تفسير صموئيل الثاني ٢٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع والعشرون
الإحصاء والوباء
في الأصحاحات [١١-٢١] تحدث الكاتب عن سقوط داود بسبب تهاونه مع الخطية لمدة لحظات فبقي سنوات طويلة يجني ثمارها المُرّة وإن كانت هذه المرارة تحولت إلى مجده وبنيان الكثيرين خلال توبته المستمرة. الآن يُختتم السفر بخطأ خطير ارتكبه داود الملك وهو إحصاء الشعب لمعرفة عدد رجال الحرب دون استشارة الرب. فحلَّ على الشعب تأديب قاسٍ هزَّ أعماق نفس داود؛ غير أنه عرف كيف يغتصب مراحم الله.
١. إحصاء الشعب [١-٩].
٢. إدراك داود للخطأ [١٠].
٣. جاد يستعرض التأديبات [١١-١٤].
٤. حلول الوباء [١٥-١٧].
٥. إرسال جاد لداود [١٨-٢٥].
غضب الرب على داود ليس لأجل قيامه بالإحصاء في حد ذاته، فقد سبق أن أحصاهم موسى ثلاث مرات أو أكثر (خر ٣٨: ٢٦؛ عد ١: ٢-٣؛ عد ٢٦)، إلهنا إله نظام لا تشويش. إنما غضب الرب للأسباب التالية أو بعضها:
أ. لم يستشر الرب كعادته.
ب. بدأ داود يعتمد على عدد رجاله وإمكانياته مع أنه لو تطلع إلى حياته كلها منذ صبوته لوجد نفسه قد انطلق من رعاية الغنيمات القليلة التي لأبيه إلى استلام المملكة كلها بقوة إلهية، وليس بذراعه أو ذراع بشر. وفي مواقف كثيرة سواء لمقاومة الأعداء له أو المنشقين عليه كان الله يتدخل من حيث لا يدري أحد. وقد عبَّر داود النبي كثيرًا عن هذه الخبرة الطويلة.
ج. ربما قصد داود بهذا الإحصاء إثارة حروب جديدة لتوسيع مملكته وازدياد مجده.
د. لعله أراد تسخير الشعب بوضع جزية مالية ثقيلة لحسابه الخاص أو حساب الخزانة وليس لحساب خيمة الاجتماع.
هـ. يبدو أن الدافع الرئيسي هو الإعلان عن عظمته وقدراته وإمكانياته، كما كان يفعل ملوك الأمم حوله ليرعب الأمم المجاورة، وقد شاركه الشعب هذه الروح، لذلك كانت الخطية على الجميع وليس على داود وحده. لقد حاول داود في حبه أن ينسبها لنفسه ولبيت أبيه لكي يُصب التأديب كله عليه دون الشعب!
و. كان الشعب محتاجًا إلى تأديب، فالله يسمح أحيانًا بخطأ الراعي لتأديب الرعية، لأنها مستحقة للتأديب، إذ يقول الكتاب: “وعاد فحمى غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلاً امض وأحص …”.
ز. يرى البعض أن خطأ داود ينصب في إصداره أمرًا ليوآب أن يحصي الشعب بما في ذلك هم أقل من ٢٠ عامًا مادامت هيئتهم وطاقاتهم تناسب الحرب؛ هذا التصرف ضد الشريعة والناموس (١ أي ٢٧: ٢٣-٢٤).
ح. كما انصب الخطأ على عدم طلب نصف الشاقل الذي كان يجب دفعه للخيمة متى أُحصى الشعب كفدية عن نفوسهم (خر ٣٠: 12).
لقد أدرك يوآب خطأ داود فحاول تنبيهه إلى ذلك لكن داود أصر. قال له يوآب: “ليزد الرب إلهك الشعب أمثالهم مئة ضعف وعينا سيدي الملك ناظرتان. ولكن لماذا يُسر سيدي الملك بهذا الأمر؟” [٣]؛ فاشتد كلام الملك على يوآب وعلى رؤساء الجيش، فخضعوا لأمره.
لعل من أجمل سِمات داود النبي والملك أنه متى أدرك خطأه فلا يُغطي عليه، ولا يقدم لله مبررات، إنما في بساطة قلب مع صراحة وفي رجاء يعترف حالاً دون أي تردد. “فقال داود للرب: لقد أخطأت جدًا في ما فعلت، والآن يارب أزل إثم عبدك لأني انحمقت جدًا” [١٠]. هذا هو القلب النقي الذي لا يحتمل أي غبار، إنما في الحال يصرخ معترفًا بخطيته.
٣. جاد يستعرض التأديبات:
دفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك [٩]، وعوض أن يفكر داود في الرقم وغايته من التعرف عليه إذا بقلبه يضربه في داخله [١٠]، وبقى الليل كله في مرارة يترقب ثمار الخطأ الذي ارتكبه.
في الصباح جاءه جاد النبي يعرض عليه حق اختيار العصا التي يُضرب بها من قبل الله للتأديب: [سبع سنوات جوع، هروب ثلاثة شهور أمام أعدائه وهم يتبعونه، ثلاثة أيام وباء في أرضه].
عندما ترك الرب لداود النبي أمر اختيار التأديب الذي يسقط تحته ضاقت نفسه، ولكنه قال: “لقد ضاق بي الأمر جدًا، فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان” [١٤]. فجعل الرب وباء في إسرائيل من الصباح إلى المساء، فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع ٧٠0٠٠ رجل. بسط الملاك يده ليهلك أورشليم، لكن الرب ندم وقال للملاك “كفى الآن رد يدك”.
يرى البعض أن الملاك كان على ذات جبل المريا الذي قدم فيه إبراهيم وإسحق ذبيحة… وكأن توقف الهلاك كان من خلال ذبيحة الإبن الحبيب!
وسط التأديب القاسي المرّ كشف الكتاب المقدس عن حب داود الفائق لشعبه، فإنه إذ رأى شعبه تحت الضيق صرخ طالبًا أن تحل الضيقة به وببيت أبيه لا بالشعب. إنه مستعد كسيده (رب المجد يسوع) أن يتقدم الرعية ليحتمل المخاطر عنهم، لا أن يختبئ في وسطهم طالبًا عنايتهم به.
v في اختيار العقوبات لم يختر المجاعة ولا الهروب أمام الأعداء بل الوباء المرسل من قبل الله؛ لقد ترجى أن يكون الجميع في سلام ويحتمل هو العقوبة دون غيره. وإذ لم يحدث هذا ناح وقال: “لتكن يدك عليّ”، وإن كان هذا لا يكفي “وعلى بيت أبي”. يقول أيضًا: “أنا الراعي أخطأت” (الترجمة السبعينية). كأنه يقول: حتى إن كانوا هم قد أخطأوا فأنا هو الشخص الذي يجب أن يحتمل العقوبة لأنني لم أُصلحهم. إنها خطيتي أنا أيضًا لذا أستوجب العقوبة. ولكي يزيد من جريمته استخدم لقب “الراعي”… عظيمة هي قوة الاعتراف[139].
v يقول: “أنا الراعي أخطأت”. لقد أذنبت، أما هذا القطيع فماذا فعل؟ لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي.
إبراهيم (أيضًا) لم يطلب ما لنفعه الخاص بل ما هو لنفع الكثيرين، لهذا عرض نفسه للمخاطر، وسأل الله من أجل الذين لا ينتمون له (أهل سدوم وعمورة)[140].
v ليتنا نطلب العقوبة لأنفسنا متى أخطأنا ضد ذاك الذي ينبغي ألا نخطئ في حقه… إن كنا نحب المسيح كما ينبغي يلزمنا أن نُعاقب أنفسنا عندما نخطئ[141].
القديس يوحنا الذهبي الفم
٥. إرسال جاد لداود:
سمع الله لصرخات داود المملوءة حبًا تجاه شعب الله واستجاب له، فقد أرسل إليه جاد النبي ليقيم مذبحًا في الموضع الذي ظهر له فيه الملاك، في بيدر أرونة اليبوسي، مؤكدًا له الآتي:
أ. قد تم التصالح بين الله وداود، لأن إقامة مذبح وتقديم ذبيحة وقبولها من جانب الله يعني تحقيق المصالحة.
ب. أن المصالحة تتم خلال الذبيحة، رمز ذبيحة المسيح الكفارية.
رأى أرونة وهو رجل أجنبي يبوسي الملاك، ثم عاد فرأى الملك قادمًا فارتبك جدًا وتحير، لذا سجد أمام داود الملك على وجهه إلى الأرض، وسأله عن سر مجيئه. طلب منه أن يشتري منه البيدر ليقيم المذبح فيه فتكف الضربة عن الشعب. أراد أرونة أن يقدم البيدر مجانًا لبناء المذبح وبقره محرقات ونوارجه وأدوات البقر حطبًا للمحرقات؛ لكن داود رفض أن يقدم تقدمات مجانية للرب وأصر أن يدفع الثمن ٥٠ شاقلاً من الفضة.
رقم ٥٠ يشير إلى الحرية التي يتمتع بها الإنسان داخليًا بالروح (اليوبيل، عيد العنصرة)، هكذا يرتبط المذبح والذبيحة بعمل الروح القدس واهب الحرية. على ذات الموضع أقيم فيما بعد هيكل سليمان.
كان أرونة أمميًا، لكنه تمتع برؤية الملاك، اتسم بالاتضاع والحب مع البذل والعطاء، لذا أقيم الهيكل في أرضه… ليت إنساننا الداخلي يكون كأرونة فيقيم الرب هيكله فينا.