تفسير سفر إشعياء ٣٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس والثلاثون
بركات مملكة المسيح
يعتبر هذا الأصحاح تتمه للأصحاح السابق، فإن كان الله يُدين الأمم المقاومة له في حياة مؤمنيه، إنما يفعل ذلك لأجل بنيان شعبه ونموهم وتمجيدهم، الأمر الذي يتحقق بمجيء المسيا مخلص العالم، الذي بالصليب حطّم قوات الظلمة وفتح باب بركاته الإلهية أمام الراجعين إليه مهما بلغ ضعفهم.
- تحويل البرية إلى فردوس [1-4].
- إشباع احتياجات المؤمنين [5-9].
- مملكة فرح وبهجة [10].
- تحويل البرية إلى فردوس:
يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا إنما يخص حال بنى إسرائيل بعد عودتهم من السبي البابلي، غير أن الكثيرين يرون في ذلك وصفًا لحال كنيسة العهد الجديد المتمتعة بالسيد المسيح رأسًا لها، يسكب مجده وبهاءه فيها. هذا هو رأي أغلب الدارسين من الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت وإن كان اتباع المُلك الألفي يحسبون هذا الأصحاح نبوة عنه لم تتحقق بعد[357].
يستطيع المؤمن الحقيقي الذي يختبر الحياة الجديدة في المسيح يسوع أن يختبر مجد الكنيسة مُعلنًا في حياته الداخلية وهو:
أ. تحويل البرية والأرض اليابسة إلى جنة مثمرة؛ فبدخول الرب إلى القلب وحلول الروح القدس فيه يُنتزع العقم الداخلي وتغرس جنة الرب المثمرة التي تفرح قلب الله [1-2].
v واضح أنه لا يتحدث هنا عن أماكن خارج النفس والحواس، بل يعلن عن أخبار سارة مفرحة خاصة بالنفس الظمآنة. غير المزينة خلال رمز البرية. وكما يقول داود: “صارت نفسي نحوك كأرض يابسة” (مز 143: 6 الترجمة السبعينية). نفسي عطشانة إلى القدير إذ هو الله الحيّ (مز 42: 2).
القديس غريغوريوس النيسي[358]
ب. لعل أهم سمات كنيسة العهد الجديد هو “فرح الرب”، إذ تحيا متهللة مبتهجة داخليًا من أجل عمل الله فيها. هذا الخط واضح في كل سفر إشعياء النبي أن العصر المسياني عصر مفرح بينما لا سلام ولا فرح للأشرار رافضي عمل الله الخلاصي.
“تفرح البرية والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر أزهارًا ويبتهج ابتهاجًا ويرنم” [1-2]. فرح وبهجة وترنم!
v من نظر في ذاته إلى ربنا، وامتزجت نفسه بنوره، فليغل قلبه بالفرح.
الشيخ الروحاني[359]
v كما أن الأشجار إن لم تشرب من الماء لا يمكنها أن تنمو، هكذا النفس إن لم تقبل الفرح السماوي لا يمكنها أن تنمو وتصعد إلى العلاء. أما النفوس التي قبلت الروح والفرح السمائي فهي التي تستطيع الارتفاع إلى العلاء… فقد انكشفت لها أسرار ملكوت السموات وهي بعد في الجسد، ووجدت دالة قدام الله في كل شيء، وكملت لها جميع طلباتها.
v النفس دائمًا تتربى بهذا الفرح وتسعد به، وبه تصعد إلى السماء، فهي كالجسد لها غذاؤها الروحي.
القديس أنطونيوس الكبير[360]
ب. يتجلى مجد الرب وبهاؤه في القلب كعربون للمجد الأبدي السماوي. “يدفع إليه مجد لبنان… هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا” [2].
يتحدث القديس مقاريوس الكبير عن هذا المجد الخفي الذي يملأ حياة المؤمن ليعلن في يوم الرب العظيم، قائلاً:
[بتجديد العقل (رو 12: 3) وسلام الأفكار (في 4: 7) ومحبة الرب السماوية (أف 3: 19) تتميز خلقة المسيحيين الجديدة (2 كو 5: 17) عن باقي البشر… كل أحد بقدر ما يُحسب أهلاً لشركة الروح القدس بالإيمان والاجتهاد بقدر ذلك يتمجد جسده في ذلك اليوم، لأن كل ما خزنته النفس في داخلها في هذه الحياة الحاضرة سوف يعلن يومئذ، ويُكشف ظاهرًا في الجسد… كل ما للنفس الآن سوف يظهر في الجسد في ذلك اليوم[361]].
يقول الرسول: “ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2 كو 3: 7-18).
ج. يصير الإنسان سندًا لإخوته الضعفاء؛ “شددوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبتوها، قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا، هوذا إلهكم، الانتقام يأتي، جزاء الله، هو يأتي ويخلصكم” [3-4].
إن كانت الحياة مع الله تمثل علاقة شخصية خفية بين الله والمؤمن لكنها ليس في فردية منعزلة، إنما هي خلال حياة الشركة بين الله وكنيسته الواحدة؛ كل عضو يسند أخاه في الرب لكي يتشدد الكل معًا كعروس واحدة. كل مساندة من جانبك لأخيك إنما هي مساندة لك أنت شخصيًا لأنه يمثل يديك وركبك.
v ليس شيء يجعل البشر منهزمين سريعًا في التجارب ومنهارين مثل العزلة. اخبرني؛ بَعْثِر فرقة في حرب، فإن العدو لا يقلق في سبيهم وأسرهم كفرادى.
القديس يوحنا ذهبي الفم[362]
- إشباع احتياجات المؤمنين:
أ. إذ يقول: “هو يأتي ويخلصكم، حينئذ…” [4-5]؛ أي عندما يأتي الرب المسيح المخلص تتحقق أمور فائقة، معجزات وآيات باهرة: “حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح؛ حينئذ يقفز الأعرج، كالآيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر” [5-6].
يحاول المنادون بالملك الألفي أن ينسبوا ذلك للملك الألفي، مع أن السيد المسيح نفسه استخدم هذا النص عندما أجاب تلميذي يوحنا المعمدان مؤكدًا أنه هو المسيا المنتظر (مت 11: 4-6). يعلق القديس أغسطينوس على ذلك قائلاً: [كإنه يقول لهما: لقد رأيتماني فلتعرفاني! لقد رأيتما أعمالي، إذن فلتعرفا صانعها…وطوبى لمن لا يعثر فيّ[363]].
الله الذي خلق كل شيء حسنًا جاء بنفسه إلى العالم ليجدد خليقته مصلحًا ما قد فسد، ولكي يرد للإنسان سلامه وصحته وبهجته. يفتح بصيرته الداخلية لمعاينة الأسرار الإلهية، والآذان لكي تستعذب الصوت الإلهي وتستجيب لوصاياه، ويهب الأعرج قدرة للسير في الطريق السماوي، وينطق الأخرس بتسابيح داخلية… هذا كله بفعل الروح القدس (المياه والأنهار) الذي أرسله السيد المسيح من عند الآب…
v تتحقق نبوة إشعياء ليس فقط في الأمور الجسدية بل وفي الروحيات… فالذين كانوا قبلاً عرج صاروا يقفزون بقوة يسوع كالآيل. قورنوا بالآيل ليس بدون قصد، فأنه حيوان طاهر معادٍ للحيات التي لن تؤذيه بسمها. وهكذا أيضًا بالنسبة للخرس فانهم يتكلمون…
العلامة أوريجانوس[364]
ب. “ويصير السراب أجمًا، والمعطشة ينابيع ماء. في مسكن الذئاب في مربضها دار للقصب والبردي” [7]. يعني بهذا أنه عوض الجفاف يصير فيض ماء؛ إذ تصير الأرض الجافة (السراب) بركة ماء والأرض الظمآنة ينابيع مياه متفجرة؛ في مسكن الذئاب حيث القفر يوجد ماء فتنبت الحشائش ويظهر البردي الذي لا يوجد إلاَّ في الأماكن التي بها وفرة ماء.
كثيرًا ما يُحدثنا الأنبياء عن العصر المسياني كعصر مياه (إش 41: 17-20؛ 43: 18-20؛ 44: 3-4؛ حز 47: 1-12). يقول المرتل: “نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي، الله في وسطها فلن تتزعزع” (مز 46: 4-5).
v ما هي نهر سواقية هذه؟ أنه فيض الروح القدس الذي قال عنه الرب: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو 7: 37-38). هذه الأنهار فاضت من حضن بولس وبطرس ويوحنا وبقية الرسل، ومن الإنجيليين المؤمنين. وحيث أن هذه الأنهار فاضت عن نهر واحد لذلك فإن “نهر سواقيه تفرح مدينة الله “….
واضح أن مجاري النهر تُفهم بمعنى الروح القدس الذي به تتقدس كل نفس تقية تؤمن بالمسيح لتصير مواطنة في مدينة الله.
القديس أغسطينوس[365]
ج. “وتكون هناك سكة وطريق يُقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس، بل هي لهم، من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل، لا يكون هناك أسد… بل يسلك المفديون فيها” [8-9]. ما هو هذا “الطريق” إلاَّ السيد المسيح نفسه الذي قدم نفسه لمؤمنيه طريقًا آمنًا لا يعبر فيه نجس، بل يكون الكل فيه قديسين، حتى الجهال ينالون فهمًا وحكمة فلا يضلون، ولا يستطيع عدو الخير (الأسد المفترس) أن يقترب إلى السالكين فيه.
يحدثنا القديس كيرلس الأورشليمي عن إيماننا بالسيد المسيح كدرع ضد عدو الخير إبليس، قائلاً:
[هل يوجد أكثر رعبًا من الشيطان؟ ومع ذلك لا نجد درعًا ضده سوى الإيمان، إذ هو ترس غير منظور ضد عدو غير منظور، يصوب أسهمًا مختلفة في وسط الليل نحو الذين هم بلا حذر.
لكن إذ هو عدو غير منظور فلنا الإيمان عُدَّة قوية كقول الرسول: “حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف 16: 6).
فإذ يُلقى الشيطان شرارة ملتهبة من الشهوة المنحطة، يُظهر الإيمان صورة الدينونة فيطفئ الذهن الشريرة[366]].
- مملكة فرح وبهجة:
تُمسح كل شعوب الأمم القادمة إليه بدهن الفرح، فتصير أمة مقدسة متوّجة بأكاليل البهجة النابعة عن النصرة. لا يستطيع الحزن والتنهد أن يجدا لهما موضعًا في قلوبهم بل من الخارج فقط.
هذه هي مسحة كنيسة العهد الجديد بكونها أيقونة السماء المتهللة بالرب. لذا قيل: “ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم، ابتهاج وفرح يدركانهم. ويهرب الحزن والتنهد” [10].
v توجد بالحقيقة راحة حيث لا يوجد ألم أو حزن أو تنهد، حيث لا توجد ارتباكات أو متاعب أو صراعات أو خوف من ذهول النفس واضطرابها، وإنما توجد مخافة الله المملوءة بهجة.
القديس يوحنا ذهبي الفم[367]
v لنحزن هنا متأملين في الأمر حتى لا نحزن هناك في العقاب بل نتمتع بالبركات الأبدية… لننعم بالأمور الفائقة للعقل في المسيح يسوع ربنا (فلا نضطرب من الحزن).
القديس يوحنا ذهبي الفم[368]