تفسير المزمور 6 للقديس أغسطينوس
عظة في المزمور المزمور السادس
دينونة الله
النفس المؤمنة تلتمس الربّ لكي يهبها الخلاص، ويحفظها في البر، كما لو كان الله أعظم مجدًا في رحمتِه منه في بره. تريد أن تبتعد الخطأة غير التائبين ما لم يتوبوا إلى الربّ. عن ١ – للغاية، لترانيم اليوم الثامن مزمور لداود(٦: ١).
عبارة «اليوم الثامن غامضة؛ وما تبقى من العنوان واضح. اعتقد بعضُهم أنها تعني يوم الدينونة، أو زمن مجيء يسوع المسيح الذي يأتي ليدين الأحياء والأموات. ووفقًا لهذا الإعتقاد، سيكون المجيء بعد سبعة آلاف سنة، إبتداءً من آدم؛ وهذه الآلاف السبعة السنين تمرُّ كسبعة أيام، والثامن يكون يوم المجيء. لكنّ الربّ قال : «ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي حدّدها الآب في سلطانه» (أع ۱: ۷). وأيضًا: «أمّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعرفهما أحد؛ لا الملائكة ولا القوّات ولا الابن نفسه إلّا الآب وحده» (مت ٢٤: ٣٦). وأخيرًا ، كتب القديس بولس أنَّ يوم الربّ يُباغتنا كالسارق (۱تس ٥ : ٢). كل هذا يُبين لنا ألا بوضوح ينبغي نسعى إلى معرفة ذلك اليوم بتقدير عدد السنين. فلو انّ يومَ الربّ آتِ بعد سبعة آلاف سنة، لتسنّى لكلّ إنسان أن يعرفه عن طريق الحساب. فكيف، إذا ، لا يعلمه الإبن؟ هذا الكلام يعني أن الإبن لن يُخبر به الناس، لا أنه لا يعلمه هو . وعلى هذا النسق قيل : إنّ الرب إلهكم ممتحنكم ليعلم . . . » (تث ۱۳: ۳)، أي ليُعلمكم ؛ كذلك عبارة «قم يا ربّ» (مز ۳: ۷) تعني أعِنّا لنقوم. فإذا كان الإبن لا يعلم اليوم، فهذا لا يعني أنّه يجهله، بل أنّه لا يُخبِرُ به الذين لا فائدة لهم في معرفته. أليس ثمة شيء من الغرور في عد السنين وحساب التواريخ، للتأكيد على أنّ يوم الربّ آتِ بعد سبعة آلاف سنة؟
٢ – أما نحنُ ، فلنجهل بطيب خاطر ما لم يحسن لدى الله أن يكشفه لنا، ولنبحث عمّا تعنيه عبارة اليوم الثامن الواردة في الآية الأولى من غير أن نلجأ إلى حسابات تافهة بوسعنا أن نفهم باليوم الثامن يوم الدينونة، لأنّ نهاية هذا العالم تفتح أمامنا الحياة الأبدية، فلا تعود أنفس الأبرار خاضعةً لتقلبات الزمن ؛ ولما كانت كل الأزمنة ، تمر دوريا سبعة أيام بعد سبعة، فإنّنا نُسمّي اليوم الثامن اليوم الواقع خارج دورة الأيام. وفي معنى آخر لا يخلو من الصواب، نُسمّي اليوم الثامن يوم الدينونة، لأنه سيأتي بعد نوعين من الحياة، حياة الجسد وحياة الروح. من آدم إلى موسى حياة البشر جسدية، وهذا ما يدعوه القديس بولس حياة الإنسان الخارجيّ، أو الإنسان العتيق (أف ٤: ٢٢). لهذا الجيل أعطي العهد القديم كانت العبادة التي فرضها قاسية، ولو انها تقوية ؛ وكانت ترمز إلى العبادة الروحية في المستقبل . خلال تلك الحقبة التي كان الناس يعيشون فيها بحسب الجسد، «ملك الموتُ»، يقول الرسول، حتّى على الذين لم يخطأوا». وقال أيضًا : إن الموت مَلَكَ لأنّ الناس عَصَوْا على مثال آدم (رو ٥: ١٤). وعبارة إلى موسى تعني ما دامت الشريعة قائمة، أي تلك الطقوس المقدسة التي كانت تُمارس بحسب الجسد ، وتقيّد المؤمنين بإله واحد، لكي تمنحهم الإيمان بسرّ المستقبل. لكن، منذ مجيء يسوع المسيح الذي نقلنا من ختانة الجسد إلى ختانة القلب، بتنا مدعوّين للعيش بحسب الروح، أي بحسب الإنسان الداخلي، الذي يدعوه الرسول الإنسان الجديد (كو ۳: ۱۰) بسبب ولادته الجديدة بالمعموديّة، وبسبب أعماله التي غدَت روحيّة. من الواضح أن العدد ٤ يختص بالجسد لكونه مؤلفًا من عناصر أربعة وحالات أربع : الساخن والبارد والجاف والرطب. من هنا نظم الله الفصول الأربعة : الربيع والصيف والخريف والشتاء. كلّ هذا معروف. وفي مكان آخر، ثمّة برهان يستند إلى مبرّرات أكثر غموضا ، بأنّ العدد ٤ يختص بالجسد؛ لكن فلنجانب تلك المبررات الغامضة، في خطاب نتوجّه به إلى أناس ليسوا على درجة عالية من العلم والعدد ٣ يختص بالروح، من حيث يوصينا الربّ فيقول: «أحبّ الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك (تث ٦: ٥؛ مت ۲۲: ۳۷) وسنعطي تفاصيل أوسع في شرحنا الإنجيل، لا في شرح مزمور ؛ لكنّ هذا كافٍ، برأيي، لنبين أن العدد الثلاثي يختص بالروح وعليه فعندما تنقضي أعداد الجسد المتعلّقة بالإنسان العتيق وبالعهد القديم وتنقضي معها أعداد الروح، أو أعداد الإنسان الجديد والشريعة الجديدة، كمجموعة من سبعة أيام، من حيثُ أن كلّ عمل في هذه الحياة يُنسب إلى الجسد، أي إلى العدد ٤ ، أو إلى الروح أي إلى العدد ، فسيأتي بعدها اليوم الثامن، الذي يُعيد لكلّ إنسان ما استحقه، ويدعو الأبرار، لا لأعمال عابرة، بل إلى الحياة التي لا نهاية لها ويدين الأشرار بالعذابات الأبدية.
٣ – تلك هي الدينونة التي ترهبها الكنيسة التي تصرخ في هذا المزمور : “يا ربّ لا توبخني بغضبك” (٦: ٢). والقديس بولس يتكلّم أيضا عن الغضب يوم الدينونة، فيقول: «تذخر لك غضبا ليوم الغضب، ولقضاء الله العادل» (رو ۲: ٥). في هذا اليوم لا يرغب في أن يقف متهما من يطلب الشفاء في هذه الحياة. ولا تؤدبني بسخطك». كلمة تؤدبني» أخف وطأةً من كلمة توبخني»، لأنّها تؤدّي إلى الإصلاح؛ فبدل أن تتهم ونُدان، علينا أن نخشى الإدانة. غير أن السخط يبدو أشدَّ من الغضب، ويمكن أن نعجب من أن التأديب، الأخف، يترافق مع السخط، وهو الأشد. أمّا أنا فأرى أنّ العبارتين تحملان المعنى مع نفسه، لأنّ اللفظة اليونانية «ثومس = غضب» في المقطع الأوّل، لها معنى لفظة « أورغه = سخط» في المقطع الثاني. ولمّا رأت الترجمة اللاتينية أن تستعمل العبارتين أيضًا، بحثت عن كلمة مرادفة لـ غضب : furore فوضعت سخط : ira) . هنا التنوع في الترجمات. في هذه يأتي الغضب قبل السخط، وفي تلك بعده. ومهما يكن من أمر، فإنّ هاتين الكلمتين تعبّران عن حركة في النفس تبغي الانتقام، حركة لا نستطيع أن نعزوها إلى الله بالمعنى الذي نعزوها فيه لأنفسنا، من حيثُ أنه قيل : لكنّك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق» (حكمة ۱۲: ۱۸) . وما كان بالرفق، يتعارض مع ما هو بالشدّة. والله في حكمه لا ترقى إليه شدّة ؛ لكنّنا دعونا غضبه ذاك الشعور الذي سببته شرائعه عند خدامه. والحال فإنّ النفس التي تتوسل في هذا المزمور، تخشى أن تكون متهمةً هذا الغضب، حتى أنها لا تريد التأديب الذي قد يُصلحها أو يُعلّمها. إذ جاء في النص اليوناني … أي علّم وأدب وربّى في يوم الدينونة سوف يُجرّم جميع الذين لم يتأسسوا على يسوع المسيح، أما الذين بَنَوْا على هذا الأساس بالخشب أو التبن أو القش فيُصلحون ويُطهِّرون، وينالهم ضرر؛ إلّا أنهم يخلصون، لكن كمن يخلُص من خلال النار (۱كو ۳ : ۲). ماذا يُمكن أن نسأل الله عندما لا نريد أن نتهم أو نؤدَّب في غضبه؟ ماذا نسأله سوی أن نشفی؟ ؟ ذاك أنّ الشفاء لا يبقي فينا خوفًا، لا من الموت، ولا من يد الطبيب الذي يستخدم النار أو المبضع.
٤ – ويتابع المرنّم فيقول : “ارحمني يا رب فإنّي سقيم، اشفني فإنّ عظامي رجفت” (٦: ٣) . ويقصد بالعظام قوة الروح أو الشجاعة. والروح، عندما تتكلّم عن عظامها، تشكو من شجاعتها التي تزعزعت؛ ولنحترز ألا نظنّ أنّ لها عظامًا كعظام الجسد. ويشرح النبي قوله فيُضيف: «ونفسي ارتاعت جدًّا، لئلا ننسب إلى الجسد ما سماه عظاما . وأنت يا ربُّ فإلى متى؟ (٦: ٤) من لا يرى في هذا نفسا تصارعُ أسقامها، ولا يهبّ الطبيب ليشفيها ويُشعِرَها في أي لجّةٍ من الشرور ألقتها الخطيئة؟ قلما يسعى المرء إلى تجنّب ما يشفى بسهولة ؛ غير أنّ الشفاء العسير يجعلنا أكثر تنبها للحفاظ على صحتنا متى استعدناها . لا يخطرَنَّ ببالنا أنّ الربّ يقسو لكى نصرخ إليه : «وأنت يا رب إلى متى تتأخر في شفائي؟» ؛ لكنّه يُريد، في جوده، أن يُظهر للنفس أتي جرح سببته لذاتها. وهذه النفس لم تسأل بعد بحرارة تجعل الله يقول لها: «ما إن تدعو حتّى أجيب، وفيما أنت تتكلّم أستجيب» (إش ٦٥ ٢٤). يريد الله أن يُبيّن لنا أيضًا ما سيكون قصاص الأئمة الذين يرفضون أن يتوبوا إليه في حال بدت لنا التوبة بالغة الصعوبة؛ وبهذا المعنى قال في مكان آخر : إذا كان البار بالجهد يخلص، فما حال الخاطئ والآثم؟» (۱بط ٤: ١٨).
٥- “عد يا ربّ ونج نفسي” (٦: ٥). يعود الخاطئ إلى الله ویرجوه أن يعود هو إليه، كما كُتِب : توبوا إليّ، يقول الربّ، فأتوبُ عليكم (زك ۱: ۳). لكن أتعني عبارة «عُدْ يا ربّ»: أعِنِّي في عودتي ، ،، لما في طريق العودة إلى الله مشقة وعقبات؟ لأننا عندما نتوب إلى الربّ توبةً كاملة، نلقاه حاضرًا أبدا ليتوب علينا، كما قال النبي : «نلقاه مستعدا الفجر» (هو ٦: ٣ ، السبعينية). والحال، فإننا فقدناه. ما ابتعد عنا هو الحاضر في كلّ مكان، بل نحن أدرنا له ظهورنا . قيل : كان في العالم وبه كان العالم، والعالم لم يعرفه» (يو ١: ١٠) . فإذا كان في العالم، ولم يعرفه العالم، فذاك لأنّ رجاساتنا لا تطيق حضوره لكن لكي نتوب أو نمحو حياتنا السابقة بقولبة روحنا، مجدّدًا، على صورة الله، نشعر بالجهد الشاق الأليم الذي يقتضيه إبدال شهواتنا الأرضيّة بصفاء النور الإلهي. وفي هذا الجهد الشاق نقول: «عُدْ إلي يا ربّ، أي أعِنِّي لتكمل في عودتي إليك، فأكون مستعدا على الدوام، لأ قدمك بالفرح للذين يُحبّونك . وبعد أن قال: «عُدْ إليّ يا ربّ يُضيف النبي: «ونج نفسي، التي ما زالت أسيرة هموم الدهر، وبعودتها إليك تشعر بأشواك الشهوات تُمزقها . يقول : خلصنى لأجل رحمتِك (٦) : ٥) . يشعر النبي أنه لم يشف باستحقاقاته الشخصيّة، لأنّ الخاطئ، منتهك الشريعة، لا يتوقع من العدالة غير الإدانة خلّصني، إذًا، يقول النبي، لا لأني استحققت خلاصك، بل لأجل رحمتك.
٦ – “فإنّه ليس في الموت من يذكرُك” (٦ : ٦) . يُدرك أن التوبة تكون في هذه الحياة، لأنّه لا يبقى لأي واحد، بعد الموت، إلا جزاء أعماله . «هل في الجحيم من يعترف (لك؟ (٦ : ٦) الغني الذي يتكلّم عنه يسوع المسيح، اعترف بالله في الجحيم، وهو يُعاني العذابات، حين رأى لعازر يستريح في حضن إبراهيم ؛ اعترف بالله ورجاه أن ينبه إخوته فيمتنعوا عن الخطيئة، كي لا يُساموا عذابات جهنّم التي لا تطاق (راجع لو ١٦: ۲۳-۳۱) باطلا ،رجا، لكنه أقر بأنَّه نال جزاءه العادل، ما جعله يتمنى تحذير إخوته لكي يتفادوا ذلك القصاص. فماذا تعني، إذا ، عبارة هل في الجحيم من يعترف لك؟». أيكون الجحيم تلك الهوّة السحيقة التي يُطرح فيها الشرّير بعد الدينونة، وتحول كثافة الظلمات التي تلفها من أن يُطلّ منها بصيص نورٍ إلهيّ يُمكّن من الإعتراف بالله؟ على أنّ ذلك الغني، إذ رفع عينيه وشاهد إبراهيم ولعازر في حضنه، على الرغم من الأعماق السحيقة المظلمة التي تلفه هو نفسه، كان لا بد له من أن يضع مقارنة انتزعت منه الإقرار بذنوبه . وللنبي أن يدعُوَ الخطيئة موتاً ، إذا ما ارتكبت ضدّ الشريعة الإلهية؛ إنّما هو يجعلنا ندعو موتا الشوكة التي تؤدّي إلى الموت، لأنّ شوكة الموت الخطيئة (۱كو ۱٥: ٥٦) في هذا الموت، نسيان الله يكون في ازدراء أحكامه وشرائعه. ولعلّ النبي يدعو جحيما عمى البصيرة الذي يضرِبُ الخاطئ ويكتنفه، أو الروح التي تموت بالخطيئة. يقول القديس بولس: ولمّا لم يرَوا خيرًا في المحافظة على معرفة الله أسلمهم الله إلى فساد بصائِرِهم» (رو ۱: ۲۸). من هذا الموت، ومن ذاك الجحيم، تسأل النفس الله أن يُنجِّيَها وهي تسعى للعودة إليه، وتشعر بمصاعب العودة.
٧- ويتابع النبيّ فيقول : «أعييتُ في تنهدي»؛ وكما لو انه استقل ما قال فأردف: «في كلّ ليلة أُروي سريري، وبدموعي أُبلل فراشي» (٦: ٧) . هنا يدعو سريرًا كلّ ما تسعى إليه النفس الضعيفة السقيمة طلبًا لراحتها، كالشهوة الجسديّة وملذات العالم. وما غَسْلُ تلك الملذات بالدموع، سوى السعي إلى الانسلاخ عنها . نرى أن شهواتها الجسدية مُدانة، ولكنها لضعفها، تستلِذَّها وتتعلّقها لتستريح فيها وتتنعم، ولا تستطيع نفسنا أن تنهض منها إلا بعد أن تشفى. والنبي بقوله : «في كلّ ليلة»، أراد أن يصوّر الإنسان صاحب الروح المستعدة لاستقبال قبس من نور الحقيقة، لكن جسده ما زالَ ضعيفًا ويرغب في إيجاد سعادته، أحيانًا ، في ملذات الدهر، فتراه يتراوح في تباريحه بين نور وظلمة : نهاره ساعة يقول «ها أنذا عبد بالعقل لشريعة الله»؛ وليله ساعة يقول وعبد بالجسد الشريعة الخطيئة (رو ٧: ٢٥)، إلى أن ينجلي عنه الليل كله ويأتي النهار الوحيد الذي قيل عنه: «في الغداة سأقف وسأرى» (٥: ٤) . إذ ذاك سيقف ؛ أمّا اليوم، فهو ممدد على ذلك الفراش الذي عليه أن يُبلّله بفيض الدموع لينال من جودِ الله الدواء الشافي.
۸ – “ذبلت من الكرب عيني “: هل ذبلت من گربه هو ، أم من كرب الله الذي بسببه سأله أن ينجو من الخزي والقصاص؟ لكن، إذا كان گرب الله يعني الدينونة، فكيف يشعرُ به وهو حي؟ أو أنّ هذا الكرب يبدأ هذه الحياة، في آلام البشر ،وأسقامهم، وخاصة في عجزهم عن إدراك الحقيقة، بحسب كلام القديس بولس الآنف الذكر: «أسلمهم الله إلى رأي مرذول» (رو ۱: ۲۸). ذاك هو، في الحقيقة، عمه القلب، حين يجد كلّ إنسان نفسه في هذه الحال محروما من كلّ نورٍ إلهي في داخله، لكن لا بصورة مطلقة، ما دام حيًّا . لأن ثمة ظلماتٍ خارجيّة محفوظة، بشكل أخص ليوم القضاء تُقصي كلّيًّا عن الله كلَّ مَن تهامل في إصلاح نفسه في هذه الدنيا. لكن ما البقاء كليا خارجًا عن الله، سوى عمه القلب الكلي؟ لأنّ الله مسكنه نور لا يُدنى» (۱تي ٦: ١٦) ولا يدخله إلّا من دعاهم بقوله: “أدخل فرح سيدك” (مت ٢٥: ۲۱) . هذا الكرب يبدأ ، إذًا، فيُرهق كل خاطئ، في هذه الحياة. والخوف من يوم القضاء ينتزع من النبي الأنين والدموع؛ إنه يخشى مواجهة غضب بدايته مثل هذا الألم؛ وهكذا، لا نسمعه يقول «إنّ عينه انطفأت بل إنّها ذبلت من ذلك الكرب». ولا عجب بعد لو قال إنّ عينه ذبلت من غضبه هو ؛ وربّما، بهذا المعنى قيل: “لا تغرب الشمس على غضبكم” (أف ٤: ٢٦). ذاك أن النفس المضطربة، لا تستطيع أن تعاين الله، فتتصوّر أن تلك الحكمة الإلهية، وتلك الشمس الداخلية غابت عنها بشكل من الأشكال .
۹ – “هرِمتُ وسط جميع مُضايقيَّ” (٦ : ٨). سبق أن تكلّم گرب، كما لو انه گربه ؛ لكنّه عندما رجع إلى العيوب الأخرى، وجدها تُحاصر نفسه . ولمّا كانت تلك العيوب تأتينا من حياتنا الأولى، ومن الإنسان العتيق الذي ينبغي أن نخلعه عنّا لنلبس الإنسان الجديد، فإنّ صاحب المزامير مصيب في قوله «هرِمتُ». وجملة «وسط جميع مضايقي» يُمكن أن تفهم، إمّا وسط العيوب، أو وسط الناس الذين برفضون الرجوع إلى الله ؛ فهؤلاء الناس ولو عن جهل، وعلى الرغم من محاولاتهم، ومع كونهم يعيشون معنا بسلام، في المدن نفسها، وتحت السقف نفسه، ويجلسون معنا إلى المائدة نفسها، وغالبا ما يسالموننا، فإنّهم، بنواياهم المخالفة لنوايانا، أعداء لكل من أراد الرجوع إلى الله. وإذا كان البعض يحبّون العالم ويتعلّقون به، والبعض الآخر يرغبون في التخلّص منه، فمن ذا لا یری أن الأولين هم أعداء الآخرين، ويعملون على جرّهم متى استطاعوا، إلى أن يلقوا العقاب نفسه؟ إنها لنعمة من الله، أن يسمع المرء كلامهم في كل يوم، من دون أن يتوه عن طريق وصايا الله . إنّ نفسًا تجتهد للإنطلاق نحو الله، غالبًا ما تقع، في طريقها، فريسة الخوف والضياع وغالبًا ما تفقد عزمها، مخافة أن تُسيء إلى الذين يعيشون معها، والذين يسعون بشغف إلى امتلاك الخيور العابرة والفانية. إنّ كلّ قلب ينعم بتمام العافية ينأى عن هؤلاء، لا بالمكان، بل بالعاطفة؛ ذاك أنّ المحبة للروح، بمثابة المكان الذي يضم الجسد.
١٠ – إذا ، بعد العناء والنحيب وذرف الدموع الغزيرة، كيف لنا ألا نبتهل بتوسّلاتٍ حارّة، إلى ينبوع المراحم كلّها، الذي قيل عنه بحق : “الرب قريب من منكسري القلوب” (مز ۳۳: ۱۹)؛ بعد كلّ تلك الصعوبات، كلّ نفس تقيّة، أو حتى الكنيسة، إن شئتم، تشهد بأنها استجيبت . وإليكم ما تُضيف: «أبعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم، فإنّ الربّ سمع صوت بكائي (٦: ۹) فإما أن النبي يبشِّر بأنّ فاعلي الإثم، في يوم القضاء، ينبغي أن يُقصَوا عن الأخيار؛ أو أنه يأمرهم بالإبتعاد فورًا؛ لأنّهم، ولو كانوا حبوبًا من سنابلنا نفسها، إلا أنّ الحبوب، على البيدر، تُنقَّى بعد أن يُنزع عنها القش الذي يغلفها . وحتى ولو بقيت مكوّمة مع القش، فإنّها لا تُحمل معه في الريح.
۱۱ – الأن الرب سمع صوت دموعي، سمع الرب تضرعي، تقبل الربّ صلاتي (٦ : ۹ و ۱۰ ) . هذا التكرار المتواتر للفكرة نفسها يدلّ، لدى النبي، على نشوة الفرح، فوق ما يدلّ على الحاجة إلى التكرار. فمن اختبر نشوة الفرح لا يكتفي قط بأن يُنبهنا إلى بواعثها مرة وحيدة. تلك هي ثمرة ذلك النحيب الأليم الذي يُبلّل فراشه بالدموع، ويُروي سريره: «فالذين يزرعون بالدموع يحصدون بالترنيم» (مز ١٢٥: ٥)؛ «وطوبى للحزاني، فإنّهم يُعزّون» (مت ٥ : ٥).
۱۲ – «فليخز جميع أعدائي ويرتاعوا» (٦ : ١١). سبق للنبي أن قال: «أُبعدوا عنّي، وهذا ما هو ميسر في هذه الحياة، كما رأينا؛ لكنه، عندما يتكلّم عن الخزي والارتياع لا أرى أنّ الأمر يمكن أن يُفهم على خلاف اليوم الذي يظهر فيه ثواب الأبرار وعقاب الخطأة. والحال، وحتى ذلك اليوم، فإنّ الآثم أبعد من أن يخجل ويرعوي عن شتمنا . حتّى أنّ استهزاءه ، غالبًا ما يبلغ حدا يخجل معه ضعفاء الإيمان بيسوع المسيح. من هنا ما توعد به الربّ فقال: «من يخجل بي أمام الناس، أخجل به أمام أبي» (لو ۹: ٢٦) فمن أراد بعد ذلك، أن يتبع وصايا الإنجيل السامية، ويوزّع ماله ويعطي المساكين لكي يدوم بره إلى الأبد» (مز ۱۱۱: ۹) ويبيع مقتنياته الأرضية لكي يُساعد المعوزين، ويتبع المسيح، ويقول: «لأنا لم ندخل العالم بشيء، ولا نستطيع أن نخرج منه بشيء. فلنكتفِ بالقوت والكسوة» (۱تي ٦: ٧، ٨) . إن من يفعل هذا واقع لا محالة، أضحوكة قذرة للأثَمة . فالذين يرفضون الحق يعتبرونه أخرق. وتلافيا لاستحقاق هذا اللقب يُطلقه عليه مرضى النفوس، يخشى أن يعمل بوصايا الإنجيل، ويُرجئ إلى الغد ما أمر به الطبيب الأمهر والأرحم . هؤلاء، إذًا، لا يمكن أن يخجلوا في هذه الحياة فلنتمنَّ والحال هذه، ألّا يتمكنوا أن يُخجلونا، فيحرفونا عن الطريق الذي سرنا فيه، وألا يُسبّبوا لنا الضيق والمعاثر. لكن، يأتي يوم يخجلون فيه ويُردّدون كلام الكتاب: «هذا الذي كنا، حينًا، نتخذه سُخرةً ومثلا للعار، وكنا نحن الجهال نحسب حياته جنونًا وموته ،هوانًا، فكيف أصبح معدودًا في بني الله وحظه مع القديسين! قد ضللنا عن طريق الحق ولم يُضئ لنا نور البر ولم تُشرق علينا الشمس. أعيينا في سبل الإثم والهلاك، وهمنا في متائة لا طريق فيها ولم نعلم طريق الرّب . فماذا نفعتنا الكبرياء، وماذا أفادنا افتخارنا بالأموال؟ كل ذلك مضى كالظلّ وكالخبر السائر» (حكمة ٥: ٣-٩).
۱۳ – «وليتوبوا سريعًا في خزيهم» (۱۱). من ذا لا يرى، في هذه الكلمات، قصاصا عادلا لخزيهم، بسبب رفضهم توبة تعود عليهم بالخير لخلاصهم؟ ليتوبوا سريعًا» يقول النبي، لأنهم لن يتكلوا بعد القضاء، وفيما يقولون : السلام لنا»، «وقتئذ يدهمهم الهلاك بغتةً فلا يُفلتون» (۱ تس ٥: ٣). في أي ساعة، يحدث بغتةً ما لا يُتوقع. والأمل بالعيش، هو وحده ما يدفعنا إلى الإعتقاد بأنّ هذه الحياة طويلة. ولا شيء يبدو لنا أسرع من الزمن الذي انقضى. وعندما يأتي يوم الدينونة، سيشعر الخطأة كم كانت حياتهم قصيرة، ولن يُصدقوا أنه لن يكون قد انقضى زمن طويل قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لم يكونوا يتمنونه، أو بالأحرى، لم يؤمنوا يوما بحلوله. وبوسعنا أن نقول أيضًا إن النفس التي استجاب الله بكاءها المتواصل ودموعها الغزيرة، عندما تشعر بأنّها انعتقت من الخطيئة، وأنها كبحت جميع شهواتها المنحرفة الأثيمة، بقولها : «أبعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم، فإنّ الرب سمع صوت بكائي (مز ٦: ٩)، تجد أنها بلغت حالة الكمال التي تُمكّنها من أن تُصلّي لأعدائها. ولعله قيل بهذا المعنى: فليخز جميع أعدائي ويرتاعوا»، لكيما يتوبوا عن آثامهم، الأمر الذي يستحيل من دون خزي وارتياع. وليس ما يمنع من أن نفهم جملة وليتوبوا في خزيهم بمعنى التوبة إلى الله، والخزي من كونهم تباهَوْا، في الماضي، بانغماسهم في ظلمات الخطيئة، كما قال الرسول: «أيّ مجد جنيتم مما تخجلون منه الآن» (رو ٦: ٢١). أما تأكيده على القول «وليتوبوا سريعًا في خزيهم، فيمكن أن يدلّ على اضطرام الشوق، أو الإتكال على قدرة المسيح الذي ردّ إلى الإيمان بالإنجيل، في وقت قصير، أُممّا كانت تُدافع عن أوثانها وتضطهد الكنيسة.