تفسير سفر صموئيل الأول ٣٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثلاثون
حرق صقلغ
استغل عماليق خروج داود ورجاله من صقلغ للاشتراك في الحرب وبسرعة فائقة غزوا منطقة الجنوب وضربوا صقلغ وأحرقوها بالنار وسبوا النساء اللواتي فيها، من بينهن أخينوعم اليزرعيليَّة وأبيجايل. إذ رجع داود استشار الرب، وعوض اليأس، انطلق برجاله ليرد النساء وغنائم كثيرة، قدم منها إلى شيوخ يهوذا أصحابه.
حرق صقلغ [1-6].
إذ فارق داود ورجاله جيش الفلسطينيين عادوا إلى صقلغ في اليوم الثالث ليجدوا العمالقة قد غزوا الجنوب أي ما بين جبال يهوذا والقفر كما غزوا صقلغ التي أحرقوها بالنار بعد أن سبوا النساء، والأطفال كعبيد. رفع داود ورجاله أصواتهم وبكوا بمرارة حتى لم تبق لهم قوة للبكاء.
تضايق داود جدًا فقد سُبيت امرأتاه أخينوعم اليزرعيلية أبيجايل امرأة نابال الكرملي، كما سُبيت كل نساء رجاله مع الأطفال، هذا وقد فكر الرجال في رجمه لأنه أخذهم جميعًا ولم يترك أحدًا لحراسة المدينة.
إن كانت “أخينوعم” تعني “أخي نعيم” أو “أخي بهجة”[209]، وأبيجايل تعني “أب أو مصدر الحكمة”[210]، فقد اقترن داود النبي بهما، فصار النعيم الداخلي أو البهجة في الرب كما في قرابة أخوة معه بينما حمل مصدر الحكمة فيه. هكذا يهبنا ابن داود ملكوته نعيمًا دائمًا عربونًا للأبدية ويقدم لنا ذاته مصدر الحكمة السماوية. أما عمل عدو الخير المقاوم لمسيحنا فهو أن يأسر نعيمنا وحكمتنا، لنعيش محطمين بروح القنوط والغم مملوئين بظلمة الجهالة وعدم الحكمة.
ليتنا نجاهد روحيًا بروح الرب لكي نسترد فرحنا الداخلي وحكمتنا في الرب فنعيش الحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع سر فرحنا وحكمتنا.
نصرة داود [7-20].
لم يستسلم داود للبكاء ولا تحطم باليأس إنما تشدد بالرب إلهه [6]، إذ يقول في مزاميره:
“أحبك يارب يا قوتي،
الرب صخرتي وحصني ومنقذي.
إلهي صخرتي به أحتمي.
اكتنفتني حبال الموت، وسيول الهلاك أفزعتني
حبال الهاوية حاقت بي؛ أشراك الموت أنتشبت بي.
في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت،
فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدام أذنيه
فأرتجَّت الأرض وارتعشت أسس الجبال ارتعدت وارتجت لأنه غضب…
أرسل من العُلى فأخذني.
نشلني من مياة كثيرة.
أنقذني من عدوي القوي ومن مبغضيَّ لأنهم أقوى مني.
أصابوني في يوم بليتي وكان الرب سندي.
أخرجني إلى الرحب، خلصني لأنه سُر بي.
يكافئني الرب حسب برّي، حسب طهارة يديّ يردّ لي.
لأني حفظت طرق الرب ولم أعص إلهي…” (مز 18: 1-21).
“انتظر الرب. ليتشدد وليتشجع قلبك وانتظر الرب” (مز 27: 14).
“عليك يا رب توكلت. لا تدعني أخزى مدى الدهر. بعدلك نجني” (مز 31: 1).
طلب داود من أبيأثار الكاهن أن يقدم له الأفود لكي يسأل الرب إن كان يمكن أن يلحق الغزاة. وإذ جاءت الإجابة الإلهية بالإيجاب أخذ ستمائة رجل وجاءوا إلى وادي البسور، جنوب صقلغ وأرض يهوذا، ربما هو وادي الشريعة.
بالرغم من كون الستمائة رجل أقوياء وجبابرة حرب لكن مائتين منهم أعيوا فلم يقدروا أن يعبروا النهر بل انتظروا مع الأمتعة، وعبر داود مع الأربعمائة رجل. ويبدو أن داود أمرهم بعدم العبور بسبب إعيائهم، ولم يتوقفوا عن خوف أو عصيان، إذ قيل “أرجعوهم في وادي البسور” [21].
التقوا برجل مصري في حالة إعياء شديد لم يأكل ولم يشرب لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، تركه سيده العماليقي – الذي سبق أن أسره واستعبده – في الحقل بلا طعام ولا شراب لأنه مرض وصار عاجزًا عن القيام بخدمته. قدموا له قرصًا من التين وعنقودين من الزبيب فأكل ورجعت روحه إليه. أخبرهم أنه كان مع سيده حين هاجم العمالقة جنوب الكريتيين (قبيلة من الفلسطينيين أرضهم في الجنوب (خر 25: 16؛ صف 2: 5) ربما كان أصلهم من كريت) وما ليهوذا وجنوب كالب (أرض حبرون التي أُعطيت لكالب، وبعدما أُعطيت مدينة كالب للكهنة. أخذ كالب الأرض التي حولها (يش 14: 13؛ 21: 11-12)، وعندما أحرقوا صقلغ بالنار.
طلب داود من المصري أن ينزل به إلى الغزاه فوافق بعد أن طلب منه أن يحلف بالله ألا يقتله ولا يسلمه إلى يد سيده، إذ كانوا في القديم أحيانًا يستخدمون الدليل في الحروب ثم يقتلونه لئلا يخونهم.
نزل المصري بداود ورجاله إلى العمالقة فوجدهم منتشرين على كل وجه الأرض يأكلون ويشربون ويرقصون بسبب الغنيمة العظيمة التي جمعوها من أرض الفلسطينيين ومن أرض يهوذا. كانوا في حالة لهو وعدم اكتراث إذ يعلمون أن الطرفين (الفلسطينيين وإسرائيل) في حالة حرب لن يلحقوا بهم هكذا بهذه السرعة.
كان العمالقة كما نرى هنا جماعة عنيفة لا تعرف إلا السلب، يدها على كل إنسان (تك 16: 21)، استغلوا الحرب القائمة لينهبوا الطرفين.
يبدو أن داود ورجاله وصلوا المنطقة في المساء فكمنوا حتى نام العمالقة، وعند السحر هجم برجاله عليهم ودام القتال النهار كله، وكانت الضربة قوية إذ لم ينج من العمالقة سوى أربعمائة غلام ركبوا الجمال وهربوا. أما داود فأنقذ امرأتيه وكل النساء والأطفال واسترد الغنيمة دون أن يفقد رجلاً واحدًا في القتال. عاد الكل فرحًا، يسوقون غنيمة ضخمة دعوها غنيمة داود [20].
من هو هذا المصري الذي غزاه العماليقي واستعبده مستغلاً كل طاقاته حتى مرض جدًا ثم تركه في الحقل بلا مأوى ولا أسرة ولا أصدقاء يتضوَّر جوعًا وعطشًا في حالة موت إلا اللص اليمين الذي استعبدته الخطية وأذله عدو الخير واستخدم كل طاقاته في الشر وأخيرًا عُلق على خشبة في مذله وسط آلام مبرحة مع جوع وعطش وحرمان من كل قريب أو صديق، كما في حالة موت؟ هذا قدم له ابن داود المحارب لعماليق الحقيقي نعمته طعامًا وشرابًا، حاملاً إياه إلى أرض المعركة ليرى وينعم بنصرة المسيح ويفرح ويتهلل بغنيمة سيده، الذي حطم أبواب الجحيم وأنقذ المسبيين ودخل بهم إلى فردوسه.
أنقذ داود امرأتيه المسبيتين أخينوعم من يزرعيل وأبيجايل امرأة نابال الكرملي وردهما إليه. إنهما كنيستا العهدين القديم والجديد، فقد انطلق ابن داود إلى الجحيم ليحطم عماليق الحقيقي، إبليس، ويرد رجال العهدين القديم والجديد ككنيسة مقدسة متحدة به أبديًا.
اقتسام الغنيمة مع المتخلفين [21-25].
ما أرق قلب داود، فقد غلب برجاله القليلين العمالقة بجبروتهم وكثرة عددهم، هذه النصرة لم تشغله عن السؤال عن الرجال الذين أوقفهم بسبب الإعياء، إذ “تقدم داود إلى القوم وسأل عن سلامتهم” [21].
كثيرًا ما تشغلنا النصرة عن إخوتنا خاصة الضعفاء أو المحتاجين أو المتضايقين، أما داود فقائد روحي حق، ينشغل بكل أحد، ويهتم بالكل.
طلب بعض الأشرار من المحاربين ألا يشترك المائتان رجل في الغنيمة، يكفيهم أن يستلموا نساءهم وبنيهم، أما داود فأصر أن يشترك من بقى مع الأمتعة مع المحاربين في الغنيمة، كما تقضي الشريعة (عد 31: 25-27). تحدث حتى مع القساة الأشرار بالوداعة ورقة مع حكمة حتى لا يسبب انقسامًا. لم يستخدم أسلوب الأمر كقائد ناجح بل اسلوب الحب كأخ، إذ يقول: “لا تفعلوا هكذا يا إخوتي، لأن الرب قد أعطانا وحفظنا ودفع ليدنا الغزاه الذين جاءوا علينا، ومن يسمع لكم في هذا الأمر؟! لأنه كنصيب النازل إلى الحرب نصيب الذي يقيم عند الأمتعة، فإنهم يقتسمون بالسوية” [23-24].
وأظهر محبة لجميع رجاله، كما نسب النجاح لله الذي قدم لهم هبة مجانية لهذا لاق بهم أن يقدموا لإخوتهم أيضًا من ذات الهبة التي لا فضل لهم فيها.
اشتراك الذين بقوا مع الغنيمة مع الذين عبروا النهر مع داود لمحاربة عماليق إنما هو اشتراك لرجال العهد القديم الذين أعيوا تحت ثقل الناموس مع رجال العهد الجديد الذين عبروا بالمعمودية – نهر الأردن – إلى معركة الصليب ونالوا كل نصرة بابن داود الغالب لحسابهم.
ارسال غنيمة إلى شيوخ يهوذا [26-31].
اتسم داود باتساع القلب والكرم، لذا فكر في إخوته وأصدقائه شيوخ يهوذا ليشاركوه في الغنيمة، قائلاً لهم: “هذه لكم بركة من غنيمة أعداء الرب” [26].
أرسل إلى شيوخ مدن كثيرة بلا حصر مما يكشف عن وفرة الغنيمة جدًا، أرسلها كبركة أي هدية ليس من قبله بل من قِبَل الرب واهب الغلبة والنصرة والمعطي الجميع بسخاء. وكأن داود قد حارب لا لحساب نفسه ورجاله، إنما حارب حروب الرب لحساب كل الشعب.
قدم الهدايا إلى شيوخ المدن التالية:
بيت ايل[211]: وهي غير بيت إيل بنيامين، بل مدينة في جنوبي يهوذا (يش 12: 6)، تسمى أيضًا كسيل (يش 15: 30) وبتول (يش 19: 4) وبتوئيل (1 أي 4: 30)، يظن أنها خربة الرأس بين بئر سبع وخوليفة.
راموث الجنوب[212]: غير راموث جلعاد (يش 19: 8)، وتسمى أيضًا رامة الجنوب (رامة النجب)، وأيضًا بعلة بئر (يش 8: 19)، وهي قرية في جنوب تخم شمعون.
يتير[213]: مدينة للكهنة، في جبال اليهودية، يظن أنه تبعد 6 أميال شمال مولادة و13 ميلاً جنوب عربي حبرون. يرجع أن تكون هي خربة عتير. (يتير تعني “تفوق” أو “أفضلية” أو “استعلاء”).
عروعير[214]: غير عروعير التي في موآب، وهي قرية في يهوذا، على الطريق من غزة إلى وادي موسى، تبعد حوالي 12 ميلاً جنوب شرقي بئر سبع، آثارها قائمة في وادي عرارة (“عروعير” معناها “عريان” أو “دغل أشجار العرعر”).
سفموت[215]: اسم عبري ربما كان معناه “شوارب”، لعلها في جنوب يهوذا.
اشتموع[216]: مدينة للكهنة، اسمها الحالي “سموع” أو “السموعة”، تبعد حوالي 9 أميال جنوب حبرون. “اشتموع” كلمة عبرية تعني “استماع” أو “طاعة”.
راخال أو راكال[217]: اسم عبري معناه “تجارة”، مدينة في يهوذا، لا يعرف موقعها الآن.
مدن اليرحمئيليين: (راجع 1 صم 27: 10).
مدينة القينيين: (راجع 1 صم 15: 6).
حرمة[218]: اسمها الأصلي صفاة (قض 1: 17) من نصيب يهوذا نُقلت إلى شمعون، تقع في الجنوب نحو تخوم آدوم، ربما كان موقعها في تل الملح، نحو 3 أميال جنوب شرقي بئر سبع (دعيت حُرمة بعد تخريبها وتحريمها (قض 1: 17)).
كورعاشان: (فرن الدخان) أو بورعاشان (حفرة الدخان) أو عاشان (دخان)، في سهل يهوذا تحولت إلى شمعون ثم صارت للاويين. تسمى خربة عاسان، شمالي غربي بئر سبع وبالقرب منها[219].
عتاكض: قرية في جنوب يهوذا، ربما هي عاتر (يش 15: 42).
حبرون: حاليًا تُدعى الخليل.
قدم داود النبي من الغنيمة لشيوخ هذه المدن وأيضًا لشيوخ جميع الأماكن التي تردد عليها هو ورجاله علامة شكره لهم على حسن ضيافتهم.