تفسير رسالة رومية 8 – كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة
الأَصْحَاحُ الثَّامِنُ
المسيح المحب يدبر حياتنا ويهبنا الأبدية
(1) لا دينونة للسالكين حسب الروح (ع1-17):
1 إِذًا؛ لاَ شَىْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ، لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ، بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ. 2 لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، قَدْ أَعْتَقَنِى مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ. 3 لأَنَّهُ، مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزًا عَنْهُ فِي مَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْجَسَدِ، فَاللَّهُ، إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ، 4 لِكَىْ يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا نَحْنُ السَّالِكِينَ، لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ، بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ. 5 فَإِنَّ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ، فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ حَسَبَ الرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ. 6 لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلَكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ. 7 لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعًا لِنَامُوسِ اللهِ، لأَنَّهُ أَيْضًا لاَ يَسْتَطِيعُ؛ 8 فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ. 9 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ، بَلْ فِي الرُّوحِ إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ. وَلَكِنْ، إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَـذَلِكَ لَيْسَ لَهُ. 10 وَإِنْ كَانَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ، فَالْجَسَدُ مَيِّتٌ بِسَبَبِ الْخَطِيَّةِ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَحَيَاةٌ بِسَبَبِ الْبِرِّ. 11 وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِى أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِى أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ. 12 فَإِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ، نَحْنُ مَدْيُونُونَ، لَيْسَ لِلْجَسَدِ لِنَعِيشَ حَسَبَ الْجَسَدِ. 13 لأَنَّهُ، إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ، فَسَتَحْيَوْنَ. 14 لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ. 15 إِذْ لَمْ تَأْخـُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَـوْفِ، بَلْ أَخَـذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّى الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَّا، الآبُ!» 16 اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. 17 فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا، فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ.
ع1: ها قد وصلنا مع القديس بولس إلى قدس أقداس الرسالة، وهو أن المتحدين بالمسيح يسوع قد أُنقِذوا من الدينونة وفتح لهم أخيرا باب الفردوس، بشرط سلوكهم سلوك روحي، خاضعين لوصايا المسيح وغير منقادين وراء الشهوات والأهواء الجسدانية.
ع2: ناموس روح الحياة: وصايا العهد الجديد المسنودة بقوة الروح القدس.
ناموس الخطية والموت: الطبيعة المائلة للشر والتي تؤدى إلى هلاك الإنسان.
لماذا لا توجد دينونة على أولاد العهد الجديد؟
لأن الناموس الجديد الروحي المؤدى إلى الحياة الأبدية لهؤلاء المتحدين بالمسيح قد حررهم من سلطان الخطية أي ناموسها عليهم، وبالتالي حررهم من الموت كأجرة للخطية. وكيف ذلك؟
بالمسيح الذي لم يكتفِ بالوصايا والتعاليم، بل أعطاهم الروح القدس الذي به يستطيعون أن ينفذوا تلك الوصايا وينتصروا على الخطية.
لاحظ أيها الحبيب أن بولس الرسول ذكر كلمة الروح في هذا الأصحاح 20 مرة، في مقابل ذكره كلمة أنا المغلوب 20 مرة في الأصحاح السابق، ليبرز عجز الأنا في مقابل الانتصار بالروح في هذا الإصحاح.
ع3: عاجزا عنه: عاجزا عن مساندة الإنسان لتنفيذ الوصية.
ضعيفا بالجسد: أي الجسد الضعيف أمام الخطية ومائلا إليها.
شبه جسد الخطية: تجسد المسيح بجسد إنساني كامل ولكن غير مائل للخطية، لذا يسميه “شبه” لأنه نقى وغير مائل للخطية.
لأجل الخطية: لينتصر على الخطية ولا يسقط فيها.
دان الخطية: أظهر شرها، فقد استعبدت الإنسان طوال العهد القديم، أما الآن فبتجسد المسيح ينال الطبيعة الجديدة في سر المعمودية، فيميل للخير ويرفض الشر.
أظهر الناموس الصلاح، ولكن عجز عن مساعدة الجسد المائل للشر، فكان الإنسان يفعل الشر. ولكن عندما تجسد المسيح ليحررنا من الخطية، أعطانا طبيعة جديدة مائلة للخير، فأظهر خطأ الخطية وشرها وأصبح الإنسان لا يريدها ما دام ملتصقا بالله.
ع4: بهذا نستطيع أن نتمم حكم الناموس أي بره، فنكون أبرارا في نظر الناموس ولا يكون له ما يشتكى به علينا، لأننا أصبحنا سالكين ومنقادين بروح الله في حياة روحية.
لاحظ أيها الحبيب أنه لا تعارض بين وصايا ناموس موسى ووصايا المسيح، كما قال السيد المسيح نفسه “لا تظنوا إنى جئت لأنقض الناموس والأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل” (مت5: 17)
ع5: إن الذين لا زالوا تحت سلطان الجسد، نجد كل اهتماماتهم وأحاديثهم منحصرة في الأمور الجسدانية، ماذا سنأكل، ماذا سنشرب، ماذا سنلبس أو بماذا نستمتع؟ هؤلاء لا تجد للأمور الروحية أي مكان في حياتهم. فهم في الجسد وللجسد يحيون.
أما الإنسان الروحي المحب لله والواضع هدفه الأول إرضاءه، فيهتم بالروحيات كالصلاة والقراءات الروحية والأصوام والقداسات، وتجد اهتماماته الجسدية معقولة متزنة ومنضبطة أي محكومة بالروح.
ع6: الجسد ليس شرًا في حد ذاته، بل الاهتمام والانغماس في الشهوات الجسدية هو الخطأ المؤدى إلى الموت الروحي والانفصال عن الله. أما الروحي فيمتلئ قلبه بالسلام، وتحيا نفسه من موت الخطية.
ع7-8: ما يطلبه الجسد متنافى مع ما يطلبه الروح، والمبدأ الذي وضعه هنا القديس بولس واضح، أن من ركَّز كل اهتماماته على جسده فقد خرج من دائرة الله إلى دائرة العالم المعادية لله، ولا يستطيع أن يخضع لناموس الله حتى إن أراد، لأن جسده المدلل يجذبه للشهوات المختلفة، مانعًا إياه من تنفيذ الوصايا المرضية لله. فكيف للجسد المتراخى أن يسهر في الصلاة، وكيف للجسد المتخم بالأطعمة أن يصوم، وكيف للذات المتضخمة أن تتضع، وكيف للزانى أن يحيا حياة القداسة؟
ع9: أما إن كان روح الله ساكنًا وحيًا فينا، فلا يقال عنا أننا جسدانيون بل روحيون، نعيش في العالم ولا يعش فينا، كأننا زوار غرباء عنه، نستعمل من العالم ما هو ضرورى فقط لحياتنا بقناعة ورضا دون طمع وتعظم معيشة.
إذا هذه الآيات السابقة كلها تدل على أن المعمودية لا تكفى وحدها لخلاصنا، ما لم نمارس حياة لائقة بهذه العطية بعد نوالها. والذي ليس له حب واقتناع بطريق المسيح، وغير خاضع للروح القدس، معطلا عمله وكأنه ليس له روح المسيح في داخله، فهذا لا سلام له ولن تكون له حياة أبدية.
ع10: إن سلكنا بالروح واتحدنا بالمسيح، ففى نهاية حياتنا على الأرض سيخضع الجسد للموت الطبيعي كنتيجة للخطية الأصلية، أما الروح فستكون لها حياة أبدية بسبب حياة البر التي عشناها بمساندة الروح القدس الساكن فينا. وكذلك عندما يتحد المسيح بنا، يموت الجسد عن الخطية، أي يرفضها ويتنافر معها، أما الروح التي يعمل فيها المسيح فتحيا للبر بنعمة الروح القدس.
ع11: الروح الذي أقام يسوع: الروح القدس
سيحيى أجسادكم المائته: إن كان الجسد لا بُد أن يموت، لكنه سيقوم في اليوم الأخير بشكل جديد روحانى يتحد بالروح ليتمجد معها.
روحه الساكن فيكم: الروح القدس.
إذًا فالله قادر أن يقيم أجسادنا في اليوم الأخير، ليتمتع كل من الجسد والروح (الجسد الروحانى المقام) بملكوت السماوات مع المسيح.
†هذه الآية تعطى أيضًا رجاء لكل نفس، بأن المسيح قادر أن يقيمها من سقطات الخطية مهما كانت بشعة، إن أرادت التوبة وأصرت على الجهاد.
ع12: بعد كل عطايا الله المجانية السابقة، إذا فنحن مديونون له بحياتنا وأرواحنا ولا يصح أن نحيا عبيدا للجسد وشهواته، كأننا مديونون للجسد بشيء.
ع13: لأننا إن عشا نعمل أعمال الجسد التي هي الشهوات الشريرة (غل5: 19، 20)، فالنتيجة موتا أبديا. ولكن إن قاومنا أعمال الجسد بالشبع الروحي، نستطيع بسهولة أن ننتصر، وعندئذ نستمتع بالنعيم الأبدي مع المسيح.
ع14: ينقادون: يقبلون تدابير الله في حياتهم.
هنا يبين الرسول عمق الحياة الروحية مع الله. فالإنسان الذي يسلم حياته بثقة لقيادة الله، متقبلا منه كل أحداث حياته، شاكرا إياه على الحلو منها وصابرا على المر فيها، فهذا يدعى ابن الله.
ع15: أبا: كلمة سريانية معناها أب.
الآب: كلمة عربية معناها الأب.
من حنان الله، أنه لم يجعل علاقتنا به علاقة العبيد الخائفين عقوبة سيدهم، ولكن علاقة بنوة له. إذ جعلنا نناديه بدالة البنين قائلين له “أبا” بحسب لغة اليهود، أو الآب بحسب لغة الأمم. أي أن بولس يؤكد البنوة في تكرار دعوته الله بأب، فكأنه يقول يا بابا الآب.
ع16-17: ورثة الله: ما دام الله أبونا، فهو يهبنا الميراث الأبدي أي ملكوت السماوات.
وارثون مع المسيح: المسيح بكر بين إخوة كثيرين. فقد دخل الملكوت كنائب عنا، لكي ندخل نحن أيضًا في اليوم الأخير ونتمتع معه بعطاياه في الملكوت. فنحن لا نقول أبونا بالفم، ولكن روح الله داخلنا يؤكد لنا هذا الإحساس أننا بالحقيقة أولاده المحبوبون، وبالتالي ورثة للملكوت مع ابنه يسوع المسيح، الابن الوحيد الجنس. وإن كان الله يسمح لنا بآلام على الأرض، فذلك لأنه يحب المجاهدين الصابرين؛ وقد سبق أن سلك السيد المسيح طريق الآلام ثم المجد، وهكذا نحن أيضًا نتألم أولًا ثم نتمجد مجدا أبديا.
† الله يهبك يا أخي نعمة البنوة وميراث الحياة الأبدية إن عشت روحيا، فكيف تتنازل عن مكانتك العظيمة وتنشغل بشهوات الجسد الزائلة؟! إنك أسمى من باقي المخلوقات بسلوكك الروحي، فكيف تتدنى إلى السلوك الحيوانى؟… لتكن لذتك هي الوجود مع الله، وارفع عينيك نحو الأبدية مكانك الطبيعي، وإن سقطت في شهوة ردية قم سريعًا وسيساعدك الروح القدس أن تحيا كابن لله.
(2) تجديد الخليقة ورجاء المجد الآتي (ع18- 25):
18 فَإِنِّى أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا. 19 لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ. 20 إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ، لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا، عَلَى الرَّجَاءِ. 21 لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. 22 فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. 23 وَلَيْسَ هَكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّى فِدَاءَ أَجْسَادِنَا. 24 لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا؟ 25 وَلَكِنْ، إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ، فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ.
ع18: من ذا الذي يستطيع أن يضع آلام الزمان الحاضر المحدودة في مقارنة مع المجد العتيد المزمع أن يظهر فينا ونناله في الأبدية اللانهائية. فاحتمال آلام هذا العالم له مكافأة غير محدودة من الفرح والسعادة الأبدية، ولذا اشتهى القديسون الآلام ليزيدوا من رصيدهم في المجد العتيد الأبدي.
ع19: الخليقة: كل المخلوقات، غير الإنسان، التي خلقت لأجله ولعنت بسبب خطيته وستتغير في الأبدية عندما يتمجد الإنسان.
الأبدية التي تكتمل فيها عودتنا للأحضان الإلهية لنتمتع بكمال البنوة لله، هي موضوع انتظار الخليقة كلها.
ع20-21: أخضعت الخليقة للبطل، أي حلت عليها اللعنة عندما أخطأ آدم “ملعونة الأرض بسببك” (تك3: 17)، وكلمة “ليس طوعًا” أي ليس نتيجة خطأ صدر من الطبيعة، بل كأمر من الله قد أخضعها للدمار ولكن لها رجاءً أن تتجدد وتتحرر من الفساد واللعنة التي حلت بها، مثلما سيتحرر أولاد الله. ولكنها لن تتمجد لأن المجد خاص فقط بالكائنات العاقلة، بل تتغير لتصير روحية وليست مادية عندما تظهر السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ21: 1)، التي يحيا فيها الإنسان إلى الأبد في ملكوت السموات.
ع22: لا زالت الخليقة إلى الآن تئن متألمة، إذ أنها لا زالت مسرحًا لحروب ومذابح ومجاعات بسبب شر الإنسان، ولا زالت متمخضة (كأنها رحم يتوجع لخروج الجنين) بزلازل وبراكين وسيول وحرائق، منتظرة متى تنتهي تلك الأحداث المؤلمة، وعندها ستصير الطبيعة إلى حال أفضل متناسب مع استعلان الإنسان كابن لله في الأبدية، أي تتحول كما قلنا إلى سماء جديدة وأرض جديدة.
ع23: باكورة الروح: ذقنا عربون الأبدية في عشرة الله تمهيدا للعشرة الكاملة في السماء.
نئن في أنفسنا: الآلام التي يعانيها أولاد الله على الأرض.
التبنى: البنوة الكاملة لله التي ننالها في الأبدية.
فداء أجسادنا: عندما تتغير الأجساد من الطبيعة المادية والتراب إلى أجسام روحية، هذا نناله كنعمة من المسيح الذي فدى أرواحنا وأجسادنا.
إن كان القديس بولس بتشبيه بليغ، صور لنا الطبيعة وكأنها إنسان يشعر ويحس، فكم بالأولى نحن البشر نئن بالرغم من تذوقنا لبعض بركات الروح القدس بشكل جزئى كعربون للدهر الآتي، إلا أننا نشتاق إلى الكل لا الجزء. فكمال البنوة لا يتم إلا بعد قيامة الأجساد من الموت، تلك التي فداها المسيح.
ع24-25: كلمة بالرجاء خلصنا لا تعني أننا نلنا بالفعل الخلاص، بل تعني أننا في يقين أن الله سيحقق لنا وعده بالخلاص في الحياة الأبدية، لأن وعود الله مضمونة إذ أنه صادق. فالخلاص والقيامة وكمال البنوة هي حالات آخروية لا تأخذ وجودها الحقيقي العلنى إلا في الدهر الآتي، أما ما نتمتع به الآن هو فقط عربون للدهر الآتي الغير منظور. لذلك أعطانا الله الرجاء الذي به نثق أننا سننال الحياة الأبدية الغير منظورة الآن.
فالرجاء أيها الحبيب أشبه بشيك في يديك الآن، ولكن ميعاد صرفه والانتفاع به هو بعد خروجك من الجسد، وسلاحك الوحيد في صرفه هو المحافظة عليه من الضياع، والصبر لحين ميعاد صرفه في نهاية حياتك.
† إن كانت آلام الحياة مؤقته فلا تنزعج منها مهما تكاثرت، بل تستطيع أن ترتفع فوقها إن نظرت إلى المجد السماوي الذي ينتظرك، وحينئذ ستنال معونة إلهية وتشفق على من يسيئون إليك وتصلى لأجلهم. وإن كنت ترى الآلام بعينيك، إلا إنك تكاد لا تشعر بها من فرط نعمة الله المساندة لك.
(3) شفاعة الروح القدس (ع26-27):
26 وَكَذَلِكَ الرُّوحُ أَيْضًا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّى لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِى. وَلَكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا. 27 وَلَكِنَّ الَّذِي يَفْحَصُ الْقُلُوبَ يَعْلَمُ مَا هُوَ اهْتِمَامُ الرُّوحِ، لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يَشْفَعُ فِي الْقِدِّيسِينَ.
ع26: كيف نتحلى بالصبر وسط آلام الحاضر وخلاص غير منظور نصلي لأجل نواله ولا ندرك طبيعته، فنحن بهذا لا نعلم ما نصلي لأجله، أي الملكوت، فيتدخل الروح القدس ليسندنا في جهادنا ويهبنا نعمه ويعيننا في ضعفنا، وليس ذلك فقط بل يشفع من أجلنا ويعلمنا كيف نصلي، أي يوحى ويلهم الإنسان بصلاة قلبيه يعجز اللسان البشرى عن التعبير عنها، ويهب قلوبنا عمق في فهم وإدراك أسرار الله مما يعجز العقل البشرى عن إدراكه.
ونحن كبشر ضعفاء، كيف نقف أمام الله العظيم القدوس ونتكلم معه؟ هنا يتدخل الروح القدس ويعطينا المشاعر التي نتقدم بها إلى الله ويعلمنا كيف نتكلم معه.
ع27: القديسين: أولاد الله المقدسين فيه، فكل من آمن يتقدس ويتخصص للمسيح.
الروح يفحص أي يدرك قلب كل إنسان على حدة، معطيا إياه ما يتناسب مع مستواه. فأهم شيء عند الروح هو كمال خلاص الإنسان، لذلك فهو ينقى صلواتنا من الطلبات الضارة بخلاصنا ويستجيب فقط للطلبات التي حسب مشيئة الله وهي بالتأكيد تحمل الخير لنا.
† إن كنت لا تعرف ماذا تقول في الصلاة، أو يحاربك إبليس بالكسل أو طياشة الفكر أو الملل، فلا تنزعج، بل قف للصلاة وأطلب معونة الله فيسندك ويعلمك كل شيء. وما تصنعه بصعوبة الآن، سيصبح سهلا ومعزيا لقلبك، بل تشتاق للصلاة ولا تريد أن تنهيها، وكل هذا بعمل الروح القدس الساكن فيك.
(4) المسيح المُدَبِّر والشفيع (ع28-34):
28 وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ. 29 لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ، سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. 30 وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا. 31 فَمَاذَا نَقُولُ لِهَذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا؟! 32 الَّذِى لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَىْءٍ؟ 33 مَنْ سَيَشْتَكِى عَلَى مُخْتَارِى اللهِ؟ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ! 34 مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ الْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِىِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا!
ع28: خطة الله بالنسبة لنا فائقة، فهو يحول كل الأمور بلا استثناء لبنيان نفس المؤمن، فتعمل لخيره سواء على الأرض أو لمجده في السماء. وكلمة “تعمل معا” تعني أن بعض الأحداث الفردية في حياتنا تبدو سيئة وقاسية وغير مفهومة، ولكن حينما تضاف إلى أحداث أخرى، تعمل معا في انسجام، فتكتمل الصورة النهائية لخير وصالح الإنسان. وما يبدو ضررا الآن، يحمل في داخله خيرا في المستقبل. ولكن هذا الامتياز هو فقط لمحبى الله، الذين بعدما دعاهم الله تجاوبوا معه بحب وطاعة وتسليم، وعاشوا حياتهم متممين قصد الله، أي مشيئته في حياتهم.
† لاحظ أيها الحبيب أن دعوة الله وحدها لا تحقق الخلاص، إنما نية المدعوين وطاعتهم لله بعد الدعوة. فالدعوة ليست ملزمة أو قهرية كما قال السيد المسيح “كثيرون يدعون وقليلون ينتخبون” (مت20: 16). فإن شجعك الله على صلاة أو قراءة أو أي خدمة، فلا تتكاسل أو تضع العراقيل، بل أسرع للاستجابة لتصير ابنًا حقيقيًّا له.
ع29-30: بكرا بين إخوة كثيرين: المسيح بعد قيامته صعد إلى السماء ليعلن إمكانية دخول الإنسان إلى الأمجاد في الملكوت. فهو بكر لكل المؤمنين به، الذين يعتبرهم إخوة، أي سيشاركونه المجد في الملكوت بعد أن يتمموا جهادهم الروحي في هذه الحياة.
الذين دعاهم: هذا يؤكد أن كل إنسان له استعداد أن يؤمن، سيدعوه الله وينال الخلاص الأبدي. فلن يوجد إنسان لم تصله الدعوة للحياة مع الله والإيمان، إلا الذين ليس لهم استعداد للحياة مع الله، ويعرفهم الله بسابق علمه.
قصد الله هو أن يحب الإنسان كابن له، فيهبه مجدا مشابها لمجد ابنه يسوع المسيح البكر. واختيار الله للبعض وتعيينهم كأبناء له لا تتم على أساس محاباة، بل على أساس معرفته السابقة لهم (سبق فعرفهم) أنهم سيتجاوبون مع دعوته، والمتجاوبون مع الدعوة قد بررهم الله بالمعمودية. فهؤلاء الثابتون في الحب والجهاد لهم في النهاية المجد السماوي الأبدي المعد لهم من قبل إنشاء العالم.
ع31: إن كان الله معنا، أي يساندنا ويعيننا في ضعفنا، فمن من الأشرار أو العوامل المعاكسة أو القوى المضادة تقدر أن تخرجنا من دائرة حب الله ما دمنا متمسكين به؟
ع32: لا يمكن أن نشك في محبة الله، إذ أنه من أجلنا قدم أغلى ما عنده وهو ابنه الوحيد يسوع المسيح. إذًا فبديهى أن يهبنا كل العطايا والنعم اللازمة لخلاصنا.
ع33: إن كان الشيطان يشتكى علينا بخطايانا أمام الله كل يوم، فهوذا المسيح يبررنا بتوبتنا.
ع34: إن كان الأشرار الكاذبون يدينوننا في العالم بافتراء، مثلما أدانوا الشهداء والقديسين، فما قيمة إدانتهم بينما الدينونة الحقيقية قد وُضعت في يد المسيح، ذاك الذي مات وقام وجلس عن يمين الآب، يشفع فينا بدمه شفاعة كفارية تنجينا من الدينونة.
(5) لا شيء يفصلنا عن حبنا للمسيح (ع35-39):
35 مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْىٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ 36 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُـلَّ النَّهَارِ. قَـدْ حُسِبْنَا مِثْـلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ.» 37 وَلَكِنَّنَا، فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا، يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِى أَحَبَّنَا. 38 فَإِنِّى مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً 39 وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.
ع35: حيث أن محبة الله لنا لا نهائية ولا تشكيك فيها، فمحاولات الشيطان موجهة نحونا بالتجارب والضيقات المرهقة وهدفها منعنا نحن من حب الله، وكثيرًا ما ينجح الشيطان في ذلك. ولكن القديس بولس يصرخ بثقة مع المختارين الثابتين في حبهم لله قائلًا: أن لا شيء يفصل بيننا وبين الله، سواء كان شدة وهي الضغط والظلم، والضيق وهو أعنف من الشدة، اضطهاد أي إلحاق الأذى والتحطيم، أما الجوع فهو انقطاع كل موارد الحياة، والعرى أي نقصان الكساء الضرورى، ثم الخطر والسيف أي تهديد حياة المسيحي حتى الموت.
ع36: التاريخ يشهد بكثرة الشهداء، الذين يذبحون طوال النهار أي على مدى الأيام، كالأغنام، من أجل حبهم للملك المسيح. وكل مسيحي يقبل الموت طوال حياته لاحتمال الآلام، سواء في الجهاد ضد الخطية أو النسك أو الخدمة الباذلة وبالأكثر في عذابات الاستشهاد لأجل محبة المسيح.
ع37: هكذا ننتصر انتصارًا عظيمًا على الشيطان وأعوانه، وندخل في المجد الأبدي، بعد أن استنفذ الشيطان كل حيله من ضيقات وموت لعله يبعدنا عن حبنا للمسيح، بل نحن غالبون بذات الأمور التي وضعت لمكائدنا، وإن ضُربنا نُحسبَ أقوى من الضاربين لأن الله يصارع معنا.
ع38-39: يعود القديس بولس ليؤكد أن حبنا للمسيح، الذي أحبنا أولًا، لا يقدر الخوف من الموت أو حب الحياة على إضعافه. أما ذكره للملائكة وبعض طغماتهم من (رؤساء وقوات)، فالمقصود بها أننا نحب المسيح لا لأجل تمتعنا المستقبلى بحضرة الملائكة، بل من أجل شخصه الحبيب.
ويحكى لنا البستان أن راهبًا رأى ملاكًا حقيقيًا وهو يصلى، فاستمر في صلاته غير ملتفت للملاك.
ولا تستطيع إغراءات العالم في الحاضر والمستقبل، التي تعلو وتهبط في تقلبات كثيرة، أو أي خليقة أخرى، مهما كانت، تقدر أن تفصلنا عن حبنا للمسيح؛ فغاية حياتنا أن نحبه ونستمتع بحبه لنا، ومرحبا بالموت إن كان يقصر طريقنا للقاء عريسنا السماوي.
† إفحص نفسك في نهاية كل يوم ماذا عطلك عن التمتع بمحبة المسيح، ومهما كان غاليا لا تتركه يحرمك من هدف حياتك.
إفسح وقتًا أكبر وتنازل ليس فقط عن الشهوات الشريرة أو قلق واضطرابات الحياة، بل عن أي انشغال يحرمك من حياتك الروحية.
تفسير رومية 7 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد |
تفسير رومية 9 |
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |