وكرامته. هذا بالإضانة لما كان يقوله المسيح ( )، الذي هو في الحقيقة اسم الهوية لله، الذي كان يعمل المسيح تحته وبقوته وفي وجوده وحلوله.
وهكذا يكون الدعاء بالاسم، أو الصلاة أو السؤال باسم المسيح، حالة تواجد شخصى للمسيح، وهو استدعاء ودخول في الحضرة الإلهية لابن الله المتجسد بكل يقين. لذلك فصراخ الكاهن: «باسم الآب والابن والروح القدس» في بداية صلاة الافخارستيا، وعلى الخبز والخمر، هو استدعاء الثالوث للحلول، كما هو أيضاً نقلة للموجودين في الهيكل للدخول في الحضرة الإلهية التي للثالوث الأقدس، فهي عملية تقديس وتجلي فى آن واحد.
وهكذا، فكأن المسيح باعطائهم حق النداء والسؤال «باسمه» يكون كمن أبقى على حضوره السري معهم في كل حين، كلما احتاجوه كمصدر قوة وعمل وعزاء. كل هذا وفره المسيح لتلاميذه ولكل المؤمين به، تعويضاً عن غيابه في المنظور الجسدي.
15:14- 16«إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ. وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأبد.
ترتيب الآيات يبرز هنا نوراً باهراً يخطف الأبصارء ويلهب القلوب: ففي الآية (12) وضع المسيح الإيمان كأساس، ثم بنى فوقه في الآية (15) برج المحبة، بارتفاع الوصايا؛ وعلى القمة, كتاج، يستقر الروح القدس ككشاف يضىء إلى أقص حدود النواحي البعيدة، إلى الأبد!
أما الإيمان, فالمسيح جعل طبيعته تُختبر بالأعمال والأسئلة الفائقة عن الحب حينما تُستجاب! (اقرأ الأعداد12-14). أما المحبة, فجعل المسيح طبيعتها تُختبر بالفضيلة المحفوظة والمصونة (15). أما بيت الروح القدس ففي القمة، أو في القلب, فيشع منه عزاء ونعيم وسرور عوض عزاء على وشك أن يفقدوه ظاهراً!
في الآية (15)، صوت الودع وبيان الموصي. فالمعلم حدد الساعة، وحديثه السابق صار كله في حكم الوصايا: وصايا الحب والتراضع والوداعة، وأمانة الراعي، وقول الحق، والصفح عن الجهالات وعدم الدينونة، حتى ولو كانت الخطية قائمة على يد شهو عيان، ومكافأة الإساءة بالصلاة، واللعنة بالبركة، والعداوة بالمحبة، وأُلفة الخدام حتى إلى غسل الأرجل لئلا تُلاة الخدمة، وعدم الجري وراء الكرامة، وأخيراً أمانة الشهادة. فإذا كان المسيح قد صادف هوى النفس وصار لها كعريس، كانت هذه الوصايا كلها وأكثر؛ وإلا عثر على النفس حتى احتمال الإساءة! … هي وصايا الروح، عوض وصايا العدو والجسد، فالروح إلى نمو، والجسد إلى زوال.
أما في الأية الثانية (16)، فيفيح منها عطر أزكى من الناردين الخالص، ولكن يتخللها رنة حزن، فهي تحمل بروتوكول وداع الأقانيم على مستوى التسليم والتسلم: فمعزى ذاهب ومعزى آت. الذاهب ذاهب ليجلس في المقدس الأعلى, ليغيب بالنظر عن أرض الإنسان؛ والآتي آت ليقيم بغير رؤيا في معية الإنسان إلى أبد الأبدين. والآب سُر بأن يستقبل (الذاهب) حاملاً روح الإنسان؛ ومبتهج بأن يرسل الآتي وهو ملء روح الله!!
أما نسبة الآية الثانية (16) إلى الآية الاولى (15), فهي علاقة حب بحب؛ فإن أحببناه أحبنا، وإن حفظنا وصاياه أرسل لنا من يذكرنا بها ويشرحها لنا، ويحفطها في قلوبنا، ويعزينا عن كل غرامة يفرضها العالم علينا بسبب الأمانة. لأن وصايا يسوع يبغضها العالم ولا يطيق من ينطقها، ويفرض عليها غرامات فادحة، فيتلقف الروح القدس هذه الغرامات عنا ويحولها براً وسلاماً …
وأخيراً نود أن نلفت نظر القارىء إلى أن الرب هنا يقصر وصيته الختامية على حفظ وصاياه الخاصة, التي تأخذ سلطانها الإلهي من فمه, ولا ذكر لوصايا سيناء وموسى والألواح التي كانت سراجاً منيرا، في سماء ليل شعب، ضاق بها وضاقت به، إلى أن انفجر نور النهار، واستعلن شمس البر ليضيء على العالم كله.
17- رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.
«روح الحق»: وأيضأ حق بحق، وحق عوضاً عن حق، كما معز عوضاً عن معز، فالمسيح كان لهم «الحق»: «أنا هو… الحق» (يو6:14). فإن كان الفم البشري الإلهي للابن المتجسد الذي ينطق بالحق سيختفي عن ناظريهم وأسماعهم، فهوذا الآب يرسل لهم «روح الحق» الذي ينطق في أفواههم وقلوبهم, ليسمعهم العالم كله!… كان الحق الذي يقوله المسيح ويعمله هو الإعلان عن الآب الكائن في الابن والحال في تجسده؛ والحق الذي يقوله ويعمله الروح فيهم وبهم يكون هو الإعلان عن الابن، واستعلان اللاهوت في تجسده، وبالتال استعلان الآب الذي في الابن والذي لا يُعرف ولا يُرى بدونه …
والقديس يوحنا يتدرج في كشف الحق الذي بالمسيح وفيه، والذي بالروح القدس وفينا، هكذ: فبالسبة للحق الذي هو المسيح يقول: «ونعلم أن ابن الله قد جاء، وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح, هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية. [«أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14).]» (ايو20:5)
وبالنسبة للحق الذي بالروح وفينا يقول: «بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فيناء أنه قد أعطانا من روحه, ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله, فالله يثبت فيه, وهو في الله.» (ايو13:4-15), «وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا» (1يو24:3).
وشرح كلام القديس يوحنا هو كالآتي بالنسبة للحق بالمسيح ثم بالروح القدس:
+ بالنسبة للمسيح: أنه فتح بصيرة التلاميذ ليعرفوا الحق من كلامه وحسب الكتب، وذلك قبل مجيء الروح القدس هكذا: «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم …حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب …» (لو44:24-45)
وهذه هي «البصرة» التي يتكلم عنها القديس يوحنا، وهي لمعرفة الحق, الذي ركزه القديس يوحنا بهذه الجملة المختصرة، والتي هي كل الحق: «هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» تماماً كما عرف المسيح نفسه لهم: «أنا هو الطريق والحق والحياة».
+ بالنسبة للروح القدس: أولاً، كانت عطية الروح القدس الاولى والعظمى أنه حل هو فيهم، وذلك باستحقاق عمل المسيح الفدائي والخلاصي، وبحلول الروح القدس فيهم تهيأ هيكلهم لقبول ألوهية المسيح، لأن الروح القدس أُرسل ليعمل لحساب المسيح، يعلنه ويعطيه، وهذا يوضحه القديس بولس غاية الوضوح: «لكي يعطيكم, بحسب غنى مجده’ ان تتأيدوا بالقوة, بروحه, في الإنسان الباطن؛ ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبكم …, لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله (حيث ملء اللاهوت: الآب والابن والروح القدس).» (أف16:3-19)
وبحلول الروح القدس والمسيح في وعي التلاميذ، الذي انتهى إلى ملء كيانهم الروحي، فإنه ينطلق ليشهد فوراً لهذا الثبوت والملء، وبالتالي، فإن هذا الثبوت وهذا الملء يصبحان شاهداً على أن الروح القدس قد أُعطي لهم، ويشهد لعملية الخلاص العظمى، أن الآب أرسل ابنه مخلصاً للعالم, ويعترف أن يسوع هو ابن الله!! هذا هو الحق الذي بالروح القدس والذي صار في التلاميذ وكل المؤمنين.
«لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ»: نحن هنا أمام مواجهة حادة بين روح الله، وهوروح الحق؛ وروح العالم، وهوروح الضلال والتزييف. لقد دخل المسيح هذه المواجهة عينها باعتباره الحق, في مقابل رئيس هذا العالم باعتباره المضل والكذاب، فكان الصليب، الذي به دخل الخلاص إلى العالم, واكتسب الإنسان حياة ما بعد الموت.. والآن، يبدأ الروح القدس عمله على أساس الصليب، وعلى نفس المواجهة وشدتها. فكما لم يقبل العالم الحق الذي في المسيح، بل أبغضه أشد البغض، ورفضه أشد الرفض, ولم يشأ أن يعرفه أبداُ هكذا: «وأما الآن، فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي … إنهم أبغضوني بلا سبب» (يو24:5-25), «ولكن ينبغي أولاً أن يتألم كثيراً، ويُرفض من هذا الجيل» (لو25:17)، «لستم تعرفونني أنا ولا أبي, لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً» (يو19:8)؛ كذلك على هذا المستوى، واجه العالم الروح القدس باعتباره روح الحق الذي يشهد لكل الحق. واجهه بعدم القبول, أي بالرفض والبغضة, أولاً ضد التلاميذ الذين يعمل فيهم الروح القدس: «إن كان العالم يبغضكم, فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته، ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم» (يو18:15-19)، «إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم … لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي, لأنهم لايعرفون الذي أرسلني» (يو20:15-21). ومن بعد التلاميذ، الكنيسة كلها وإلى نهاية الدهور.
وهكذا يتضح من كلام المسيح، أن عدم قبول العالم للروح القدس هو بسبب أنه يشهد للمسيح، والمسيح غير مقبول، لأن المسيح يشهد للحق، أي للآب، باستعلان الآب الحال فيه بالكلمة والعمل: «إنما يفعلون بكم هذا كله، من أجل اسمي.» (يو21:15)
«الاسم»: اسم ابن الله الذي رفضه، يعني رفض الآب، وبالتال عدم قبول إرسالية الآب للابن لخلاص العالم. أي بصريح العبارة، فإن العالم يرفض الخلاص من أصوله، لأن العالم يعمل قت سلطان روح الضلالة ولحسابه. وهكذا، فإن الخلاص يبقى وقفاً على كل من يرفض العالم, بل ويبغض العالم, وذلك بأن يرفض أن يعرف أو يتعرف على روح الضلالة الذي في العالم! لذلك كانت الآية: «إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب.» (ايو15:2)
«لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ.»: العالم لا يعرف الروح القس ولا يعرفه. الرؤيا هنا بالاثنين: رؤيا العين المجردة, ورؤيا العقل الروحي. فـ «العالم» هنا, يُعبر به عن الأشخاص الطبيعيين الذين يعيشون بحسب ظواهر الوجود المادي, لا يرون الروح على أي حال، لأن الروح جوهر إلهى فلا هم بالعين يرونه, لأن ليس له مظهر، ولا بالعقل يدركون كنهه أو ماهيته، لانه حق, والحق درجة في المدركات أعلى وأعمق من المظهر بلا قياس. فكل مظاهر العالم من مصنوعات ومخلوقات تحوى في أعماقها بالضرورة لمسة الخالق الذي صنعهإ؟ فهي تحوي حقاً، ولكنها ليست الحق، لأن المظاهر كلها زائلة والجوهر الخالق أزلى وأبدى: «لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم، الذين يحجزون الحق بالإثم. إذ معرفة الله ظاهرة فيهم, لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات, قدرته السرمدية ولاهوته, حتى إنهم بلا عذر.» (18:1-20).
يلاحظ هنا أن محور هذه الآية، هو كلمة الوحي: «لأن الله أظهرها لهم», فهي عطية فائقة على عقل الإنسان الطبيعي المخلوق، وفوق مقدرته الطبيعية المحدودة بإدراك الظواهر فقط. هذا الإمتياز أٌعطي للانسان هبة، أن لا يكون غريباً عن الله، ولكن هذا الإمتياز ليس من روح العالم أصلا، بل من الله.
ويلزما هنا أن نوضح أن «الإنسان الطبيعي» مخلوف ليرتقي إلى «إنسان روحي». ففي صميم خلقة الله للانسان, كما نتصوره في آدم, يوجد مركز للادراك الإلهي، وإلا لما عرف آدم الله، وأحبه, واستمع إليه، وخشى منه حينما تعدى على وصيته. لذلك، نستطيع بكل يقين أن نقول، إن عقل الإنسان له مركز فوق كل مراكزه الشعورية الطبيعية، لإدراك ما هو فوق الطبيعيات، أي إدراك الله وكل «أمور الله غير المنظورة». هذا المركز الفائق والممتاز، ينشط و يترقى بالممارسة، أي بالإشتغال في أمور الله: «وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس المدربة عل التمييز بين الخير والشر» (عب14:5). وهذا يؤدي إلى يقين الشعور بالله, ثم الإيمان به، ثم التأهل لأخذ الروح القدس، أي روح الله.
فالإيمان بالله لا يأتي من فراغ, وإلا ما أصبح له ثواب وعقاب. ولكن، بإهمال الانشغال بالله والتوقف عن تشغيل هذا المركز الخاص الفائق والممتاز، تضعف وتُفقد حساسيته, فتصبح معرفة الله غير واضحة, ثم صعبة، ثم مستحيلة, ثم مجهولة كلية؛ وكأن الله صارغير موجود، وذلك بسبب نشاط مراكز العقل الحية الأخرى وانشغالها الزائد بالظواهر, والانغماس في الأخذ منها لإشباع نهم العقل, والتعدى حتى على المركز الفائق الخاص بالله وتغطية احتياجه بالأمور الحسية وظواهر الأمور. هنا ينحصر الإنسان في صفته الدنيا، وهي كونه إنساناً طبيعياً، أي إنسان العالم، وليس إنسان الله بعد. هذا ما يعبر عنه بولس الرسول بقوله: «هكذا أيضاً أمور الله، لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله, لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله, لأنها (أي أمور الروح) عنده جهالة. ولا يقدر أن يعرفها (يعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله)، لأنه إنما يحكم (أي يدرك) فيها روحياً. وأما الروحي، فيحكم في كل شيء, وهو لا يحكم فيه من أحد. لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه؟ وأما نحن فلنا فكر المسيح» (اكو11:2-16 ترجمة عن الأصل اليوناني).
واني أنتهز هذه الفرصة يا قارئي العزيز لأرسم أمامك صورة واقعية للعالم والأشياء التي في العالم القابلة كلها للزوال : «والعالم يمضي وشهوته» (ايو17:2)، في مقابل أمور الله الباقية والثابتة إلى الأبد: «مولودين ثانية، لا من زرع يفنى, بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد. لأن كل جسدا كعشب، وكل مجد إنسان كزهر العشب. العشب يبس وزهره سقط. وأما كلمة الرب فتثبت إل الأبد.» (ا بط23:1-25)
فالعالم يقوم على الظواهر والمحسوسات، وهذه كلها تتغير وتتبدل وتزول. وظواهر العالم التي يصادفها الإنسان في حياته، تأخذ وجودها في وجدانه، لأنها تتحرك ببطء نحو الزوال، فلا يشعر بزوالها إلا بصعوبة. ولكن لو أمكن تصورها وهي تتحرك بسرعة أكثر، كأن يتصور اختزال فترة تعليمه في المدارس من عشرين سنة إلى عشرين دقيقة، لظهرت وكأنها خيال عابر. ولكن هي كذلك في الحقيقة، فكل ظواهر الحياة خيالات تتحرك على شاشة العقل ببطء، فترسخ فيه، وكأنها وقائع وحقائق، وهى في حقيقتها ليست إلا صوراً تظهر لتزول. ولكن وراء هذه الصور توجد الحقيقة، وخلف هذه المظاهر والأقنعة يوجد الجوهر القائم والثابت، وهي اليد الإلهية التي تديرها وتتحكم في ظهورها وتلاشيها، والتي تحدد أزمنة بقائها وزوالها، وتبرز للنفس البشرية أهميتها أو تفاهتها، لتزداد النفس معرفة، وتنمو في الفهم والحكمة، وتترقى في أحاسيسها ومدركاتها في درجات تصاعدية تقترب بها النفس إلى جوهر الحقيقة أو الحق القائم خلف هذه المناظر والظواهر والصور المتحركة التي تسوقها الطبيعة وتتفنن فيها من جانبها، بإيعاز من الخالق، لترغب النفس فيها. وهكذا يبقى الله، في النهاية، بالنسبة للنفس الواعية، هو الغاية العظمى من حركة العالم، باعتباره الحقيقة أو الحق الذي يُشبع قلب الإنسان، أو على الوجه الأصح لن يشبع منه أبداً. فعالم الله والروحيات، هو أصدق ما تحتاجه النفس، فالنفس البشرية مخلوقة على صورة الله، والصورة لا ترتاح إلا على أصلها، كما يرتاح المثيل إلى المثيل.
ولكن أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى هذه الصور الزائلة والمناظر والخيالات وحسب، ويكتفي منها بالتغيير والتبديل، ويتعزى من زوال بعضها بظهور غيرها، فهذه مهزلة. شأنه في ذلك شأن شاب طائش لا يشبع من النظر إلى الأفلام السينمائية، يخرج من عرض ليدخل عرضا آخر، يصرف ماله وزمانه مستمتعا بخيالات، تظهر له كأنها حية وهي قد تكون لممثلين صارت أجسادهم ترابأ وقصتهم خرافة.
فالعالم، يا صديقي، عالم أقنعة وخيالات يحيطه الخداع من كل جانب. وعليك أن تدرك أن كل ما هو قابل للازدواج فهو خداع، فالفرح الذي يمكن أن ينقلب حزناً هو خداع: الفرح والحزن كليهما! … كذلك الصحة والمرض، السلام والكآبة، النور والظلمة، الحياة والموت، الغنى والفقر، العلم والجهل، والاطمئنان والخوف. فكل ما يمكن أن ينقلب إلى ضده هو صورة متحركة، وهو خداع؛ أما «الحق» فهو قائم في كل هذه المتضادات، قائم ثابت، لا يتغير، ولا يتبدل، والذي عنده «روح الحق» يأخذ من الصورة وما هو ضدها، يأخذ من الفرح قدر ما يأخذ من الحزن ليرتفع فوق الفرح والحزن جميعاً. يأخذ من الغنى قدر ما يأخذ من الفقر، ليرتفع فوق هذا وذاك؛ ولا يطاله الغنى بغروره، ولا يطأه الفقر بنكده!
أما الذي ينحاز إلى العالم، فلن يقر له قرار؛ يعيش بين المتضادات, إلى فوق، ثم إلى أسفل وبالعكس, إلى أن يحطه اليأس، وتأكل أيامه المتغيرات. لذلك يقول الرب: «سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العلم أعطيكم أنا» (يو27:14). كما يقول: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو22:16)؛ «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من شرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد, بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية!!» (يو13:4-14)؛ «اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية، الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا، الله الآب قد ختمه… أنا هو خبز الحياة. من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بى فلا يعطش أبداً… من يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية.» (يو27:6و35و54)
هذه هي طبيعة العالم وعطاياه، وهذه هي طبيعة الله وهباته. وهكذا، فالحق الذي يعطيه المسيح: «أنا هو الحق»، لا يزول، ولا يؤول إلى الضد أبداً، فالحق واحد دائماً، لا ينثنى ولا يتجزأ، ولا يتغير، وهو هو من طبيعة الله، وهذا هو جوهر عطاياه.
«رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ.»: كلمة «أن يقبله» تأتي باليونانية بمعنى يستقبله، والآن نستطيع أن ندرك عمق المعنى اليوناني لكلمة يستقبله, إذ أن إنسان العالم, أي الإنسان الطبيعي الفاقد لمراكز الوعي الروحي, ليس لديه جهاز الاستقبال الذي يدرك به الحق المطلق، لأن كل إدراكه العقلي حي قائم ومقصور على إدراك المظاهر والصور فقط؛ أما كل ما يخص طبيعة الله، أي الحق كجوهر، فهو مفقود عنده أو غير موجود ولا يمكن إدراكه، وبالأخص ما يتعلق باستعلان هذه الطبيعة في الآب والابن والروح القدس. على أنه يستحيل استقبال الروح القدس إلا في القبول لحقيقة المسيح متجسدُ: «هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟» (أع 2:19)
وتقول الآية أن العالم لا يستطيع أن يستقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. جيد، لأن العالم قائم على رؤية المظاهر والصور, والعرفة لدى العالم قائمة على التحليل الذهني لهذه المظاهر والصور، والروح القدس ليس له منظر ولا مظهر ولا صورة لأنه أقنوم إلهي غير مخلوق وغير متجسد، فهو ليس من هذا العالم بالمرة, ولكنه قائم فيه كمدبر، ومُحيي وضابط للخليقة، حال في كل مكان، ومالء الكل، وأصل الصلاح، ومُعطي الحياة لكل ذي جسد. يبكت العالم على خطاياه من داخل ضمير الأتقياء، وبالأكثر تجاه الذين يرفضون الإيمان بابن الله. لذلك فإن وظيفة الروح القدس الاولى في العالم أن يشهد لبر المسيح داخل قلوب المؤمنين، وينطق بأفواههم، ويدين كل الذين انحازوا وراء العالم ورئيسه. لذلك يبقى الروح القدس غير مقبول للذين أحبوا العالم الحاضر وحجتهم أنه غير منظور لديهم، وأن كل ما هو غير منظور أو محسوس غير معروف، فهم ينكرونه، كما ينكرون الابن والآب بالضرورة، لأن كل من لا يقبل الروح القدس، لا يدرك الآب والابن. هذه هى طبيعة العالم، وطبيعة الله تبقى غريبة عن طبيعة العالم، إلى أن يقبل الروح القدس، المنوط به استعلان كل أعماق الله للانسان:
+ «ما لم تر عين، ولم تسمع به أذن، ولم تخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله, لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضأ أمور الله، لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. «(اكو9:2-11)
«وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.»: ماكث معهم الآن بمكوثهم مع المسيح، ولكن لما يٌرفع المسيح سيجيء الروح القدس ليقيم فيهم !
التلاميذ هنا عينة من باكورة الإنسان الذي أفرزه الله، ليقف معه ضد العالم. فسلوك الطبيعة الجديدة للانسان في التلاميذ والمؤمنين، هو عكس سلوك طبيعة العالم تجاه الروح القدس. العالم لا يراه ولا يعرفه، وأما التلاميذ والمؤمنون فيعرفونه. العالم لا يقبله، وأما التلاميذ والمؤمنون فيقبلونه: «اقبلوا الروح القدس» (يو22:20)، وبذلك يمكث معهم, والحرف اليوناني المستخدم هنا ليوضح المعية هو ( )، وهو يفيد الشركة والوجود مع (By the side of)، كما جاء في قول المسيح: «بهذا كلمتكم وأنا عندكم ( )» (يو25:14)
«ويكون فيكم»: والحرف اليوناني هنا ( ) ويفيد السكنى الفردية الشخصية (الحلول). كما شرحها المسيح
بقوله: «الآب الحال في هو يعمل الأعمال.» (يو10:14)
وهنا، ومن استخدام الحروف اليونانية، يتبين لنا أن المسيح يمهد في أذهان التلاميذ كيفية تعامل الروح القدس معهم كشخص يحل محله: فكما كان المسيح عندهم «بهذا كلمتكم وأنا عندكم» (يو25:14)، هكذا سيدخل الروح القدس في شركة دائمة أبدية معهم ككنيسة. ثم كما كان الآب حال في المسيح, وكان هو الذي يعمل الأعمال التي كان يعملها المسيح باتفاق مدهش، هكذا سيحل الروح القدس فيهم حلولاً فردياً وشخصياً، ليعمل فيهم وبهم كل الأعمال التى كان يعملها المسيح.
ولكن هذا الحلول الذي ستناله طبيعة التلاميذ بالروح القدس، لن يكون كحلول الآب في المسيح، لأن حلول الآب في المسيح هو حلول الآب في الابن على أسامى الذات الواحدة في الجوهر الواحد والطبيعة الواحدة؛ أما حلول الروح القدس في الطبيعة البشرية، فهو حلول تقديس حيث تستهدف كل من الطبيعة والشخصية البشرية لعملية تغيير وتجديد، بشبه الخلق الجديد، لاكتساب الصفات المسيحية على نمط الصفات التي اكتسبها لنا المسيح بتجسده وتألمه وصلبه وقيامته وصعوده إلى السماء: «تعلموا مني» (مت29:11)، «اثبتوا في وأنا فيكم» (يو4:15), «أنتم في وأنا فيكم» (يو20:14)، «أنا فيهم، وأنت في، ليكونوا مكملين إلى واحد.» (يو23:17)
18:14- لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ.
لا يزال المسيح يعزي تلاميذه عن الفراق الذي سيواجهونه بعد موته وقيامته وذهابه إلى الآب. لقد أدرك المسيح مقدار تعلق تلاميذه به كأب وتعلقه بهم كأولاد: «يا أولادي, أنا معكم زماناً قليلاً بعد» (يو33:13)، وكلمة «أولاد» هنا تأخذ صورتها المحببة جداً على مستوى الأولاد الصغار, «إذ كان قد أحب خاصته … أحبهم إل المنتهى. » (يو1:13). فإن كان المسيح قد شرح لهم ضرورة ذهابه إلى الآب، وأوضح لهم أن هذا الفراق سيكون لصالحهم، إذ سيرسل لهم الروح القدس المعزي، روح الحق، ليمكث معهم ويكون فيهم؛ إلا أنه كان يدرك أن ذلك لا يغنيهم عن عودته إليهم ورؤيته لهم.
«إني آتي إليكم»: حيث فعل «آتي» هو في زمن المضارع المستمر بلا حدود ولا نهاية، وهو الذي ورد في الأصحاح الأول بهذا النحو: «كان النور الحقيقي… آتياً إلى العالم» (يو9:1)، أي يظل يأتي و يأتي ليغطي كل الزمان إلى ما لا نهاية. فوعد المسيح لتلاميذه: «إني آتي إليكم»، هو وعد «المجيء الدائم» الذي تحقق أولاً بعد القيامة، بظهوره مرات معدودة. ولكن بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين، ظل مجيئه عل مستوى الإقامة الدائمة الروحية في الكنيسة: «ها أنا مكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر.» (مت20:28)
فوجود المسيح في الكنيسة، هو وجود عضوي عامل ودائم، لأن المسيح بالنسبة للكنيسة كالرأس بالنسبة للجسد: «وإياه جعل رأساً فوف كل شيء للكنيسة, التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل.» (أف22:1-23)
ومعروف أن حلول الروح القدس, سواء كان ذلك في الكنيسة أو في الأفراد المؤمنين, إنما يتم لحساب المسيح، بمعنى أن وجود الروح القدس يكشف في الحال عن وجود المسيح. وحتى العزاء الذي يضطلع به الروح القدس في قلوب المؤمنين يقوم على أساس استعلان الروح القدس لشخص المسيح، وتجليه, في كل مواقفه المحببة, داخل قلوب المؤمنين. وقد أمدنا بولس الرسول بصورة للصليب، واقعية ومؤثرة، استعلنها الروح القدس في قلب بولس لشخص المسيح بالنسبة لبولس نفسه، فتأوه معلناً عن صدقها: «الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي.» (غل20:2).
وهكذا يأخذ الروح القدس من أعمال المسيح العامة، ويصورها للمؤمن كعمل شخصي يخصه هو بالدرجة الاولى، لذلك نجد الرب يذكر إرساله للروح القدس أولاً, ثم يذكر مجيئه الشخصي لكل واحد!! لأن مجيئه إنما يٌستعلن ويصور بواسطلة الروح القدس الساكن في القلب.
ويلزم أن ننوه هنا أن الروح القدس هو روح الآب وروح الابن، فهو يحمل الوحدة الإلهية الكائنة بين الآب والابن، بقدر ما يحمل طابع الآب وطابح الابن, أي الحب الأبوي والحب البنوي معاً. فيا لغنى المجد الذي يرضع منه قلب الإنسان، حينها يحل فيه الروح القدس ويقيم . بل وإن الروح القدس يحمل ربط الالفة والانسجام للوحدة القائمة بين ابن الله وابن الإنسان، ويحمل القوة التي جعلت وصيرت الكلمة جسداً (لو35:1)، والتي أقامت المسيح من القبر في اليوم الثالث (رو11:8). والروح القدس، روح الحق، بسكناه في قلب الإنسان, يغذي فكر الإنسان على الحق بالكلمة، كما يغذي روحه بهذا الحق, إنما بالفعل والقوة, ليدرك الإنسان ويرتقي إلى نصيبه في التبني، وشركة ميراثه مع المسيح في الله. إنه يأخذ من الرأس، ويعرف بالسر الأعضاء في الجسد، ويظل يملأ، حتى إلى كل ملء الله.
«لا أترككم يتامى»: هذه إشارة بليغة إلى موته، حيث الموت الذي بدأ يخطو إليه بقدميه، والذي به يتيتم التلاميذ
إلى زمن؛ وهذه هي الجملة التي أوحت بالرد عليها مباشرة: «إني آتي إليكم»، ليرد تيتمهم إلى بنوة جديدة لابوة جديدة. التي هي بدورها إشارة بليغة إلى قيامته. فإن كان بموت المسيح يصبح التلاميذ يتامى، فبقيامته ومجيئه إليهم يدخلون تواً في عهد التبني وحنو الآب الدائم.
19:14- بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضاً وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ
في الحقيقة، إن العالم لم يره أبدآ متجلياً على حقيقته «أنا هو»، وإنما كان يراه كمواطن جليلي لا أكثر, وبهذه الرؤية يكون العالم قد قارب أن يفقد هذا المواطن الجليلي، إذ لم يعد له أكثر من اثنتي عشرة ساعة يقضيها بين المحاكمات. أما تلاميذه، فقد «رأوا مجده» بالاستعلان, أي بالرؤيا الروحية, وآمنوا به. فإن كان سيختفي عنهم بالأنظار ساعات قليلة, فلكي يظهر لهم ثانية متجلياً برؤيا المجد، ولا يعود يختفي عن عيون إيمانهم قط: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطى أن يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات.» (أع40:10-41)
«إني أنا حي»: المسيح يعبر هنا على الموت، وكأنه لم يكن، ليلفت نظر تلاميذه إلى قوة القيامة الكائنة فيه، فهو يرى نفسه هنا حياً وكأن القيامة كائنة في كيانه لا تفارقه. وبهذه الحياة الأبدية التي فيه، يضمن لتلاميذه معه شركة أكيدة فيها. ألم يقل: «وكل من كان حياً وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد» (يو26:11)
هذا القول يلتقطه بولس الرسول ويشهد له، من واقع حياته هو أيضاً الكائنة في حياة يسوع وبها: «الله الذى هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح» (أف4:2-5)؛ «مع المسيح صلبت، فأحيا, لا أنا, بل المسيح يحيا في, فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان, إيمان ابن الله الذي أحبني، وأسلم نفسه لأجلي.» (غل20:2)
تركيز بولس الرسول هنا على قوة الإيمان الفعالة بالروح, لبلوغ شركة فعلية هع المسيح الحي, لنوال حياة دائمة بحياة المسيح وفيها. لأنه بحسب إيمان القديس بولس، فكل من آمن بالمسيح, يصبح له شركة في المسيح: في موته، وفي قيامته، وفي حياته، وجلوسه معه في السماويات؛ من أجل هذا تجسد ابن الله، ليعطينا هذه الحياة.
وعن كيفية حياته وامتدادها في تلاميذه بالروح يوضح المسيح هكذا:
20:14- فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي وَأَنْتُمْ فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ.
«في ذلك اليوم تعلمون»: هنا واضح انه يوم الاستعلان, وهو بلا شك يوم الخمسين، عندها حل الروح القدس، روح المعرفة والفهم، روح الاستعلان والكشف، وأول من سيستعلنه ويشهد له الروح القدس هو المسيح, أنه ابن الله, الحقيقة التي من اجلها كتب القديس يوحنا إنجيله كله: «لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم, إذا آمنتم, حياة باسمه» (يو31:20-32)؛ الأمر الذي اكمله الروح القدس منذ يوم الخمسين فصاعداً باستعلان علاقتنا بالمسيح، إذ يشهد بولس الرسول على شهادة الروح القدس في أعماقه: «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله… اخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا ابا الآب. الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فان كنا اولاداً،´فإننا ورثة أيضاً, ورثة الله, وراثون مع المسيح…» (رو14:8-17)
وعلى مدى سفر الاعمال كله والرسائل، يشهد الروح القدس أن المسيح هو ابن الله. فأول عمل عمله بولس الرسول بعد ان اعتمد، هو الكرازة بابن الله: «وتناول طعامأ فتقتوى… وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح ان هذا هو ابن الله» (أع19:9-20), وهكذا تم قول الرب أن: «في ذلك اليوم تعلمون أني انا في ابي».
«أني أنا في أبي»: هذا اصطلاح لاهوتي، أي يختص بطبيعة الله، ويفيد الوحدة القائمة بين الآب والابن، هذه الوحدة تؤمنها وحدة الطبيعة اي الجوهر. وجوهر الله هو ألوهيته؛ فالآب والابن جوهرهما واحد، ولا يوجد ثنائية في جوهر الله، لانه بسيط غير منقسم ولا مركب. والآب والابن صفات جوهرية أي صفات لطبيعة الإله الواحد. والآب والابن ذات واحدة، كاملة كمالاً مطلقاً؛ ويستحيل ان تكون الذات الكاملة آباً فقط ´وابناً فقط، فكل ذات هي آب وابن معاً. وإذا أخذنا الذات البشرية، اي الإنسان، نجده كذلك, فكل ذات (أي أنا وأنت) هي ابن ثم هي أيضاً أب، أي أن الذات فيها البنوة وفيها الأبوة, كامنة، تظهرها عوامل زمنية ونضجية. ولكن ذات الله كاملة أزلياً وأبدياً، فيها الأبوة والبنوة معاً، لا متقدم فيهما ولا متأخر، ولا مستحدث فيهما ولا متغير.
لهذا, فإن الآب والابن هما بالطبيعة متحدان ليكونا الذات الإلهية الواحدة, الله. ومن السهل بعد ذلك أن نقول أن الآب في الابن كائن, وأن الابن في الآب كائن, وأن لهما المشيئة الإلهية الواحدة التي للذات الواحدة, ومن السهل البين أن تمارس الابوة في الله رسالتها بالانعطاف والحب نحو البنوة وتعلنها، خاصة بعد التجسد، وأن تمارس البنوة رسالتها بالطاعة والحب، بعد التجسد، نحو الابوة.
فلما شاء الله أن يخلص الإنسان بنفسه بأن يرفعه إليه، ويهبه الحياة الأبدية، بذل البنوة التي فيه، أي ابنه، ليتجسد. وهكذا ظهر الله في الجسد، وهوالابن، وأطاع الآب، حتى أكمل رسالة الخلاص. وقد استطاع المسيح أن يبرهن عملياً, بحياته وموته وقيامته، أنه هو والآب واحد، قولاً وعملاً وسلوكاً. ولما حل الروح القدس على التلاميذ، أكمل الروح القدس الشهادة للمسيح أنه ابن الله، وأنه واحد مع الآب، الأمر الذي صار محور الكرازة وأساس الخلاص.
«وأنتم في وأنا فيكم»: المتكلم هنا هو المسيح ابن الله المتجسد، ولولا تجسده ما استطاع أن يقول هذا القول، ولكنه لما أخذ الطبيعة البشرية واتحد بها, استطاع أن يقول: «أنا فيكم» أي في طبيعتكم. و«أنتم فيّ» أي طبيعتكم صارت فيّ. وهذا، بحد ذاته، هو الذي فتح أمامنا المجال لننتجرأ ونطالب, بحق هذا التجسد, أن يكون لنا شركة معه أو في حياته على وجه الأصح، وأيضاً أن يكون له وجود وشركة في حياتنا، بل هو الذى دعانا إلى تلك الشركة ومنحنا حقوقها بالتجسد. هذه الشركة مع المسيح كابن الله، الذى دعانا إليها، ومنحنا كل حقوقهها، هي أيضاً حالة اتحاد. ولكن هناك فرق شاسع بين كلمة المسيح: «أنا فى أبى» وبين «أنتم فىّ وأنا فيكم». ففى الأولى، يقوم الاتحاد على أساس وحدة الطبيعة أى الجوهر الإلهي، وهو يُنشىء ذاتاً واحدة, أما الوجود المتبادل في الحالة الثانية، فهو لا يرفع الفوارق ولا يوحد الذات بل يعطي حقوقاً مجاناً ويعبر عنه بمفهوم الشركة في حياة المسيح: «فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ» (غل20:2)؛ «من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت فيّ وأنا فيه» (يو56:6)؛ «فمن يأكلي، فهو يحيا بي.» (يو57:6)
هذا الاتحاد الذي يدعو إليه المسيح في موضع آخر: «أنا فيهم وأنت فّي، ليكونوا مكملين إلى واحد» (23:17)، هو أيضآ حالة شركة، ويعبر عنها القديس يوحنا هكذا: «وأما شركتنا نحن, هي مع الآب، ومع ابنه يسوع المسيح» (ايو3:1). وهذه الشركة لا يمكن أن نبلغ مداها الحقيتي سواء بالإدراك أو بالفعل، إلا في الحياة الأخرى، حيث يكون فيها الله الكل في الكل، ولكنها تبدأ تتحقق منذ الآن جزئيأ، وقليلاً قليلاً، عل مستوى الاستعلان بواسطة الروح القدس، وعلى مستوى الفعل بتقديس الروح أيضاً، وذلك بالتغيير والتجديد المتواصل، بخلع الإنسان العتيق ولبس الجديد الذي يتجدد حسب صورة خالقه، وعلى أساس الإتفاق الكامل في العمل والمشيئة مع الروح القدس، لتكميل الحياة المسيحية.
وإليك أيها القارىء العزيز محاولة مختصرة غاية الاختصار للتعبير عن اختبار الشركة مع المسيح بالروح، حيث نتتبع النفس وهي تنطلق من عقالها، لتطلع على الطبيعة الإلهية، وتتآلف معها، من خلال نافذة الروح القدس. حيث تفاجأ النفس, من خلال وعيها الجديد المتفتح, برؤية الحقيقة لأول مرة، فتبدو الحقيقة كانكشاف فجائي في الرؤيا الشخصية، حيث تدرك النفس حقيقة المسيح المنيرة، بالإحساس الواعي لحضوره الإلهي.
هذا الإحساس ينطبع في النفس, ليخط فيها خطوطاً أبدية لا تفارق النفس مدى الحياة, وحيث صورة المسيح لا تفارق النفس الواعية بوجوده، وكأنه يلازم الروح: « أنتم فيّ وأنا فيكم». إنه نوع من الاتحاد الروحي العميق, تكتسب منه الروح تكاملاً جديداً، في كل اختبار، يقربها أكثر من المسيح، ويزيد وعيها نوراً وإدراكاً بألوهيته البسيطة المتناهية في البساطة. حيث يتذوق الإنسان حياة أخرى تماماً، بمواصفات جديدة على الفكر تماماً، أقوى ما فيها هو الفرح والسلام اللذان يسكنان في القلب: «سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم, ولا ينذع أحد فرحكم منكم.» (يو22:16)
ثم يبدأ الوعي المسيحي فيتحرك بنور حضرة المسيح، فينكشف أمامه سر الخلق، وسر التجديد، وسر القيامة والخلود، لا كأن هذه معارف جديدة, بل باعتبارها خصائص النفس ذاتها. أما الزمن، فيغيب بماضيه وحاضره ومستقبله عن وعي الإنسان، فلا يعود يشعر بمرور الساعات والأيام، أو تتابع الليل والنهار، إذ تستغرق النفس في رؤيتها وهي تتتبع المسيح في حياته وكلماته، وهومتجلي في أفق النفس بملء بهائه، فتختفي من أمام العين كل الصور والمناظر، وهي في موضعها, فلا تعود العين الروحية تصطدم إلا بالحقائق وهي تتكشف أمامها. ولا يعود للبصر الروحي حواجز مادية تمنعه عن التغلغل في الوجود الروحي اللامحدود واللامُحاصر. لا يعود البصر بالعين هو واسطة الرؤيا، بل تنفتح حواس الروح لتتعامل مع الحقائق الإلهية بوعي جديد. وهكذا تدخل الروح في بيتها الآبوي: «في بيت أبي منازل كثيرة… أنا أمضي لأعد لكم مكائاً، وان مضيت وأعدت لكم مكاناً، أتي أيضاً وأخذكم إلي، حتى حيث أكون أنا، تكونون أنتم أيضاً.» (يو2:14-3)
21:14- الَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي والَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي.
آية اختبارية يطرحها المسيح أمام عشاق الحب الإلهي، ليستكمل فيهم ظهوره الإلهي. حينما قال المسيح في موضع آخر: «ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر» (مت20:28)، لم يقلها عفوياً، وكأنه يسند قلبهم بالكلمة، ولكنه كان فعلاً وحقاً على وعد مع المحبين والعاشقين وحافظي عهده ووصاياه، وليس بمجرد التواجد غير المعلن، ولكن بالظهور الحقيقي المستعلن للروح المنفتحة الحواس والقادرة على اجتلاء الرؤية.
وهل للرب وصايا فوق بساطة المحبة، التي لا تعرف أن تفرق بين صديق وعدو، أو تميز بين جميل وذميم, أو تفضل مادحاً على قادح. أو هل له وصية أقوى من اتضاع الإخلاء الصادق من كل أدعاء الكرامة، وطلب المجد الدنيوي، والتسابق على الظهور, وشهوة المديح والسيادة. لقد أوصى الرب وأكد على أهمية الصلاة بدون ملل, حتى تستعلن قوتها، ولمح على حتمية الطلبة ليل نهار, حتى ينسكب الروح القدس الحامل لكل أسرار الحياة. لقد شرح الرب، وأوضح الشرح بالتمثيل, كيف تقوم قوة الكرازة على أيدي الكارزين حينما يغسلون أرجل بعضهم البعض، ليؤمن العالم أنهم تلاميذ الرب حقاً، ثم جعلها وصية عملية لكل الخادمين، لا حفلة تمثيل على مسرح الكنيسة.
لقد أوصى الرب الذين ثبتوا وجههم نحو أورشليم العليا، أن لا يلتفتوا إلى الوراء ليودعوا الأهل والأقرباء، محذرا إياهم أن أعداء الإنسان يكونون هم أهل بيته، إن هو طلب وجه الرب. وأنه بقدر ما يترك الإنسان من مباهج الدنيا وعواطف اللحم والدم، بقدر ما يأخذ مائة ضعف، كيلاً مهزوراً ئلبداً، من مباهج الحياة الأبدية.
لقد أوصى الرب كثيراً بالأذن التي تسمع، والعين التي تبصر، والقلب الجيد الذي تنبت فيه الكلمة لتعطى ثمارها، وطوب حبة الحنطة التي فضلت أن تموت، من أن تبقى وحدها، ووعدها بثمر كثير. ووصايا الرب تمسك بعضها بعض، والواحدة تجر الأخرى، لأن قوة خفية تنبع منها، لا تسكت ولا تهدأ، حى تأتي على الكل.
«يحبه أبي»: «الذي عنده وصاياي» هي الأساس الذي عليه تقوم كل علاقة كلية وجزئية مع الله منذ القديم. فاحترام كلمة الله، هو التكريم الحقيقي والمباشر لشخص الله: «أكرم الذين يكرموني، والذين يحقتروني يصغرون» (1صم30:2).
وأين ومتى وكيف نكرم الله؟ إلا في كلمته واسمه. فكلمات الله واسعه تحمل شخصه، وينوبون عن وجوده، ويعملون عمله، والمسيح, تبارك اسمه, هو كلمة الله مُشخصة ومنظورة، وهو الحامل لاسمه، فالتعامل الموقر مع المسيح هو تعامل مباشر مع الآب، وكيف نتعامل مع المسيح إلا في وصاياه؛ فالذي عنده وصايا يسوع، عنده الرب نفسه. والذي جلس تحت كلماته يتأدب بها ويتهذب، هو الذي اختار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منه (لو42:10). «ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جيعاً (2يو9:1)، «والذي يحب كثيراً يُغفر له الكثير» (لو47:7)، أي يصير من المقربين إلى الآب.
وفي القديم، تعلمنا أن الله, الحكمة, يمكن أن يتبادل معنا الحب مباشرة: «أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكرون إلي يجدونني» (أم17:8)، وما التبكير إلى الله, أو إلى حكمته, إلا الصلاة والهذيذ بكلمته الحية في بكور الهار وبكور الحياة معاً.
والآن، وقد تجسد الكلمة، وسمعنا من فمه وصية جديدة, صار حب الوصية هو حب الابن والآب معاً. ورد الفعل عند الله لا يزال قائما، فالذي يحب الابن يحبه الآب؛ وحينما يحبنا الآب، فهذا معناه أنه تمث المصالحة وأثمر الصليب والغفران، ودخلنا فعلاً في ميراث البنين.
«وأنأ أحبه»: محبة الرب لنا قائمة على الصليب، أما بعد الصليب فهي مخضبة بالدماء، حيث لا يمكن أن يكون حب أعظم من هذا. ولكن «الذي» عنده وصايا يسوع، وقد حفظها في قلب واع «وعمل بها وعلم» (مت19:5)، فهذا يكون قد دخل في عهد نشيد الأنشاد، وتأهل أن يطلع على سر الحب الإلهي، ويكون قد انتقل من ميراث البنين إلى ميراث العروس، هذا يقول عنه القديس بولس الرسول إن: «من التصق بالرب، فهوروح واحد.» (اكو17:6).
«واُظهر له ذاتي»: الكلمة اليونانية ( ) تفيد معنى «يعرض بوضوح وبشكل بارز»، وهي نفس الكلمة التي جاءت في ظهور المسيح أمام الله: «لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد، أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا» (عب24:9)، لذلك، فهي تفيد أكثر بكثير من معنى الاستعلان المظور لشيء كان خفياً وأُظهر والتي تأتي هكذا: ( )، ولا هي ظهور شيء كان غير معروف سابقاً: ( ). ومعروف أن ظهور المسيح العلني المجسم والواضح لا يمكن أن تحيط به العين في حالتها الطبيعية، لأن المسيح الأن هو في حالة مجده الإلهي، الذي يفوق قدرة إحساس العين، إذ يتحتم أن يكون الروح متداخلاً وفعالاً في الحواس الروحية, حتى يتمكن الإنسان المؤمن، وليس المؤمن فقط، بل من بلغت روحه درجة نقاوة القلب والصفاء، بممارسة المحبة والهذيذ في كلمة الحياة، لكي يدرك المسيح في ظهوره الإلهي الفائق لمظاهر المادة والعالم.
ويلزم أن ننتبه جداً لتصريح الرب في هذا الأمر الفائق، إذ يقول إنه هو الذي سيُظهر ذاته, بمعنى أنه سيمارس عملاً فائقا أو إعجازياً. وهذا يجعل ظهوره عملاً خاصاً به، يعطيه كيفما يشاء، ومتى شاء، ولكنه جعله في متناول كل إنسان: «الذي عنده وصاياي، ويحفظها، فهو الذي يحبني»، أي يؤدي شروط المحبة.
أما ظهور الرب، فيقين كالفجر، رآه بولس وهو ناظر إليه من السماء, في ضوء منتصف النهار، بوجه يلمع أكثر من الشمس، لأن الشمس وكل الأنوار هي ظلال وأقنعة للنور الحقيقي؛ فالأقنعة تختفي، والظلال تنمحي، حينما تنفتح عين الروح ليتجلى أمامها النور الحقيقي، و يظهر عالم الروح على حقيقته، والرب سراجه.
لولا النور (المسيح) ما كان الظل ( الخليقة)، ولكن الظل لا وجوة له من ذاته، بل الوجود هو للنور وحده: «بنورك نرى نوراً» (مز9:36), إذ لا يعود البصر بالعين بل تنفتح حواس الروح المضيئة لرؤية النور الحقيقي، فلا تعود الرؤيا تصطدم بالظلال (جوامد المادة)، بل تخترقها بلا عائق، وكأنها شفافة, دون أن تفارق موضعها، أو تضيع معالمها وأشكالها. وليست جوامد المخلوقات وحدها هي التي تخترقها أشعة الخلود فتذوب صورها المتباينة، بل وكل ما يصدر عن المادة والإنسان من الانفعالات الثنائية الهوجاء ذات الصعود والهبوط والدفع المتواصل، من نور وظلمة, وفرح واكتئاب, ورجاء وشقاء، وراحة وعناء، وميلاد وموت، هذه كلها تخترقها أشعة الخلود الصادرة من مصدر الخلق، من النور الحقيقي من وجه يسوع فتهدأ وتكف جيعاً، ولا يبقى إلا الوجود الحقيقي الموحد, في مجال الإله المتجلي بنور لا يُدنى منه، في هدوء الأبدية اللامتناهية، وتتجلى أشعة النور تنساب من مصدرها الخالق، لتملأ كل الوجود، تنفذ وتحترق كل ما يصادفها، وبها يستنيرر الذهن الذي يطير على أجنحتها، ليغشى بها الوجود، ويستجلي بها الموجودات، وكأنه ملتحم بالوجود الكلي, لا ينتهي عند حد أو أفق، فتتسع دائرة العقل الروحي، وتتقدس حركاته، ولا يعود يرتاح أو يبتهج إلا في إرادة خالقه, وذلك حينما يخضع لها برفق ودون عناء، ويصغي إلى الصوت الآتي إليه من الأبدية: «شاول شاول لماذا تضطهدني…» (أع4:9)
القديس بولس الرسول خبرنا خبر اليقين عما رأى وسمع وعاين، حينما حُمل بالروح، وطار على أجنحة النور, واخترق كل ظلال الأرض والسموات، حتى السماء الثالثة, التي تصفو فيها الرؤيا, ليتجلى عالم الروح دون أقنعة أو ظلال أو خيالات, حيث لا تعدو الحركات المادية تؤثر على الرؤيا أو تزيف المنظور, وحيث تتحرر الروح، وينفتح الوعي المسيحي، ليرى ما لم تره عين، ويسمع ما لم تسمعه أذن, ويعي ويدرك ما لم يخطر على قلب بشر، هذا أعلنه له الله خاصة وكشف له بالروح كل مكنونات قلبه أو كما قال بولس نفسه:«حتى أعماق الله!»(اكو9:2-10)
ولكن، واحسرتاه! كنا نظن أنه قادر، بل أقدر من يستطيع أن يصف ويُسهب في الوصف عن هذا الذي رأى، ولكنه كف عن النطق! غير انه، بحذق الكاتب الماهر، حول المناظر إلى كلمات، وأخضع الرؤيا إلى تعاليم وعبارات. وظهور الرب له، بالبيان الروحي حوله إلى استعلان إنجيلي، وسلمنا الرؤيا كبشارة: «وأعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به, أنه ليس بحسب إنسان، لأني لم آقبله من عند إنسان، ولا علمته، بل بإعلان يسوع المسيح» (غل11:1-12)
وهكذا، أيها الإخوة, كان الإنجيل الذي بشر به بولس الرسول آحد مناظر الرب وإعلاناته: «إنه لا يوافقني أن أفتخر، فإني آتي إلى مناظر الرب وعلاناته، أعرف إنساناً (هو بولس نفسه) في المسيح قبل أربع عشرة سنة، أفي الجسد، لست أعلم، أم خارج الجسد، لست أعلم، الله يعلم, اختطف هذا إلى السماء الثالثة… اختطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها.» (كو1:12-4)
فقول الرب: «الذي يحبني أحبه، واُظهر له ذاتيى»، هذا حققه لبولس الرسرل إنجيلاً وبشارة، وعلماً ودراية، وحكمة روحية لم يدانيه فيها أحد. فقد وقع مناظر الرب على الكتابة، فكانت مبادىء وتعاليم, جعلت حياة ربنا يسوع المسيح وكأنها صورة إلهية متألقة بالمجد والجلال. وحول صورة ذات الرب إلى إدراك, ومعرفة للاهوت المسيح, صار العقل يلبسها كإكليل مجد، لا يدانيه إكليل, في كل معارف بني الإنسان.
والقديس يوحنا الإنجيلي رأى «ذات» الرب في رؤياه عل هيئة ابن الإنسان، بمد أن عرفه: «وسمعت ورائي صوتاً عظيماً، كصوت بوق قائلاً: أنا هو الألف والياء ، الأول والأخر… فالتفت لأنظر الصوت الذي تكلم معي، ولما التفت، رأيت سبع منائر من ذهب, وفي وسط السبع المنائر شبة ابن إنسان، متسربلاً بثوب إلى الرجلين, ومتمنطقاً عند ثدييه بمنطقة من ذهب، وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج, وعيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس النقي, كأنهما محميتان في أتون، وصوته كصوت مياه كثيرة، ومعه في يده اليمنى سبعة كواكب، وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه, ووجهه كالشمس وهي تُضيء في قوتها.» (رؤ10:1-16)
هنا لا نريد أن ندخل في شرح سفر الرؤيا. ولكننا بصدد «ظهور» علني للرب يسوع، حسب وعده الذي وعد أمام تلاميذه. ها هو يعلن ذاته, مستحسناً أن يظهر كابن الإنسان، وسط الكنائس على مدى عصورها السبعة حتى ختام الدهور، وهو قائم بينها بلباس الخدمة الأبيض المسترسل إلى القدمين، وطوق الذهب حول الصدر كرئيس كهنة الخيرات العتيدة، وشعره أبيض كالثلج بصورة «قديم الأيام»، وهو الله، عند دانيال النبي، وعيناه كلهيب نار تمحص ضمائر القائمين على الخدمة, ورجلاه كنحاس محمى في أتون، تصلح أن يدوس بها معصرة الآلام وحده على هامة أعدائه، وصوته كهدير مياه كثيرة، لأنه صوت الروح المتدفق بالحياة, تتكدس فيها كل كلماته التي خرجت من شفتيه، لأن حرفاً واحداً منها لا يسقط. وفي يده اليمنى سبعة كواكب, الحاملة لمصائر المختارين من كل الناس والشعوب, وعليها أسماؤهم, ومن فمه يخرج سيف ماض ذو حدين, وهو سيف القضاء بكلمته، وحد الدينونة, بحسب إنجيله, العتيدة أن تأتي على كل المسكونة, ووجهه المشرق كالشمس وهي تنير في ملء قوتها. فهو هو نور العالم، ومعه لا يوجد شمش ولا قمر.
هكذا يُظهر المسيح ذاته, كما يتراءى له, وحسب حاجة الناظرين. فهو يظهر كمعلم غريب ومسافر لتلميذي عمواس، والرب العالي الممجد في أعلى السموات لشاول, ورئيس الكهنة على كنائس الدهور ليوحنا الرائي، وابن الإنسان الجالس عن يمين العظمة في السماوات لإستفانوس الشهيد, ومسيح الصليب في روما لبطرس الهارب من حكم الموت!.
22:14- قَالَ لَهُ يَهُوذَا لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ: «يَا سَيِّدُ مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ؟».
«يهوذا» اسم مزعج. لقد تيقظ له القديس يوحنا بسرعة وأضاف ما ينفي عنه عار سميه؛ ربما كان هذا في بدء المناداة بإنجيل يوحنا على مستوى الوعظ من على منبر كنيسة أفسس. فحينما نطق بهذا الاسم رأى الوجوه قد اكفهرت، فاستطرد في الحال، وأصلح الحال: «ليس الإسخريوطي»!
كان آخر منظر ليسوع خط خطوطه العميقة والمفرحة في قلب التلاميذ ويكرهم هو يوم أحد الخوص, يوم دخول أورشليم الأخير، حين أعلن يسوع نفسه ملكاً بفم تلاميذه والأطفال، والمفهوم سرا لديهم أنه, ولا شك, هو المسيا الآتي، والباقي إلى الأبد. ألم ينادي علانية باقتراب ملكوت الله؟ إذاً، فلماذا هذا التغيير المفاجىء في الخطة؟ لماذا يحبس ظهوره على خاصته دون العالم؟ ولكن الفارق بين ما قاله الرب، وها فهم يهوذا ليس الإسخريوطي هو: على أي مستوى يملك يسوع المسيا؟ وعلى أي مستوى يظهر ويعلن ذاته؟ فالرب يتكلم عن السموات، ويهوذا يفكر في الأرض. الرب يعلن عن ألوهيته، ويهوذا ينظر إلى الجسد.
23:14- أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً.
«إليه نأتي»: مفتاح هذه الآية وما قبلها يأتي في كلمة «نأتي» بالجمع, الآب وأنا, حيث كأنما يرد المسيح على يهوذا, ليس الإسخريوطي, قائلأ: إن أردت أن تعرف ماذا حدث، وماذا سيحدث، وأين أظهر، وكيف ولمن أظهر، فاعلم أني سأكون مع الآب؛ وهذه إشارة مباشرة إلى لاهوته ووحدانيته مع الآب، والكلام هنا يأتي موازياً لما قاله لفيلبس: «االذي رآني فقد رأى الآب» (يو9:14)، وحيثما سيكون الآب سأكون أنا!! فإن أردث أن تراني، وأن أردتني أُظهر لك ذاتي، فاعمل ها يحبه الآب, والآب يحب من أحبني، وليس أحد يستطيع أن يحبني إن لم يحفظ كلامي!… حيث «كلام» المسيح يعني هنا الإنجيل, بل الكتات المقدس ككلمة موحدة الهدف، وليست الوصايا المقسمة والمتعددة الأهداف، وحيث الحفظ هو حفظ القلب، لا العقل وحده، وحفظ القلب لا يكون ولا يدوم، إلا بالممارسة عن حب وشغف!
«وعنده نصنع منزلاً»: «عمنده» باليونانية ( ) وهي تفيد إقامة المعية، وليس إقامة الحلول. ونحن نذكر أن علاقة الروح القدس بالتلاميذ والمؤمنين كانت: «ماكث معكم», «يكون فيكم» (يو17:14). أي التواجد أولاً على مستوى تواجد المسيح, قبل الصليب, معهم كمعلم وقائد وملهم ومخلص، ثم تواجد المسيح فيهم بعد القيامة والصعود والجلوس عن يمين الله «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:3)، وهذا لا يتم إلا بالروح القدس.
فهنا، في هذه الآية، يعود المسيح ويخبرهم، أنه في جو المحبة، ومن خلال التمسك بالوصايا، وباللهج في «الكلمة» التي أعطاها ككل، ليس فقط يأتي الروح القدس والمسيح ويكونان معهم للقيادة والتعليم والشهادة والدفاع عن الإيمان؛ بل ويأتي الآب أيضاً مع المسيح ليصنع منزلاً في قلوبهم, كأب يسكب عليهم من روح أبوته, فيستمتعون بالبنوة لله، وينادونه بالروح الصارخ فيهم بالحب: «أيا أبا الآب»: «لننال التبني، ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخأ: يا أبا الآب.» (غل5:4-6).
المنازل السماوية المعدة لنا فوق, والمنازل التي يصنعها المسيح والآب معنا الآن: وهكذا يستعلن لنا المسيح «المنازل السماوية» فوق، التي أعدها المسيح ليأخذنا إليها، لنكون معه ومع الآب: ربما كل حين ومنذ الآن، ويقيناً عندما نخلع الإنسان الترابي ونستوطن عند الرب في النهاية. والقديس بولس عاين المنازل السماوية العليا، واطلع على أمجادها، ولم يكن واثقأ هل كان ذلك بالجسد أم خارج الجسد، ولكنه كان واثقاً أنه رأى وعاين، وشاهد وشهد، لعظمة تلك المنازل العليا. وأيضاً هو القديس بولس نفسه، الذي يؤكد لنا مراراً أن الرب كان ينزل عنده من حين إلى حين، ليتكلم معه في وسط الضيقات مرشداً ومشجعاً: «فقال الرب لبولس برؤيا في الليل: لا تخف، بل تكلم، ولا تسكت. لأني أنا معك, ولا يقع بك أحد ليؤذيك, لأن لي شعباً كثيراً في هذه المدينة.» (أع9:18-10)
والرب نفسه وصف تواجده مع بولس، كمن يوجد في إناء مختار يستريح فيه: «فقال له (لحنانيا) الرب: اذهب، لأن هذا إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل.» (اع15:9).
وهكذا، أُعطينا هذه السكنى بالروح مع الآب والابن، فوق، في المنازل العليا. وتنازل الآب والابن ليسكنا عندنا هنا، تحت، في منازل كخيمة مؤقتة يعدانها في قلوبنا، ليحملا معنا حر النهار، ويشتركا معنا في ضيق الحياة. وهذا تنازل ما بعده تنازل من جهتهما، وتكريم ما بعده تكريم من نحونا، إذ بذلك نفهم أننا لسنا يتامى، بل صرنا فعلاً «أهل بيت الله»» (أف19:2)؛ وأذ قد صدق الوعد الذي ومد: «وها أنا معكم كل الأيام، إلو انقضاء الدهر.» (مت20:28)
ثم علينا أن ندرك ونتحقق، أن هذه السكنى لها ما يشهد عليها في أعماقنا، فهي حقيقة ناطقة ومحسوسة، هذا يؤكده القديس يوحنا: «ومن يحفظ وصاياه، يثبت فيه (في المسيح)، وهو(المسيح) فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا, من الروح الذي أعطانا» ( ايو13:4). وأيضاً: «بهذا نعرف أنا نثبت فيه وهو فينا, أنه قد أعطانا من روحه.» (ايو13:4)
«فإنكم أنتم هيكل اله الحى, كما قال الله، إني سأسكن فيهم, وأسير بينهم, وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً.» (2كو16:6)
وهذه الآية مجموعة من عدة نبوات كالآتي:
خر45:29 [وَأَسْكُنُ فِي وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً.]
لا 11:26-12 [وَأَجْعَلُ مَسْكَنِي فِي وَسَطِكُمْ وَلاَ تَرْذُلُكُمْ نَفْسِي, وَأَسِيرُ بَيْنَكُمْ وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْباً.]
أر 33:31 [بَلْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً.]
أر 38:32 [وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً.]
حز 20:11 [لِيَسْلُكُوا فِي فَرَائِضِي وَيَحْفَظُوا أَحْكَامِي وَيَعْمَلُوا بِهَا, وَيَكُونُوا لِي شَعْباً فَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً.]
حز 28:36 [وَتَسْكُنُونَ الأَرْضَ الَّتِي أَعْطَيْتُ آبَاءَكُمْ إِيَّاهَا, وَتَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً.]
حز 26:37-27 [وَأَقْطَعُ مَعَهُمْ عَهْدَ سَلاَمٍ, فَيَكُونُ مَعَهُمْ عَهْداً مُؤَبَّداً, وَأُقِرُّهُمْ وَأُكَثِّرُهُمْ وَأَجْعَلُ مَقْدِسِي فِي وَسَطِهِمْ إِلَى الأَبَدِ. وَيَكُونُ مَسْكَنِي فَوْقَهُمْ, وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً.]
وينبغي أن نلاحظ أن ما صنعه الله قديما من تواجده في وسط الشعب في خيمة الاجتماع وحلوله في الهيكل المصنوع بالآيادي، الذي كان صورة أو شبه السماويات وظلها، هذا حققه الله بالفعل بذاته بسكناه في الكنيسة كجسده السري: [أيها الإكليروس وكل الشعب، بطلبة وشكر، بهدوء وسكوت، ارفعوا أعينكم إلى ناحية المشرق، لتنظروا المذبح وجسد ودم عمانؤئيل إلهنا موضوعين عليه. الملائكة ورؤساء الملائكة قيام، السارافيم ذوو الستة الأجنحة, والشاروبيم الممتلئون أعيناً، يسترون وجوههم من بهاء عظمة مجده, غير المنظور ولا المنطوق به، يسبحون بصوت واحد, صارخين قائلين: قدوس، قدوس، قدوس، رب الصاباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس.]
وبحلوله في قلب المؤمن، كهيكله الخاص تماماً، يكون كمن أعاد كتابة نواميسه وكلمته من على الألواح الحجرية إلى ألواح القلب اللحمية والى أذهانهم الروحية: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء … أما أنا فأقول…» (راجع مت 5)
واليك، أيها القارىء العزيز، أسوق كلمة توضيح، أن هذه الوعود تمت بكل صدق ودقة، وقد عاشها القديسون واختبروها، وشهدوا لها في الكنيسة الحية الخالدة. فعليك يقع اللوم، إذا لم تكن قد اختبرت شهادة الروح القدس في قلبك, واستقعت بالوعي الروحي المسيحي الذي فيك إلى صوت الروح، وهو يهتف في أعماقك: يا أبا الآب، وتلذذت بتعطفات أبوة الآب الحانية، وعاشرت المسيح الوديع المتواضع بالحت المتبادل، وامسكت بيده، ومسك بيدك ليعبر بك مضايق العالم وأهواله، وذقت تعزيات الروح القدس، وانسكبت من عينيك دموع الفرح، وطفر قلبك فيك من قوة الروح المشتعلة بنار المسيح. فهذه حقائق أشد يقيناً من كل ما وعيناه في هذا العالم، والحب يعرف هذا.
24- الَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي. وَالْكلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.
المسيح، هنا، ينفي إمكانية مجيئه وسكناه في القلوب، عن الذين أحبوا الظلمة, فأبغضوا النور لزاماً، والذين أحبوا العالم الحافر فانجرفوا في تياره وعدموا حي الله تماماً، والذين حفظوا علوم الدنيا وغرقوا في فلسفات هذا العالم وأغانيه ولهوه ومسراته, فجهلوا وتنكروا لله وكلماته.
والمسيح، هنا، يشهد على نفسه، أن كل ما قاله وسمعوه منه هو من الآب وله؛ لذلك فالذين لم يقبلوه ولم يحفظوه, هؤلاء صيروا أنفسهم غرباء عن الآب وأعداء: «محبة العالم عداوة لله» (يع4:4). والمسيح، هنا، يرد من بعيد على كلام يهوذا, ليس الإسخريوطي, لماذا سيظهر لهم وليس للعالم. هنا المسيح يبرز السبب بدقة ووضوح، وهو انعدام المحبة وتجاهل الوصية. فمحبة العالم تفصل الإنسان عن الله, ومحبة الله تفصل الإنسان عن العالم. والذي يمارس أعمال الظلمة، يبغض النور وأعمال النور رغماً عنه، بل ويحقد على أبناء النور.
«وَالْكلاَمُ (الأصح «الكلمة» اللوغس بالمفرد) الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي»: كرر المسيح, في أوضاع كثيرة, أن الآب هو المصدر الذي يتكلم منه المسيح, ويستمد فكره، بقصد استعلان الآب في ذاته، واستعلان وحدته الذاتية مع الآب، ورفع الكلام الذي يتكلم به إلى مستوى الرسالة الإلهية, اللوغس الخارج من عند الآب, الكلمة, التي إذا قبلها الإنسان بالأذن الروحية، واحتفظ بها في قلبه, ومارس محتواها الروحي، فإنه يدرك سر الآب والابن، سر الحب الإلهي، ويحياه ويلتحم به.
25:14- 26 بِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. وَأَمَّا الْمُعَزِّي (الباراكليت) الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.
المسيح هنا يُجمّل جميع ما قاله في هذا المساء. وقد شر المسيح، مرارا، أن التلاميذ لم يكونوا على مستوى الفهم الصحيح لهذا الكلام, الأمر الذي لم يمنع المسيح من الاستمرار في الحديث, مستنداً على أن الروح القدس حينما يحل عليهم, سيذكرهم بكل ما قاله ويشرحه لهم. وهذا ما تم بالفعل، إذ نحن هنا فى إنجيل يوحنا بصدد تسجيلات هي من إلهام الروح القدس بلا نزاع، والتي بلغت من العمق والدقة في المعاني، والترتيب في سردها، درجة أرهقت أذهان جميع العلماءء بسبب الحكمة المذهلة التي كُتبت بها هذه الأحاديث. ويكفي أن يطلع القارىء على الأصحاح السابع عشر، ثم يسأل كيف سجل القديس يوحنا صلاة المسيح هذه بكل العمق والدقة اللذين فيها, والوقت كان مساء (وغالبأ كان المكان جبل الزيتون)، والظلام يلف المكان كله، والعقول متحيرة مما يحدث أمامهم، والمخاطر التي كانوا يتوقعونها كل لحظة؟ نعم, كيف كتب القديس يوحنا، أو كيف وعى كلمات هذه الصلاة التي جاءت كلماتها، بل وحروفها, موزونة بكل دقة بميزان اللاهوت بما يفوق كل حكمة الإنسان وإدراكاته. نعم, كيف تم ذلك؟ وكيف احتفظ بها الفديس يوحنا أكثر من ستين سنة حتى دونها؟ أليس هذا هو الروح القدس الذي كان حاضراً في ذهن القديس يوحنا، حسب وعد المسيح، ليرفع فكره كلمة كلمة إلى فكر المسيح نفسه: «أما نحن فلنا فكر المسيح» (كو16:2). فكما كان المسيح يتكلم بفم الآب، هكذا كان القديس يوحنا يكتب بفكر المسيح، والروح القدس يوحي إليه بالإنجيل كلمة كلمة, كما يقول القديس بطرس: «مسوقين من الروح القدس.» (2بط 21:1)
«البارقليط الروح القدس»: ويلاحظ هنا أن الاسم الكامل لشخص الروح سبق أن وضعه الإنجيل: «الباراكليت» وهو اسم علم مذكر، بعد أن كان «روح الآب» و «روح الابن» و «الروح القدس» كلها تأتي في حالة الحياد الجنسي أي لا مذكر ولا مؤنث. أما البارا كليت فهو، وإن كان يعبر عن صفة، إلا أنه يجيء كاسم شخص مذكر عاقل، تماماً على مستوى ألـ آب وألـ ابن.
«يرسله الآب باسمى»: هنا يتذكر القارىء أن المسيح جاء باسم الآب: «أنا قد أتيت باسم أبي» (يو43:5) = أنا هو؛ وها هو الروح القدس يأتي باسم المسيح, فكما كانت مهمة المسيح هي الإعلاء والتعريف بالآب وتمجيده، هكذا الروح القدس، فمهمته هي الإعلان عن المسيح، والتعريف بالابن وتمجيده: «ذاك يمجدنى, لأنه يأخذ مما لى ويخبركم» (يو14:16), «….روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يو26:15). وكما كان المسيح لا يتكلم من نفسه بل من الآب، هكذا الروح القدس «لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به» (يو13:16). وكما أن المسيح اقتصرت رسالته التعليمية على التلاميذ، كذلك الروح القدسى، فإن رسالته تقتصر على الكنيسة.
المسيح فتح وعي الرسل ليتقبلوا سر الآب؛ والروح القدس أعطى الكنيسة الوعي المسيحي لتتقبل سر التجسد: أن «يسوع رب» (1كو3:12)، وأن «الله ظهر في الجسد.» (1تى16:3)
ويلزم أن ندرك المعنى الإنجيلي لكلمة «الاس» الذي طالما شرحناه, والذي يفيد الشخص الإلهي وطبيعته وقوته وعمله وقوله ومشيئته. لذلك جاء قول المسيح: «يرسله الآب “باسمي”»، أي يرسله حاملاً مهمة الكشف والإعلان والتسليم لشخص المسيح، من حيث أقنومه الإلهي، وطبيعته، وقوته ء وعمله ء وقوله، ومشيئته.
وهذا المعنى يوضحه، على المستوى العملي، قول القديس بولس: «أن تتأيدوا بالقوة بروحه, في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة» (أف16:3-18)
«يرسله الآب»: «يرسله» هنا فعل يأتي في صيغة المستقبل الدائم؛ فالروح القدس هو في حالة إرسال دائم من الآب، للاعلان وللتكميل والشهادة فيما يخص الابن المتجسد، وإرساليته, أي الخلاص؛ كما أن «يرسله الآب» تجيء في زمن المستقبل الدائم بمعنى امتداد إرسالية الابن, فكأن المسيح لا يزال يكمل إرسالية الآب له، من واقع إرسالية الروح القدس للكنيسة كلها!
«يعلمكم كل شيء, ويذكركم بكل ما قلته لكم»: عمل الروح القدس كان يؤدي هاتين الوظيفتين: يعلم ويذكر. أي يعلم بحسب قدرته الفائقة في الاستعلان لكل الأمور التي تخص المسيح في شخصه, والتي تختص بالخلاص، وأسرار الحياة مع الله؛ وأيضاً يذكر التلاميذ بأقوال المسيح وكلماته، كما خرجت من فم المسيح، بمزيد من الاستنارة وقوة البصيرة، وحدة الذكاء والذاكرة. وهذه كلها واضحة في إنجيل يوحنا ورسائله، و بقية الأناجيل والرسائل .
وقوله: «يعلمكم كل شيء»، يوضح قول المسيح لتلاميذه: «إن لى أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو12:16-13)
27:14 – «سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ.
«وأقطع معهم عهد سلام, فيكون معهم عهداً مؤبداً» (حز26:37)
«ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً، قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام.»(إش6:9)
«سلام»: أصل الكلمة العبرية هو «شالوم ، وهي في العهد القديم ذات معان واستخدامات كثيرة، وأكثرها يختص بالحياة في الدنيا. ويقابلها باليونانية: «إيريني». وفي الاستخدامات المدنية ينحصر معناها في المعنى المقابل للعداوة؛ أما في الاستخدامات في أسفار العهد الجديد، فتنطلق انطلاقة رأسية بارعة لتشرح العلاقة الصحيحة مع الله, التي هي أصل ومنبع كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وما يتحكم في سلوكه وصفاته وأهدافه وكل حياته، ليس الحاضرة فقط بل والمستقبلة أيضاً!!
ولا تكفي مئات الصفحات لنجمع فيها أصل وتفرعات هذه الكلمة الخصبة جداً، فهي نظير «المحبة». فالله محبة، والمسيح هو إله «السلام» (2كو11:13, فى9:4)، وهو الذي صالحنا مع الله، بعد عداوة، فأسس فينا «السلام» «بدم صليبه» (كو20:1). أخذاً وعطاءَ، فنحن الأن «لنا سلام مع الله» (رو1:5)، «والمسيح هو سلامنا» (أف14:2)، والسلام الذي يعطيه الله يسكن عقولنا، وهو «يفوق العقل» (في7:4)، أي يرفعه فوق ذاته، ويدخله في الهدوء والسكينة الإلهية، وكذلك يسكن قلوبنا «ويملك عليها» (كو15:3)، فيوقف اضطرابها وجزعها ويدخلها في مجال الفرح الإلهي الذي يسود على الضيق والألم ويملك فوقه: «فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق» (رو12:12)، «وسلام الله الذي يفوق كل عقل، يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع.» (في7:4)
وهكذا، فإن مجال سلام الله في الإنسان هو في القلب والعقل كليهما، القلب منبع والعقل مصب.
«سلاماً أترك لكم. سلامي اعطيكم»: السلام الذي يتركه المسيح، والسلام الذي يعطيه، هنا، هو في موضعه اللائق تماماً، لأن الرب يتكلم ويركز على الفراق. وفي الآية (25) قال: «بهذا كلمتكم وأنا عندكم»، فهو الآن على أهبة الذهاب، وكأنه يقرؤهم السلام قبل ذهابه.
ولكن السلام عند المسيح يعني شيئاً مختلفاً عن السلام عند العالم: «ليس كما يعطي العالم أعطيكم». والمسيح هنا يذكر السلام في وضعين: الوضع الأول عهد، إنه يقطع عهداً مؤبداً يتركه لهم, بوضعه العام بدون تعريف: «سلاماً أترك لكم». والوضع الثاني، سلامه الخاص: «سلامي أعطيكم». أما السلام الأول بغير تعريف، فهو ليس التحية التي اعتاد أن يقولها لهم: «شالوم»، ولكنه في مفهومه الوداعي الأخير: «أتركه»، بمعنى «التركة» كميراث، بعد عشرة ستدخل تسجيلها النهائي لبداية عهد جديد. أما سلامه الخاص في وضعه الثاني، فهو «عطية» أو هبة، من نوع عطية الحياة الأبدية، وصفة دائمة لها: «وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد.» (يو28:10).
فالمسيح هنا يهب تلاميذه هبة السلام الإلهي الذي يفوق العقل (في7:4)، ويملك على القلب (كو15:3)، ويهدي الأقدام إلى طريق السلام (لو79:1)، وثمر بره يُزرع في السلام (يع18:3)، ويحل على أبناء السلام (لو6:10)، وأخيراً، سرف يتجلى بحلول الروح القدس ليدوم معهم ولهم إلى الأبد.
ويلاحظ أن المسيح كرر عطيته للفرح مع السلام، وأيضاً فرحه الخاص: «وأتكلم بهذا في العالم، ليكون لهم فرحي كاملآ فيهم» (يو13:17). لأن الفرح والسلام صنوان عزيزان لا يفترقان. والسلام، إذا اقترن مع الفرح، فهو في مفهوم الإنجيل سبق تذوق لطبيعة الحياة الأبدية، مشتهى أمل الإنسان في الوجود: «لأنكم بفرح تخرجون، وبسلام تضضرون. الجبال والأكام تشيد أمامكم ترنماً، وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي، عوضاً عن الشوك ينبت سروّ، وعوضاَ عن القريس يطلع آس، ويكون للرب اسماً علامة أبدية لا تنقطع» (إش12:55-13)، «لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو17:14)، «وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام, طول أناة، لطف، صلاح، إيمان.» (غل22:5)
ويلاحظ أن كل من الفرح والسلام الذي يهبه المسيح، سواء للتلاميذ أو للذين يؤمنون به، هو عطية روحية سماوية فائقة، يعطيها المسيح للذين يحبونه، الأن في هذا الزمان الحاضر ليحول به طبيعة الموت داخلنا (بسبب الخطية) إل حياة (بسبب بره الشخصي). الأمر الذي لخصه في قوله: « بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)
كما يلاحظ بشدة قوله: «ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو22:16)، بمعنى أنه يوازن كل أتعاب وضيقات الزمان الحاضر ويغلبها، على مستوى: ليس كما يعطيكم العالم, أعطيكم أنا سلامي!!
والير في هذا السلام القوي الدائم والفرح الكامل المقيم, هو انهما سلام المسيح الشخصي وفرح المسيح الشخصى. الذي يمارس بهما الإعلان عن حضوره وعمله في القلب: «كلمتكم بهذا، لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم» (يو11:15)، بمعنى أن فرحي يتحول فيكم إلى فرحكم, فيصبح فرحا ثابتاً في المسيح وبه!! وهذه هي النتيجة الحتمية لقوله: «اثبتوا في محبتي» (يو9:15)، «اثبتوا في وأنا فيكم» (يو4:15). وهذا هو ميدان الجهاد المطروح أمام المسيحي.
«ليس كما يعطي العالم اعطيم أنا, لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب»: نعم، فعطية المسيح إلهية، روحية، ثابتة باقية إلى الأبد؛ أما عطية العالم فهي تبدو ناضرة، مخضرة, زاهية، وجميلة إلى زمن، كالزرع اليانع والزهرة الجميلة، ولكن سرعان ما يذبل الزرع ويجف الزهر فيسقط. فسلام العالم مع الناس ومع الجسد إل يوم أو إلى ساعة، وحزنه وغمه وقلقه إلى أيام وسنين. ما يعطى باليمين يأخذه بالشمال, وما يوهب في الشباب يُنزع في الشيخوخة. وأن يدوم في العالم سلام فهذا ضرب من المحال, فأعظم سلام يعطيه العالم للانسان هو سلام الموت؛ أما سلام المسيح ففوق أنه يبقى ويدوم، فهو يسود فوق اضطرابات انحياة، ويرفع القلب والفكر فوق زعازع الدنيا: «ثقوا, أنا قد غلبت العالم.» (يو33:16)
«لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب»: موقف التلاميذ بفراق المسيح سيكون غاية في الحرج, غنمات مستضعفة وسط ذئاب شرهة للقتل وسفك الدماء، ولكن هوذا المسيح يستودعهم وديعة السلام، ضامناً لهم وللكنيسة كلها بهم، ومن بعدهم، هذا السلام كعطية فائقة. وقد أثبتت كل الأزمنة السالفة، بكل محنها البالغة حد الهول، صدق الرب.
و«السلام» في الأصل العبري يأتي من أصل «سالم»، أي غير منقوص أومفقود شيء مهما اعتدي عليه. وبهذا تغنى إشعياء النبي: «يجعل الخلاص أسوارا ومترسة. افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة. ذو الرأي الممكن تحفظه سالماً سالماً, لأنه عليك متوكل» (إش1:26-3)
المسيح لما أعطى سلامه الخاص، حق له أن ينبههم عن الاضطراب، لأن سلامه يعتبر قوة غالبة ومنتصرة فوة كل أسباب الاضطراب. ثم ينبغي أن نفهم أن المسيح هنا يعطي «أمراً»: «لا تضطرب قلوبكم، ولا ترهب», هذا أمر واضح وصريح، فهو وصية، ووصية المسيح تحمل وعداً إلهيأ وكأنها دعاء، ودعاء الله له قوة التنفيذ في داخله. فكل أمر للسميح يحمل في طاعته قوة التنفيذ. وقد شرحنا الاضطراب سابقاً (انظر شرح الأية1:14)، أنه يكون بسبب الخوف من المجهول، كنتيجة لانقطاع الربط التي تربط القلب بقاعدته الثابتة الأمينة، وهو الل. كذلك الرهبة، وهي الجزع، وتكشف عن فقدان الإيمان، أيضأ كنتيجة للارتباط بالجسد والعالم, والرهبة والخوف هما على قمة الخطايا التي تحرم الإنسان من الحياة الأبدية (رؤ8:21).
وقد صارت عطية السلام، كقوة، توهب من فم الرسل والتلاميذ ضمن أهم مؤهلاتهم: «وأي بيت دخلتموه، فقولوا أولاً سلام لهذا البيت. فإن كان هناك ابن السلام، يحل سلامكم عليه, وإلا فيرجع إليكم» (لو5:10-6). وقول الرب إن السلام يرجع إليهم في حالة عدم استحقاق آخذه، يفيد إفادة قاطعة أن السلام قوة روحية فعالة من الله، تخرج مع النطق لتسكن القلب والفكر، وتملأ النفس. فإذا لم تجد لها مكاناً في الأخرين, تعود مرة أخرى إلى ناطقها، لتسكن فيه وتزيده سلاماً، لأن كلمة الله لا تعود فارغة: «هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إلي فارغة، بل تعمل ما سررت به، وتنجح فيما أرسلتها له.» (إش11:55)
والرسل والتلاميذ وكل خدام الله الأمناء الأقوياء بالروح، أُعطي لهم أن يمنحوا سلام الله الذي يتبعهم أينما صاروا وأينما حلوا، كقوة روحية مرافقة .
وقد أخذت الكنيسة هذا الدعاء الوداعي للمسيح «سلامي أعطيكم»، ووضعته في فم الكاهن ليعطيه للشعب, أهل بيت الله, عند بدء كل صلاة: السلام للجميع, وختاماً لكل صلاة : «اذهبوا بسلام، سلام الرب مع جميعكم». وفي كلا الدعائين يكون رد الشعب: «ومع روحك أيضاً». وهذا الدعاء يستمد قوته من عطاء المسيح، فسلام المسيح هو قوة الصلح الذي أقامه المسيح بين الإنسان والله بدم صليبه (كو20:1)، وكأنما يفتتح الكاهن الصلاة باستحقاق دم المسيح، ليملك سلام المسيح على عقول المؤمين، ليشتركوا في العبادة بأذهان صاحية، وبختمها بعطاء السلام، كوديعة في قلوبهم، يعيشرن بها في مواجهة أتعاب الحياة.
28:14- سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي.
كانت هذه الأية موضع اجتهاد ونقاش ومساجلة وحوار؛ بل ومقاومة، وقد اتخذها الهراطقة أساساً لإيمانهم الخاطىء وعقائدهم المنحرفة، إذ اعتبروها تفيد أن الابن أقل من الآب من جهة طبيعته، أي أنه ليس مساوياً للآب من جهة اللاهوت.
إن محور الجدل والمحاولات الكثيرة التي أرهقت اللاهوت المسيحي في هذه الآية هي قول المسيح: «لأن أبي أعظم مني». وفي هذه المعلومة، إذا انحرف الفكر عن البساطة الإعجازية التي فيها، يسقط في هوة تقسيم اللاهوت إلى أعظم وأقل، وبالتال وضع الابن في وضع متدني عن الآب، ورفع الآب إلى درجة المسئول عن الابن.
وسنعرض للقارىء الشرح ونقدمه على جزئين:
الجزء الأول: «لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون».
الجزء الثاني: «لأن أبي أعظم مني».
وسوف نقدم الجزء الثانى على الجزء الأول لأن هذا يستلزمه الشرح، بسبب تقديم المسيح كلمة «لأن» في الجزء الثاني من الأية، وهذا يجعل الجزء الأول «كنتم تفرحون» تابعاً للجزء الثاني من الأية: «لأن أبي أعظم مني».
فترتيب الشرح يكون هكذا:«لأن أبي أعظم مني، لو علمتم ذلك، لكنتم تفرحون لأني أنا ذاهب ثم أتي إليكم». ولكن قوة الآية تكمن في جزئها الثاني الذي قدمناه هنا.
وبادىء الأمر نقول، إن شرح الآية يستلزم دائمأ التمسك بموضعها في الكلام. فلا يصح إطلاقاً أن نخلع الآية من مجرى الحديث ومن موضعها في الكلام، لكي نشرحها بمفردها، ونقسيها على الأصول اللاهوتية، بطرق اجتهادية تأملية.
فإذا أخذنا الآية التي نحن بصددها، ومحورها هو: «لأن أبي أعظم مني»، نجد أن الظروف التي أوحت إلى قولها هي كالأ تي:
أولاً: المسيح يتكلم في هذا الأصحاح وما قبله وما بعده عن الفراق الذي سيتم بينه وبين التلاميذ، بذهابه إلى الآب، وهو يجتهد ليوضح لهم أهميته.
ثانياً: روح التعزية التي حاول المسيح أن يحيط بها تلاميذه، حتى يخفف عنهم الحزن والضيق الذي ألم بهم.
ثالثا: محاولة التهوين من شأن الموت الذي سيجوزه، باعتباره فترة قصيرة, يقوم بعدها ويتراءى لهم ويكون معهم وهم معه.
رابعاً: إن الموت الذي سيجوزه هو الوسيلة الهامة جداً التي بها سينطلق إلى الآب, مفتتحاً طريق الخلود، حاملأاً معه المختارين.
خامساَ: ان في ذهابه إلى الآب هو مرتبط ارتباطاً أساسياً بإرسال الروح القدس، الذي سيقوم بتعزيتهم وتعليمهم وتذكيرهم بكل ما قاله لهم وعمله لهم، وأنه سيكون معهم وفيهم عوضاً عنه، بل ويكشف لحم حضوره الدائم.
سادساً: تأكيده لهم أن ذهابه إلى الآب، ولو أنه سيفقدهم رؤيته، إلا أنه «خير لهم أن ينطلق» (راجع يو7:16) من ان يبقى معهم. فهنا, ذهاب المسيح إلى الآب هو حالة قيمها المسيح, أها أعظم وأكثر خيراً بالنسبة لهم هم.
واضح, إذن، أن قول المسيح: «لأن أبي أعظم مني» هو مقولة خاصة بالظروف المحيطة بها وهي ذهاب المسيح إلى الآب، الذي هو حالة أفضل للتلاميذ وأكثر خيراً بالنسبة لهم. وهذا يجب أن يجعلهم يفرحون. لأن النتائج المتحصلة من ذهابه إلى الآب قد أجملها لهم بقوله أنه إذا انطلق، سيطلب من الآب أن يرسل لهم باسمه معزياً أخر، هو الروح القدس. والروح القدس سيتولى شرح وتذكير التلاميذ بكل ما قاله المسيح، بالإضافة إلى أنه سيستعلن لحم كلق الحق, ويعرفهم بكل شيء, ويكشف لهم حقيقة المسيح وكل ما يختص به، لأنه سيكون واسطة حلول المسيح فيهم، بالإضافة إلى أنه سيمجد المسيح فيهم وبهم، أي يجعلهم شهودا وآلات لتمجيد المسيح.
هذا كله سيكون ثمرة ذهابه إلى الآب، فكيف لا يفرحون, إن كانوا قد أحبوا المسيح حقاً؟
الجزء الثاني: «لأن أبي أعظم مني».
حينما يقول الابن إن أبي أعظم مني، فهو يتعرض لقانون الأبوة والبنوة, في وضعه الإلهي الأمثل, الذي منه خرجت كل أبوة وبنوة في العالم, فالآب أعظم من الابن ليس لأنه أعظم جنساً, فاللاهوت في هذا واحد لا ينقسم ولا يتعالى أو يتعاظم في نفسه على نفسه, فالجوهر، أي الطبيعة، في الله واحد وبسيط غير متجزىء.
ولكن لما يقال أن جنس بني آدم هو بنوة وابوة، أو بالاختصار أن جنس الإنسان كجنس هو وحدة أو «واحد» يقوم على الذات الإنسانية التي فيها الابوة البنوة، فالإنسان ذكراً كان أو أنثى هو إنسان، أي جنس واحد، وأصلاً خلق الله الجنس الإنساني ليكون واحداً وأتت المرأة كجزء منه وضلعاً من ضلوعه، لذلك يقال أن الرجل والمرأة حينما يتزاوجان يصيران مرة أخرى جسداً واحداً.
فلو ارتفعنا إلى جنس الألوهة، وهو واحد حتماً، فهو حتما يقوم على الذات الواحدة التي تمثله أو تكونه، وهذا الجنس يقوم بالتال على الأبوة الواحدة الوحيدة والبنوة الواحدة الوحيدة فى الذات الكاملة الواحدة. وكون الآب أعظم من الابن في ذات الله الواحدة لا يفرق ولا يثني في الذاات, ولكن هذا هو قانون الا الأبوة والبنوة في الله, الذي انبثقت منه كل ابوة وبنوة في العالم بقانونها الأدبي, أن الآب يكون دائماً أعظم من الابن أدبيا, وليس طبيعة, ولا جنساً، ولا موهبة, ولا قوة, لأن الأعظم في الأبوة الإنسانية لا يفيد أي صفة كانت سوى صفة الابوة, أو اسم الآب في الذاتية البشرية وحسب.
فكون الآب أعظم من الابن, فهذا هو قانون قيام الذات الذي يضمن وحدتها وكمالها, فالله الآب يعطي الله الابن ليس لأنه أغنى ولا أقوى, ولكن منطق الذات المتكاملة يحتم بالحب عطاءً وأخذاً لتصير الذات مكتفية بذاتها وفي ذاتها. والحب يمثل العطاء الأعظم والأقوى في الذات الإلهية: «فالآب يحب الابن» لأن هذا هو قانون الأبوة الحتمي, والابن يحب الآب, إنما كرد فعل مساو تماماً, فهذا أيضأ قانون وفعل البنوة الحتمي, وهذا الحب المتبادل, يعطي للذات اكتفاءها. لذلك حينما يقول المسيح باعتباره الابن. «أبي أعظم مني» فهو يشير إلى علاقة, فالحب في الله هو طبيعة العلاقة القائمة في الذات المتكاملة. لذلك, فالذات الإلهية هي «الاكتفاءه» المطلق الوحيد (الكائن بذاته).
لذلك يقول المسيح في الأصحاح الخامس: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته» (يو26:5)، فهو لم يعطه حياة بل «أعطاه أن تكون له حياة في ذاته». هذا أيضأ هو قانون الأبوة والبنوة العام. وفي الإنسان يكون نفس الوضع، لو أخذناه ليس على مستوى الفرد الواحد كأب إنما لو أخذناه على مستوى الذات الإنسانية الواحدة كجنس، فإن الآبوة في الذات الإنسانية أعطت بكيانها أن يكون للبنوة حياة في ذاتها, وهذه الحقيقة لا تظهر على مستوى الفرد الواحد في الجنس البشري إلا على مستوق النسل، حيث يعطي الآب حياة لابنه بالنسل، فتظهر الحياة، وهي تنتقل من الآب إلى الابن, وهذا حتمه حكم الموت, لأنه بدون أن ينسل الإنسان تتوقف حياته على الأرض وتتلاشى الذات الإنسانية من العالم المادي. فلكي تظل الذات الإنسانية كائنة، وقائمة على الأرض، تحتم عليها أن تسلم شعلة الروح التي فيها، بالنسل، إلى خلف لها، لتبقى وتدوم على الأرض.
أما الله فهو الكائن بذاته، والحي بجوهره الذي لا يعرف الموت ولا التغيير، وهو قائم دائم بذاته ليس فيه ظل دوران (الحركة ويتبعها الزمن), فهو فوقة الزمان والأكوان، وكل كيان يستمد منه كيانه، وهو هو، لا يتغير، ولا يتبدل، وسنوه لا تفنى!!
لذلك, فالذات الإلهية منزهة عن النسل لذاتها. لأن الابوة فيها دائمة بحياتها الازلية فيها, والبنوة دائمة بحياتها الأزلية فيها أيضا. فلا الآبوة تحتاج إلى من يقيمها, فهي قائمة دائمة, ولا البنوة تحتاج إلى من يكملها, فهي كاملة مع الآب في ذات واحدة.
والأبوة في الله غير منحصرة في ذاتها، بل تعطي عطاءَ أزلياً وأبدياً, فكل ما لها للابن. والابن غير منحصر في هذا الميراث الأبوي, بل يعمل به لحساب الآب, فكل غنى ميراثه في الآب يرده للآب, عملاً, سواء كان الحب أو المجد أو الكرامة, حتى أن الابن, كما عرفناه في المسيح, سُمى بل تعين لنا رباً, لمجد الآب!! «ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب.» (في11:2)
والمجد الذي أعطاه الآب للابن: «المجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم (يو5:17)، رده الابن للآب أعمالاً: «أنا مجدتك على الأرض» (يو4:17)؛ والحب الذي أعطاه الآب للابن: «الحب الذي أحببتني به» (يو26:17)، رده المسيح للآب بصورة منظورة لنا، في ذبيحة محبته على الصليب، صلحاً للعالم كله مع الآب: «أي إن الله كان في المسيح مُصالحا العالم لنفسه» (2كو19:5)، وتطهيراً لكل خطاة الأرض: «الله، بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة؛ كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي، به أيضاً عمل العالمين؛ الذي، وهو بهاء مجده, ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالى.» (عب1:1-3)
وبالاختصار, وبشمول يفوق العقل, فإن كل ميراث الابن في الآب, أو بمعنى آخر كل غنى الروح والمعرفة والمجد كميراث للابن, منحه الابن للذين آمنوا بالآب وبه. فورث الإنسان مع الابن في الله, الأمر المذهل للعقل, فقد صرنا بالمسيح وفيه «ورثة الله, وارثون مع المسيح» (رو17:8). وأهم ما في هذا الميراث هو «البنوة»» الدائمة, فهذا هو الملكوت الممنوح للانسان, ميراث خيرات الله الروحية كبنين. وهكذا, بقدر ما ورث الابن الآب, رده للآب مشمولا بدخول الإنسان هذا الميراث عينه, ليستوعب هذا الغنى الأبدي اللانهائي.
ولكن ميراث الابن للآب لا يشمل عطايا خارج الكيان الجوهري في الذات الإلهية، لأن كل ما للآب هو للابن، وكل ما هو للابن هو للآب: «وكل ما هو لى، فهو لك. وما هو لك، فهو لى« (يو10:17). لهذا يقول المسيح: «أنا والآب واحد» (يو30:10). ولكن يتضمن العطاء والأخذ في الله بين الآب والابن تواجد الآب في الابن والابن في الآب. فكل واحد يعطي ذاته للآخر, بصورة فائقة, بحسب الطبيعة الفائقة لله. ولكن حتى هذا التواجد المطلق بين الآب والابن, استثمره الابن في الإنسان, لحساب غنى اللاهوت. فكما تواجد «الابن» في الجسد البشري فتجسد وصار «ابناً للانسان», وهو حامل البنوة الإلهية وكل غناها وميراثها؛ هكذا أعطى الإنسان، بصورة ما، كل من يؤمن ويقبل الابن المتجسد، أي المسيح، أن يتواجد الابن فيه، على قدر ما يطيق الإنان ويحتمل: «اثبتوا فيّ، وأنا فيكم» (يو4:15). وعاد يخاطب الآب بهذا القول العجيب: «ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط (التلاميذ), بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم, ليكون الجميع واحداً, كما أنك أنت أيها الآب فّي وأنا فيك, ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا.» (يو20:17-21)
والمسيح, لكي يمهد هذا التواجد العالى القدر ويجعله مناسباً وممكنا يقول: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداء كما أننا نحن واحد.»(يو23:17)
ثم يعود المسيح ليطبق التوازي في الوجود, مع حفظ الفارق بين ما للاهوت وما للانسان, هكذا: «أنا فيهم, وأنت فيّ, ليكونوا مكملين إلى واحد.» (يو23:17)
وهنا، وفي كل مرة يشدد المسيح أن هذا الوجود الجديد للانسان في عمق الصلة الأبوية والبنوية في الله هو آية، دائمأ تكون لحساب الآب ليراها العالم: «ليعلم العالم أنك أرسلتني» وأحببتهم كما أحببتنى.» (يو23:17)
وهكذا تبدو رسالة الابن المتجسد في العالم كلها لحساب الآب.
وهكذا أيها القارىء العزيزه ينكشف سر الإيمان المسيحي الأعظم ، الذي كان مخفيا مدى كل الدهور السالفة، الذي أعلنه الله بإرساله الابن إلى العالم متجسداً، ليستعلن لنا «سر الآب والابن» الذي به صار تجديد الخليقة البشرية ورفعها إلى مستوى البنوة لله، ومنحها كل مميزاتها، لحياة أبدية مجيدة، لسعادة الإنسان وفرحه، عوض كآبة عبودية الدهور السالفة والحزن والتنهد والبكاء تحت سخرة الشيطان والجسد، الذي كتب به الإنسان تاريخه السالف
نستخلص من هذا, أن الآب أعظم من الابن لأن هذا هو قانون الأبوة والبنوة؛ كذلك فالآب يعطي والابن يأخذ، وهذا أيضأ قانون الأبوة والبنوة، وهذا يرتد على الذات ليعطيها الاكتفاء والكمال والوحدانية الخصبة.
وبالنهاية، نكون قد بلغنا العمق والغنى في قول المسيح: «أبي أعظم مني»، والذي ينتهي إلى الاكتفاء والتكامل في الذات الإلهية, على أساس هذه الصفة التي تميز الابوة تمييزاً أدبياً مطلقاً، وهذا التمييز يجعل الذات الإلهية محبة ومحبوبة, عاملة غير ساكنة، متكلمة غير صامتة، بل متكلمة سامعة, مريدة فاعلة، ناظرة ومنظورة، راسلة ومرسلة, عالمة ومتعلمة, مجيدة وممجدة.
وباختصار, هي ذات كاملة كمالاً مطلقاً، مكتفية في كيانها اكتفاءً مطلقاً. فالذات الإلهية، كأب وابن، واحدة، ووحدتها غير واقعة تحت العجز والعوز. فوحدانية الله خصبة, ومن خصوبتها يغتني العالم. هذا، وعلى أساس ذلك، نسمع من فم المسيح أسرار هذا التكامل بين الآب والابن:
+ «لأن الآب يحب الابن، ويريه جيع ما هو يعمله.» (يو20:5)
+ «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني، وأتمم عمله.» (يو34:4)
+ «لا يقدر الابن أن يعمل من نقسه شيئاً، إلا ما ينظر الآب…» (يو19:5)
+ «أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين، وديونتي عادلة.» (يو30:5)
+ «لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني.» (يو16:7)
+ «تعليمي ليس لى، بل للذي أرسلي.» (يو16:7)
+ «أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي.» (يو28:8)
+ «الذي أرسلني هو معي، ولم يتركي الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه.» (يو29:8)
+ «أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يو40:8)
+ «لأني لم آت من نفسي، بل ذاك آرسلني.» (يو42:8)
+ «لكي أكرم أبي، وأنتم تهينوني.» (يو49:8)
+ «لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني، هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم.» (يو49:12)
+ «الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال.» (يو10:14)
هذه هي الابوة في الله، وهذه هي البنوة في الله، ليس بينهما أي تنافر أو شقاق أو تعال. يستحيل لأي إنسان يتمعن فى هذه الآيات أن يعثر على أي انقسام أو ثنائية، فالوحدة المطنقة بين الآب والابن والتكامل المطلق في الذات، يضمنها الحب المطلق من الآب نحو الابن، والطاعة المطلقة من الابن للآب. فالآب يشاء، والابن يكمل المشيئة بنفس القوة، والآب يتكلم والابن يعلم بنفس الكلام وبنفس الحكمة، والآب يعمل والابن يعمل بنفس القوة والاقتدار.
فإذا قال الابن أن «الآب أعظم مني»، فلأنه «آب» فقط والابن يكرم الآب لأنه «ابن»: «لكني أكرم أبي، وأنتم تهينونني» (يو49:8). ولكن إذا خرجنا خارج هذه الدائرة الخاصة جداً والنورانية الفائقة بين الآب والابن, أي ندخل إلى ما يخصنا نحن من هذه الابوة والبنوة الإلهية، نسمع من المسيح التساوي المطلق فى الكرامة والمجد.
«لكي يكرم الجميع الابن, كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن، لا يكرم الآب الذي ارسله (يو23:5)= كرامة واحدة للآب والابن = إله واحد.
«أنتم تؤمنون بالله, فآمنوا بى» (يو1:14) = الإيمان بالآب يُحتم الإيمان بالابن، لأنهما ذات واحدة.
« أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل» (يو17:5) = العمل واحد بين الآب والابن
«أنا والآب واحد.» (30:10) = واحد فى الجوهر والذات = إله واحد.
«وكل ما هو لى فهو لك، وما هو لك فهو لى.» (يو10:17) = ¬كل صفات ومميزات الآب هي في الابن وكل صفات وميراث الابن هي في الآب = وحدة الصفات والمميزات .
«الذي رآني، فتد رأى الآب» (يو9:14) = الله الآب غير منظور. الله الابن هو منظور الآب. = الآب والابن منظور واحد.
« أنت أيها الآب في، وأنا فيك.» (يو21:17) = الكيان الواحد.
«وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي ارسلته = معرفة الآب والابن فيها الحياة الأبدية.
هذه الآيات، تشير، بتأكيد، أن عمل الآب غير الظاهر يعمله الابن في الظاهر، كذلك المشيئة وكل شيء, فالآب والابن لهما عمل واحد ومشيئة واحدة.
وفي الختام نقول إن المسيح إذا قال: «أبي أعظم مني»، فذلك لأنه هكذا ينبغي أن يرى الابن أباه، فالآب يتحتم أن يكون عظيمأ في عين الابن، لتكون الذات الإلهية كآب وابن عظيمة في تكاملها ووحدتها. أما من جهة العمل، فالتساوي في المشيئة والقدرة والحكمة هو مطلق بين الآب والابن، وأما من جهة الكرامة والمجد والعبادة والسجود فهو واحد بلا تفريق.
الجزء الأول: «لو كنتم تحبونني, لكنتم تفرحون»: يلاحظ القارىء أن هناك صلة قوية وأساسية بين قوله: «لو كنتم تحبوننى لكنتم تفرحون» وبين قوله: «لأني قلت أمضي إلى الآب لأن أبي أعظم مني».
«لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون»: هذه المعادلة قائمة بذاتها، كحقيقة أساسية في الإيمان المسيحي, لأن كل من أحب المسيح، آحبه المسيح! وحب المسيح معه الفرح الدائم، الفرح الذي لا يُنطق به ومجيد: «الذي, وإن لم تروه، تحبونه. ذلك, وإن كنتم لا ترونه الآن, لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.» (ابط8:1)
هذا ليس تعليماً بل اختباراً، وهو اختبار صادق مفتوح لكل من يريد. ولكن المسيح يكمل هذا الاختبار، بأن ينسبه بسبب آخر هام، وهو: «لأني قلت أمضي إلى الآب» أى أن هذا بحد ذاته ينبغي أن يكون سبباً أيضاً لكي تفرحوا، إن كنتم تحبوننى!
فلماذا يكول ذهاب المسيح إلى الآب سببأ لكى نفرح، إن كنا صادقين فى محبة المسيح.
هنا يمكن أن نفهم أن فرحنا يكون، إما للمسيح الذق نحبه لأنه سيكتسب مكاسب أخرى لحسابه، أو يكون فرحنا لأنفسنا بسبب المسيح الذق نحبه لأنه سيكتسب مكاسب أخرق لحسابنا.
أولاً: مكاسب المسيح حينما يمضي إلى الآب لأن الآب أعظم منه:
واضح أن مضي المسيح إلى الآب، معناه أنه يختم رسالته الجسدية على الأرض ليبدأ رسالته عند الآب، أي ينتقل من الرسالة الأقل إلى الرسالة الأعظم, وهذا يشمل عدة مكاسب لا تعد ولا تحصى، نذكر منها القليل الذي يسعفنا به درايتنا بسر الإنجيل.
+ بادىء ذي بدء، سيقدم إلى الآب ذبيحته الحية، ليقف أمام الآب بجسده، كخروف قائم على عرش الله كأنه مذبوح (رؤ6:5). وهذه إضافة عجيبة ورهيبة لمركز الابن عند الآب, إذ سيأخذ الابن وصفاً جديدا دائماً لدى الآب بالنسبة لنا.
+ «بعد هذا نظرت، وإذا باب مفتوح في السماء، والصوت الاول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلاً: اصعد إلى هنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا. وللوقت صرت في الروح، وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس … يخر الأربعة والعشرون شيخاً (قسيساً) قدام الجالس على العرش، ويسجدون للحي إلى أبد الأبدين, ويطرحون أكاليلهم أمام العرش، قائلين: أنت مستحق، أيها الرب، أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء وهي بإرادتك كائنة وخُلقت.
ورأيت على يمين الجالس على العرش سفراً مكتوبأ من داخل ومن وراء, مختوماً بسبعة ختوم (سفر الدينونة). ورأيت ملاكأ قويا ينادي بصوت عظيم: من هو مستحق أن يفتح السفر ويفك ختومه؟ … فقال لي واحد من الشيوخ: لا تبك، هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود، ليفتح السفر ويفك ختومه السبعة. ورأيت فإذا وسط العرش … خروف قائم كأنه مذبوح … فأتى وأخذ السفر…. ولما أخذ السفر، خرت الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون شيخاً أمام الخروف، ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوءة بخوراً، هي صلوات القديسين، وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه, لأنلك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك, من كل قبيلة ولسان وشعب وامة, وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة, فسنملك على الأرض, ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش … وكان عددهم وبوات ربوات وألوف ألوف قائلين بصوت عظيم: مستحق هو الخروف المذبوح, أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة.
وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر، كل ما فيها، سمعتها قائلة للجالس على العرش وللخروف: البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين … فقال لى: هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة، وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف، من أجل ذلك هم أمام عرش الله، ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش يحل فوقهم. لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر، لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم, ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية, ويمسح الله كل دمعة من عيونهم» (رؤ 4و5و7)
فكيف لا يفرح، ليس التلاميذ فقط, بل كل من آمنوا بذبيحة المسيح الحية! وهو جالس وسط عرش الله أبيه.
+ ونفرح له لأنه سيدخل ملكوته: أما كان يبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده» (لو26:24)
هذا الملكوت الذي أعطاه إياه أبوه العظيم في أبوته: «شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو12:1-13)، فكيف لا يفرحون، إن كانوا فعلاً قد أحبوا المسيح، لأنه ذاهب إلى أبيه؟
+ «لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات, وأجلسه عن يمينه في السماويات, فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمى, ليس في هذا الدهر فقط, بل في المستقبل أيضاً؛ وأخضع كل شي تحت قدميه, وإياه جعل رأسأ فوة كل شيء, للكنيسة التي هي جسده, ملء الذي يملأ الكل في الكل.» (أف18:1-23)
فكيف لا يفرحون بالمسيح وللمسيح، لأنه ذاهب إلى أبيه، إذ كانوا يحبونه حقاً؟
+ «فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دُفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض, فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت18:28-19)
فكيف لا يفرحون لأنه ذاهب إل الآب إن كانوا يحبونه حقاً؟
+ «إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً (خلص المسبيين تحت الخطية وأخذهم كأسرى الرجاء)، وأعطى الناس عطايا. وأما أنه صعد، فما هو إلا إنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكى يملأ الكل» (أف8:4-10)
فكيف لا يفرحون للمسيح لأنه ذاهب إلى أبيه، إن كانوا يحبونه حقاً؟
ثانياً: مكاسبنا التي تدعونا أن نفرح, لأن المسيح ذاهب إلى أبيه إن كنا نحبه.
أسباب لا حصر لها تدعونا أن نفرح ونتهلل لذهاب المسيح إلى أبيه.
+ «بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس, فوجد فداءً أبدياً» (عب12:9)
+ «لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد، أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها، ليظهر الأن أمام وجه الله لأجلنا. (عب24:9)
+ «وأما هذا، فمن أجل أنه يبقى إل الأبد، له كهنوت لا يزول، فمن ثم يقد رأن يخلص أيضأ إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله, إذ هو حي في كل حين, ليشفع فيهم.» (عب24:5-25)
+ «وإن أخطأ أحد، فلنا شفيع عند الآب, يسوع المسيح البار.» (1يو1:2)
+ «أنا أمضى لاعد لكم مكاناً, وإن مضيت، وأعددت لكم مكاناً، آتي أيضاً وآخذكم إلىّ, حتى حيث أكون أنا, تكونون أنتم أيضاً» (يو2:14-3)
+ «الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا أعملها، يعملها هو أيضأ، ويعمل أعظم منها، لأني ماضى إل أبي. ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله, ليتمجد الآب بالابن» (يو12:14-13)
+ «وأنا أطلب من الآب, فيعطيكم معزياً آخر, ليمكث معكم إلى الأبد … وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم, ويكون فيكم, لا أترككم يتامى, إني آتي إليكم» (يو16:14-18)
+ «واما المعزي, الروح القدس, الذي سيرسله الآب باسمي, فهو يعلمكم كل شيء, ويذكركم بكل ما قلته لكم.» (يو26:14)
+ «الحق أقول لكم، إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده, تجلسون أنتم أيضأ على اثني عشر كرسياً, تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر.» (مت28:19)
+ «وأنا أجعل لكم, كما جعل لى أبي, ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي …» (لو29:12)
+ «لأنه إن كنا، ونحن أعداء، قد صولحنا مع الله بموت ابنه, فالأولى كثيراً, ونحن مصالحون, نخلص بحياته. وليس ذلك فقط, بل نفتخر أيضآ بالله بربنا يسوع المسيح, الذي نلنا به الآن المصالحة.» (رو10:5-11)
+ «الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً، فإننا ورثة أيضاً, ورثة الله, ووارثون مع المسيح.» (رو16:8-17)
وهكذا، في هذه الآية المزدحمة بالمعاني اللاهوتية (يو28:14)، التي اُعثر فيها ذوو البصائر الكليلة، وطوحت بهم في عدم الإيمان بوحدة الابوة والبنوة, وبمساواة الابن للآب في المجد والكرامة، رأينا كيف أسس بها هذا الإنجيل مبدأ تعظيم الابوة, ليس على حساب تعالي الآب عن الابن في أي القدرات أو الاختلاف بينهما في أي الصفات, بل على أساس تكريم الابن للآب المردود من الآب للابن بنفس المقدار والقوة. فإن كان الآب أعظم من الابن، فالابن هو الوارث والمالك لهذه العظمة وحده، وهي مردودة له، لأنه الواحد الوحيد الذي له أن يقول لله «أبي» بنوع الملكية والتخصص. فالله هو أبوه خاصة، والابن وحده هو الذي يملك الله كآب.
فإن قال الابن: «أبي أعظم مني»، فعظمة أبيه هي له، وهي له خاصة، وهو يملكها، بل وقد أتى هو لكي يستعلنها في نفسه، وذهب إلى الآب ليغدق منها علينا.
وبالنهاية، يلزم أن نفهم وننظر إلى تسامي عظمة الأبوة الإلهية على لسان المسيح «الابن» في هذه الآية، أنها في نطاق الوحدة والتساوي المطلق بين الآب والابن في جوهر اللاهوت الواحد، بكل خصائصه وشمائله.
أما بالنسبة للآية، ككل، فإن الذى يحب المسيح حقاً ويؤمن أنه ذهب إلى الآب فعلاً، فهو الذى ينال وعد مجيئه، ووعد إرساله الروح القدس من عند الآب.
29:14- وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ.
«الآن»: «الآن» هنا هي ساعة المحنة التي ابتدأت بالفعل. «الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو31:12). لقد أحاط المسيح ذهن التلاميذ بكل الجوانب الظلمة لهذه التجربة القادمة، فكان «صادقاً وأميناً» (رؤ14:3)، ولكنه أعطاهم كل الدلائل الواثقة، التي يمكن أن يعتمدوا عليها ليعبروا هذه المحنة، دون أن يتزعزعوا. «لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله, فآمنوا بي» (يو1:14). ولكن المسيح اعتمد كثيراً على ما بعد المحنة, حينما يكتشف التلاميذ, ونحن معهم, صدق وأمانة المسيح في كل ما قال، قبل أن يحدث، بخصوص المحنة العظمى التي سيجوزها: الموت!! بكل أهواله, ليجدوا في القيامة تحقيق الوعد، ليصير إيمانهم بالمسيح وثيقاً، وإلى الأبد, وعلى مستوى الإيمان بالله: «أقول لكم الآن، قبل أن يكون، حتى متى كان, تؤمنون أني أنا هو» (يو19:13)
«قلت لكم»: ما قاله المسيح في كل ما يختص بالآلام المزمعة والمحنة التي سيواجهها التلاميذ لفترة قصيرة للغاية، هي بحساب الزمن لم تزد عن ثلاثة أيام، ولكنها بحساب استعلان أعمال الله فهي مخاض الدهور السالفة كلها، منذ واجه الإنسان خروجه من لدن الله.
لقد تحمل التلاميذ أصعب فترة انتقال واجهتها البشرية، ولا يمكن وصف صعوبتها وحقيقتها، إلا بما وصفه المسيح: «أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح. المرأة وهى تلد تحزن، لأن ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل، لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح ، لأن قد وُلد إنسان في العالم. فأنتم كذلك، عندكم الأن حزن. ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم.» (يو20:16-22).
ولكن اسمع الوجه الأخر لهذا الحزن وهذه المحنة، إنها «التجديد»: «أنتم الذين تبعتموني في التجديد» (مت28:19). حيث هذه الكلمة اليونانية من أصل ( )، حيث يصير معنى الكلمة: يولد ثانية, أو يولد من جديد, أو تفيد معنى «العودة من السبي». وعلى العموم تفيد في العهد الجديد: «القيامة», أو التجديد بالمعمودية.
هذا الوصف، بكل عمقه، ينطبق على كل إنسان مسيحي، حينما يعاني نفس المحنة بكل أبعادها، لينتقل من الظلمة إلى النور، فيجوز المخاض بعينه، ليٌستعلن له المسيح المُقام، ليشرق عليه نور القيامة، فيقوم، ليعيش جدة الحياة كإنسان جديد، خليقة جديدة تحيا في فرح المسيح الدائم وسلامه ونصرته فوق العال . حيث لا يعود ينظر الماضي بحزنه وضيقه وكآبته، إلا كفترة تحضير قصيرة للغاية، مهما تكون قد أكلت من طول العمر وعرضه، يكفي أن يصير ما بقي من العمر في دائرة الوعد الإلهي بقيادة الروح القدس (يو26:14)
30:14- لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ.
«كَثِيراً»: لا يمكن أن يستقيم المعنى هنا بدون كلمة «كَثِيراً» لأن المسيح استمر بالفمل يتكلم ويعلم، وكن لقدر محدود. أما لماذا قال المسيح: «لا أتكلم أيضاً معكم…». فهو بسبب إحساسه الفائق باقتراب الشيطان، «رئيس هذا العالم»، ممثلاً في الأشخاص الذين استخدمهم في مهمته المفضوحة، وبالتال انتهاء زمن الكرازة والتحضير لعملية الخلاص العظمى. أو بمعى أوضح، أن المسيح أكمل رسالة استعلان الآب بالكلمة، سواء بالتعليم، أو الآيات، وقد حان تكميل رسالة الخلاص بذبيحة نفسه المحددة منذ الدهور. فالشيطان لا يتجاسر أن «يأتي»، دون إذن صادر من الآب ومن الابن أيضاً: «فبعد اللقمة دخله الشيطان، فقال له يسوع: ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة» (يو27:13)
والمسيح قدير في الإحساس بخطوات العدو: «قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب» (مر42:14)، ويهوذا ليس في الحسبان، فهو مجرد آلة، ولكن إحساس الرب مُركز تجاه رئيس العالم نفسه.
«رئيس هذا العالم»: هذا الاصطلاح لم يرد في أسفار العهد الجديد إلا في هذه الآية، وفي الآية الأخرى (31:12, 11:16)، وذلك في إنجيل القديس يوحنا. ولكن الاصطلاح المقابل الذي ورد في إنجيل القديس لوقا يُفهم من الحديث الذي جرى له مع المسيح على جبل التجربة: «ثم أصعده إبليس إلى جبل عال، وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن، لأنه إلي قد دُفع, وأنا أعطيه لمن أريد.» (لو5:4-6)
أما القديس بولس الرسول فقد أعطاه لقب «إله الزمان»: «ولكن إن كان إنجيلنا مكتوماً، فإنما هو مكتوم في الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله» (2كو3:4-4). حيث كلمة الدهر= ( ), تفيد هذا الزمان أو هذا العالم. كما سماه بولس الرسول: «رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.» (أف2:2)
كما سمى أعوان إبليس: «ولاة العالم من «رؤساء وسلاطين« شريرة، وأجناد الشر الروحية«:
+ «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات.» (أف12:6)
ولكن إزاء كل الأسعاء الضخمة التي خُلعت على الشيطان، وكل جنوده، وبالرغم من سلطانه الذي يدعيه على ممالك العالم ومجدها، فقد أثبت المسيح تفاهة منتهاه، فمظهره مرعب حقاً: «عندما يأتي العدو كنهر», ولكن نهايته تافهة جداً, «فنفخه الرب تدفعه» (إش19:59 – قارن مع 2تس8:2). ولقد صال يهوذا الإسخريوطي وجال، كأخطر آلة استخدمها الشيطان فعلاً (تلميذ من التلاميذ الاثني عشر), ولكنه انتهى إلى خنق نفسه.
كذلك، فإن لنا أن نتأمل تلك الثورة الكبرى التي قادها الشيطان ضد المسيح، أثناء خدمته على الأرض، والتي انتهت بأعظم انتصار شكلي ضد المسيح، بأن استطاع استصدارحكم صلب ضده من أعظم محكمتين للعدل في العالم: محكمة السنهدريم، ومحكمة روما؛ وكيف انتهت إلى فضيحة المحكمتين مع فضيحة الشيطان وأعوانه: «إذ جرد الرياسات والسلاطين، أشهرهم جهاراً، ظافراً بهم فيه (في الصليب).» (كو15:2)
ولينتبه القارىء, ويتشجع، فإنه إزاء قوة الشيطان على القتل: «ذاك كان قتالاً للناس من البدء (يو44:8)، تقف قوة «الحياة الأبدية» في المسيح
وإزاء الكذب, قوة الشيطان الاولى للتزييف والقتل, تقف قوة «الحق» التى تُحيى في المسيح.
فالقتل جسدي, والجسد زائل بطبيعته؛ أما الحياة الأبدية فهي الخلود بالروح مع الله. الكذب هو حيلة الشيطان للغش، التي يحيك بها المكائد و يزور بها الحقائق إلى حين، أما الحق «الآليثيا» فهو القائم الدائم، الذي له الغلبة النهائية بالحياة الأبدية.
فشكرا لله، الذي أعطانا في المسيح يسوع الحق والحياة، لنغلب بهما العالم ورئيسه.
«وليس له فّي شيء»: بمعنى أن ليس في شيء يقع تحت سلطانه. كل إنسان، للشيطان فيه شيء، لهذا يطالب بدعوى الموت ثمناً للخطية، ولكن المسيح يقدم نفسه للموت بحرية إرادته، ثمناً لخطايا غيره. المسيح لم يكن من هذا العالم: «لأنهم ليسوا من العالم، كما أني أنا لست من العالم» (يو14:17)، «أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم» (يو23:8)، قال هذا لليهود.
فالمسيح ليس من هذا العالم، لذلك فرئيس هذا العالم ليس له فيه شيء بالضرورة. هذا يعني، بصورة غير مباشرة، أنه بلا خطية واحدة! «من منكم يبكتني على خطية.» (يو46:8)
هذا، من جهة لاهوت الخلاص، غاية في الأهمية، لأنه يكون بالتالى قد مات من أجل غيره، وهذه هي الكفارة العظمى:
+ «عل قدر ذلك، قد صار يسوع ضامناأ لعهد أفضل. وأولئك (كهنة العهد القديم) قد صاروا كهنة كثيرين، من أجل منعهم بالموت عن البقاء. وأما هذا، فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام، الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم، لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا, قدوس, بلا شرولا دنس، قد انفصل عن الخطاة, وصار أعلى من السموات. الذي ليس له اضطرار كل يوم؛ مثل رؤساء الكهنة, أن يقدم ذبائح, أولاً عن خطايا نفسه, ثم عن خطايا الشعب, لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه!» (عب22:7-27)
31:14- وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا»
الكلام هنا يحتاج إلى توضيح، لأن الآيتين مرتبطتان معاً, والمعنى هو: ولو أني لست من هذا العالم، وليس لي خطية واحدة مدين بها لرئيس هذا العالم، إلا أني سمحت للشيطان أن يأتي إليّ, وسمحت لنفسي أن أموت، كمديون عن خطايا كل العالم, ولكن ليس هذا تطوعاً مني, ولكن ليفهم العالم أني أحب الآب، والآب أوصاني أن أموت، وأفدي العالم بحياتي, لذلك أنا أفعل هذا مدفوعاً بحب أبي وطاعتي لوصيته.
ثم أن المسيح يعلم أن هذه التضحية العظمى، بأن يقف أمام رئيس العالم، مديونا بالخطية، مسفوكاً دمه، وهو ديان العدل لكل المسكونة أحياءً وأمواتاً؛ نعم كان يعلم أن ثمن كل هذا هو مغفرة خطايا كل العالم، وانتزع سلطان الإدانة من الشيطان إلى الآبد, لذلك قال: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم.» (يو33:16)
«قوموا ننطلق من ههنا»: هيا نواجه الصليب، أليس عمله أن يعلن حب الآب وينفذ وصيته؟
لقد تلكأوا في الجلوس، بل وناموا في جثسيماني، مثلما نعمل نحن الآن؛ ولكن إن آجلاً أو عاجلاً سنتبعه: «ولكنك ستتبعني أخيراً.» (يو36:13)
إنه القائد، يهتف بجنوده أن لا يهابوا، وأن يتقدموا، هوذا رئيس هذا العالم آت، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب، قوموا ننطلق للمقابلة! «والسيد الرب يعينني، لذلك لا أخجل. لذلك جعلت وجهي كالصوان، وعرفت أني لا أخزى. قريب هو الذي يبررني. من يخاصمني؟ لنتواقف! من هو صاحب دعوى معي، ليتقدم إلىّ: هوذا السيد الرب يعينني، من هو الذي يحكم عليّ…» (إش7:50-9), «السيد الرب فتح لى أذناً، وأنا لم أعاند، إلى الوراء لم أرتد!!!» (إش5:50)
تفسير يوحنا 13 | تفسير إنجيل القديس يوحنا الأب متى المسكين |
تفسير يوحنا 15 |
تفسير العهد الجديد |