تفسير صموئيل الثاني ٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن
انتصارات داود المستمرة
لم يكن داود منشغلاً بمجده الذاتي ولا باتساع رقعة مملكته وإنما كان مهتمًا بملكوت الله، لهذا لم يسعَ نحو إخضاع الأسباط تحت سلطانه إنما كان مشغولاً بخدمة الجميع ورعايتهم بكونهم شعب الله. الآن دخل داود النبي في حروب كثيرة وتكررت العبارة” “وكان الرب يخلص داود حيثما توجه” [٦، ١٤]. حصل على هدايا وغنائم كرَّسها لخدمة بيت الرب.
كإنسان حكيم مهتم بملكوت الله لم تشغله الحروب الخارجية عن الاهتمام بتدبير أمور مملكته الداخلية بحكمة واتزان.
١. نصرته على الأمم المحيطة [١-٨].
٢. توعى يقدم له هدايا [٩-١٠].
٣. تقديس الهدايا والغنائم [١١-١٤].
٤. تدبير أمور المملكة الداخلية [١٥-١٨].
كانت حروب داود النبي ضد الأمم الوثنية التي انجرفت تمامًا في الرجاسات مع العنف والقسوة، تشير إلى جهاد المؤمن ضد الخطية بكل رجاساتها وعنفها.
لقد ضرب داود:
أ. الفلسطينيين: “أخذ زمام القصبة من أيدي الفلسطينيين” [١]؛ أي أخذ جت وقراها، بكونها قصبتهم وزمام دولتهم المتسلطة على يهوذا ودان، إذ كانت جت على تخم يهوذا وبالقرب من دان.
جاءت الكلمة العبرية لزمام القصبة Meth-eg-ammah، تعني حرفيًا “لجام الأمة”، إذ كانت جت عاصمتهم تمثل من يمسك بلجام يحرك إسرائيل كيفما شاء. لقد أمسك داود بهذا اللجام وقبض عليه في يده ليستخدمه للتحكم فيهم عوض تحكمهم هم فيه.
ب. الموآبيين: سبق أن أودع داود والديه لدي ملك موآب (١ صم ٢٢: ٣-٤)، لسنا نعرف متى تحولت هذه الصداقة إلى عداوة لتستمر بعد ذلك. ربما كان موآب يسند داود عندما كان شاول يقاومه، يهدف بذلك إلى مقاومة شاول كملك رسمي، لكن إذ صار داود ملكًا واتحدت الأسباط معًا تحت قيادته واستقرت مملكته ثار موآب ضده.
ضرب داود المدينة، قتل الثلثين، واستبقى الثلث يدبرون أمورهم الداخلية مقابل دفع جزية (تقديم هدايا). وقد تحققت نبوة بلعام: “يقوم قضيب من إسرائيل فيُحطم طرفي موآب” (عد ٢٤: ١٧).
بقى موآب يدفع الجزية حتى موت آخاب حيث ثار ملك موآب ضد إسرائيل وعصاه (٢ مل ٣: 3-٤).
ج. السوريين أو الآراميين: كانت آرام تضم في الشمال مملكتين عظيمتين متمايزتين: آرام صوبة (عاصمتها صوبة يظن البعض أنها حمص) تسيطر على عدة ملوك؛ وآرام النهرين (عاصمتها دمشق).
بدأ داود بمحاربة هدد (هدر) عزر ملك آرام صوبة. كانت صوبة[46] في أيام شاول وداود وسليمان مملكة آرامية قوية غرب الفرات. امتد سلطانها يومًا إلى حدود حماة إلى الشمال الغربي (١ أي ١٨: ٣؛ ٢ صم ٨: ١٠) وكانت دمشق إلى جنوبها أو إلى الجنوب الغربي منها، لأن إحدى مدنها بيروثاي كانت تقع بين حماة ودمشق.
ضربه داود من الغرب في حماه (١ أي ١٨: ١٣)، من الوراء، فجاء ملك آرام دمشق لنجدته فضربه داود (يرى البعض أن آرام دمشق هي ذاتها آرام النهرين، موقعها فدان آرام حيث عاش الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب).
بضرب داود آرام صوبة وآرام دمشق حطم كل ممالك آرام العظيمة؛ ولكي لا تتجمع جيوشهم ثانية لمحاربته أقام محافظين في صوبة ودمشق، وألزمهم بدفع جزية (تقديم هدايا).
استولى داود على أتراس الذهب (مطلية بالذهب)، وهي أتراس حراس الملك، وجاء بها إلى أورشليم. كما جاء بنحاس كثير جدًا من مدينتي هدد “باطح” و “بيروثاي” وهما طبحة وخون (١ أي ١٨: ٨)، الأولى ربما تكون هي طبحة التي بين حلب والفرات (باطح تعني ثقة)[47]، أما الثانية فيرى البعض أنها بيروت، بينما يرجح آخرون أنها قرية بريتان على بعد ٦ أميال جنوب غربي بعلبك (بيروثاي تعني “آبارًا”)[48].
استخدم سليمان الحكيم النحاس الذي أُخذ من هاتين المدينتين في صنع بحر النحاس والأعمدة والآنية النحاسية.
ترنم داود النبي بالمزمور الستين عندما حارب آرام صوبة وآرام النهرين (دمشق) وغلبهما. يعلن القديس أغسطينوس على عنوان المزمور قائلاً: [إنه حمل روحًا نبويًا، إذ يعلن ما لم نجده في التاريخ ليكشف لنا خلال الرمز ما سيحدث مستقبلاً[49]].
عنوان المزمور كما جاء في الترجمة السبعينية هو:
(إلى الذين لا زالوا يتغيرون.
إلى نصب تذكاري منقوش، لأجل داود،
للتعليم،
عندما حرق المصيصة السريانية (ما بين النهرين، آرام النهرين Mesopatamaia وصوبة السريانية (آرام صوبة).
فرجع يوآب وضرب من آدوم في وادي الملح اثنى عشر ألفًا).
يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رمزيًا لهذا العنوان موجزه الآتي (بتصرف):
v إن المزمور كتب من أجل الذين يغير المسيح (ابن داود) حياتهم لأجله هو… كأن السيد المسيح هو الذي يغير حياتنا ويجددها، وغاية هذا التغير هو أن نتعلم أن نلتقي به كغاية الناموس أو الوصية أو التعليم (رو ٥: ١٠). فهو المعلم وهو المجدد وهو الغاية.
v كيف يحدث هذا التغيير؟
أ. بحرق المصيصة Mesopatamaia (ما بين النهرين) السورية (آرام): يرى القديس أغسطينوس أن سوريا تعني “تعالٍ” و “مصيصة” تعني “دعوة”. وكأنه لكي تتغير حياتنا يحرق الرب تعالينا وعجرفتنا لننعم باتضاعه. أرسل روحه القدوس الناري إلى العالم ليحرق كل فساد مجددًا طبيعتنا (في مياة المعمودية)؛ عوض أن يُدخل العالم إلى النار فيهلك أرسل ناره إلى العالم ليجدده، بحرق أعمال الإنسان العتيق ومنح الإنسان الجديد الداخلي أو الحياة الجديدة التي في المسيح. ليتنا لا نخاف نار المسيح وإن كانت تحرق فهي تحرق ما هو قديم فينا.
ب. برجوع “يوآب”؛ في رأيه أن كلمة “يوآب” معناها “عدو”. وكأن المسيحي يرجع إلى ابن داود المنتصر بعد أن كان عدوًا لله… لنرجع إلى مسيحنا أحباء بعد العداوة القديمة.
ج. ضرب اثني عشر ألفًا من آدوم في وادي الملح. إن كانت “آدوم” تعني “أرضًا”، فتغييرنا يعني ما هو أرضي فينا لنحمل ما هو سماوي. كما لبسنا صورة التراب (آدم الأول) هكذا يلزمنا أن نلبس صورة السماوي (آدم الثاني) (١ كو ١٥: ٤٩).
أرسل توعى أو توعو ملك حماة ابنه إلى داود ليسأل عن سلامته ويباركه بسبب ضربه هدد عزر، الذي كان عدوًا لتوعى. قدم الابن هدايا: آنية فضة، آنية ذهب، آنية نحاس، قدسها داود لحساب بيت الرب. هكذا قبل داود هذه الإرسالية، معلنًا أنه لا يهوى الحرب بل يطلب السلام.
كان داود الملك يهيئ الطريق لسليمان ابنه لبناء بيت الرب من جانبين:
أ. إخضاع الأمم المقاومة مثل آرام النهرين وآرام صوبة وآدوم، وإقامة علاقات ودّ مع الأمم المسالمة مثل مملكة حماة… حتى يعيش سليمان متفرغًا لبناء بيت الرب في جو من السلام.
ب. إعداد الإمكانيات للبناء، إذ لم يستخدم داود الغنائم والهدايا لصالحه الخاص ولا لإثراء أسرته وسبطه وإنما قدم الغنائم مع الهدايا لحساب بيت الرب.
ميز داود النبي بين التماثيل الذهبية والآنية الذهبية؛ الأولى حرقها (٥: ٢١) والثانية خصصها لخدمة بيت الرب. الأولى أي الأصنام تشير إلى الشر الذي يجب تحطيمه تمامًا، فإن الله ليس في حاجة إلى الذهب أو الفضة… والثانية تشير إلى تحويل الطاقات والمواهب المستخدمة للشر إلى طاقات ومواهب لحساب ملكوت الله. الله يرفض الشر ويقدس ما دنسناه خلال الشر، يكره الخطية لا الخطاة.
قيل أيضًا: “ونصب داود تذكارًا عند رجوعه من ضربه ثمانية عشر ألفًا من آدوم في وادي الملح” [١٣]. هكذا أقام نصبًا تذكاريًا يعلن تحطيمة آدوم (أي ما هو أرضي)… ما هو هذا النصب إلا صليب ربنا يسوع المسيح الذي حولنا عن الزمنيات إلى السماويات. لذلك جاء في المزمور ٦٠ الذي تغنى به داود عند ضربه آدوم وآرام: “زلزلتَ الأرضَ فََصَمْتَها، أجْبُرْ كسرها لأنها متزعزعة… على آدوم أَطْرحُ نعلي”. بصليب ربنا تتزلزل فينا الأفكار الأرضية لنطأها تحت أقدامنا!
٤. تدبير أمور المملكة الداخلية:
كما نجح داود في حروبه ضد الأمم المقاومة وكسب صداقات الأمم المسالمة نجح أيضًا في الاهتمام بشئون مملكته الداخلية ورعاية شعب الله على خلاف شاول الذي كان قويًا في الحروب وفاشلاً في سياسته الداخلية.
أولاً: اهتم بكل الشعب وبالقضاء لهم بالعدل: “وملك داود على جميع إسرائيل، وكان داود يجري قضاءً وعدلاً لكل شعبه” [١٥].
جاء في المزمور ٧٢: “يدين شعبك بالعدل ومسكينك بالحق، تحمل الجبال سلامًا للشعب والآكام بالبر. يقضي لمساكين الشعوب. يخلص بني البائسين ويسحق الظالم” (مز ٧٢: ٢-٤).
ثانيا: نجح في توزيع المسئوليات على قادة يسندونه، فأقام:
أ. يوآب على الجيش.
ب. يهوشفاط بن أخيلود مُسجِّلاً يكتب أحكام الملك ويحفظها.
ج. صادوق بن أخيطوب من نسل أليعازار وأخيمالك بن أبيأثار كاهنين.
د. سرايا كاتبًا، أي وزيرًا ومفتشًا للدولة.
هـ. بناياهو بن يهو يداع رئيسًا على الجلادين والسعاة الذي يعاقبون المذنبين، وهم أيضًا حراس الملك (٢ مل ١١: ٤). الكلمة الأصلية لجلادين “كريتيون”، ربما لأن الملوك كانوا يفضلون استخدام حراس من الأجانب حتى إذا ما حدثت فتنة من الشعوب لا يتسترون عليهم بسبب القرابة.
و. بنيه (بني داود) كهنة أي شفعاء. كلمة “كهنة” هنا لا تعني ممارسة العمل الكهنوتي التعبدي وإنما عمل الشفاعة كحكام تحت يديْ داود ويعملون لحساب الشعب وخدمتهم؛ يقدمون لداود طلبات الشعب الحقيقية… لذا حسبوا ككهنة.