تفسير رسالة رومية – المقدمة للقمص تادرس يعقوب ملطي

مقدمة في الرسالة

روما

يرى البعض أن كلمة “روما” من أصل يوناني تعني “قوة”، وكانت تستخدم بمعنى “مع السلامة”، إذ تعني “ليكن لك صحة قوية”؛ ويرى البعض أنها تعني “مرتفع”. وربما دُعيت هكذا لسببين: أولاً لأن رومليوس أسسها عام 753 ق.م. فحملت اسمه، وأيضًا لأنها بنيت على مكان مرتفع على أكمة من الآكام السبع هناك. وقد اتسعت لتمتد فتشغل كل الآكام. وفي منتصف القرن السادس ق.م أحيطت بسور يضم المدينة كلها مع ضخامتها، محيطة حوالي خمسة أميال، به 19 بابًا.

اتسع نطاقها ونفوذها حتى صارت عاصمة الدولة الرومانية التي استولت على حوض البحر الأبيض المتوسط كله، فتزايد عدد سكانها جدًا حتى أقيمت المنازل خارج السور أيضًا. صارت روما ملتقى ساسة العالم وقادته، ومركزًا للعلوم والآداب والفلسفة، اشتهرت على وجه الخصوص بالقانون الروماني الذي لا يزال يُدرّس في أغلب جامعات العالم. وكبلدٍ مفتوحٍ امتلأت روما بالخزعبلات والرجاسات الوثنية وقبائحها، قادمة من كل العالم، يظهر ذلك بوضوح مما جاء في الأصحاح الأول من هذه الرسالة.

يُقدر سكان روما في القرن الأول بحوالي 2 مليون، وإن كان هذا التقدير يعتبر مبالغ فيه، ثلث سكانها كانوا من الرقيق. وقد ضم سكانها جنسيات متعددة. وكان بالمدينة عدد كبير من اليهود الذين قادهم بومباي القائد الروماني أسرى حينما استولى على سوريا سنة 63 ق.م وأسكنهم قسمًا من المدينة. ثم تحرر هؤلاء اليهود، وتكاثروا حتى أصبحوا حوالي 16 ألف نسمة في عهد الرسول بولس. وكان هؤلاء اليهود في سلام وراحة معظم وقتهم في روما، إلا في عهد طيباريوس سنة 19م، وفي عهد كلوديوس قيصر سنة 49م الذي أمر بطردهم جميعًا من روما (أع 18: 2). ومما يدل على كثرة هؤلاء اليهود أنه لما مات هيرودس الكبير جاءت لجنة من اليهود إلى روما لتستعطف أوغسطس قيصر، فخرج لاستقبالها حوالي ثمانية آلاف رجل من أعيان اليهود بالمدينة، وكان لليهود في روما أكثر من 13 مجمعًا، وكانوا طائفة تميل إلى إحداث الفتن والثورات.

نشأة المسيحية بروما 

لم يذكر العهد الجديد شيئًا عن تأسيس هذه الكنيسة، كما لا يُعرف من الذي قدّم الشعلة الأولى للإيمان هناك، لكننا نلاحظ في نشأة المسيحية بروما الآتي:

1. جاء في سفر أعمال الرسل أنه في يوم الخمسين حضر يهود أتقياء من كل أمة، من بينهم “رومانيون مستوطنون يهود ودخلاء” (أع 2: 10)، هؤلاء قبلوا الإيمان بالسيد المسيح وعادوا من أورشليم إلى روما يكرزون بين إخوتهم اليهود. لهذا يرى غالبية الدارسين أن كنيسة روما في بدء انطلاقها كان معظمها من أصل يهودي حتى وقت بعث رسالة القديس بولس إليهم. لهذا نجد الرسالة موجهة بالأكثر إلى اليهود المتنصرين أكثر من الأمم المتنصرين، هذا وقد أعطى هذا الوضع انطباعًا في ذهن قادة الرومان أن المسيحيين ليسوا إلا طائفة يهودية منشقة عنهم.

2. إذ تميزت الدولة الرومانية بالحرية وسهولة الانتقال فيما بينها، خاصة بين البلدان المختلفة والعاصمة، وكانت روما ملتقى كبار القادة والمعلمين والتجار، فقد دخلها بلا شك جماعة من المعلمين والتجار المؤمنين سواء من أصل يهودي أو أممي، جاءوا يحملون في قلوبهم شعلة الإيمان المتقد، يكرزون ويشهدون للرب. من بين هؤلاء أُناس سمعوا تعاليم القديس بولس في بعض مدن آخائية ومكدونية في بلاد اليونان وفي مدن آسيا الصغرى وآمنوا بهذه التعاليم. ويؤكد ذلك سلام القديس بولس على كثيرين ذكرهم بأسمائهم في الأصحاح الأخير من الرسالة، مما يدل على أنهم كانوا من تلاميذه ومعارفه، مع أنه لم يكن قد ذهب إلى روما قبل كتابة الرسالة.

3. إذ طُرد كثير من اليهود إن لم يكن جميعهم من روما بأمر كلوديوس إلى مدن أخرى ثم عادوا إليها مرة أخرى، كان بعضهم قد آمن بالسيد المسيح، مثال ذلك أكيلا وبريسكلا اللذان التقيا مع الرسول بولس في كورنثوس (أع 18: 1-2). وآمنا على يديه، وكان يشترك معهما في صناعة الخيام… هذان وغيرهما قد اشتركوا في تأسيس الكنيسة هناك (رو 16: 5).

4. واضح من الرسالة أن أحدًا من الرسل لم يكن قد أنشأ هذه الكنيسة حتى كتابة هذه الرسالة، فقد كان مبدأه: كنت محترصًا أن أُبشر هكذا، ليس حيث سُميَ المسيح، لئلا أبني على أساس آخر (رو 15: 20)، وإذ يكتب في نفس الرسالة معلنًا شوقه الشديد للتوجه إليهم وأنه مُنع مرارًا، وأخيرًا قرر زيارتها (رو 1: 9-10؛ 15: 22، 24) هذا يؤكد أن أحدًا من الرسل لم يكن قد زار روما من قبل.

5. كان الرسول بولس يشعر أنه رسول الأمم (غل 2: 7، 11)، لذا أحس بالمسئولية تجاه هذه المدينة كعاصمة العالم الأممي في ذلك الحين. لذا أرادها مركزًا من مراكز خدمته، وأنه مدين لهم بالكرازة (1: 13-14).

6. يرى غالبية الدارسين في الغرب والشرق أن القول بأن القديس بطرس الرسول قد أسس هذه الكنيسة وبقي على كرسيها حوالي 25 عامًا لا يمكن قبوله، فمن جهة كان القديس بطرس حاضرًا في أورشليم حتى المجمع الرسولي المنعقد عام 50 م تقريبًا (أع 15)، وكان في أنطاكية عام 55 م حيث اجتمع بالقديس بولس هناك (غل 2: 11)، وكان في بابل حين كتب رسالته الأولى حوالي عام 60 م (1 بط 5: 13). هذا ولو أن القديس بطرس قد أسس الكنيسة هناك عام 41 م كما ظن البعض لما كتب الرسول هذه الرسالة، وإن كتبها لما قال أنه لا يبشر حيث سُمي المسيح لئلا يبني على أساس لآخر (15: 20)، ولكان ذكر اسمه في الرسالة أو سلّم عليه.

زمان ومكان كتابتها

كتب الرسول هذه الرسالة وهو يتوقع زيارته لروما، وقد قرر ذلك في طريقه إلى أسبانيا (رو 15: 23-24)، وذلك بعد ذهابه إلى أورشليم حاملاً معه عطايا مسيحيي مكدونية وآخائية إلى إخوتهم فقراء أورشليم (رو 15: 25-26؛ 1 كو 16: 1-16؛ 2 كو 8: 1-4). بهذا يكون قد كتبها أثناء رحلته التبشيرية الثالثة من كورنثوس في بيت رجل اسمه غايس، وصفه الرسول: أنه مضيفي ومضيف الكنيسة كلها (رو 16: 23)، وهو أحد اثنين قام الرسول بتعميدهما (1 كو 1: 14).

أملاها الرسول على ترتيوس (رو 16: 22)، وقد حملتها إلى روما الشماسة فيبي، خادمة كنيسة كنخريا (15: 1) ميناء شرقي كورنثوس.

إذ ذهب الرسول بولس إلى أورشليم في ربيع عام 58 م، لذا يرى غالبية الدارسين أنها كُتبت ما بين عامي 57، 58 م. 

أعضاء الكنيسة الأولى

لا يمكننا أن نفهم غاية هذه الرسالة وندرك عمق معانيها ما لم نتعرف على نوعية أعضائها، هل كانوا من اليهود المتنصرين؟ أو من الأمم المتنصرين؟ أو كانوا خليطًا من الاثنين؟

الرأي الأول: لمدرسة توبنجن Tubingen و E. Renan و T. Zahn و W. Manson وF. Leenhardt أن الغالبية العظمى للأعضاء من اليهود المتنصرين، وحجتهم في ذلك الرئيسية هي استخدام الرسول مقتطفات كثيرة من العهد القديم خاصة قصة إبراهيم داعيًا إيّاه “أبانا”، ويشعر القارئ أن الرسول في أغلب حديثه يتكلم مع من هم من أصل يهودي. هذا بجانب أن تعداد اليهود في روما في القرن الأول كان كبيرًا.

الرأي الثاني: نادى به J. Munck و S. Lyonnet و O. Michel و C. K. Barrett بأن الغالبية العظمى هم من أصل أممي، معتمدين على أن الرسول يحدثهم كرسول للأمم (1: 5-7، 12-14؛ 11: 11- 13، 15: 16)؛ وأنه يقارنهم بغيرهم من سائر الأمم (1: 12-14). وحديثه لهم قائلاً: قدمتم أعضائكم عبيدًا للنجاسة والإثم” (6: 19) يناسب من كانوا من أصل أممي لا يهودي، كما يخاطبهم “أقول لكم أيها الأمم” (11: 13).

الرأي الثالث: إنها كانت خليطًا من الصنفين، نادى به Headlam و Sanday و Dodd…

هذا ويمكننا القول بأن الكنيسة كانت تضم الصنفين، غير أن العنصر اليهودي كان غالبًا إلى حد كبير.

أهمية الرسالة وغايتها

كان لهذه الرسالة أهميتها في الكنيسة الأولى، فقد جاء عن القديس يوحنا ذهبي الفمأنه كان يقرأها مرتين أسبوعيًا.

1. نستطيع أن نتفهم أهمية هذه الرسالة ونتفهم ما حوته في داخلها من سبب كتابتها والظروف التي كانت تحيط بها. فقد آمن عدد ليس بقليل من يهود روما بالسيد المسيح، سواء كانوا يهودًا من أصل عبراني أو دخلاء من الأمم، كما آمن بعض الأمميّين الوثنيين المثقفين بفكر يوناني بربنا يسوع، وكان يلزم أن يلتقي الجميع بوحدانية الروح كأعضاء في جسدٍ واحدٍ،، لكن اليهود بتربيتهم المتزمتة، وتعصبهم الشديد لجنسهم وثقافتهم وفكرهم الديني، لم يقدروا أن ينزعوا أنفسهم بسهولة عن شعورهم بالامتياز عن غيرهم حتى بعد قبولهم الإيمان المسيحي، فكانوا يستخفون بالأمميّين المتنصرين تحت دعوى:

1. أنهم أبناء إبراهيم، أصحاب الوعد كنسل إبراهيم.

2. أنهم مستلمو الناموس الموسوي دون سواهم.

3. أنهم شعب الله المختار وحدهم.

خلال هذا الفكر الذي عاشوه في ماضيهم اليهودي تأصل فيهم الكبرياء عن عدم فهم للبنوة لإبراهيم ولا غاية الناموس ولا معنى اختيار الله لشعبه. فظنوا أنهم حتى بعد قبول الإيمان بالمسيا المخلص يبقون في مرتبة أسمى من غيرهم.

هذا، ومن جانب آخر فإن بعض الأمميّين المتنصرين أخذوا موقفًا مضادًا كرد فعل للفكر اليهودي، فنظروا لليهود كشعبٍ جاحدٍ وأن الباب قد أُغلق بالنسبة لليهود لينفتح لهم على مصراعيه، الأمر الذي يعرضهم هم أيضًا للكبرياء.

خلال هذه الظروف جاءت الرسالة موجهة إلى الطرفين لتعالج قضايا إيمانية حيّة وسلوك روحي إيماني يمس حياة الكنيسة عبر الأجيال كلها، فحدثنا الرسول عن عمومية الخلاص. وأن الباب قد انفتح للأمم جميعًا خلال الإيمان الحيّ العامل بالمحبة، فقدم لنا الرسول بوحي الروح القدس مفهوم الإيمان وارتباطه بالخلاص، كما كشف لنا عن قلبه الرسولي المتفجر بالحب نحو المسيّا ونحو البشرية كلها التي مات المسيح عنها. وفي نفس الوقت عالج مشكلة الكبرياء سواء في حياة اليهود أو الأمم، والتقديس، والحياة الإيمانية العملية خلال العلاقات العامة والعلاقة بالنفوس الضعيفة، وعلاقة المؤمن بالمجتمع الخ. لقد قيل عن هذه الرسالة أنها “كاتدرائية الإيمان المسيحي“، تدخل بالمؤمن إلى مقدسات الله الفائقة، وترفعه خلال مذبح الإيمان الحيّ العملي إلى الالتقاء بالآب السماوي في الابن الوحيد المبذول، وذلك بعمل الروح القدس.

رأى البعض في الرسالة أنها جاءت لتقف في وجه أنصار “حركة التهوّد” التي تدفع بالمؤمنين إلى العودة لأعمال الناموس الحرفية كالختان والتطهيرات والغسالات الموسوية والتزام الأمميّين بالتهوّد قبل تنصرهم؛ أو جاءت هذه الرسالة بهدف المصالحة بين الفريقين من اليهود المتنصرين والأمميّين المتنصرين. لكن في الحقيقية لم يقدم الرسول هذه الرسالة بطريقة دفاعية، ولا لمجرد عمل مصالحة، إنما قدمها كمقال يمس إيمان الكنيسة ويعبِّر عن الحياة الإنجيلية بدقة بالغة، حتى دُعيت هذه الرسالة: “إنجيل بولس“.

2. من أهداف هذه الرسالة إعلانه عن زيارته لروما بعد اشتياقات ومحاولات كثيرة. جاءت هذه الرسالة تمهد لمجيئه بعرضه إنجيل ربنا يسوع الذي قبلته الكنيسة الأولى من خلال نظرة معينة هي انفتاح باب الخلاص لكل الشعوب والأمم. مهّد الطريق حتى متى جاء لا يحتك بطالبي التهوّد، أصحاب الفكر الضيق. ولعلّه قد كتب هذه الرسالة بعد أن بلغته أخبار الكنيسة في روما من تلاميذه ومعارفه هناك، فأراد معالجة الأمور كتابة قبل مجيئه.

مشكلة الأصحاح السادس عشر

يمثل الأصحاح السادس عشر مشكلة بالنسبة لبعض الدارسين، إذ يحسبونه غير منسجم مع بقية الرسالة، وأنه قد أضيف إلى الرسالة مأخوذًا ربما عن رسالة كتبها الرسول إلى أفسس، مقدمين الحجج التالية:

أولاً: لم يكن قد زار الرسول بعد روما، فبعث تحيات لعددٍ كبيرٍ من الناس في الكنيسة يناسب بالأكثر مدينة أفسس التي خدمها الرسول وليس مدينة روما. يرد على ذلك بعض الدارسين بأنه ليس من سياسة القديس بولس أن يذكر تحياته لأشخاص معينين في كنائس قد خدم فيها، إذ يحسب كل مخدوميه أحباء له بلا محاباة أو تمييز، وأنه يليق بالأكثر أن يذكر هذه القائمة بخصوص الكنيسة التي في روما لعدم معرفته لبقية الأعضاء بصفة شخصية، ولكي يشجع المعروفين لديه على الخدمة.

ثانيًا: أُشير إلى بريسكلا وأكيلا وإلى الكنيسة التي في بيتهما في 1 كو 16: 19 التي كُتبت في فترة قصيرة قبل الرسالة إلى أهل روما، وأنهما كانا مقيمين في أفسس، وأيضًا يفهم من 2 تى 4: 19 أن بريسكلا وأكيلا كانا في أفسس أثناء كتابة الرسالة الثانية إلى تيموثاوس بروما قبيل استشهاده، فكيف يذكرهما كمقيمين في روما؟ (رو 16: 3) يرد على ذلك بأن اليهود رجال أعمال، وأن بريسكلا وأكيلا كانا غنيين تقيين، لهما أعمال تجارية في أكثر من مركز، وقد جعلا من بيتهما في روما وأيضًا في أفسس كنيستين. وبهذا فلا عجب أن تنقلا بين أفسس وروما. ويفترض بعض الدارسين أنهما كانا مقيمين بروما، ولما صدر أمر كلوديوس سنة 49 م بطرد جميع اليهود أوكلا عملهما لمن له جنسية رومانية ولم يغلقا بيتهما ولا عملهما حتى عادا إلى روما من جديد عندما استقر الأمر.

ثالثًا: جاء ذكر أبينتوس بكونه باكورة أخائية بآسيا (16: 5)، هذا اللقب يقدمه الرسول لمن هو في كنيسة أفسس بآسيا الصغرى لا لمن يقيم في روما. يرد على ذلك بأن الرسول إذ يذكره أنه باكورة كرازته في آسيا، يطلب منه وقد رحل إلى روما أن يرد الدين للرسول بكرازته هو للآخرين كما كرز له الرسول، فهو يشجعه على العمل بقوة وغيرة، مستغلاً كونه باكورة عمله في أخائية.

رابعًا: يفترض البعض بأن توصيته عن فيبي شماسة كنخريا (16: 1-2) تليق بالأكثر تقديمها لكنيسة معروفة لديه سبق فخدمها، لا لكنيسة لا يعرف أعضاءها بصفة شخصية. ويرد على ذلك أن الرسول بولس يدرك أن مثل هذا العمل يفرح قلب المؤمنين حتى وإن لم يعرفوه شخصيًا، إذ يشعرون أنه يتكلم معهم بدالة الحب الأبوي، هذا وبلا شك أن الكثيرين سمعوا عنه الرسول بولس وعن خدمته وغيرته الأمر الذي يعطيه دالة لمثل هذا الطلب.

خامسًا: نغمة التحذير الواردة في هذا الأصحاح (16: 17-19) لا تنسجم مع نغمة بقية الرسالة، إذ لم يسبق الحديث عن مثيري انقسامات وواضعي عثرات خلافًا للتعليم الذي تسلموه. ويرد على ذلك بأن الرسالة عالجت مشكلة مثيري حركة التهوّد، وإن كان الرسول قد عالج بطريقة موضوعية إيجابية، فلم يستخدم طريقة الدفاع ولا الهجوم، إنما العرض الإيجابي للفكر الإيماني السليم، وكان لائقًا أن يعرض لهؤلاء المثيرين للانشقاقات بسرعة عاجلة حتى لا ينفر اليهود المتنصرين منه.

سادسًا: يختتم الأصحاح الخامس عشر بذكصولوجية أو خاتمة يظهر منها أن الرسالة قد انتهت، إذ يقول: إله السلام معكم أجمعين، آمين (15: 33). ويرد على ذلك أنه ربما أراد أن يختم الجانب التعليمي والعملي العام، ليقدم أمورًا خاصة بكنيسة روما كما لو كانت ملحقًا لكنها جزء لا يتجزأ من الرسالة.

هذا وإن افتراض هذا الأصحاح جزءًا من رسالة مفقودة مرسلة إلى أفسس مجرد افتراض لا يُدعمه أي دليل تاريخي.

المواضيع الرئيسية في الرسالة 

1. الإيمان والخلاص المجاني

عاش القديس بولس قبل الإيمان بالسيد المسيح في صراع داخلي مرّ، ففي الخارج يظهر إنسانًا معتدًا بجنسه وبرّه، بكونه عبرانيًا أصيلاً من شعب الله المختار، وفرّيسيًا وحافظًا للناموس، يمارس الطقوس في جدية ويحفظ الوصايا، لكنه في أعماق نفسه الدفينة متى صارح نفسه يجد أنه ضعيف للغاية أمام الخطية، وعاجز عن التمتع بالحياة المقدسة الداخلية، محتاج لا إلى وصايا وتعاليم بل بالحري إلى تجديد طبيعته.

وجد الرسول بولس في الإيمان وحده بربنا يسوع، لا بأعمال الناموس الحرفية من ختان وغسالات وتطهيرات، يُدفن مع المسيح ويقوم في مياه المعمودية ليصير خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل صار جديدًا (2 كو 5: 17).

اختبر الحياة الجديدة في المسيح يسوع لا كتغيير مظهري، ولا اعتناقًا لتعاليم جديدة، إنما ما هو أعظم: تمتع بقوة الإيمان الحيّ، وتغيير شامل في حياته الجديدة فيه تقديس للقلب والأحاسيس والعواطف والفكر وكل طاقات النفس والجسد بالروح القدس الذي يسكن فيه. هذا التغيير يتحقق خلال تغيير مركز الإنسان من حالة العداوة مع الله خلال ناموس الخطية إلى حالة البنوة لله في المسيح يسوع الابن الوحيد، الأمر الذي لن يمكن للناموس الموسوي أن يحققه، ولا لأعمال الناموس الحرفية الكثيرة.

حينما يتحدث الرسول هنا عن الإيمان وحده دون الأعمال، لا يتحدث عن الجهاد الروحي النابع عن الإيمان الحق، إنما عن الأعمال الناموسية في حرفيتها، فقد كان الخلاف بين عنصري الكنيسة الأولى من يهود متنصرين وأمميين متنصرين لا في أمر الجهاد الروحي وإنما “أعمال الناموس“، إذ طالب البعض من الفريق الأول التزام الأمميين أن يتهودوا أولاً بالختان وممارسة الغسالات والتطهيرات حتى يُقبلوا في الإيمان المسيحي. دُعى هذا الأمر بحركة التهوّد.

يهاجم الرسول بطريق غير مباشر هذه الحركة التي ترد الإنسان إلى حرفية الناموس ومظهرية إتمام أعماله، لذا ركّز على الإيمان. ويقصد به الإيمان الحيّ العامل بالمحبة، والذي به يرتبط المؤمن بربنا يسوع ويتحد معه (رو 6: 5)، ويتألم معه (1 كو 12: 16؛ رو 8: 17)، ويُصلب معه (رو 6: 6)، ويموت معه (2 تي 2: 11)، ويقوم معه (أف 2: 6)، ويحيا معه (رو 6: 8)، ويجلس معه (أف 2: 6)، ويتمجد معه (رو 8: 17)، ويملك معه (2 تي 2: 12)، ويرث معه (رو 8: 17).

2. عمومية الخلاص

إيمان الرسول بولس بالسيد المسيح زعزع أساسات فكره المتعصب. فبعدما كان يعتنق أن العالم كله قد خُلق من أجل الرجل اليهودي لخدمته، أدرك حب الله الشامل لكل البشر بغض النظر عن جنسيته أو جنسه أو إمكانياته أو سلوكه؛ جاء لليهودي كما للأممي، للرجل كما للمرأة، للطفل وللشيخ، يطلب الخطاة والفجّار ليقدسهم له. جاء لأجل الجميع، لذا تكررت كلمة “جميع” أو ما يماثلها حوالي 70 مرة في هذه الرسالة.

يعتبر موضوع “عمومية الخلاص” هو الخط الرئيسي في كل الرسالة، يركز عليه الرسول بكل قوته، مفندًا الحجج اليهودية المتقوقعة حول الفكر اليهودي المتعصب، بطريقة روحية لا تثير اليهود حتى يكسبهم هم أيضًا مع كافة الأمم.

فنّد حجتهم أنهم أبناء إبراهيم أب الآباء، فطالبهم بالبنوة الروحية له بحمل إيمانه، ورفعهم إلى البنوة لله واهبة الحرية الداخلية. وفنّد حجتهم أنهم مستلمو الناموس، مُعلنًا أنه فضح خطاياهم وأعلن الحكم عليهم بالموت ليقودهم إلى المخلص واهب الحياة. وأخيرًا فنّد حجتهم أنهم شعب الله المختار، ليُعلن بسط الله ذراعيه للعالم كله ليضم له شعبًا لم يكن يعرفه، ويجعل من الأمم التي كانت غير محبوبة محبوبة له بإيمانها به بعد جحود طال زمانه. فالله خالق الكل، والمهتم بخلاص الجميع.

النعمة والتبرير والتقديس 

تكررت في هذه الرسالة هذه المصطلحات ومشتقاتها: النعمة، البرّ، القداسة الخ. ويلاحظ في الرسول بولس أنه لا يهتم بتقديم مفاهيم فكرية مجردة وتعاريف لمثل هذه المصطلحات، إنما تشعر وكأنه يود أن يدخل بكل مؤمن بالروح القدس إلى التمتع بهذه النعم والعطايا الإلهية، على عكس الدارسين المُحدِثين إذ يهتمون بالأكثر بتقديم تعاريف ويدخلون في أبحاث فكرية فلسفية معقدة أكثر من الخبرة الحيّة.

أولاً: النعمة Charisma

إذ يعالج الرسول بولس موضوع “عمومية الخلاص” يكثر الحديث عن النعمة كمقابل لأعمال الناموس الحرفية، فقد أراد اليهود أن يتبرروا بأعمال الناموس، لكن جاء السيد المسيح ليهب النعمة المجانية لكل البشر للتبرير. الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته كثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا أحيانًا مع المسيح، بالنعمة أنتم مخَلّصون… ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع، لأنكم بالنعمة مخَلَّصون بالإيمان وذلك ليس منكم، هو عطية الله، ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد” (أف 2: 4-9).

حاول بنيامين بريوري Benjamin Brewery أن يستنبط من كتابات العلامة أوريجينوس تعريفًا للنعمة الإلهية والتي استقاها العلامة أيضًا من كتابات الرسول، فقال:

[النعمة هي قوة الله المودعة في يديّ الإنسان مجانًا،

لكنها لا تُعطى بدون شرط،

وهي تهييء الإنسان بالروح القدس، ليقدم الخلاص للتمتع بالحياة الأبدية الجديدة النهائية،

المعلنة والمدبّرة في الكتاب المقدس،

بواسطة يسوع المسيح، والمقدمة للعالم كله.]

النعمة هي عطية الله الآب التي يقدمها لنا في ابنه يسوع المسيح، الذي حملنا فيه بالصليب لننعم بما له، ووهبنا روحه القدوس روح الشركة الذي يرفعنا كما بجناحيّ الروح إلى الأحضان الأبوية كأبناء مقدسين في الحق.

وقد جاءت كلمة “نعمة”Charisma مقابل “أجرة” opsonis، فالخطية أجرتها موت يقابلها النعمة هبتها الحياة الأبدية (6: 23؛ 5: 15). فما نناله من الله ليس أجرة عن عمل نمارسه، إنما هو هبة مجانية قدمها الله خلال ذبيحة الصليب، نابعة عن فيض حبه الإلهي. بهذا ارتبطت كلمة “النعمة” في ذهن الرسول بولس بعمل الله الخلاصي المجاني، غايتها أن ترفعنا من حالة ما تحت الناموس أي تحت حكمه إلى “حالة النعمة” (5: 2)، نعيشها بمركز جديد.

تُقدم هذه النعمة الإلهية المجانية للعالم كله بلا مقابل، وبلا قيود من جانب الله، لكن لا ينتفع بها المقاومون والعنيدون، إذ لا تنزع النعمة حرية الإرادة. من هنا نفهم الجهاد الروحي، إننا لا نقدمه كثمن للنعمة، وإنما كإعلان عن جدّية قبولنا وتجاوبنا مع نعمة الله المجانية؛ إنه ضروري لخلاصنا وبدونه خسر كثيرون نعمة الله المجانية؛ لكننا لا نحسب هذا الجهاد أو الأعمال الصالحة برًا ذاتيًا من جانبنا. إذن لنقبل نعمة الله ومبادرته بالحب. هذه النعمة تعمل فينا لتقديس مشيئتنا وأعمالنا، وبجديتنا في تقديس المشيئة والعمل ينفتح القلب أكثر لقبول العمل الإلهي، وهكذا نرتفع من مجدٍ إلى مجدٍ، ونمارس الحياة المقدسة بجهادٍ وتعبٍ خلال النعمة المجانية.

هذا ويرى القديس بولس أن “النعمة” هي حالة يتمتع بها المؤمن الحيّ، الذي يقبل الإيمان بالمسيح بطريقة حيّة، أي إيمانًا عاملاً بالمحبة. هذه هي النعمة العامة المقدمة للجميع، لكن هناك نعم أخرى مجانية كنعمة الرسولية التي وهبت له (رو 15: 15) للكرازة بين الأمم.

كلمة “نعمة” Charisma تعبير عسكري، يستخدم عندما يتولى الإمبراطور العرش، أو يحتفل بعيد ميلاده، حيث يهب جنوده عطايا مجانية خلال كرم الإمبراطور وسخائه. وكأن السيد المسيح إذ ارتفع على عرش الصليب وملك على النفوس قدم “نعمة” لكل بشر، هي عمله الخلاصي الذي يتركز في حلوله في النفس لتثبيت الإنسان فيه بروحه القدوس، فينعم بالأحضان الأبوية. هذه هي عطيته: تمتع الإنسان بالثالوث القدوس في استحقاقات الدم الثمين، ليحمل الصورة الإلهية، وينعم بسمات سماوية فائقة.

يرى القديس البابا أثناسيوس الرسولي أن هذه النعمة الإلهية التي تجلّت في كمال قوتها بالصليب ليست بالأمر الجديد، فعند الخلقة بالنعمة أقام الله الخليقة من العدم إلى الوجود، وميّز الإنسان بنعمة خاصة دون سائر الخليقة، هي نعمة خلقته على صورة الله ومثاله، لكي يستطيع أن يبقى في الفردوس أبديًّا. يدعم ذلك نعمة الوصية التي وُهبت له كنعمة، حتى إذا ما بقي أمينًا في حفظه للوصية، أي تمتعه بالنعمة يحيا في الفردوس بلا حزن ولا ألم ولا قلق. أما سرّ عدم الفساد فهو التمتع بالشركة في الكلمة الذي فيه كانت الحياة (يو 1: 4). أما وقد فقد الإنسان النعمة الإلهية بالعصيان، جاء الكلمة متجسدًا ليرد الإنسان إلى الخليقة الأولى بتجديد طبيعته بنعمة أعظم.

ثانيًا: التبرير Dikaisone

يرى الكثير من الدارسين أن هذه الرسالة في جوهرها أشبه بمقال عن “التبرير”. شغل موضوع التبرير الإنسان منذ سقوطه، فقد أحسّ بفشله في التبرر أمام الله، إذ قيل: “ليس بار ولا واحد” (رو 3: 10). خلال الناموس الطبيعي صرخ أيوب التقي: “فكيف يتبرر الإنسان عند الله؟” (أي 9: 2). وقال اليفاز التيماني: “من هو الإنسان حتى يزكو أو مولود المرأة حتى يتبرر؟ هوذا قديسوه لا يأتمنهم والسماوات غير طاهرة بعينيه؟ فبالحري مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كالماء” (أي 15: 14-16). ويقول بلدد الشوحي: “فكيف يتبرر الإنسان عند الله؟ وكيف يزكو مولود المرأة؟ هوذا نفس القمر لا يضيء، والكواكب غير نقية في عينيه، فكم بالحري الإنسان الرمة وابن آدم الدود” (أي 25: 4، 6). وفي عهد الناموس الموسوي يقول المرتل: “لأنه لن يتبرر قدامك حيّ” (مز 134: 2). وقد جاء علاج هذا الأمر في الإنجيل، خاصة في هذا السفر:

“متبررين مجانًا بنعمته، بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان لإظهار بره في الزمان الحاضر، ليكون بارًا، ويبرر من هو من الإيمان بيسوع” (رو 3: 24-25).

“فبالأولى كثيرًا ونحن متبررون الآن بدمه، نخلص به من الغضب” (رو 5: 9).

“إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح” (غل 2: 16).

وإنني إذ لا أود الدخول في مباحثات فلسفية نظرية جافة فقد انشغل كثير من اللاهوتيين في الغرب بهذا الموضوع أقدم مفهومًا مبسطًا للتبرير أو التمتع ببرّ الله في المسيح يسوع بربنا.

كلمة “بار” من الجانب اللغوي في الأصل اليوناني تقترب جدًا من كلمة “عادل”، لهذا يرى البعض في البار كائنًا وقورًا، لكنه ليس بالضرورة جذّابًا، إذ هو عادل، لكنه ليس بالضرورة لطيفًا وحانيًا، وربما استخدم الرسول هذا المعنى عندما قال: فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بار، ربما لأجل الصالح يجسر أحد أيضًا أن يموت” (رو 5: 7)، غير أنه جاء التعبير في كتابات الرسول نفسه كما في بقية الكتاب المقدس يحمل معنى أوسع.

بالنسبة لله دُعي بارًا في العهد القديم خلال علاقته بنا بتقديمه أعماله الخلاصية للإنسان، إذ يقول: “أنا قد أنهضته بالبرّ (بالنصر)” (إش 46: 13)، “قريب برّي” (إش 51: 5)؛ وفي العهد الجديد يتجلى برّه في أعماله الخلاصية لحسابنا في المسيح يسوع: “لأن فيه معلن برّ الله بإيمان لإيمان” (رو 1: 16)، “ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداء” (1 كو 1: 30).

لعل الرسول بولس قد فهم “برّ الله” بمعنى أن الله بار في وعده، أمين في مواعيده، إذ يقول: “فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء؟ أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟ حاشا! ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا، كما هو مكتوب: لكي تتبرر في كلامك، وتغلب متى حوكمت” (رو 3: 3-4). وكأن الرسول يود أن يقول إن الله بار في وعده للإنسان بالرغم من انتزاع البرّ من البشرية بعدم تجاوبها مع عمله الخلاصي، وعدم قبولها وعوده عمليًا بالطاعة له. بهذا نفهم أيضًا العبارة أنه “ليس بار ولا واحد” (رو 3: 10؛ مز 14: 1-3، 53: 1).

الله بار في وعوده الإلهية نحو الإنسان الذي لم يستطع أن يكون بارًا لا بالطبيعة ولا تحت الناموس الموسوي، فإنه إذ يكسر وصية واحدة ولو بالفكر أو النيّة يُحسب كاسرًا للناموس فلا يتبرر. هذا ما أوضحه الرسول في الأصحاحات الثلاثة الأولى معلنًا أن الإنسان، يهوديًا كان أم أمميًا، صار في عوز إلى برّ الله، فماذا فعل اليهود؟ لقد حاولوا أن يتبرروا في أعين أنفسهم، حاسبين أن البرّ يكمن في انتسابهم لإبراهيم أبيهم جسديًا أو حفظهم لأعمال الناموس حرفيًا أو انتمائهم لشعب الله المختار أيّا كانت حياتهم. وكانت النتيجة أنهم سعوا وراء “برّ الناموس” الذي يقوم على حفظه شكليًا (رو 10: 22)، رافضين برّ الإيمان. وهنا يميز الرسول بين برّ الناموس الذي طلبه اليهود خلال الشكليات في كبرياء، وبرّ الإيمان الذي قدمه الله في ابنه يسوع المسيح للعالم كله. هذا التمييز سبق فأعلنه السيد المسيح لليهود، موضحًا أنهم يطلبون برّ الكتبة والفريسيين في رياء، ويرفضون برّ الله الذي وجده العشّارون والخطاة)مت 5: 20، 6: 33، 21: 3). 

عاش آباؤنا بروح التمييز، يخشون طلب الإنسان بره الذاتي عوض البرّ بالإيمان الحيّ العامل بالمحبة. فقد جاء ربنا يسوع المسيح يهبنا بنعمته المجانية الدخول إلى بره والثبوت فيه، لكن ليس في رخاوة أو في إيمان لفظي بحت، إنما خلال الإيمان الحي العامل. فالبرّ هو ثمرة نعمته، لا عن استحقاق بشري ذاتي، نطلبه مجاهدين ليقدس إرادتنا وحياتنا العملية، مجاهدين بروحه القدوس، لكي ننطلق إلى “برّ المسيح” من عمق إلى عمق، لتكون لنا خبرات متجددة بروحه في برّ المسيح.

يفهم القديس أغسطينوس البرّ على أنه ملكية يمنحها الله للإنسان؛ فالبرّ في نظره ليس غفرانًا للخطايا مجردًا وامتناعًا عنها، وإنما قبول “برّ المسيح” كبرّ له. بمعنى آخر البرّ في سلبيته توقف عن الشر، وفي إيجابيته حمل سمات المسيح عاملة فيه. هذا أيضًا ما أعلنه القديس يوحنا ذهبي الفم عندما تحدث عن الحياة الفاضلة بكونها تحمل الجانبين السلبي والإيجابي: رفض الشر وعمل الصلاح.

أخيرًا، ما نود تأكيده أن البرّ ليس عملاً ذاتيًا أو فضيلة بشرية، إنما في إيماننا هو تجلي سمات المسيح في حياة المؤمنين المجاهدين بالروح والسالكين بالحق. هذا ما سنلمسه في دراستنا لهذا السفر، فإنه إذ يتحدث عن “البرّ في المسيح” يربطه بالسلوك الروحي العملي، تحت عنوان “اهتمام الروح” أي “بالسلوك بالروح القدس”، ورفض “اهتمام الجسد” أي الخنوع للشهوات الجسدية التي قد تسيطر حتى على النفس. هذا ويختم السفر بحديث طويل عن حياة البار العملية، مترجمة في عبادته وسلوكه الشخصي وعلاقته بالمجتمع خاصة صغار النفوس والضعفاء. وكأن الرسول يود تأكيد أن البرّ بالإيمان هو خبرة عملية حيّة تتجلى في كل جوانب حياة الإنسان.

ثالثًا: التقديس agiacmos

القداسة سمة خاصة بالله نفسه الذي يدعو نفسه “القدوس” (لا 11: 44-45، 20: 26، 22: 2؛ 1بط 1: 16)، يسكب هذه السمة على خليقته المحبوبة لديه فيحسبهم قديسين، ناسبًا نفسه إليهم بدعوته قدوس القديسين” (دا 9: 24)، ويسمى شعبه سواء في العهد القديم أو العهد الجديد “أمة مقدسة” (خر 19: 6؛ 1 بط 2: 9).

القداسة هي هبة إلهية تُعطى لمؤمنيه، أو نعمة مجانية تُقدم لأولاد الله المجاهدين لكي يصيروا على شبه أبيهم القدوس، إذ هذه هي إرادة الله قداستكم (1 تس 4: 3)، أو كما يقول الرسول: لكي نشترك في قداسته (عب 12: 10).

إن كان الروح القدس يسمى “روح القداسة”، فإن الله يهبنا الحياة المقدسة بروحه القدوس الذي يدخل بنا إلى الثبوت في المسيح القدوس، فنحمل سماته فينا، ويتحقق فينا القول أن نكون قديسين كما أنه قدوس (لا 11: 44؛ 1 بط 1: 16).

هذه الهبة المجانية تعطى للمجاهدين بالرب، لا ثمنًا لجهادهم، وإنما من أجل تجاوبهم مع فيض نعمته المجانيه، ليسلكوا في القداسة لعلهم يبلغون إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13). لذلك يقول العلامة أوريجينوس أن الرسول يدعو المؤمنين المجاهدين مدعوّين قديسين (1: 7) ليس لأنهم بلغوا الحياة المقدسة في كمالها وإنما لأنهم يسيرون فيها مشتاقين البلوغ إلى كمالها.

الاختيار وحرية الإرادة

يتعثر بعض البسطاء عند دراستهم للأصحاح التاسع من هذه الرسالة، إذ يفسرونه مستقلاً عن ظروف كتابته ويبترونه عن بقية الرسالة فيحسبون أن الله عنده محاباة يختار من يشار ويرفض من يشاء، بناء على العبارات:

“ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الذي يرحم” [16]؛

“يرحم من يشاء، ويقسي من يشاء” [18]؛

“أم ليس للخزّاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان!” [21]

وإن كنا سنعالج هذه النقطة بشيء من التفصيل عند دراستنا لهذا الأصحاح، لكن ما نود تأكيده هنا هو الآتي:

1. لا يعالج الرسول في هذا الأصحاح مشكلة حرية الإرادة، بل حق الله في اختيار الأمم كما سبق فاختار اليهود؛ لقد رحم الآخيرين دون فضل من جانبهم سوى رحمة الله، هذه المراحم لها حق العمل في غيرهم أيضًا.

2. يؤكد الرسول في صلب الرسالة عينها حرية الإرادة الإنسانية وتقديس الله لها، مكرمًا الإنسان كشخصٍ له إرادة حرة، هي هبة من عند الله.

3. يرحم الله المؤمن ليس كأجرة أو كثمن لمشيئته وسعيه، لكنه في نفس الوقت يسألنا أن نشاء وأن نسعى بنعمته فننال رحمته المجانية.

4. للخزّاف سلطان لكنه يود أن يكون الكل آنية للكرامة، فإن رفض الإناء الكرامة تمجد الله فيه حتى وهو إناء للهوان، كما تمجد في فرعون خلال قسوة قلبه.

أقسامها

الباب الأول: حاجة الكل للخلاص ص 1.

1. مقدمة الرسالة 1.

الباب الثاني: الجانب التعليمي ص 2-11.

2. حاجة اليهودي للخلاص 2.

3. حاجة الكل للخلاص 3.

* اليهودي وبرّ الله ص 4-10.

1. الاتكال على أُبوة إبراهيم 4-6.

2. الاتكال على استلام الناموس 7-8.

3. الاتكال على أنهم شعب الله المختار 9-10.

* الأممي وبرّ الله 11.

الباب الثالث: الجانب العملي ص 12-15.

1. المؤمن والحياة المقدسة 12.

2. المؤمن والمجتمع 13.

3. المؤمن وضعاف النفوس 14-15.

* الختام 16.

فهرس تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد
 تفسير رومية 1
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى