تفسير سفر صموئيل الاول ٢٤ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع والعشرون
رقة داود تجاه شاول

بينما كان شاول ينهار أمام نفسه وأمام الآخرين بلا سبب كان داود يتمجد، ولعل قوته قد تجلت في أعظم صورها عندما وقع شاول بين يديه وهو يطارده، وحسب رجال داود أن الوقت قد حان لكي يموت شاول ويملك داود على الشعب [4]، أما هو فوجدها فرصة فريدة لتحقيق وصية الله مكتفيًا بقطع طرف جبة شاول، “وقد ضربه قلبه على هذا العمل أيضًا” [5]. وقف داود في اتضاع مع حزم يوبخ شاول على مطاردته له، وأحس شاول أن داود لابد وأن يستلم المملكة.

  1. داود في كهف عين جديدة         [1-15].
  2. شاول يتصاغر في عيني نفسه    [16-22].

 

  1. داود في كهف عين جدي:

هرب داود إلى حصون عين جدي. تبعد عين جدي عن البحر الميت حوالي 200 مترًا، الوصل إليها لا يخلو من خطر جسيم، وهي مأوى للجداء (المعزي) السورية، ومنها اشتق الاسم “عين جدي”.

عندما انتهى شاول من حملة الفلسطينيين على أرضه الخاصة استأنف نشاطه بمطاردته المريرة لداود فقد انطلق إلى برية عين جدي ومعه ثلاثة آلاف رجل منتخبين. انطلق إلى صخور الوعول، وهي صخور وعرة لا يقدر أحد الوصول إليها إلا الوعول (التيوس أو الشياه الجبلية)، فقد أصر أن يتحمل ورجاله كل مشقة للخلاص من داود. جاء إلى “صير الغنم” وهي حظيرة غنم أو مغزى يقيمها الرعاة عند باب كهف تأويها الغنم ليلاًً وفي أيام المطر والبرد[177].

دخل شاول كهفًا كبيرًا ليغطي رجليه، وهو تعبير مهذب للقول “يتبرز”، حيث كان داود ورجاله جلوسًا في مغابن الكهف [3]. إذ كان الكهف مظلمًا لم ير شيئًا فيه، أما داود ورجاله فكانوا في داخله وقد اعتادوا الظلام فرأوا شاول عند دخوله وعرفوه. كان رجال داود يشيرون عليه أن ينتقم من شاول وهو في الكهف بمفرده ليأخذ المملكة بالقوة، وأن هذه الفرصة هي من قبل الله. قالوا له: “هوذا اليوم الذي قال لك عنه الرب هأنذا أدفع عدوك ليدك فتفعل به ما يحسن في عينيك” [7]. رفض داود هذه المشورة فإن الله لم يطلب منه أن يتعامل معه كعدو، إنما قال صموئيل لشاول: “قد انتخب الرب لنفسه رجلاً حسب قلبه” (14: 13)، “يمزق الرب مملكة إسرائيل عنك اليوم ويعطيها لصاحبك الذي هو خير منك” (15: 28). واضح أن الله لم يدعُ داود ليفعل بشاول ما يريد كعدو له، بل اختاره ملكًا عوضًا عنه من أجل نقاوة قلبه وأنه أفضل من شاول، يعامله كصاحبه.

يبدو أن داود ورجاله انتظروا حتى يأخذ شاول ركنًا في المغارة ليستريح وينام، عندئذ مدّ داود يده ليقطع طرف جبة شاول. لكنه لم يحتمل هذا التصرف إذ خشى أن يكون بهذا قد أساء إلى مسيح الرب، فصارت ضربات قلبه تتزايد.

يقول القديس أغسطينوس: [كان خائفًا لئلا يُتهم بأنه اقتحم سرًا عظيمًا في شاول لأنه تحرّش بثوبه، لذلك كُتب: “إن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول” أما الرجال الذين معه إذ نصحوه أن يحطم شاول فخلصهم بقوله لهم: “حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي على مسيح الرب”. هكذا أظهر تقديرًا عظيمًا لظل الأمور المقبلة؛ هذا التقدير ليس من أجل ما حدث معه وإنما من أجل ما ترمز إليه[178]].

أنقذ داود شاول من أيدي رجاله الذين طلبوا قتله ليملك رئيسهم داود، وإذ صمت الكل انتظر داود حتى يخرج شاول من الكهف ليخرج من بعده وفي اتضاع نادى وراءه قائلاً: “يا سيدي الملك!”. ولما التفت إليه “خرّ داود على وجهه إلى الأرض وسجد”. يا للعجب! كان شاول شريرًا ترك كل أعمال المملكة ليكرس طاقاته لقتل داود، أما داود فينقذ حياته، ويكرمه ويسجد له وهو غير مستحق للإكرام.

داود النبي في اتضاع يسجد أمام ملك مرفوض حتى الأرض ليكسر كبرياءه بينما يخجل الكثيرون من السجود أمام قديسين علامة توقير، أما سجود العبادة فلا يليق تقديمه إلا لله وحده.

ارتفع داود في عيني الله والناس باتضاعه، إذ يقول لشاول: “وراء من خرج ملك إسرائيل؟! وراء من أنت مطارد؟! وراء كلب ميت! وراء برغوث واحد!” [14]. يقول الأب دوروثيؤس: [الاتضاع هو الذي يخلصنا من حيل العدو كلها… لا يوجد ما هو أقوى من الاتضاع]، [حقًا يا إخوة طوبى لمن كان له اتضاع حقيقي[179]].

مع اتضاع داود الشديد وانسحاقه حتى أمام ملك مرفوض وهو يعلم أنه يستلم الحكم منه نراه أيضًا الإنسان الحازم الصريح والشجاع. فقط أظهر نفسه لشاول لا في داخل المغارة حين كان شاول في قبضة يده في ضعف شديد، وإنما بعد خروجه من المغارة ليؤكد له أنه لا يخشى غدره ولا رمحه. في صراحة كشف له كذب مشيريه الذين يحرضونه ضده مدعين أن يطلب قتله. كما أعلن له أنه لا يخافه ولا يمد يده إليه إذ ترك الله الديان يقضي له.

في قوة وصراحة يقول:

“لماذا تسمع كلام الناس القائلين هوذا داود يطلب أذيتك؟!

هوذا قد رأت عيناك اليوم هذا كيف دفعك الرب اليوم ليدي في الكهف، وقيل لي أن أقتلك، ولكنني أشفقت عليك، وقلت لا أمد يدي إلى سيدي لأنه مسيح الرب…

اعلم وانظر أنه ليس في يدي شر ولا جرم ولم أخطئ إليك وأنت تصيد نفسي لتأخذها.

يقضي الرب بيني وبينك وينتقم لي الرب منك ولكن يدي لا تكون عليك.

كما يقول مثل القدماء: من الأشرار يخرج شر.

“ولكن يدي لا تكون عليك” [9-31].

لقد أعطيت له الفرصة لينتقم لكنه لم يقتل إذ لم يرد أن يمد يده على مسيح الرب، ولأن قلبه ليس شريرًا ليخرج شرًا، إنما ترك الأمر بين يدي الله الذي يسمح للأشرار أن يمدوا يدهم بالشر عليه انتقامًا لداود.

إننا نُحيّي شخص داود النبي الذي قابل مطاردة شاول له المستمرة بالسماحة الحقة، حتى قال القديس يوحنا الذهبي الفم عنه: [نعم، لقد ارتفع فوق الناموس القديم إلى الوصايا الرسولية[180]]. وكأنه مارس الوصية الإنجيلية الخاصة بالمحبة الأعداء وهو تحت الناموس. ويقول القديس أمبروسيوس: [أي عمل تقوي هذا إذ رغب داود أن يستبقى حياة الملك عدوه مع أنه كان قادرًا أن يؤذه! كم كان هذا نافعًا له، إذ ساعده عندما تولى العرش! فقد تعلم الكل أن يكون أمينًا لملكهم وألا يغتصب أحد الملك بل يهاب الملك ويكرمه[181]].

  1. شاول يتصاغر في عيني نفسه:

لم يحتمل شاول المملوء حسدًا وبغضة، قاتل الكهنة بلا سبب، أن يسمع صوت داود المملوء اتضاعًا، وأن يواجه سماحته العجيبة، لذا تصاغر شاول جدًا في عيني نفسه، إذ نراه:

أ. يدعو داود ابنه، قائلاً: “أهذا صوتك يا ابني داود” [16]. لقد دعاه داود “سيدي الملك”، “انظر يا أبي” [8-11]. أمام هذا الاتضاع المملوء وداعة ولطفًا دعاه شاول “ابني داود”، مع أنه كان في أغلب الأوقات لا يقدر أن ينطق اسمه بل يدعوه “ابن يسى” (22: 7، 8، 13…)

لأول مرة يدعوه ابنًا له، إذ شعر أنه غير مستحق أن يدعوه داود “أبًا” له.

ب. شاول الجبار القادم ومعه 3000 رجل حرب يرفع صوته ويبكي! شعر بالضعف الشديد والحقارة فتفجرت دموعه وعلت صرخاته؛ لقد ضاقت به الدنيا جدًا وشعر بأنه وضع نفسه في فخ وشرك وليس من ينقذه!

ج. شعر شاول بشره، هذا الذي سبق أن تحدث مع أهل زيف كمن هو مظلوم أمام داود (23: 21). وإذ قارن نفسه بداود قال: “أنت أبر مني، لأنك جازيتني خيرًا لأن الرب قد دفعني بيدك ولم تقتلني” [18].

د. أدرك شاول بأن المُلك لابد أن يخرج من يديه ليتسلمه داود الذي ينجح في طريقه. “والآن فإني علمت أنك تكون ملكًا وتثبت بيدك مملكة إسرائيل، فاحلف لي الآن بالرب أنك لا تقطع نسلي من بعدي ولا تبيد اسمي من بيت أبي” [20-21]. لقد تأكد أن ما سمعه من صموائيل النبي سيتحقق (15: 28).

فاصل

فاصل

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى