تفسير سفر الجامعة ١ للقمص تادرس يعقوب
الباب الأول
براهين بطلان العالم خارج الله
- شهادة الطبيعة .
- بطلان مباهج العالم (خبرته الشخصية) .
- شهادة العالم .
- شهادة المجتمع .
بطلان العالم
يوجه الجامعة حديثه إلى كل إنسان مؤكدًا له بطلان العالم وكل ما فيه، لا بنظرة تشاؤمية مُرّة، وإنما بغية استخدام كل ما هو حولنا كعطية إلهية مؤقتة، قُدمت لنا لا لاكتنازها بروح الطمع، ولا لاقتنائها بروح الظلم، وإنما لكي نشترك فيها مع الغير بروح الصداقة والحب. كل ما هو حولنا جميل وحسن إن استخدمناه في وقته حسب خطة الله ومقاصده الإلهية، أما إن فسدت قلوبنا وأفكارنا فيصير الكل باطلاً!
إذ يتحدث الجامعة مع البشرية بوجه عام استخدم براهينه من واقع الطبيعة ذاتها بكونها لغة كل البشر يقرأها الجميع [1]، ثم يُقدم خبرته الشخصية في سعيه وراء مباهج العالم [2]، ويقدم شهادة العالم نفسه موضحًا أنه ليس شيء صالحًا في ذاته بل لكل شيء زمان، وأخيرًا يُقدم شهادة المجتمع حيث احتل الظلم موضع العدل في المجتمعات بصفة عامة [4].
الأصحاح الأول
شهادة الطبيعة
إذ يوجه الكاتب حديثه إلى كل إنسان تحت الشمس يُقدم براهين لا تقوم على وعود إلهية، يعرفها شعب دون غيره، وإنما يستخدم الطبيعة كلغة جامعية يقرأها الجميع.
- كاتب السفر [1].
- موضوع السفر [2-3].
- شهادة الطبيعة [4-11].
أ. قصر الحياة البشرية [4].
ب. تغيُّر طبيعة كل الكائنات [5-7].
ج. عدم الشبع [8].
د. ليس من جديد في الخليقة [9-10].
هـ. النسيان سمة كل العصور [11].
- بطلان الحكمة البشرية [12-18].
- كاتب السفر:
“كلام الجامعة (كوهيليث) ابن داود الملك في أورشليم [1].
أنه سليمان؛ وإن كان لم يعرِّف نفسه بالاسم، لكنه هو ابن داود، الملك في أورشليم، الذي بسبب غناه وحكمته واهتمامه على مستوى العالم في ذلك الحين صارت له فرصة كبيرة لاختبار الحياة الزمنية، وتقديم هذه الخبرة لكل البشرية. ويلاحظ هنا[26]:
أ. أخفى اسمه “سليمان”، والذي يعني “سلامًا”، لأن الخطية قد حطمت سلامه الداخلي، وجلبت المتاعب لنفسه ولمملكته، كما حطمت سلامه مع الله، فلم يعد يستحق هذا الاسم. كأنه يقول: “لا تدعوني رجل سلام بل دعوني مُرًا” (را 1: 20).
ب. دعي نفسه “الجامعة”، لأن الله قد جمعه خلال التوبة إلى قطيعه المقدَّس بعد انحرافه كخروف ضال، الآن يرده عن التيه إلى الكنيسة المقدسة خلال المصالحة مع الله. أو لأنه يُقدم خبرته وحكمته العملية للبشرية، كي يرجع الكل إلى الكنيسة الجامعة. أما استخدامه “التأنيث” [الجامعة]، فربما توبيخًا لنفسه إذ تعلق بنساء غريبات، وبسببهن انحرف إلى العبادة الوثنية.
ج. يذكر أبوّة داود له لتوبيخ نفسه. أنه ابن ذاك القدِّيس العظيم صاحب المزامير قد تاه وانحرف. وربما أيضًا ليبعث في نفسه الرجاء، فقد سقط أبوه داود وقام، وبقيامه من الخطية حث الكثيرين على التوبة.
د. “الملك في أورشليم”، فقد أخطأ في حق الله الذي أقامه ملكًا، ولم يدعه معوزًا شيئًا. ومما يُضاعف خطيته أنه ملك على مدينة الله المقدسة أورشليم.
- موضوع السفر:
“باطل الأباطيل قال الجامعة.
باطل الأباطيل الكل باطل.
ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟” [2-3].
كلمة “باطل” في العبرية hebel معناها أساسًا “نسمة” (إش 57: 13) أو “بخار”، كأن العالم كله خارج الله يشبه نسمة تخرج من أنف الإنسان أو بخارًا يخرج من فمه في يوم بارد، لا يعود يقتنيه أو ينشغل به، لأنه سرعان ما يتبدد في الهواء.
أنه يعني بكلمة باطل أن العالم زمني عابر وأنه بلا جدوى على المدى الأبدي. هنا لا يُقدم لنا راهب متوحد خبرته وأفكاره، وإنما ملك غني ذو جاه وله خبرات في كل جوانب الحياة في ذلك الوقت… حديث واقعي وعملي.
لقد أكد الكاتب في أكثر من موضع أن كل ما في العالم هو صالح ونافع بكونه عطية الله، لكن إساءة الإنسان استخدامه جعله باطلاً، إذ صار الذهن نفسه باطلاً” (أف 4: 17).
أنه لا يدفعنا إلى روح اليأس، لكنه يُطالبنا ألاَّ تُمتص أفكارنا في الأرضيات والزمنيات، وإلاَّ تكون هدفًا لنا في عبادتنا. بعبارة أخرى، الحياة من جميع جوانبها لا معنى لها ولا فائدة منها، سطحية وفانية، ما لم ترتبط بالله بحق، عندئذ فقط إذ تستند على الله وعلى كلمته تكون ذات قيمة.
v لماذا أنت مقيد بمحبة الأمور الوقتية؟
لماذا تجرى وراء الأمور التي لها المكانة الأخيرة، كأن لها الأولوية مع أنها باطلة وأكذوبة؟ فإنك تُريدها أن تقطن معك وهي عابرة كالظل[27].
القدِّيس أغسطينوس
v يدعو كل ما نراه ونصارع لأجله كحقيقة منظورة “باطلاً”.
ما هو باطل ينقصه “الجوهر”، وما ينقصه “الجوهر” لا يحمل قوة![28].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
v “باطل الأباطيل، الكل باطل”. لنذهب إلى المقابر، أرني أباك، أرني زوجتك، أين ذاك الذي كان يرتدي ثيابًا مذّهبة؟ ذاك الذي كان يركب المركبة؟ ذاك الذي كانت له جيوش، والذي كانت له منطقة؟ وكان له مذيعون؟ ذاك الذي قتل هؤلاء وألقى بأولئك في السجن؟ الذي كان يميت من يشاء ويعفو عمن يشاء؟ إنني لست أرى إلاَّ عظامًا ودودًا وأنسجة عنكبوت، هذه كلها تراب ووهن وحلم وظل وعلاقة مجردة (واهية) وصورة، بل ولا تصل إلى صورة[29].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
أما غاية تأكيد بطلان هذا العالم فهو تدريب القلب لا على كراهية العالم بل بالأحرى على حب السماء والتمتع بالله الكلمة بكونه الأبدي المشبع للنفس:
v “الكل باطل، قال الجامعة”، كل ما في هذا العالم. لهذا من يرغب في الخلاص فليرتفع فوق العالم، وليطلب “الكلمة” الذي مع الله، هاربًا من هذا العالم، وتاركًا الأرض. فإنه لا يستطيع أحد أن يدرك ما هو موجود دائمًا، ما لم يهرب أولاً من هنا. لهذا السبب أيضًا إذ أراد الرب الاقتراب من الله الآب (وهو واحد معه) قال لتلاميذه: “قوموا، ننطلق من ههنا” (يو 14: 31)[30].
القدِّيس أمبروسيوس
v [على لسان السيِّد المسيح، كلمة الله المشبع للنفس]
أنا أبوك، وأخوك، وعريسك، ومنزلك، وثوبك، ومصدرك، وأساسك.
أنا كل ما تشتاق إليه؛ فلا تعتاز إلى شيء.
سأكون خادمك، فقد جئت لكي أخدِم، لا لكي أُخدَم.
أنا صديقك، عضو لك، رأسك، أخوك، أختك، أمك، وكل شيء بالنسبة لك… فقط كن صديقًا ليّ…
ماذا تطلب بعد؟
لماذا تصدّ ذاك الذي يُحبك؟
لماذا تتعب من أجل هذا العالم؟
لماذا تسحب ماءً بإناء راشح، لأن هكذا هو التعب من أجل الحياة الحاضرة؟
لماذا تغزل صوفًا في النار؟
لماذا تُصارع مع الهواء؟
لماذا تركض باطلاً؟
أليس لكل فن غاية؟ هذا واضح للكل؛ أما أنت فبلا هدف. باطل الأباطيل الكل باطل[31].
v لنصدقه ولنتمسك بالأمور التي ليس فيها ما هو باطل، بل ما هو حق؛ ما يتأسس على صخرة صلدة، وحيث لا توجد شيخوخة ولا انحراف، بل يكون كل شيء مزهرًا ومنتعشًا دون فساد أو قِدَم أو انحلال.
أسألكم أن نحب الله بعاطفة صادقة، ليس خوفًا من الجحيم، وإنما رغبة في الملكوت.
ماذا يمكن مقارنته برؤية المسيح؟ بالتأكيد لا شيء!
أية متعة ننالها من هذه الأمور الصالحة؟… “ما لم ترهَ عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبونه” (1 كو 2: 9)[32].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v ليس من صار رفيق الملائكة واستأنس بأسرارهم ولم يرذل رفقة العالم.
v إن تركت مقتنياتك من أجله، تقتنيه في نفسك إلى الأبد[33].
ما أشهى رحيل محبيك إليك أيُها الطبيب، وما أصعب خروج محبي العالم منه، لأن أولئك لميراثهم ينتقلون، وهؤلاء عن الذي لهم يرحلون[34].
v من هو هذا الذي ذاق حلاوة ثمار شجرة الحياة ويُريد أن يجرى نحو ثمار العالم النتنة؟![35].
القدِّيس يوحنا سابا
السؤال الذي أثاره الكثيرون: لماذا يُدعى العالم باطلاً وهو من صُنع الله كلّيْ الصلاح؟ بمعنى آخر: هل يخلق الله الصالح أمرًا بلا نفع؟
يرى الله أن كل ما خلقه “حسن” أو “صالح” (تك 1: 10، 12، 18، 31)؛ لكن الإنسان وقد فسد ذهنه وطبيعته وبصيرته الداخلية أساء النظرة إلى العالم كما أساء استخدامه له، فصار العالم باطلاً.العالم الذي هو من صنع الله صالح، خُلق لأجل الإنسان ليعمل فيه ويبتهج… أما وقد تحطم الإنسان في طبيعته لم يعد يُحقق العالم غايته كخادم له.
v إن كانت (الخليقة) هي أعمال الله، فكيف تكون باطلة؟ إن النزاع في هذا الأمر كبير. ولكن اسمعوا أيها المحبوبين؛ ليست أعمال الله هي التي ندعوها باطلة، حاشا لله! السماء ليست باطلة؛ الأرض ليست باطلة، حاشا! ولا الشمس ولا القمر ولا الكواكب، ولا أجسادنا. كلا! فإن هذه جميعها حسنة جدًا (تك 1: 31).
إذن، ما هو الباطل؟ لنسمع الجامعة نفسه، إذ يقول: “غرست لنفسي كرومًا، اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات، عملت لنفسي برك مياه، وكانت ليّ قنية بقر وغنم، جمعت لنفسي أيضًا فضة وذهبًا، فرأيت هذه كلها باطلة” (راجع جا 2: 4-8). كما يقول: “باطل الأباطيل الكل باطل” (12: 8). اسمع أيضًا ما يقوله النبي: “يذخر ذخائر ولا يدري من يضُمها” (مز 39: 6). مثل هذا باطل، مبانيك الفاخرة، وغناك الزائد جدًا وقطيع العبيد الذي يتدافع في الميدان العام، مجدك الباطل وأُبهتك، أفكارك المتشامخة، وتفاخرك؛ هذه كلها باطلة،فأنها ليست من يدّ الله إنما هي من عملك. ولماذا هي باطلة؟ لأنه ليس لها غاية نافعة[36].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
يُحدثنا القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في مقاله: “لا يقدر أحد أن يؤذي إنسانا ما لم يُؤذِ الإنسان نفسه” عن مفهوم الصلاح في شيء من التوسع، موضحًا أن العالم بكل ما فيه ليس صالحًا في ذاته ولا شريرًا، إنما استخدام الإنسان له يُحوله إلى الصلاح أو الشر. فمن يستخدم المال في الشر، يكون بالنسبة له شرًا، ومن يسند به إخوته المحتاجين يكون بالنسبة له بركة الخ…
أخيرًا يرى القدِّيس أغسطينوس أنه يليق بالمؤمن أن ينقل ممتلكاته الزمنية إلى الحياة الحقة خلال الصدقة، إذ يقول: [يلزم التمسك بالحياة الحقة، فننقل غنانا إلى موضع الحياة الحقة، فنجد هناك ما قدمناه هنا. أنه (الله) يُتمم هذا التحويل لممتلكاتنا ذاك الذي صنع التحول لنفوسنا[37]]. السيِّد المسيح الذي أجلسنا في السمويات ينقل مالنا إلى السماء!
إن كان الإنسان بفساد طبيعته وذهنه وبصيرته الداخلية جعل العالم باطلاً، لكن يبقى الإنسان في عينيّ الله أثمن من العالم كله! “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!” (مت 16: 26). فقد خلق الله العالم لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل العالم. لهذا يليق بالإنسان في جهاده وتعبه سواء في حياته الخاصة أو الأسرية أو العمل أو في عبادته ألاَّ يحوّل نظره عن حياته الداخلية وشبعها بالله نفسه. لهذا يُحذرنا الجامعة من كل جهاد يفقد الإنسان فيه غايته، قائلاً: “ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟!” [3]. تعبنا في حياتنا اليومية وفي عبادتنا لن يقدر أن يُشبع النفس، ويكفّر عن خطيتها، ويشفي جراحاتها، ويُقدسها، ما لم نتكئ على صدر المخلص بالإيمان العملي ونطلب عمل روحه القدُّوس فينا.
v يُحسب بر الإنسان كلا شيء. عمل البشر، ما هو؟ تعبه كله باطل.
منك يارب، وبنعمتك تصير طبيعتنا صالحة. منك البر؛ فنصير نحن البشر أبرارًا. منك الرحمة والنعمة. فنتحول من التراب إلى صورتك.
أعطِ قوة لإرادتنا فلا نغرق في الخطية[38].
القدِّيس مار أفرام السرياني
مادمنا “تحت الشمس“، نخضع للتجارب ونُعاني من حرارتها (مت 20: 12). ولن ننتفع شيئًا من كل تعبنا، أما إن قبلنا شمس البر فينا فيحملنا فوق كل تجربة شريرة، ولا يقدر لهيب الشهوات أن يمس أعماقنا الداخلية. يحملنا شمس البر بروحه القدُّوس لتنعم النفس بعربون المجد الأبدي، فنقول: “أجلَسنا معه في السمويات” (أف 2: 6).
v يُشير بالتعب هنا [3] إلى حياة الجسد التي لا تطلب منافع في أي عمل صالح. إنها تقول: “ما الفائدة للإنسان؟”، أي ماذا تجتني النفس من كل تعب الحياة، وذلك في حياة الذين يعيشون فقط من أجل الكماليَّات[39].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
- شهادة الطبيعة:
يُقدم الجامعة أمثلة واقعية من الطبيعة تؤكد قصر الحياة الزمنية، وطبيعتها المتغيرة، وعجزها عن إشباع القلب، أنه ليس من أمر جديد بحق في الحياة بالرغم من التقدم والتطور، وأخيرًا فإن ما يناله الإنسان حتى من كرامة أو شهوة يُمحيه الزمن بالنسيان.
أ. قصر الحياة البشرية:
“دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد” [4].
يُظهر الجامعة أن فترة استمتاعنا بالأمور الأرضية قصيرة للغاية. فأنه إن كانت الأرض قد خُلقت لأجل الإنسان ولراحته، لكن يعيش الإنسان في جيل ينتهي معه ليحل محله جيل آخر، والأرض باقية حتى انقضاء الدهر.
v يبقى المائت مائتًا سواء كُرِّم أو لم يكرَّم… يقول الجامعة الحكيم: “الأرض قائمة إلى الأبد”، تخدم كل جيل، الجيل الأول فالتالي الذي يولد بعده عليها؛ أما البشر… فأنهم يأتون إلى الحياة بإرادة خالقهم دون أن يعرفوها، ويؤخذون منها قبلما يشتهون ذلك. ومع هذا بالرغم من هذا البطلان الشديد يظنون أنهم سادة الأرض[40].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
ب. تغيُّر طبيعة كل الكائنات:
كل ما في العالم يتغير؛ فالشمس تشرق وتغرب ثم تعود فتشرق… وهكذا لا تتوقف الحركة. يتغير وضع الأرض بالنسبة للشمس فيحدث الشروق والغروب، الأمر الذي يتكرر يوميًا.
هكذا أيضًا الرياح تتحرك في مدارات معينة؛ وأيضًا المياه تتحرك إذ تتبخر فتصير سُحبا، ثم مطرًا، فأنهارًا وتعود إلى البحار والمحيطات لتتبخر من جديد!
تطلعنا إلى الطبيعة وما تحويه من تغيرات تمس كل الكائنات يكشف لنا عن طبيعة العالم أنه غير مستقر بل هو دائم التغيُّر، وبالتالي لن يبقى إلى الأبد. وكأنه لا يليق بالإنسان الذي يحمل في داخله شوقًا طبيعيًا نحو الخلود أن يرتبط بما هو متغير وفانٍ.
وربما أراد الكاتب أن يوضح بأن الإنسان الذي من أجله تتحرك الطبيعة أمامه، الكائنات كالكواكب والرياح والسحب، وهو في عجز؛ ماذا في يده؟!
ولعله أيضًا أراد أن يعلن بأن الطبيعة نفسها تتغير فالشروق يتبعه غروب فشروق الخ… بينما يعجز الإنسان عن التحرك، يولد ثم يموت ولا يقوم بعد على ذات الأرض! ما أعظم الإنسان الذي لأجله وُجد هذا الكون بكل قدراته وقوانينه المعروفة والخفية، وما أضعفه فأنه يصعب عليه أن يُغيّر حتى طبيعته الداخلية؟! عظيم هو الإنسان بالله الذي يهبه كل شيء، وضعيف للغاية في ذاته وحده!
v نرى في الشمس رمزًا لشروق طبيعتنا وغروبها. يوجد طريق واحد للجميع، توجد دائرة واحدة للكل في رحلة الحياة. بالميلاد نشرق، ثم ننحدر ثانية إلى مكاننا الطبيعي. وعندما نبلغ إلى غروب الحياة، ينحدر نورنا إلى أسفل الأرض… ما هو من الأرض يذوب بالكامل في عنصرها، وتستمر الدائرة في طريقها مرة ومرات[41].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
ج. عدم الشبع:
“كل الكلام يقصر.
لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل.
العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع” [8].
هل يمكننا أن نتوقع الشبع لنفس على صورة الله بأمور زمنية فانية ومملوءة تعبًا؟! فإن الطبيعة بكل إمكانياتها لا تقدر أن تُشبع حتى الحواس من نظر أو سمع أو شم، فكيف يمكنها أن تُشبع الحياة الداخلية؟!
v نستيقظ كل يوم لنأكل ونشرب، ومع هذا لا يشبع أحد حتى لا يجوع أو يعطش بعد قليل.
نطلب الربح كل يوم، وليس للطمع حدود!
“العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع”. من يحب الفضة لا تشبعه الفضة.
ليس للتعب حدود، ولا منفعة في الغنى[42].
القدِّيس أمبروسيوس
د. ليس من جديد في الخليقة:
مع ما ناله الجامعة من غنى وملذات متزايدة وشهرة ومجد، أدرك أنه ليس من جديد تحت الشمس. حقًا، تتطور الظروف الخارجية وإمكانيات الإنسان، لكن تبقى طبيعته وأيضًا أحاسيسه ودوافعه كما هي منذ خُلق الإنسان الأول. فما كان يثير غريزة الشاب في القرن الماضي قد يأنف منه الشاب المعاصر لكن تبقى طبيعة الغرائز في حياة الشاب كما هي عبر العصور، وإن اختلف شكل المثير. كل ما هو تحت الشمس لم يتغير، أما الجديد فهو ما فوق الشمس، أي التمتع بالحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع شمس البر، فنسمعه يقول: “ها أنا أصنع كل شيء جديدًا” (رو 21: 5). نقول مع الرسول بولس: “إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة؛ الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا” (2 كو 5: 17).
كثيرًا ما يشعر الإنسان بالحاجة إلى التجديد… يطلب ما هو جديد لمجرد أنه جديد، ويرفض ما هو قديم لمجرد قدمه. هذا الشعور ينبع عن حاجة داخلية تمس كيان طبيعته، لكنه عوض تجديد طبيعته بروح الله القدُّوس يطلب تجديدًا أو تغييرًا خارجيًا، كالموديلات الجديدة، والنظريات الجديدة، والتعبيرات الجديدة، فتجد الإنسان المعاصر يريد لو أمكن أن يجدد كل ما هو حوله، ليس فقط عمله أو بيته أو مدينته أو سيارته بل وأحيانًا الزوج أو الزوجة… يشعر بشيء من الملل فيطلب التجديد!
النفس التي ترتبط بالسيِّد المسيح عريسًا لها يقودها الروح القدس إلى التجديد المستمر في الفكر الداخلي، فلا تشعر بملل أو ضجر، بل تحيا متهللة بالروح كما في السماء، لا تمسها الشيخوخة ولا يصيبها قِدَم.
v بكون الله كاملاً صار إنسانا كاملاً، ودخل بكل ما هو جديد إلى الكمال؛ هذا هو الأمر الجديد الوحيد تحت الشمس، خلاله أعلن غنى قدرة الله الفائقة![43].
الأب يوحنا الدمشقي
هـ. النسيان سمة كل العصور:
“ليس ذِكر للأولين، والآخِرُون أيضًا الذين سيكونون لا يكون لهم ذِكر عند الذين يكونون بعدهم” [11].
يعيش الإنسان مشتاقًا أن يخلد ذكراه أو ذكرى أسرته، لكن العالم ينسى الأولين، أما نحن الآخرون فستنسانا الأجيال القادمة. إذن ما هو نفع الإنسان إن ركّز تعبه في اقتناء غنى العالم أو مجده؟ الغنى يزول، والمجد يُنسى! حتى مجرد الذكرى فالزمن كفيل أن يُحطمها.
- بطلان الحكمة البشرية [12-18]:
قدم الجامعة براهين من واقع الطبيعة عن بطلان العالم من جهة زواله، وعدم استقراره، وعجزه عن إشباع الإنسان الداخلي أو تجديد الطبيعة الإنسانية الفاسدة، موضحًا أن الزمن يُفقد الإنسان حتى شهرته أو مجده الذي بذل كل الجهد لاقتنائه. الآن وهو ملك عظيم لا يعوزه شيء يسعى وراء الحكمة البشرية، فاحصًا بالحكمة ما يدور في العالم لتكون له معرفة وعلم… إذا به يصل إلى خبرة سلبية غير مُشبعة.
أ. “أنا الجامعة كنت ملكًا على إسرائيل في أورشليم.
وجّهتُ قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عُمل تحت السموات” [12-13].
وجه قلبه للسؤال والتفتيش بالحكمة، عوض رفع القلب إلى الله يطلب الحكمة السماوية (يع 1: 5). كان يلزمه الدخول في حوار مع الله الذي وحده يهب الحكمة السماوية البنَّاءة، عوض الحوار مع نفسه خارج دائرة الله، لينال حكمة بشرية عاجزة عن إشباع نفسه… “لأن في كثرة الحكمة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا” [18].
حكمة الله تكشف عن ضعفاتنا، لكنها تهبنا رجاءً، وتقدم لنا إمكانيات للعمل، أما الحكمة الإنسانية، فأنها وإن أظهرت الضعفات لكنها تدخل بنا إلى الغم واليأس: من يُجدد طبيعتي التي اكتشفت فسادها؟ من يقدر أن يُصلح ظروفي الداخلية والخارجية؟ من يُحرك العالم لبنياني؟ يقول الجامعة: “الأعوج لا يمكن أن يقوَّم، والنقص لا يمكن أن يُجبر” [15]... شعور مرّ بالعجز الكامل عن الإصلاح.
v لا يقدر الإنسان العنيد أن يصير فاضلاً (بحكمته)، ولا الفاسد أن يصير مُعتبرًا… يمكن أيضًا أن نفهم العبارة [15] هكذا: يوجد في هذا العالم شر عظيم هكذا، حتى أنه من الصعب العودة إلى الحالة الأصلية من الإصلاح. إنه ليس بالأمر السهل العودة إلى ما كان علية (الإنسان) في خلقته الأولى من كمال ونظام، إنما بالندامة يمكن إعادة الاستقامة إلى كل شيء، لكن يبقى الشيطان مقاومًا في خطئه[44].
القدِّيس جيروم
هنا يليق بنا التمييز بين الالتجاء إلى الحكمة البشرية وحدها، والاتكال على الخبرة الإنسانية المجردة، وبين تقدِّيس الفكر الإنساني والخبرات البشرية بعمل الله. لهذا لا نعجب إن رأينا القدِّيس أكليمنضسالإسكندري يؤمن بأنه لا عداوة بين الإيمان والفلسفة، فالأخيرة ليست عملاً من أعمال الظلمة كما يظن البعض، إنما هي تحمل حقًا جزئيًا، يحتاج إلى الكمال والتنقية من كل ما دخل إليه من شوائب خلال عمل الإيمان[45]. أما الآباء الذين هاجموا الحكمة الإنسانية إنما هاجموا الاتكال عليها خارج دائرة الله.
v في ظني كلّ إنسان عاقل يُفكر بأن العلم هو الأمر الرئيسي من بين كل ما هو حسن… علينا أن نحتفظ بما يمكنه أن يساعدنا على التأمل في الحق، متجنبين كل ما يؤدي إلى الشر والخطأ والهلاك[46].
v من الضروري أن نستعمل التمييز في التربية بطريقة نختار فيها العلم المفيد ونتجنب كل ما هو ضرر وشؤم[47].
v علينا أن نبتدئ بقراءة الفكر الدنيوي لنرتفع بعده إلى المقدسات وأسرار الإيمان… فإذا كان هناك موافقة بين هذه الثقافة وعقائدنا، كانت معرفتها من الإفادة بمكان كبير، وإلاَّ فالمقارنة في الحالة العكسية من شأنها أن تثبت اعتقاداتنا الصحيحة[48].
القدِّيس باسيليوس الكبير
لنطلب الحكمة التي تمتزج بالاتضاع والتي تتفق مع روح الإيمان، أما الحكمة النابعة عن كبرياء الإنسان واعتداده بذاته واعتزاله خالقه فهي عائق… يدعوها الآباء “حكمة هذا العالم”.
v ليس من هو حكيم بالمعرفة إلاَّ الذي رفع عنه حكمة هذا العالم[49].
v حقِّر حكمتك وأرذلها، لتحل فيك حكمة الرب.
القدِّيس يوحنا سابا
ب. إن كان الله قد منح الإنسان اشتياقًا لطلب الحكمة وبحث كل الأشياء، فإن هذه الحكمة قد كشفت للجامعة أن الحياة التي قدمها له الله هي عناء رديء [13]؛ إذ يتساءل الكثيرون: لماذا أوجدنا الله في عالم مملوء شقاءً؟
لم يخلقنا الله لنعيش في عالم الشقاء والعناء، لكن إساءة استخدام العالم وإساءة النظرة إليه أفسدت حياتنا وشوهت صورة العالم في أعيننا.
“رأيت كل الأعمال التي عُملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض (انقباض) الريح” [14].
ماذا يعني “قبض الريح”؟ يُترجمها البعض “يُصارع مع الريح” أو “يقتات بالريح”، أي أن التقوُّت بالطعام ليس بذي قيمة كالريح، أو أن النفس في جوعها تمسك بكل ما هو حولها في العالم لتأكله، فإذا بها تأكل ريحًا، هذا يُشير إلى فقدان هدف الأنشطة البشرية وعُقْمها وعجزها عن تقديم شبعًا حقيقيًا داخل الإنسان أو إصلاحًا وعلاجًا داخليًا. ويرى القدِّيس أغسطينوس[50] أن انقباض الريح يُشير إلى الكبرياء الباطل الذي يسقط فيه الإنسان بطلبه الأمور الوقتية.
هذا ما بلغ إليه الجامعة خلال الحكمة والمعرفة التي نالها كملك إسرائيل، وقد اعتادت الشعوب المجاورة أن تقول: “هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن” (تث 4: 6). وقد عُرف سليمان بالحكمة، إذ يقول: “أنا ناجيت قلبي قائلاً: ها أنا قد عظُمت ازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلّي على أورشليم، وقد رأى قلبي كثيرًا من الحكمة والمعرفة” [16].
ج. يُقدم لنا الجامعة خبرته وهو يسعى وراء الحكمة والعلم والمعرفة، أعظم ما في العالم، “لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا” [18]. هنا لا يُهاجم الحكمة أو العلم إنما يعلن عن عجزهما عن تحقيق السعادة والفرح للإنسان. فبالحكمة والعلم كما سبق فقلنا يكتشف الإنسان حاجته إلى أمور كثيرة يعجز عن بلوغها فيمتلئ حزنًا. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [كلما اشتقت إلى الكثير ولا أجده هنا، أما يزداد بالأكثر حزني لأجله حتى يتحقق؟ أما أبكي بالأكثر حتى يتم ما أطلبه؟![51]]. كما يقول: [بنواله هذه المعرفة يقتني حزنًا أيضًا. وذلك لعجزه عن تحقيق الرغبة في بلوغ وطنه اللائق، وخالقه، وإلهه المبارك[52]]. ويقول القديس غريغوريوس النزيانزي: [يقول سليمان: قلت أكون حكيمًا، لكن (الحكمة) كانت بعيدة عني كل البعد. بالحق من يزداد معرفة يزداد غمًا. فإن الفرح الذي ينبع عما نكتشفه ليس بأعظم من الألم بسبب ما (لا نناله بل) يهرب منا؛ إنه ألم أتخيله كذاك الذي يشعر به الذين يُسحبون من المياه وهم ظمأى، أو الذين يعجزون عن بلوغ ما يظنونه ممسكين به، أو كمن يُترك فجأة في ظلمة بسبب انبعاث نور مبرق سريع[53]].
هذا هو عمل الحكمة أعظم ما نقتنيه هنا، فماذا تكون بقية أمور العالم؟ إننا في حاجة إلى “حكمة الله” الذي وحده يقدر أن يشبع النفس، لا إلى الحكمة الزمنية الأرضية.
“نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سرّ، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا” (1 كو 2: 6-7).
“ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله، وبرًا وقداسةً وفداءً” (1 كو 1: 30).
إذن لنقتني مسيحنا في داخلنا، هو الحكمة الحق، وهو وحده القادر أن يُخلص نفوسنا ويشبعها وينميها ويمجّدها!
سفر الجامعة: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12
تفسير سفر الجامعة: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12