تفسير سفر إشعياء ٣٠ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثلاثون

الاتكال على فرعون

في الأصحاح السابق طالبهم الرب أن يرجعوا إليه في هدوء وطمأنينة، ويثقوا في خلاصه، عوض الاتكال على الذراع البشري والحكمة الإنسانية المجردة والإمكانيات الزمنية (إش 29: 15). الآن يحذرهم من الاتكال على فرعون متجاهلين عنصر “عمل الله”، معلنًا لهم أن مشورتهم البشرية تؤول إلى خزيهم فينهاروا، لكنه يبقى الله منتظرًا الفرصة ليعلن رحمته ويرعب آشور الذي أرعبهم كأنه يكشف خيانة يهوذا مع أمانة الله وحبه نحوهم.

يرى بعض المفسرين أن الحديث هنا موجه إلى آفرايم حيث ورد في (2 مل 17: 4) عن معاهدة تمت بين هوشع بن إيلة ملك إسرائيل (آفرايم) وسوا ملك مصر مع ثورته ضد آشور ورفضه دفع الجزية له، أكثر منه وجود معاهدة بين يهوذا ومصر… لكن بقية الحديث موجه إلى يهوذا وأورشليم أنه حديث إلهي موجه ضد كل إنسان يتجاهل الله متكلاً على ذراع بشرية.

  1. تحذير من الاتكال على فرعون             [1-7].
  2. تأديبات بسبب احتقار وصية الله [8-17].
  3. مراحم الله نحو شعبه التائب                [18-26].
  4. غضب الله على آشور                      [27-33].
  5. تحذير من الاتكال على فرعون:

ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى أنهم يجرون رأيًا وليس مني، ويسكبون سكيبًا وليس بروحي، ليزيدوا خطيئة على خطيئة، الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمي ليلتجئوا إلى حصن فرعون ويحتموا بظل مصر[1-2].

يلاحظ هنا في الويل الرابع الآتي:

أ. يدعوهم أبناء متمردين، لأنهم رفضوا مشورة الله أبيهم ولم يثقوا فيه إنما حسبوا فرعون أباهم الذي ينقذهم. بنوتنا لله ليست كلامًا ولا عواطف مجردة لكنها التقاء معه واتكال عليه ودخول معه في علاقات عميقة عملية؛ هذه البنوة تديننا إن لم نسلك كما يليق بها.

ب. لقد أروا رأيًا [1] أي تشاوروا فيما بينهم ولم يطلبوا مشورة الله ولا سألوا رجاله المخلصين.

ج. “يسكبون سكيبًا” أو “يغطون غطاءً وليس بروحي[1]، بمعنى أنهم أرادوا أن يغطوا على مشورتهم ويخفون عني ما يفعلونه (إش 29: 15-16)، فحرموا أنفسهم من قيادة روحي القدوس.

د. “ليزيدوا خطيئة على خطيئة[1 هكذا كانوا ينحدرون في سلسلة من الخطايا، بدأت بالتمرد على أبيهم السماوي، إذ حسبوه عاجزًا عن حمايتهم، ثم تشاوروا متجاهلين مشورته، ثم حاولوا إخفاء تصرفاتهم الخ…

هـ. “الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمي” [2]؛ فقد بعثوا رسلاً إلى فرعون للتحالف معه… نزلوا إلى مصر، ولم يقبلوا الله الذي يرفعهم إليه، قبلوا النزول عوض الصعود، أو الانحدار عوض الارتفاع نحو السمويات.

أولاد الله يقبلون الانحدار والنزول كما إلى محبة العالم (مصر) إنما يمارسون النمو الدائم ليصعدوا كل يوم نحو الحياة السماوية، قائلين: “هلم نصعد إلى جبل الرب” (مى 4: 2).

و. يُعتبر الحصن الفرعوني لهم خجلاً وحماية مصر ظلاً مخزيًا [3]. لقد بلغ رسلهم إلى صوعن وحانيس يطلبون العون والمشورة فنالوا خجلاً وخزيًا.

صوعن عاصمة مصر العليا، على الضفة الشرقية من الدلتا وعلى فرع النيل الطافي، حصنها الملوك وجعلوها عاصمة تراقب الهجمات القادمة من الشرق على مصر. في هذه المدينة تمت المفاوضات بين موسى وفرعون (مز 78: 12، 43)، احتلها الآشوريون فيما بعد، ودعاها اليونان “تانيس”، حاليًا تُدعى “صا الحجر”.

حانيس، تبعد نحو 50 ميلاً جنوب ممفيس على الضفة الغربية للنيل، وهي لا تزال معروفة بأهناس، أي أهناسيا، وكانت معروفة في العصر اليوناني الروماني بهيراكليوبوليس العظمى[322].

يشبه النبي الرسل القادمين من يهوذا إلى مصر ببهيموث Behemoth (بهائم الجنوب: [6])، يقصد نوعًا من التماسيح المصرية hippopotamus. جاءوا يطلبون النجدة من بلد مملوءة شدائدًا وضيقات غير قادرة على إنقاذ نفسها، مملوءة بالأسود والأفاعي والثعابين السامة الطيارة، جاءوا يحملون خيراتهم على الحمير والجمال كهدايا لفرعون ورجاله العاجزين عن حمايتهم. جاءوا للأمان في منطقة متاعب ومخاطر قاتلة.

يدعو مصر باسم شعري رمزي “رهب الجلوس[7]؛ يُقصد برهب “الرحب” أو “المتسع” أو “العظيم” أو “المتكبر”، فقد تكبرت مصر وتعجرفت مقدمة وعودًا جميلة لكن غير واقعية، وعوض أن تقوم لتعين مملكة يهوذا وتسندها “جلست” تراقب يهوذا وهي تُسبى إلى بابل.

هكذا يُحذر إشعياء النبي مملكة يهوذا التي أُصيبت بالغباء والعمى حيث لجأت إلى مصر المتكبرة تطلب حمايتها.

  1. تأديبات بسبب احتقار وصية الرب:

طلب الله من إشعياء النبي أن يكتب تحذيرًا لشعب يهوذا على لوح كبير يراه الكل في مكان عام، وأيضًا أن يُسجل ذلك في كتاب ليبقى أبديًا [8]. ربما كتب على اللوح “رهب الجلوس” ليحذرهم من الاتكال على فرعون (مصر) الجالس متفرجًا، أما في السفر فكُتب عن خطايا يهوذا والنبوات والرؤى التي وهبه الله إياها.

أما خطية يهوذا الرئيسية فهي أنهم شعب متمرد يرفض شريعة الرب ويتقبل كلمات الأنبياء الكاذبة. كانت الشريعة بالنسبة لهم مُرّة وقاسية، لأنها تفضح خطاياهم وتطالبهم بالطريق الإلهي الضيق لذلك قالوا للأنبياء الرائين ألا يروا ولا ينظروا المسيقيمات إنما طلبوا كلمات الأنبياء الكذبة المخادعة التي دعاها هنا “الناعمات” “المخادعات” [10] التي تهب طمأنينة مؤقتة للنفس خلال تجاهل الخطية وتهدئة الضمائر. بهذا رفضوا اعتراض الأنبياء طريقهم، وطلبوا عزل قدوس إسرائيل من أمامهم [11].

أما ثمار العصيان ورفض الأنبياء الحقيقيين وقدوس إسرائيل فهي إنهم صاروا كحائط مرتفع يتصدع ويسقط ويتهشم في لحظة [13]، كما يشبهون إناءً خزفيًا يسقط ليُسحق تمامًا بلا شفقة فلا يبقى فيه جزء يصلح لكي يستخدم لسحب نار من موقد أو غرف ماء من جب… هكذا لا يصلح في شيء قط سوى أن يُجمع ليُلقى في مزبلة…

يصّور النبي هلاك مملكة يهوذا بسبب رفضهم مشورة الرب القائل: “بالرجوع والسكون تخلصون، بالهدوء والطمأنينة قوتكم[15 أي أن سّر خلاصكم يكون في توبتكم ورجوعكم إلى الله مع السكون والهدوء بثقة؛ هذه هي القوة الحقيقية. لكنهم رفضوا التوبة مع الإيمان بالله إذ قالوا: “لا بل على الخيل نهرب… لذلك يسرع طاردوكم[16]، أي اتكلوا على الإمكانيات البشرية، خاصة على خيول مصر ومركباتها، وظنوا أنها قادرة على إنقاذهم سريعًا فإذا بالعدو يطاردهم بسرعة أعظم ويلحق بهم. بل ما هو أمرّ أنهم يهربون أمام لا شيء، فجندي واحد من الأعداء يرعب ألفًا من رجال بني يهوذا، وخمسة جنود يرعب جيش يهوذا كله، يتركون أسلحتهم ويهربون في مذلة ليصيروا أشبه بشجرة واحدة أو سارية على جبل أو كراية أو علامة على تل؛ يصيرون عبرة لكل الأجيال.

عندما رجع حزقيا الملك إلى الله (2 مل 30) واتجه نحو الحائط وهو على سرير الموت رفع ذهنه إلى السموات وغلب الموت منتصرًا.

  1. مراحم الله نحو شعبه التائب:

ولذلك ينتظر الرب ليترأف عليكم، ولذلك يقوم ليرحمكم لأن الرب إله حق؛ طوبى لجميع منتظريه” [8].

يتوقع إشعياء النبي منهم أن يرجعوا إلى الله ويتركوا اتكالهم على الذراع البشري منتظرين الرب كمخلص لهم، لكن العجيب أنه ليس إشعياء الذي ينتظر هذا وإنما الرب نفسه المبادر بالحب هو منتظر عودتهم، مشتاق إليهم كي يترآف عليهم ويرحمهم بكونه إله حق محب لخليقته. في حبه ينتظر أن يسكب فيض نعمته على ابنه الضال الراجع إليه (لو 15).

انتظار الرب أيضًا يعني خطته المقبلة نحو خلاص الكثيرين، والتي تتركز في النقاط التالية:

أ. سكنى شعبه في أورشليم: “لأن الشعب في صهيون يسكن في أورشليم[19]؛ أي يدخل بهم إلى كنيسة العهد الجديد حيث سلام الله الذي يفوق كل عقل (“أورشليم” معناها “موضع السلام”).

أورشليم أيضًا تُشير إلى السماء، أورشليم العليا أُمّنا (غل 4: 26)، وكأن خلاصنا يكمن في سحب الله شعبه إلى الحياة السماوية.

ب. انتزاع الحزن والبكاء: “لا تبكي بكاءً[19]، بكون الكنيسة صورة للسماء التي ليس فيها حزن ولا ألم… (رؤ 21: 4). هنا لا يقصد البكاء الخارجي إنما فقدان الفرح الداخلي… فالكنيسة تشارك عريسها آلامه التي لا تنفصل عن بهجة قيامته. بمعنى آخر الكنيسة هي ملكوت المسيح الذي يحمل سمة الصليب غير المنفصل عن القيامة.

يليق بنا أن نميز هنا بين الحزن حسـب مشيئة الله وبين القنوط أو فقدان التعزية

والسلام. الحزن حسب مشيئة الله فضيلة روحية تُرافقها تعزيات الله وسلامه الفائق للعقل أما القنوط فرذيلة تكشف عن حالة يأس وعدم رجاء، تحطم حياة الإنسان وأرادته. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنها لا تُهاجم الجسد فحسب وإنما أيضًا النفس ذاتها… إنها قاتلة على الدوام تستنزف قوة النفس[323]“. لقد شجع الشماسة أوليمبياس أن تتغلب على القنوط بكونه طاغية مهبط للهمم[324].

ج. استجابة سريعة للصلوات: “يتراءف عليك عند صوت صراخك، حينما يسمع يستجيب لكِ[19]؛ هو يسمح بالضيق والشدة لكنه يسمع الصرخات فيُعطي خبزًا وماءً ولا يترك الإنسان في عوز [20].

د. إن كان الرب نفسه يصير معلمًا (يو 2: 23) وروحه القدوس قائدًا ومعزيًا للكنيسة فإن إحدى بركات الرب أنه يهب روح التعليم الصادق والإرشاد ومعزيًا للكنيسة فإن إحدى بركات الرب أنه يهب روح التعليم الصادق والإرشاد الروحي المستقيم بلا انحراف؛ “لا يختبئ معلموك بعد بل تكون عيناك تريان معلميك، وأذناك تسمعان كلمة خلفك قائلة: هذه هي الطريق اسلكوا فيها حينما تميلون إلى اليمين وحينما تميلون إلى اليسار” [21].

التعليم والمعرفة هما عطية من الله نفسه، الذي يُقدس الأذن لتسمع كلماته وتستجيب لها، ويُقدس الفكر والقلب والاحاسيس ليصير الإنسان بكليته متجاوبًا مع إرادة الله المعلنة خلال كلمته.

بهذا الروح عاشت الكنيسة الأولى تؤمن أن الله وحده قادر أن يرسل الفعلة لحصاده واهبًا إياهم نعمته للنطق بكلمة الحق باستقامة وواهبًا السامعين نعمة للتجاوب معها وادراكها.

هذا أيضًا ما دفع آباء الكنيسة على المثابرة في الصلوات وخلال الحياة المقدسة من أجل التمتع بعطية المعرفة الإلهية.

v   لنحث الله كي يهبنا، كما أن الكلمة تنمو فينا، هكذا نتقبل غنى اتساع الفكر في المسيح يسوع وهكذا نصير قادرين على سماع الكلمات القدسيّة المقدسة[325].

v   كثيرون طلبوا أن يفسروا الكتب الإلهية… لكن لم ينجح الكل في ذلك. فأنه نادرًا ما يوجد ذاك الذي له هذه النعمة من قبل الله[326]

العلامة أوريجانوس

ربما يقصد بالمعلمين المختفين في الكنيسة جماعة الأنبياء، فبمجيء السيد المسيح المعلم الفريد يُنير النبوات وتتكشف أسرار العهد القديم الذي يُشير إلى الخلاص، ويعلن عن شخص المسيا وأعماله الخلاصية ودوره الإلهي في حياة الكنيسة.

هـ. رفض العبادات الوثنية بكل ترفها: “وتنجسون صفائح تماثيل فضتكم المنحوته وغشاء تمثال ذهبكم المسبوك تطرحها مثل فرصة حائض؛ تقول لها أخرجي[22].

إذ كانت أغلب التماثيل من الخشب أو الخزف المغشى بالفضة أو الذهب فإن عمل الخلاص هو فضح الداخل، إذ ينال الإنسان بروح الله قوة ليقول لها “أخرجي”؛ فتخرج من الغلاف الخارجي الذي يخفي حقيقتها أنها تمثل فرصة الحائض النجسة، كما تخرج من قلب المؤمن الذي يستقبل رب المجد يسوع بكونه مقدسًا له.

مسيحنا يحمل من الخارج آلامًا فيبدو “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه” (إش 53: 2) لكنه يهبنا أمجاده الداخلية غير المدركة. أما محبة العالم فتعطى إغراءات خارجية وداخلها نتانة وفساد.

و. نعمة المطر: “ثم يُعطي مطر زرعك الذي تزرع الأرض به وخبز غلة الأرض فيكون دسمًا وسمينًا وترعى ماشيتك في ذلك اليوم في مرعى واسع[23].

كان عصر المسيا في ذهن الأنبياء هو “عصر المطر” أو “عصر المياه الغزيرة”. نذكر على سبيل المثال أن هذا العصر وُصف بأن الله يقدم فيه المطر في حينه (حز 34: 26)، وأن المطر يروي الأرض فتأتي بوفرة الغلال والزراعة ليأكل الإنسان وتجد البهائم مرعى دسمًا [23] الخ…، فلا يوجد جوع أو عطش (إش 31: 9، إش 49: 10). تفيض مياه حية من الهيكل وتأتي بثمار عجيبة وتنمو اشجار كثيرة جدًا (حز 47: 1-12)؛ يخرج ينبوع مفتوح لبيت داود يقطع أصنام الأرض ويزيل الروح النجس (زك 13: 1-2). تفيض ينابيع يهوذا ماءً ويخرج من بيت الرب ينبوع يهب حياة (يؤ 3: 18؛ زك 14: 8)، يفرح مدينة الله مقدس مساكن العلى (مز 46: 4).

في اختصار ارتبط العصر المسياني بالمياه المقدسة، التي تعطى ارتواءً، وتحوّل القفر أرضًا خصبة، تروي المؤمنين كأشجار فردوس الله، تنزع النجاسات وتطهر الأرض من عبادة الأصنام، وتُقدم حياة وتقديسًا… هذه المياه المقدسة هي المعمودية وعطية الروح القدس.

v   لقد انجبت المياه الأولى حياة، لا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة.

العلامة ترتليان[327]

v   إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظون؛ إنكم تشاركون آدم آباكم الأول في نفيه، والآن يفتح الباب (المعمودية كحياة فردوسية) وتعودون من حيث خرجتم.

القديس غريغوريوس النزينزي[328]

هكذا ترتوي النفوس في العصر المسياني كما تشبع الأجساد لا خلال الملذات الزمنية وإنما خلال تقديسها بالرب فيكون لها كل شيء صالحًا ومباركًا وطاهرًا. “والأبقار والحمير (إشارة إلى الجسد) التي تعمل للأرض تأكل علفًا مملحًا مذري بالمنسف والمذراة” [24].

كانت العادة أن يترك للحيوانات التي تعمل للأرض علفًا هو خليط من التبن مع بواقي قليلة من الحبوب، لكنه في العصر الميساني إذ تفيض الخيرات يُقدم للجسد طعامًا مملحًا ومُذري، أي يُنتزع عنه التبن والأتربة الخ… علامة إهتمامنا بالجسد كعنصر صالح مقدس لحساب ملكوت الله.

بمجيء كلمة الله متجسدًا تقدست نظرتنا للجسد، لذلك حرم الرسول يوحنا منكري أن يسوع جاء في الجسد (1 يو 4: 2؛ 2 يو 7)؛ وقاومت الكنيسة الأولى الفكر الغنوسي القائل بأن الجسد عنصر ظلمة يجب تحطمه.

v   ليس الجسد هو مصدر الشر إنما حرية الاختيار (الارادة الحرة) [329].

v   الجسد هو مسكن النفس[330].

v   الجسد هو أداة الروح… العامل في صحبة النفس[331].

v   صار الكلمة جسدًا لكي يُغير جسدنا إلى روح… ولكي يُقدس الجسد كله معه، إذ فيه تقدستي البكور[332]

القديس غريغوريوس النيصي

ويكون على كل جبل عالٍ وعلى كل أكمة مرتفعة سواقٍ ومجاري مياه في يوم المقتلة العظيمة حينما تسقط الأبراج[25]. كأنه حتى الجبال العالية والتلال تجد مياها كافية، ربما يُشير ذلك إلى نعمة الله الغنية التي تفيض ليس فقط على البسطاء والعامة وإنما تجتذب ملوك ورؤساء وقادة وأشراف للإيمان، في اليوم الذي فيه يُقتل جاحدو الإيمان روحيًا هؤلاء الذين سقطوا كأبراج. كان يليق بالقيادات اليهودية أن تكون أبراجًا للعالم ترى مملكة المسيح وتكرز بها لكنها صارت مقاومة للحق فانهارت، الأمر الذي أحزن الرسول بولس.

ز. استنارة عظيمة: “ويكون نور القمر كنور الشمس، ونور الشمس يكون سبعة أضعاف كنور سبعة أيام في يوم يُجبر الرب كسر شعبه ويشفي رض ضربه” [26].

إذ يشفي الرب جراحات النفس والجسد مقدسًا الإنسان بكليته، بجميع طاقاته من غرائز وأحاسيس وعواطف وفكر الخ… يحمل صورة خالقه “النور الحقيقي” فيصير نورًا للعالم، نورًا كاملاً في الرب (سبعة أضعاف علامة الكمال) فيسمع صوت العريس السماوي: “كُلك جميل يا حبيبتي وليس فيكِ عيبة” (نش 4: 7).

  1. غضب الله على آشور:

يرى أغلب الدارسين أن ما ورد هنا هو وصف للخراب الذي حلّ بجيش سنحاريب، وإن كانت آشور بجيشها وقائدها تمثل قوى الظلمة الحاملة العداوة ضد الله بقيادة إبليس نفسه الذي يطلب أن يقتحم كنيسة الرب، أورشليمنا الداخلية، ليتربع في هيكل قلوبنا المقدس.

أ. “هوذا اسم الرب يأتي من بعيد غضبه مشتعل والحريق عظيم، شفتاه ممتلئتان سخطًا ولسانه كنار آكلة، ونفخته كنهر غامر يبلغ إلى الرقبة[27]. “يأتي من بعيد” لأنه أطال أناته على آشور لعله يتراجع عن كبرياء قلبه، وانتظر طويلاً إذ لا يطلب المعاقبة بل رجوع الكل إليه، ولا يزال يأتي اسمه من بعيد مطيلاً أناته على الأشرار لعلهم يتوبوا. وكما يقول الرسول بولس: “أم تستهين بغنى لطفه وإماله وطول أناته غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة” (رو 5: 4).

“أسم الله” حال في حياة الكنيسة، مُعلن في قلب المؤمن، قريب إليه أقرب من نفسه، أما بالنسبة للأشرار فيبدو له بعيدًا جدًا، بل وأحيانًا يظنه غير موجود. هذا الإسم هو برج حصين للمؤمنين (مز 18: 50) وغضب مشتعل وحريق عظيم للمقاومين.

شفتا الرب تقطران دسمًا لأولاده ومملوءتان سخطًا لجاحديه!

لسانه يدعو الكل لخيراته السماوية ويكون كنار آكلة للعصاة.

نفخته تهب عزاء وسلامًا فائقًا للكنيسة، إذ نفخ الرب في وجه تلاميذه ووهبهم روحه القدوس يعمل فيهم لغفران الخطايا (يو 20: 22)؛ أما لرافضي الإيمان فتكون نفخته كنهر غامر يبلغ بهم إلى الرقبة.

يُشبه الأمم بالحصاد الفارغ الذي كله قش بلا حنطة أو بخيول جامحة لا تضبطها اللجم، إذ يقول: “لغربلة الأمم بغربال السوء the sieve of nothingness[28]، فأنهم يغربلون ولا يأتي الغربال بشيء. “وعلى فكوك الشعوب رسن (لجام) مضل[ 28]. توضع اللجم في أفواههم لكنهم لا يسيرون في طريق الحق.

ب. “تكون لكم أغنية كليلة تقديس عيد وفرح قلب كالسائر بالناي ليأتي إلى جبل الرب إلى صخر إسرائيل. ويُسمع الرب جلال صوته ويُرى نزول ذراعه يهيجان غضب ولهيب نار آكلة نوء وسيل وحجارة بَرَد[29-30].

تحول خراب العدو إلى فرح للشعب كما في ليلة فصحية… لعل ما يشغل المؤمنين ليس هلاك العدو – حتى إبليس نفسه وملائكته – إنما انتزاع العوائق فيأتون إلى جبل الرب، إلى السماء عينها متهللين. غايتنا لا الشماتة في عدو الخير وإنما تمتعنا بجلال الرب وسماعنا صوته.

ج. يرى إشعياء في عودة الشعب من السبي إلى أورشليم أشبه بموكب عسكري يدخل بلده بموسيقى عسكرية تعلن عن النصرة؛ “ويكون كل مرور عصا القضاء التي ينزلها الرب عليه بالدفوف والعيدان وبحروب ثائرية يحاربه” [32].

د. يُقدم صورة نهائية عن مدى خراب آشور؛ إذ يصور مكان النار “تفته Tophet“، الموضع الذي كانت البقايا تُحرق فيه خارج أورشليم، قد اُعد ليسع الملك “الإله ملّوخ” فيحترق بغضب الرب [33].

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى