موضوع الصلاة

للعلامة أوريجانوس

قد عرضنا ـ فيما سبق – عرضا يسيرا للفـوائد التي عادت على القديسين بفضل ممارسة الصلاة ، ويمكنا الآن أن نتأمل قول الكتاب اطلبوا الأمور العظيمة ( ما فوق ) أما الأشياء الصغيرة فتزاد لكم ، أو اطلبوا السماويات ( ملكوت الله وبره ) اما الأرضيات ( وهذه كلها ) تزاد لكم.

کل بر شکلی ورمزی انما هو صغير وارضي اذا ما قورن بالصـلاح الحقيقي والروحي. ولهذا تدعونا كلمة الله أن ننسج على منوال صلوات القديسين حتى نطلب ونلتمس النعم الحقيقية التي حصلوا عليها بطريقة رمزية، كما تبين لنا بطريقة حاسمة ان السماويات والأمور العظيمة انما تبرز قيمتها وتمتاز اذا قيست بالأمور الأرضية الصغيرة . وكأنه يقول لنا بعبارة أخرى : اذا اردت ان تكون روحيا فاطلب في صلواتك السماويات والأمور العظيمة وعندما تتلقى عطايا السماء ترث ملكوت السموات باعتبارها العطية العظمى ، كما تتمتع بأعظم البركات . وفي نفس الوقت ، يعطيك الآب – بالقياس المناسب ـ الأشياء التي تحتاج اليها مما هو ارضى وصغير لأن اجسادكم تحتاج اليها. 

أنواع الصلاة :

عندما يتحدث معلمنا بولس الرسول الى تلميذه تيموثاوس في رسالته الأولى عن الصلاة ، يستخدم أربعة الفاظ وثيقة الصلة بموضوع الصلاة ؛ ولهذا يحسن بنا ان نأخذ هذا النص ونتأمله بتدقيق حتى نتفهمه فهما واعيا ونبلغ أغوار معانيه الدقيقة فندرك المقصود من كل لفظ من الفاظه الأربع . يقول الرسول : أطلب اول كل شيء ان تقام طلبات وصلوات وابتهـالات وتشكرات لأجل جميع الناس… الخ. وازاء هذا التقسيم اعتقد ان الطلبات هي الصلوات التي يقدمها الانسان ليعبر عن احتياجه الى شيء ما فيلتمس الحصول على هذا الشيء ، أما الصلوات فتقدم مشفوعة بالتسبيح لله لأن صاحبها يطلب ما يليق بالتقوى من الأمور السمائية العليا ، والابتهالات فهو التماس النعمة من الله ويقدمها الانسان بوازع من يقينه العميق في مراحم الله الصادقة ، اما الشكر فهي الصلاة التي يلهج فيها الانسان بالنعم التي انسكبت عليه من الله، سواء لأن الشاكر يعترف بقيمة العطية التي منحت له وعظمتها ، او لأنه قد حصل عليها وادرك قيمتها فيمجد الواهب العظيم.

الطلبـة :

ومن امثلة الطلبات ما أشار اليه غبريال الملاك في حديثه مع زكريا الكاهن ، مما يوحي بأن زكريا كان يطلب من أجل ميلاد يوحنا لأن الملاك يقول : لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامراتك اليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا. ومثال آخر نقرأه في سفر الخروج بعد أن سقط الشعب في عبادة العجل الذهبي، فتضرع موسى امام الرب الهه وقال : لماذا يارب يحمى غضبك على شعبك الذي أخرجته من ارض مصر بقـوة عظيمة ثم يقول عن ذلك في سفر التثنية : ثم ( سقطت ) قدمت طلبات امام الرب كالأول أربعين نهارا واربعين ليلة لا أكل خبزا ولا أشرب ماء من اجل كل خطاياكم التي اخطأتم بها. وفي المثال الذي يحدثنا عنه سفر استير ، نقرأ : فاما مردخای فتضرع الى الرب متذكرا جميع اعماله وقال : اللهم أيها الرب الملك القادر على الكل… وكذلك استير ايضا تضرعت الى الرب اله اسرائيل وقالت : أيها الرب الذي هو وحده ملكنا.

الصـلاة :

وفيما يختص بهذا النوع الثاني ، انظر ما جاء في سفر دانيال : ووقف عزريا وصلى هكذا وفتح فاه في وسط النار وقال…. ومثال آخـر نراه في سفر طوبيا اذ يقول : وبدأت اصلی بدموع قائلا : عادل انت ايها الرب وكل أعمالك مستقيمة وطرقك كلها رحمة وحق وأحكامك حق وعادلة الى الأبد وحيث ان النص الأول الذي اقتبسناه من سفر دانيال لا يقبله البعض على اساس انه غير موجود في النص العبري ، والذين من الختان. يرفضون سفر طوبيا ولا يعتبرونه من الأسفار القانونية ، فسوف انقـل اليك النص التالي من سفر الملوك الأول ( صموئيل الأول ) : فصلت الى الرب وبكت بكاء ونذرت نذرا وقالت : يارب الجنود ان نظرت نظرا الى مذلة امتك .. الخ . وفي سفر حبقوق نقرا صلاته التي كان ينشدها : بارب قد سمعت صوتك فجزعت . يارب تأملت في اعمالك فتعجبت ، وسط الحيوانين تعرف وعند اقتراب السنين تتميز. وهذا المثال يعطينا ايضاحا كافيا لهذا النوع من الصلاة من حيث أنها تقترن بتسبيح الله. ويؤيد هذا ايضا ما ورد في سفر یونان : فصلی یونان الى الرب الهه من جوف الحوت وقال : دعوت من ضيقى الرب فاستجابني ، صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتی . لأنك طرحتني في العمق في قلب البحر فأحاط بي الغمر.

الابتهـال :

 اما عن النوع الثالث ، فالرسول وان كان ينسب الينا بحق ممارسة الصلاة ، فمن ناحية أخرى نجده يعزو الابتهال الى الروح القدس ، لأنه أكثر رفعة وسموا من الانسان بما لا يقاس ، ولأن لديه الثقة الوطيدة التي لا تنزع في شخص الآب الذي يتقدم اليه . ولهذا يقول الرسول : لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يبتهل بقوة لأجلنا ( يشفع فينا) بأنات لا ينطق بها. ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح ، لأنه بحسب مشيئة الله يبتهل من اجل ( يشفع في ) القديسين. فالروح اذا يسأل ويبتهل ( يشفع ) اما نحن فنصلی . ويبدو لي ان كلمات يشوع وهو يأمر الشمس بالوقوف فوق جبعون ، انما كانت صلاة ابتهال : حينئذ كلم يشوع الرب يوم أسلم الرب الأموريين امام بني اسرائيل عنـدما كسرهم الرب في جبعون فانكسروا امام عيون بنی اسرائيل وقال يشوع : فلتقف الشمس فوق جبعون والقمر فوق وادي عيلوم. وفي سـفر القضاة أيضا قدم شمشون ابتهاله وشفاعته ـ فيما اعتقد ـ حين صرح قائلا : لتمت نفسى مع الأجانب ( الفلسطينيين ) وانحنى بقوته فسقط البيت على الأقطاب و الرؤساء وسائر الشعب الذي كان فيه.

وحتى ان لم يذكر النص صراحة أن يشوع وشمشون تشفعا أو ابتهلا ، فيمكنا بسهولة أن تستخلص من النص ما يفيد ذلك . فالكلمات التي قالها كل منهما تدل على الابتهال ، وهذا يؤدي بنا بدوره الى التمييز بين الشفاعة والابتهال من جهة وبين الصلاة من جهة أخرى فمن الضروري لنا ان نعطى مثل هذه العبارات تعريفها الصحيح ومدلولها الدقيق.

الشـكر :

ومن أبرز الأمثلة على صلوات الشكر ما جاء على لسان السيد نفسه : اعترف لك ايها الآب رب السماء والأرض ، لأنك اخفيت هذه عن الحكماء واعلنتها للاطفال وكلمة « اعترف » هنا تؤدي نفس المعنى الذي يقصد من تقديم الشكر.

ولعلنا لا نجانب الحق اذا توجهنا بالطلبة والابتهال والشكر للقديسين ايضا ، بل وفي كثير من الأحيان قد نقدم النوعين الأخيرين ( الابتهال والشكر ) لا للقديسين وحدهم بل كذلك نقدمهما لغيرهم من البشر . أما الطلبة فنقدمها للقديسين فقط اذا وجدنا بولس آخر أو بطرس آخر ، حتى يمدنا هذا القديس بمعونته في جهادنا حتى نصبح جديرين بالحصول على النعمة والقوة التي منحت لهم مثل سلطان مغفرة الخطايا . ومن ناحية أخرى فقد نخطىء في حق انسان ما ـ حتى ولو لم يكن قديسا فاذا ادركنا الأذى الذي حاق به من جراء ظلمنا له ، فقد نضرع اليه حتى يغفر لنا اساءتنا .

واذا كان من الحق أن نتقدم هكذا الى القديسين ، فكم بالأولى ينبغى أن نشكر المسيح مخلصنا الذي أسبغ علينا كل هذه العطايا والنعم بمشيئة الله الآب. وفي المسيح أيضا نستطيع ان نبتهل ونتشفع كما فعل اسطفانوس: يارب لا تقم لهم هذه الخطية، ونتمثل بصلاة ذلك الآب التوسلية الذي طلب من أجل ابنه المجنون : يا سيد اطلب اليك ارحم ابني او ارحمني أنا او ارحم ای انسان آخر .

زر الذهاب إلى الأعلى