تفسير إنجيل لوقا 24 للقمص تادرس يعقوب
الباب الخامس
صديقنا القائم من الأموات
ص 24
الأصحاح الرابع والعشرون
صديقنا القائم من الأموات
إن كان السيد المسيح قد تألم لأجلنا لكي يقيمنا أصدقاء له، فإنه إذ قام بقي بعد القيامة صديق البشرية، يشتاق أن يهبها حياته المقامة. نراه يقترب من تلميذي عمواس، ويمشي معهما، ويحاورهما بلطف، ويلهب قلبيهما بمحبته، ويفتح بصيرتهما للتعرف عليه. يعود فيظهر لبقية التلاميذ أيضًا ويسألهم أن يحسوه ويلمسوا حقيقة وجوده في وسطهم، بل ويأكل معهم حتى يثقوا في حقيقة معيته لهم، وأخيرًا يُخرجهم إلى بيت عنيا ليرفع يديه ويباركهم، ثم ينفرد عنهم، ويصعد إلى السماء ليعد لهم موضعًا، لذا رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ.
القبر الفارغ 1-12.
“ثم في أول الأسبوع أول الفجر،
أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه، ومعهن أناس.
فوجدن الحجر مدحرجًا عن القبر.
فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع.
وفيما هن محتارات في ذلك، إذا رجلان وقفا بهن بثيابٍ برّاقةٍ.
وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض،
قالا لهن: لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟!
ليس هو ههنا لكنه قام.
اُذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل، قائلاً:
إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة،
ويصلب، وفي اليوم الثالث يقوم.
فتذكّرن كلامه” [1-8)].
استراح النسوة يوم السبت حسب الوصية (23: 56)، وكان الرب راقدًا في القبر، فكان هذا خاتمة “سبوت” العهد القديم لكي بنهايته يكمل القديم، ويبدأ العهد الجديد مع قيامة الرب في أول الأسبوع، أول الفجر! كان ذلك اليوم الذي فيه انطلق الرب من القبر بمثابة بداية جديدة للبشرية في علاقتها بالرب، إذ صار لها حق الحياة المقامة في الرب، لتعيش في سبتٍ جديدٍ فريدٍ هو “راحة الحياة الجديدة في الرب” أو “راحة الحياة المُقامة فيه” أو قل: “راحة الشركة مع المسيح المقام”.
ترك القبر فارغًا والحجر مختومًا، كما وُلد من العذراء وبتوليتها لم تمس، وقد أرسل ملاكه يدحرج الحجر ليجد المؤمنين في القبر الفارغ رصيد القيامة الذي لا ينتهي، وينبوع الحياة الجديدة الغالبة للموت!
كان الله يرسل نارًا من السماء ليلتهم الذبيحة علامة قبوله لها ورفعها إلى سماواته، أما وقد قدم الابن حياته ذبيحة حب عنا، فقد صار القبر الفارغ علامة رضا الآب على الذبيحة وقبوله لها، فلم يعد لجسد الرب موضع في القبر لأنه قام… هذا هو إيمان الكنيسة الذي لخّصه الرسول بولس في عبارته الموجزة: “الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا” (رو 4: 25). وكما يرى الدارسون أن هذه العبارة تمثل حجر الزاوية في قانون الإيمان الكنسي في عصر الرسول، نقله الرسول عن التقليد.
يحدثنا الإِنجيلي لوقا عن ذهاب النسوة في القبر ليجدنه فارغًا، ويلاحظ في حديثه هنا الآتي:
أولاً: يبدأ حديثه بالقول “ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر” [1]. في الأصحاح السابق ختم حديثه بأن النساء استرحن في السبت حسب الوصية، والآن إذ بدأ الأسبوع الجديد انطلقن بالحنوط والأطياب إلى قبر السيد، ومعهن أناس.
لم يكن ممكنًا في السبت – حسب التقليد اليهودي – أن يعِددن الحنوط ولا ينطلقن إلى القبر، فيبقين بلا عمل حتى جاء غروب السبت أو عشية الأحد ليعددن الحنوط وينطلقن مع بدء الفجر والظلام باقٍ نحو القبر. يمكننا أن نقول بأن هؤلاء النسوة يمثلن الكنيسة الواحدة الممتدة عبر العصور، عاصرت الرمز كما الحق، فبتوقفهن عن العمل يوم السبت أعلن قبولهن الرمز في العهد القديم، لكن في شوقٍ أن يكمل لينقلهن إلى فجر الأحد فيجدن الحق ذاته، بالتقائهن بالمسيح القائم من الأموات. هكذا لم تعد راحة الكنيسة في التوقف عن العمل في السبت الرمزي وإنما في الانطلاق نحو المسيح المقام حاملة أطياب مقدسة ورائحته الذكية معلنة في حياتها وكرازتها بالحق.
لقد انطلقن ومعهن أناس… فإن كانت النسوة تمثلن رجال العهد القديم الذين التهبت قلوبهم بالمسيا المنتظر، فإن الذين جاءوا معهن إلى القبر يمثلون الأمم الذين قبلوا الإيمان بالمسيح القائم من الأموات.
ثانيًا: “فوجدن الحجر مدحرجًا عن القبر، فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع” [2-3]. لقد قام الملاك بدحرجة الحجر (مت 28: 2)، وبحسب التقليد الكنسي، رئيس الملائكة ميخائيل هو الذي قام بالدحرجة.
جاءت الدحرجة بعد القيامة، إذ لم يكن الرب محتاجًا إلى دحرجة الحجر ليقوم، إنما قام والأختام قائمة، وقد رأى كثير من الآباء مثل القديسين أغسطينوس وجيروم أن هذا العمل كان نظيرًا لما تم في ميلاده من القديسة مريم الدائمة البتولية.
إذن دحرجة الحجر كانت من أجلنا لأجل التأكد من قيامة الرب، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [دُحرج الحجر بعد القيامة من أجل النساء ليؤمنوا أن الرب قام ناظرين الحق أن القبر بدون جسد.]
ثالثًا: “وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب برّاقة” [4]. قامت النساء بدور لم يقم به سائر الرسل أو التلاميذ، فقد انطلقن والظلام باقٍ، ولم يبالين بالعقبات التي كانت تنتظرهن كدحرجة الحجر، وعندما وجدن القبر مفتوحًا لم يترددن في الدخول إليه. لهذا استحققن أن يتأهلن لرؤية ملاكين بثيابٍ براقةٍ مبهجةٍ يكرزان لهما بالقيامة.
لم ينظرن الملاكين في لهيب نار، ولا حاملين سيوفًا نارية كما رأى غيرهن في العهد القديم، إنما رأين إياهما بلباس البهجة والفرح، وكأن السماء أرادت أن تشارك الكنيسة بهجتها بقيامة السيد المسيح. بالثياب البراقة أراد الملاكان أن يكرزا للكنيسة كلها بأن السمائيين يرتدون ثياب الملكوت، منتظرين مجيء العروس المقدسة التي تزف مع عريسها السماوي في ملكوته الأبدي.
رابعًا: “وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض، قالا لهن: لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟! ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل. قائلاً إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم. فتذكرن كلامه” [5-8].
لقد ملأ الحزن قلبهن إذ رأين القبر فارغًا وكن خائفات، وفي مرارة كن منكسات وجوههن إلى الأرض، لذا عاتبهن الملاكان بلطفٍ كيف يتوقعن وجود الحيّ الغالب الموت في القبر؟!خاصة وأنه سبق فأعلن لهن مع التلاميذ عن قيامته!؟ عندئذ تذكرن كلمات المخلص!
يمكننا أن نقول بأن هذا العتاب الملائكي لازال قائمًا وموجههًا لكل مؤمن يريد أن يحصر المسيح في القبر، وكأنه غير قادر على القيامة من الأموات. بمعنى آخر حينما نظن أننا مؤمنون مسيحيون بينما لا نخرج خارج احتياجات الجسد وشهواته وارتباطات العالم وهمومه، إنما نكون كمن يطلب الحيّ بين الأموات، ونسمع الكلمات الملائكية “ليس هو هنا، لكنه قام”.
من يذكر كلمات الرب عن قيامته، يجد نفسه مع مسيحه فوق حدود القبر، لا يخاف الموت ولا ينحني لعبودية شهوات الجسد، ولا يرتبك بأفكار العالم، إنما ينطلق بمسيحه الساكن فيه إلى حياة سماوية غالبة لحدود الزمان والمكان.
إن تطلعنا إلى سيّر الشهداء نجد سّر نصرتهم يكمن في اتحادهم بالرب القائم من الأموات، فلا ينحصروا في الجسد. لهذا حتى إن ضيق الأشرار على أجسادهم يرسل الرب ملائكته بل وأحيانًا يظهر بنفسه لا لينتقم لهم، وإنما ليرفعهم بقوة فوق حدود الألم، الأمر الذي جعل الولاة يتهمون المسيحيين بالسحر!
خامسًا: إذ سبقت النساء الرسل في الانطلاق إلى قبر السيد تمتعن بالكرازة للرسل عن قيامة الرب. إذ يقول الإنجيلي: “ورجعن من القبر، وأخبرن الأحد عشر، وجميع الباقين بهذا كله” [9]. يقول القديس كيرلس الكبير: [المرأة التي أعلنت مرة خدمة الموت، الآن هي أول من تقّبل سرّ القيامة المهوب وأخبرت به. بهذا حصل جنس المرأة على الخلاص من العار ومن اللعنة.]
سادسًا: إذ سمع التلاميذ الخبر، “قام بطرس وركض إلى القبر، فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجبًا في نفسه مما كان” [12].
لقد تراءى كلام النسوة للرسل كالهذيان ولم يصدقوهن [11]، لأن الموقف كان غير متوقع رغم تأكيدات الرب لهم قبل دخوله الآلام. هذا وتعبير”الهذيان” طبي كان يستخدم عمن أصيبوا بحمى ففقدوا اتزانهم… على أي الأحوال أسرع بطرس كعادته لينظر ما قد حدث إذ كان قلبه ملتهبًا بالغيرة. وكما يقول الأب ثيوفلاكتيوس: [حين سمع بطرس هذا لم يتأخر، بل جرى إلى القبر، فإن النار إذ تمسك بشيء لا تعرف التأخير.]
سابعًا: أحداث القيامة كما وردت في إنجيل معلمنا لوقا البشير تمس حياة كل مؤمن حقيقي يريد أن يلتقي مع الصديق السماوي. فالمريمات ومعهن أناس انطلقوا إلى القبر وسط الظلام، إنما يشيرون إلى الإنسان بكل طاقاته الروحية ومواهبه وإمكانياته ينطلق كما في أول الأسبوع، في أول الفجر، أي يبكر نحو الله ليكون هو الأول في كل حياته. ينطلق كما من ظلمة هذا العالم إلي قبر السيد المسيح، أي إلى المذبح الإلهي ليجد الجسد المُقام من الأموات سرّ حياته وقيامته المتجددة على الدوام. ينطلق حاملاً الأطياب، أي الصلوات والعبادات الملتحمة بالحياة الفاضلة في الرب كرائحة بخور ذكية يشتمها الآب رائحة رضا. هناك عند المذبح الإلهي تجتمع الكنيسة كلها لتشاهد حجر الحرف الناموسي قد دُحرج وأسرار القيامة أو معرفة الله قد انكشفت. ترى الملائكة بفرح ترتدي ثيابًا لامعة، تشارك المؤمنين فرحهم بالخلاص وبهجتهم بالملكوت، يسبحون معنا، فنسبح نحن أيضًا تسابيحهم ونحسب جميعنا – الخليقة الأرضية والسمائية – واحدًا في الملكوت.
ثامنًا: يعلق آباء الكنيسة على وجود الأكفان في القبر، إذ يقول الإنجيلي عن القديس بطرس أنه “نظر الأكفان موضوعة” [12]، كدليل على كذب اليهود الذين اتهموا التلاميذ أنهم سرقوا الجسد المقدس من القبر، فمن كلماتهم:
v لو كان التلاميذ قد سرقوه لما صنعوا هذا العمل، وهو أن يعروا جسده. وما احتملوا أن يأخذوا منديله ويلفونها ويضعونها في موضع واحد من القبر، لكنهم قد سلبوا الجسد بأوفر سرعة. لأنه لهذا المعنى سبق يوحنا فقال أنه حُنِّط بمر كثير ألصق أكفانه بجسده، حتى إذا ما سمعت أن المنديل في ناحية والأكفان في ناحية لا يحتمل هذا أنه سُرق.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v اعلم أنه لو سرقه سارق (غير التلاميذ) لكانت رغبته في هذه الثياب الثمينة والحنوط الكثيرة أكثر من أخذه وحده دون القماش… وأما التلاميذ فلا يصح لهم أخذه وهو عريان!! إذ كانوا لا يودون إهانته بل إكرامه.
الأنبا بطرس السدمنتي
v وأما كون الرب قد ألقى الثياب في المقبرة لما قام، فلكي يعلمنا أنه في القيامة الجامعة لا يحتاج أحد إلى لباس، ولا إلى شيءٍ مما يستعمل في الدهر، بل يكونون كملائكة الله الذين في السماء كما شهد الرب.
الأنبا بولس البوشي
تلميذي عمواس 13-35.
يروي لنا القديس لوقا الإنجيلي لقاء السيد المسيح مع تلميذين للسيد وهما في طريقهما إلى عمواس، قرية تبعد حوالي 7.5 ميلاً شمال غربي أورشليم، يرجح أنها في موقع قرية”الخماسية” أو “القبيبة”. هذان التلميذان أحدهما “كليوباس” [18] وهو اسم مختصر من “كليوباتروس” أو “المجد الكامل”، أما الثاني فيرى الدارسين أنه لوقا الإنجيلي نفسه، ويرى العلامة أوريجينوس والقديس كيرلس الكبير أن الشخص الثاني يدعى “سمعان” من السبعين رسولاً، خلاف سمعان بطرس وسمعان القانوي.
ويلاحظ في القصة كما رواها القديس لوقا الآتي:
أولاً: كان التلميذان – وهما من السبعين رسولاً – يسيران في طريق عمواس الذي يمتد سبعة أميال ونصف، فإن كان رقم 8 يشير للحياة الأبدية، لأن رقم 7 يشير إلى زماننا الحاضر، فإن هذين التلميذين قد عبرا الحياة الزمنية لكنهما لم يبلغا قوة القيامة وكمالها (رقم 8). بمعنى آخر سلوكهما في هذا الطريق يشير إلى الإنسان الذي يؤمن بالقيامة في فكره وتكون موضوع حديثه لكنه لا يتمتع بها ولا يمارسها.
كثيرون يؤمنون بالقيامة بل ويكرزون بها لكنهم لا يعيشونها. هؤلاء لا يزالوا في طريق عمواس يحتاجون إلى ظهور السيد لهم وحديثه معهم ليلهب قلوبهم في الحياة الداخلية بالحياة المقامة، فيعيشونها قبل رحيلهم من هذا العالم.
ثانيًا: يحدد الإنجيلي تاريخ هذا اللقاء، بقوله: “في ذلك اليوم” [13]، أي في يوم أحد القيامة، وكان ذلك نحو الغروب حيث قارب النهار أن يميل [21] وكأن التلميذين بقيا النهار كله تقريبًا في أورشليم يسمعان ويتحاوران مع بعضهما أو مع النسوة وبطرس ويوحنا الذين ذهبوا إلى القبر، كما كانا يسترجعان الذكريات عن أحاديث الرب بخصوص قيامته قبل آلامه، ومع هذا لم يحملا يقين الإيمان، إنما “كانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث” [14].
ثالثًا: “وفيما هم يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه، وكان يمشي معهما” [15]. حقًا لم يكونا على يقين الإيمان لكنهما كانا مشغولين بالسيد يتكلمان ويتحاوران، وفي ضعفهما لم يستطيعا إدراك الحق، فحّل الحق في وسطهما يعلن ذاته ويسندهما إذ سبق فأكد لنا: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” ( مت 18: 20).
رابعًا: “ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته” [16].
ربما عجزا عن معرفته، لأنه إذ قام حمل جسده نوعًا من المجد عن ذي قبل، لذا لم يستطيعا معرفته، كما حدث مع مريم المجدلية (يو 20: 14)، والتلاميذ على شاطئ البحيرة (يو 21: 4). وربما كان علة عجزهما عن معرفته ضعف إيمانهما وتباطؤهما في الفهم الروحي، أو بقصد إلهي حتى يكشف لهما السيد أسراره الإلهية وتحقيق النبوات فيه. “ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” [27].
v إذ صار له الجسد الروحي (ذات جسده المولود به من العذراء يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية) لا تمثل المسافات المكانية عائقًا لحلوله (بالجسد) أينما أراد، ولا يخضع جسده لنواميس الطبيعة بل للناموس الروحي والفائق للطبيعة. لذلك كما يقول مرقس أنه ظهر لهما “بهيئة أخرى” (مر 16: 12)، فلم يسمح لهما أن يعرفاه.
قيل: “أمسكت أعينهما عن معرفته“، حتى يعلنا حقًا مفاهيمهما المملوءة شكًا، فينكشف جرحهما ويتقبلا الشفاء، ولكي يعرفا أنه وإن كان ذات الجسد الذي تألم قام ثانية لكنه لم يعد منظورًا للكل، وإنما لمن يريدهم أن ينظروه. وأيضا لكي لا يتعجبا أنه لم يعد يسير وسط الناس (كما كان قبل القيامة)، مظهرًا أن تحوله لا يناسب البشرية بل ما هو إلهي، مقدمًا نفسه مثالاً للقيامة المقبلة حيث نصير سائرين كملائكة وأبناء الله.
الأب ثيؤفلاكتيوس
v بحق حجب إعلان نفسه عنهما بظهوره بهيئة لا يعرفونها؛ فعل هذا بخصوص الأعين الجسدية من أجل ما فعلاه هم بنفسيهما داخليًا بخصوص عين الذهن. فإنهما في الداخل وإن كانا قد أحبا لكنهما شكا. فإذ تحدثا عنه ظهر لهما، ولكنهما إذ شكا أخفى هيئته عنهما.
البابا غريغوريوس (الكبير)
إن كانت أعينهما قد أمسكت عن معرفته، لكنه تقدم بنفسه إليهما ليبدأ الحديث معهما، إذ سألهما: “ما هذا الكلام الذي تتطارحان به، وأنتما ماشيان عابسين؟” [17]. فإن كان السيد قد تألم وصلب فالموت لم يفصله عن تلاميذه، وإن كان قد قام فقيامته لم تبعد به عنهم. من أجلنا قد صلب ومات وقام لكي يقترب إلينا ويبادرنا بالحب، مشتاقًا أن يدخل معنا في حوار، لكي يقدم ذاته لنا، فنفتح أعيننا لمعاينته وقلوبنا لسكناه فينا.
على أي الأحوال، إن قصة لقاء السيد المسيح بتلميذي عمواس اللذين أُمسكت أعينهما عن معرفته هي قصة كل إنسان روحي، يرافقه الرب كل الطريق، ويقوده بنفسه، ويلهب قلبه، ويكشف له أسرار إنجيله، ويعلن له قيامته، ويفتح بصيرته لكي يعاينه ويفرح به.
يقول القديس أغسطينوس: [ليس غياب الله غيابًا. آمن به فيكون معك حتى وإن كنت لا تراه. فعندما اقترب الرب من الرسولين لم يكن لهما الإيمان… لم يصدقا أنه قام، أو أنه يمكن لأحد أن يقوم… لقد فقدا الإِيمان ولم يعد لهما رجاء… كانا يمشيان معه في الطريق. موتى مع الحيّ، أمواتًا مع الحياة. كانت “الحياة” تمشى معهما، غير أن قلبيهما لم يكونا ينبضان بالحياة.]
خامسًا: “فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟!” [17].
إن كنا في هذا العالم نبكي على خطايانا ونحزن لكن خلال لقائنا مع المسيح المقام يلزمنا ألا نمشي عابسين بل نفرح بالرب، لأن ملكوت الله هو “برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17). جاء عن القديس أغسطينوس في اعترافاته أن الله كان يمزج عبادته بنشوة روحية تفوق كل ملذات العالم لكي يفطمنا عن لذة الخطية.
قيل عن القديس أبوللو الذي التقى به القديس جيروم في منطقة طيبة أنه كان دائم البشاشة، وقد اجتذب كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مفرحة في الداخل، ومشبعة للقلب بالرب نفسه. كثيرًا ما كان يردد القول: [لماذا نجاهد ووجوهنا عابسة؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية؟ اتركوا العبوس والوجوم للوثنيين، والعويل للخطاة، أما الأبرار والقديسون فحري بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات.]
سادسًا: ما هو إيمان تلميذي عمواس؟
بلا شك لم يكونا بعد قد استطاعا أن يدركا لاهوته، ولا أن يقبلا سرّ الصليب، إنما كانا يتوقعان فيه محررًا لإِسرائيل أو فاديًا لليهود من الحكم الروماني. وقد حطم الصليب آمالهما، إذ قال كليوباس عن السيد المسيح:
“كان إنسانًا نبيًا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب.
كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه.
ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل،
ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك.
بل بعض النسوة منّا حيرننا، إذ كن باكرًا عند القبر.
ولما لم يجدن جسده أتين قائلات:
إنهن رأين منظر ملائكة قالوا أنه حيّ.
ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر،
فوجدوا هكذا كما قالت أيضًا النسوة،
وأما هو فلم يروه” [19-24].
ويعلل الإنجيلي يوحنا عدم إيمان التلاميذ بقوله: “لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات” (يو 20: 9). ويضيف القديس كيرلس الكبير لتلميذي عمواس عذرًا آخر… وهو أن الأخبار التي نقلتها النسوة لم تكن كافية أن يؤمنا بالقيامة، بل كانت موضوع دهشة وحيرة: “بعض النساء منا حيرننا…” لأنها تحمل أنباء القبر الفارغ وشهادة الملائكة. ولا حتى الأخبار التي نقلها بطرس لأنه لم يرَ سوى القبر الفارغ والأكفان، كما قال التلميذان: “وأما هو فلم يروه” [12].
سابعًا: إذ أعلن التلميذان ضعف إيمانهما أو خطأه، قدم لهما تأكيدات من الناموس والأنبياء، إذ قال لهما: “أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟! ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” [25-27].
يقول القديس كيرلس الكبير: [قدم الرب للتلميذين موسى والأنبياء، وكشف لهما ما غمض عليهما من معانيهما. فالناموس هو تمهيد للطريق، وخدمة الأنبياء هي إعداد الناس لقبول الإيمان. لأن الله لم يرسل شيئًا بلا فائدة، بل لكل شيء فائدته في وقته. فالأنبياء هم الخدام الذين أرسلهم السيد أمامه لتكون نبواتهم تمهيدًا لمجيئه. وكأن هذه النبوات كنز ملكي مختوم، ينبغي أن يفتح في الوقت المناسب ما فيه من رموز.]
ثامنًا: “ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها، وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد” [28]. لم يقل لهما أنه منطلق إلى مكان أبعد، وإنما تظاهر هكذا، لكي لا يقحم نفسه بنفسه في موضعهما، إنما إذ يطلباه ويصرا في طلبه يستجيب. الله لا يقحم نفسه في حياتنا بغير إرادتنا، لكنه يطلب أن ندعوه، ونلح في الدعوة معلنًا كمال حرية الإنسان في قبوله أو رفضه. هذا من جانب ومن جانب آخر، كما قال البابا غريغوريوس (الكبير) إنهما إذ كانا لا يزالا غريبين في الإيمان “تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد”.
تاسعًا: “فألزماه قائلين: امكث معنا، لأنه نحو المساء وقد مال النهار” [29]. النفس التي ذاقت ما ذاقه التلميذان لا تكف عن أن تقول مع عروس النشيد: “في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي… فأمسكته ولم أرخه، حتى أدخلته بيت آمي وحجرة من حبلت بي… شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني… تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي” (نش 3: 1، 4، 2: 3، 6).
يقول القديس أغسطينوس: [إن كنت تريد الحياة تشبه بالرسولين حتى تتعرف على الرب. لقد ألحا عليه بالدعوة، وتظاهر هو كأنه ينوي مواصلة الطريق… غير أنهما أمسكا به وقالا له: امكث معنا لأنه نحو المساء.] كما يقول: [امسك بالقريب إن أردت أن تتعرف على مخلصك، فقد أعادت الضيافة إلى التلميذين ما نزعه الشك وعدم الإيمان، وأعلن الرب ذاته عند كسر الخبز… فتعلم أين تطلب الرب فتحظى به على مائدة الطعام.]
عاشرًا: “فلما اتكأ معهما أخذا خبزًا وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه، ثم اختفى عنهما” [30-31].
يرى البعض أن ما فعله السيد المسيح هنا هو “سّر الإفخارستيا”، وأن الرب يعلن ذاته خلال هذا السرّ، يفتح أعين مؤمنيه الداخلية لمعاينته، وإن كان البعض الآخر يرى أنه لم يكن “سّر اإأفخارستيا”، إذ لا نسمع عنه أنه أخذ كأسًا أيضًا وناولهما، كما لم يذكر عند كسر الخبز أنه جسده المبذول عنهما، كما فعل في العشاء الأخير.
يقول القديس أغسطينوس: [متى أعلن الرب عن نفسه؟ عند كسر الخبز… لذلك عندما نكسر الخبز نتعرف على الرب، فهو لم يعلن نفسه إلا هنا على المائدة… لنا نحن الذين لم نستطع أن نراه في الجسد، ولكنه أعطانا جسده لنأكل. فإذا كنت تؤمن بهذا فتعال مهما كنت. وإذا كنت تثق فاطمئن عند كسر الخبز.]
يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [تُفتح أعين الذين يتقبلون الخبز المقدس لكي يعرفوا المسيح، لأن جسد الرب يحمل فيه قوته العظيمة غير المنطوق بها.]
يعلل القديس كيرلس الكبير اختفاء السيد المسيح عنهما بقوله: [لقد اختفى الرب عنهما، لأن علاقة الرب بتلاميذه بعد القيامة لم تعد كما كانت عليه من قبل. فهم في حاجه إلى تغيير، وإلى حياة جديدة في المسيح… حتى يلتصق الجديد بالجديد وغير الفاسد بالفاسد. وهذا هو السبب الذي جعل الرب لا يسمح لمريم المجدلية أن تلمسه ـ كما ذكر (يو 20: 17) – إلى أن يصعد ثم يعود مرة أخرى.]
أحد عشر: ختم القصة بقوله: “فقاما في تلك الساعة، ورجعا إلى أورشليم…” [33]. هذا هو غاية عمل الله فينا أن يهبنا قوة القيامة، إذ يقول: “قاما“، بهذه الحياة المقامة نرجع إلى أورشليم العليا التي تركناها، نرجع إلى مدينة الله الملك العظيم (مت 5: 35)، إلى “أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا” (غل 4: 26). بمعنى آخر يحوّل الله اتجاهنا، فبعد أن كنا متجهين إلى عمواس معطين ظهورنا لأورشليم، نعطي ظهورنا لعمواس متجهين بوجهنا وقلبنا وفكرنا نحو أورشليم.
ظهوره لتلاميذه 36-43.
إذ قام السيد المسيح من الأموات لم يعد يمارس الحياة البشرية اليومية، ولا صار بين اليهود يكرز ويبشر ويصنع عجائب ومعجزات، فقد قام يحمل جسده بذاته، لكنه ممجد، بمعنى آخر صار وضعه الطبيعي الجديد أن يصعد إلى السماوات ينتظر عروسه المقدسة لترتفع معه. لكنه بقي أربعين يومًا من قيامته حتى صعوده، يظهر لأحبائه المشتاقين إليه ليسحب قلوبهم نحو السماء.
حقًا كان السيد المسيح ينتهز كل فرصة لكي يعلن قيامته ويؤكدها في حياة محبيه المؤمنين به. بشر النساء القادمات إلى القبر بحبٍ، يطلبن تقديم الحنوط للجسد المقدس، فأعلن لهن بملائكته عن قيامته، ومشى مع التلميذين اللذين كانا يتكلمان ويتحاوران في طريق عمواس عن أمر قيامته، والآن إذ رجع التلميذان إلى أورشليم ليخبرا التلاميذ بما حدث معهما وكيف عرفاه عند كسر الخبز.
“وفيما هم يتكلمون بهذا،
وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم: سلام لكم،
فجزعوا وخافوا، وظنوا إنهم نظروا روحًا،
فقال لهم: ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟
انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو.
جسّوني، وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي.
وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه،
وبينما هم غير مصدّقين من الفرح ومتعجّبون،
قال لهم: أعندكم ههنا طعام؟
فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل،
فأخذ وأكل قدامهم” [36-43].
يلاحظ في هذا اللقاء الآتي:
أولاً: إذ كانوا يتحدثون عن القيامة التهب الكل شوقًا نحو التمتع به كما تمتع بطرس الرسول وتلميذا عمواس وبعض النساء، فحقق لهم السيد شهوة قلوبهم إذ وقف بنفسه في وسطهم.
حقًا بحلوله في وسطهم تحولت العُليَّة إلى كنيسة مقدسة في بهاءٍ ومجد فائقين، أو قل صارت العُليَّة في هذه اللحظات تمثل نموذجًا حيًا لما ينبغي أن تكون عليه الكنيسة، ألا وهو التهاب أعضائها بالتمتع بالمسيّا المقام، وحلول المسيّا في وسطها كرأس حيّ يهب قوة القيامة لأعضاء جسده.
v جاء ذاك الذي كان مُشتهى جدًا، معلنًا ذاته لطالبيه ومنتظريه، لا بطريقة يمكن أن يُشك فيها، وإنما حّل بشهادة واضحة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثانيًا: في أول لقاء للسيد القائم من الأموات بتلاميذه المجتمعين، ممثلي كنيسته، قدم لهم “سلامه” الفائق، لا كعطية خارجية، إنما هبه تمس الأعماق في الداخل، إذ “قال لهم: سلام لكم” [36]ٍ. لقد حقق لهم ما وعدهم به في ليلة آلامه، قائلاً: “سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا” (يو 14: 27).
v لنكرم عطية السلام التي تركها المسيح لنا عند رحيله… فالسلام، على وجه الخصوص يخص الله الذي يوحّد كل الأشياء معًا في واحد، والذي إليه لا يُنسب شيء مثل وحدة الطبيعة والسلام الذي يحلّ به في الإنسان.
القديس غريغوريوس النزينزي
v لقد كشف لهم أيضًا آثار الجراحات بوضوح، وقد ثبت صوته في أذهانهم القلقة، إذ قيل: “فقال لهم يسوع أيضًا سلام لكم”، أي لا تضطربوا. وبقوله هذا ذكّرهم بكلماته التي نطق بها قبل الصلب: “سلامي أترك لكم” (يو 14: 37)، “ليكون لكم فيّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق” (يو 16: 33).
لقد “فرح التلاميذ إذ رأوا الرب” (يو20: 21). انظر كيف تحقق ذلك؟ ما قاله قبل صلبه: “ولكنني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو 16: 22)، قد تمّ الآن في تلك اللحظة. كل هذا قد جلب فيهم إيمانًا أكيدًا ثابتًا…
هذه هي كلمات الرب الأولى التي حدثهم بها بعد قيامته… أما بالنسبة للنساء فأعطاهن الفرح (مت 28: 9)، لأن النسوة كن في حزن، لذلك وهبهن أولاً الفرح. بلياقة وهب السلام للرجال، ووهب النسوة الفرح بسبب حزنهن…
أنه يقدم ثمار الصليب أولاً، وهو :”السلام”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هذا هو السلام الحقيقي وتحية الخلاص، إذ تأخذ التحية اسمها من الخلاص.
القديس أغسطينوس
ثالثًا: يقول الإنجيلي: “فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحًا” [37]. لقد عاش التلاميذ مع السيد المسيح زمانًا وأدركوا أنه بالحقيقة تأنس، يحمل ناسوتًا حقيقيًا، والآن إذ سمعوا عن قيامته لم يكونوا يتوقعون أنه يحّل هكذا في وسطهم والأبواب مغلقة، لذا جزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحًا. وكان عمل السيد المسيح بعد أن وهبهم سلامه الحقيقي أن يؤكد لهم أنه ليس روحًا مجردًا بل بالحقيقة يحمل جسدًا، مبرهنًا على ذلك بأن يلمسوه ويتناول معهم.
v لا نستطيع أن نعتقد بأن بطرس ويوحنا قد شكا (بعد تأكدهما من قيامته بدخولهما القبر)، فلماذا يقول لوقا بأن التلاميذ خافوا؟
أولاً: بسبب إعلان الأغلبية (عن شكهم) الذي طغى على الأقلية.
ثانيًا: ولو أن بطرس آمن بالقيامة، لكنه دُهش إذ رأى يسوع حاضرًا فجأة بجسده، بينما الأبواب مغلقة.
القديس أمبروسيوس
رابعًا: لقد كشف لهم السيد المسيح عن شخصه أولاً بإعلانه لهم أنه عارف بما في أفكارهم وقلوبهم، إذ قال لهم: “ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ [38]، ثم عاد يؤكد لهم أنه المسيا المصلوب، قائلاً لهم: “انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو؛ جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي” [39].
يقول القديس أغسطينوس إن السيد المسيح ترك آثار جراحاته بعد القيامة ليشفي بها جراحات التلاميذ، إذ لم يصدقوا قيامته عندما أظهر ذاته لهم وظنوه روحًا. فأظهر لهم يديه ورجليه، إذ يقول: [مع أن جراحاته شُفيت، فإن آثارها قد بقيت! إذ حكم هو بأن هذا نافع للتلاميذ، أن يستبقي آثار جراحاته لكي يشفي جروح أرواحهم، جراحات عدم إيمانهم! فقد ظهر أمام عيونهم، وأظهر لهم جسده الحقيقي، ومع هذا ظنوه روحًا!… وماذا قال لهم الرب؟ “ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟” [38]، إن كانت هناك أفكار قد صعدت إلى قلوبكم فهي قادمة من الأرض. الأفضل للإنسان ألا تصعد الأفكار إلى قلبه، بل يرتفع قلبه إلى الأعالي، حيث يود الرسول من المؤمنين أن يضعوا قلوبهم هناك، إذ يقول: “فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق، لا بما على الأرض، لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كو 3: 1-4)، أي مجد هذا؟ إنه مجد القيامة! أي مجد؟ اسمع ما يقوله الرسول عن هذا الجسد: “يزُرع في هوان، ويقوم في مجد” (1 كو 15: 43).]
يقول القديس أمبروسيوس :[ظن التلاميذ في اضطرابهم إنهم يروا روحًا، لهذا فلكي يُظهر لهم الرب حقيقة القيامة قال لهم: “جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي“… كيف يمكن أن يكون ليس في الجسد وقد ظهرت فيه علامات الجروح وآثار الطعنة التي أظهرها الرب؟!… لقد قبل الرب أن يرتفع إلى السماء بالجراحات التي تحمّلها لأجلنا، ولم يشأ أن يمحوها، حتى يظهر لله الآب ثمن تحريرنا. بهذا يجلس عن يمين الآب وهو حامل لواء خلاصنا.]
السبب الرئيسي لإبقاء آثار الجراحات كما يقول القديس كيرلس الكبير هو الشهادة لتلاميذه أن الجسد الذي قام هو بعينه الذي تألم. أما البابا غريغوريوس (الكبير)، فيقدم أربعة مبرّرات لهذه الجراحات، وهي:
أ. لكي يبني تلاميذه في الإيمان بقيامته.
ب. تبقى هذه الجراحات تعلن شفاعته الكفارية لدي الآب عنا.
ج. لكي يتذكر المؤمنين حبه لهم ورحمته تجاههم.
د. تبقى لإدانة الأشرار في يوم الرب العظيم.
خامسًا: “وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون،
قال لهم أعندكم ههنا طعام؟
فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل،
فأخذ و أكل قدامهم”[41-43].
من شدة الفرح لم يصدقوا أنفسهم إنهم يرون الرب، لهذا أراد أن يؤكد لهم أنه ليس خيالاً، بطلبه طعامًا يأخذه من أيديهم ويأكله قدامهم.
v لم يكن جائعًا لكنه طلب أن يأكل، فأكل بسلطانه لا عن الضرورة، حتى يدرك التلاميذ حقيقة جسده، ويتعرف العالم عليه خلال كرازتهم.
القديس أغسطينوس
v وإن كان بعد القيامة العامة للكل، لا يكون أكل ولا شرب، ولا إذا كان أحد به جرح يقوم به… إنما صنع الرب هذا ليحقق لنا أجمعين أن الجسد الذي تألم ومات هو الذي انبعث من بين الأموات.
الأنبا بولس البوشي
v بحسب أمر الناموس كان الفصح يؤكل حقًا مع أعشاب مُرّة لأن مرارة العبودية كانت لا تزال قائمة، أما بعد القيامة فالطعام حلو بعسل النحل.
القديس غريغوريوس النيسي
سادسًا: إذ حّل السيد المسيح القائم من الأموات في وسط تلاميذه، وقدم لهم نفسه خلال الحواس حتى يرفعهم بالإيمان إلى ما هو فوق الحواس، فتح أذهانهم ليدركوا ما كُتب عنه في الناموس والأنبياء، خاصة عن صلبه وقيامته.
“وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم،
أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير.
حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.
وقال لهم: هكذا هو مكتوب،
وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث“ [44-46].
إن كان قد دخل إلى العُليَّة والأبواب مغلقة ليعلن قيامته لهم، فإنه جاء ليدخل أذهانهم ويعلن تجليه فيها فتتمتع ببهجة قيامته وقوتها، وتدرك مفاهيم إنجيله وتختبر ملكوته في داخلها.
إرساله التلاميذ 44-49.
إن كان قد أعلن السيد قيامته لتلاميذه، إنما يعلن قيامة الرأس من أجل الجسد، قام ليقيمنا معه. بمعنى آخر إن كان قد قام، إنما ليرسل تلاميذه يقدمون قوة قيامته للبشرية، فيتمتعون بالعضوية الحقيقية في جسده القائم. لذا إن كان قد بدأ عطاياه هنا بمنحه سلامه، يختمها بدعوتهم للكرازة بقوة روحه القدوس ليضموا أعضاء جددًا في جسده المقدس القائم من الأموات.
جاءت وصيته لهم: “هكذا كان ينبغي…
أن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم،
مبتدأ من أورشليم،
وأنتم شهود لذلك.
وها أنا أرسل إليكم موعد أبي،
فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالي” [46-49].
إن كان قد قدم حياته المبذولة القائمة من الأموات، إنما لتكون وديعة ورصيدًا للكرازة بعدما تسلموا “الروح القدس” كسرّ قوتهم العلوية، في تأسيس الكنيسة جسد المسيح المقام.
يعلق القديس أغسطينوس على هذا الظهور الإلهي المختتم بإرسالية التلاميذ، قائلاً:
[أظهرَ ذاته للتلاميذ بكونه رأس كنيسته.
كانت الكنيسة منظورة فيه مقدمًا… إذ ظهر الرأس ووعد بالجسد… رأوا الرأس وآمنوا به، متلامسًا مع الجسد. أما نحن فنرى الجسد ونؤمن بالرأس… رؤيتهم للمسيح أعانتهم على الإيمان بكنيسة المستقبل، أما بالنسبة لنا فرؤيتنا للكنيسة تعيننا على الإيمان بالمسيح القائم. إيمانهم كمل، وأيضا إيماننا نحن قد كمل. إيمانهم كمل خلال رؤيتهم للرأس، ونحن إيماننا كمل برؤيتنا للجسد… هم رأوا الرأس وآمنوا بالجسد، أما نحن فرأينا الجسد وآمنا بالرأس. ليس أحد ينقصه المسيح، فهو كامل في الكل بالرغم من أن جسده لم يكمل بعد حتى اليوم.]
يقول أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن القائد لا يسمح لجنوده أن يواجهوا كثيرين ما لم يتسلحوا أولاً، هكذا لم يسمح الرب لتلاميذه أن ينزلوا للصراع ما لم يحل الروح أولاً.]
الآن إذ التقى السيد المسيح بتلاميذه أكثر من مرة وأكد لهم قيامته، ووعدهم بإرسال روحه القدوس عليهم انطلق إلى السماء لكي تنطلق معه قلوبهم وتحمل سمته السماوية.
صعوده إلى السماء 50-52.
“وأخرجهم خارجًا إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم.
وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء.
فسجدوا له، ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم” [50-52].
قلنا أن “بيت عنيا” تعني “بيت العناء” أو”بيت الطاعة”، فإنه قد أراد أن يصعد إلى السماء عند بيت عنيا، عند جبل الزيتون، حتى كل من يود أن يرتفع قلبه إلى السماء يلزمه أن يحتمل معه “العناء” ويشاركه الألم، كما يحمل سمة الطاعة التي للابن نحو أبيه. يمكننا أن نقول بأنه من أجل عصياننا نزل من السماء، وبطاعته رفعنا إلى سماواته.
لقد رفع يديه الحاملتين لآثار الجراح ببركة صليبه، مقدّمًا دمه المبذول ثمنًا لرفعهم معه.
العجيب أن التلاميذ لم يحزنوا على صعود الرب ومفارقته لهم حسب الجسد، إنما رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ، إذ أدركوا أنه حيث يوجد الرأس تكون الأعضاء، وما تمتع به السيد المسيح إنما هو باسم الكنيسة كلها ولحسابها.
ارتباطهم بالهيكل 53.
“وكانوا كل حين في الهيكل، يسبحون ويباركون الله، آمين” [53].
كانوا مرتبطين بالهيكل، لا يريدون أن يتركوه بل أن يسحبوا كل قلب لإدراك المفاهيم الروحية الإنجيلية للناموس. وكانت حياتهم تسبيحًا بلا انقطاع، حتى عندما طُردوا من الهيكل وذاقوا أمر الاضطهادات على أيدي اليهود ثم الرومان.
هذه هي نهاية السفر، فيه نجد الصديق السماوي قد ارتفع ليرفع أصدقاءه، واهبًا إياهم حياة التسبيح حتى يكملوا جهادهم بفرح داخلي ويلتصقوا به أبديًا.
إنجيل القديس لوقا: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16– 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24