تفسير سفر إشعياء ٤٠ للقمص تادرس يعقوب

الباب الثالث

القدوس المعزي بالخلاص

[ص 40- ص 66]

 

  1. عزوا عزوا شعبي                [40- 44].
  2. هجوم كورش على بابل وخرابها  [45- 47].
  3. أحاديث خلاصية                   [48- 59].
  4. مدينة الرب الجديدة               [60- 66].

القدوس المخلص

في القسم الأول أوضح النبي ما وصلت إليه البشرية من فساد بسبب الخطية أو حرمانها من الشركة مع الله القدوس؛ وفي القسم الثاني أعلن عن الحاجة إلى هذه الشركة لنوال النصرة في الداخل كما على الأعداء الروحيين بل وعلى موت نفسه. والآن يعلن ما هو أعظم: تدخل القدوس كمخلص يهب الإنسان شركة الأمجاد السماوية.

في هذا القسم نجد الخطوط العريضة التالية:

  1. المسيح المخلص الحامل الآلام، أو العبد المتألم الذي يهب العبيد حرية مجد أولاد الله.
  2. العصر المسياني كعصر سلام داخلي ومجد خفي ينعم به المؤمنون خلال الشركة مع المخلص.
  3. إبراز عطية المسيح العظمى: الروح القدوس، الذي يحوّل برية قلوبنا إلى فردوس، وظلمتنا الداخلية إلى نور الحق.

الأصحاح الأربعون

عزوا عزوا شعبي

أفتُتِح السفر بالكشف عن مرارة ما وصل إليه شعب الله من فساد، بل ما وصلت إليه البشرية كلها؛ الآن في هذا الأصحاح يرفعنا روح الله القدوس لنكتشف خطة الله الخلاصية وتدبيره نحو شعبه لينعموا بعمله الإلهي وتعزياته الفائقة. غاية هذا الأصحاح وما بعده نزع روح اليأس من المسبيين وبث روح الرجاء فيهم.

  1. عزوا عزوا شعبي                [1-2].
  2. تهيئة الطريق للرب               [3-8].
  3. خطة الله فائقة الإدراك            [9-26].
  4. موقف غير المؤمنين             [27-31].
  5. عزوا عزوا شعبي:

اعتاد الله أن ينسب الشعب إليه عند رضاه عنه فيدفعوه “شعبي”، أما في حالة عصيانه فتارة ينسبه إلى موسى (خر 32: 7) أو يدعو “الشعب” (خر 32: 9)، وفي أكثر صراحة يقول: “ليس شعبي” (هو 1: 9)، وذلك لكي يثيرهم فيرجعوا إليه ويعود فينسبهم إليه (هو 2: 23). أما هنا إذ يفتح أمامهم بل أمام البشرية المؤمنة باب الخلاص فيدعوهم “شعبي”.

اعتاد النبي تكرار بعض الكلمات مرتين كما جاء هنا “عزوا عزوا” (51: 9، 17؛ 5: 1)، لأنه يتحدث عن كنيسة العهد الجديد القادمة من فريقين: اليهود والأمم؛ لأنها كنيسة الحب الذي يوحّد ويربط، فإن رقم 2 يُشير إلى الحب. المحبة تجعل الاثنين واحدًا.

إنها كنيسة الحب الذي يربط الله بها كعريس بعروسه، والذي يربط الأعضاء القادمين من كل الأمم كجسد واحد للرأس الواحد. خلال هذا الحب يُخاطبها قائلاً: “طيبوا قلب أورشليم” [2]، والترجمة الحرفية “تحدثوا إلى قلب أورشليم”، تعبير تكرر 8 مرات في العهد القديم (تك 34: 3؛ 50: 21؛ قض 19: 3؛ را 2: 13؛ 2 صم 19: 7؛ 2 أى 20: 22؛ هو 2: 14) يوجه إلى محبوب أو محبوبة؛ فالكنيسة هنا عروس المسيح المحبوبة إليه، يحدثها بلغة الحب التي لا يفهمها إلاَّ القلب. اللغة التي تحدث بها في أكثر صراحة وعمق خلال الصليب ليقتني البشرية عروسًا له (رؤ 19: 7؛ 21: 2، 9).

إنها دعوة يُقدمها العريس لعروسه المتألمة لكي تتطلع وسط آلامها إلى النهاية المفرحة، فتحمل الألم في رجاء وبسرور كعريسها الذي تألم من أجل السرور الموضوع أمامه (عب 12: 2)، إذ رأى خلاصنا وتمجيدنا في حمله الصليب. وكما يقول الرسول: “كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا” (2 كو 5: 1).

ما هو سّر تعزيتنا؟ يقول الله: “أنا أنا هو معزيكم” (إش 51: 14). هذا هو سّر تعزيتنا: الآب يتقدم إلينا ليضمنا إليه كأولاد له، خلال اتحادنا بالمسيح الابن الوحيد الجنس، الذي يُقدم حياته كفارة عن خطايانا كسرّ تعزيتنا: “بالمسيح تكثر تعزيتنا” (2 كو 1: 5). مسيحنا الذي ضمنا إليه بدمه يُقدم لنا روحه القدوس “المعزي” الذي يملأ قلوبنا به مقيمًا ملكوت الفرح في قلوبنا. لهذا يقدم حديثًا موجهًا إلى القلب، قائلاً: “طَيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عُفي عنه، أنها قد قَبلَت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها” [2].

من الجانب الحرفي يتطلع النبي إلى السبي الذي يحل بالشعب لا ككارثة سياسية حدثت مصادفة أو ثمرة ضعف عسكري، وإنما هو سماح إلهي لأجل التأديب. لقد قبلت التأديب ضعفين، ذلك لأنها من جانب ارتكبت خطايا غير لائقة بها، ومن جانب آخر لم تُمارس برّ الله أو تصنع الخير. الوصية الإلهية تُطالبنا بالكف عن الشر وصنع الخير.

أما من الجانب النبوي فإنها إذ تتطلع إلى عريسها المصلوب تجده قد دفع الدين عنها في أكمل صورة لا ليعفيها من الدين فحسب وإنما لكي يبررها بدمه ويقدسها فتنعم بشركة أمجاده. وكأنه قد تحققت توسلات البشرية التي عبر عنها داود النبي، قائلاً: “انظر إلى ذلي وتعبي وأغفر جميع خطاياي” (مز 25: 18).

الآن يتطلع النبي إلى موكب الشعب الراجع إلى أورشليم كرمز لموكب المفديين بدم رب المجد يسوع، وقد جاء القديس يوحنا المعمدان يُهيئ الطريق لهذا الموكب المسياني السماوي.

  1. تهيئة الطريق للرب:

لعل إشعياء النبي قد سمع صوتًا سمائيًا يدعو السمائيين لتهيئة موكب العودة من السبي إلى أورشليم، فقد سبق فرأى حزقيال النبي مجد الرب يفارق المدينة (حز 11: 22- 25)، والآن ها هو يعود الموكب مع عودة المسبيين، وكأنه موكب ملوكي إذ يتقدمه الله نفسه محرر أولاده!

أما الموكب الأعظم فهو تهيئة الطريق لدخول المسيا المخلص إلى حياة البشرية، الذي تحقق بواسطة القديس يوحنا المعمدان – ملاك الرب – بالحديث عن التوبة وإعلان الحاجة إلى المخلص (مر 1: 3؛ مت 3: 3؛ لو 3: 4-6؛ يو 1: 22).

كان القديس يوحنا هو الصوت الذي يدوي في البرية ليُهيئ الطريق للكلمة الإلهي، معلنًا أن كل نفس متعجرفة ومتعالية تنحدر إلى أسفل [4] وكل قلب معوج يصير مستقيمًا، وكل العقبات تزول لأن مجد الرب يعلن خلال المسيا المخلص، ويراه كل بشر معًا: من اليهود والأمم. لذا يقول النبي: “صوتُ صارخٍ في البرية: أعدُّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإِلهنا. كل وطاءٍ يرتفع، وكل جبلٍ وأكمةٍ ينخفض، ويصير المعوَجُّ مستقيمًا والعراقيب سهلاً؛ فيُعلن مجد الرب ويراه كلُّ بشرٍ معًا، لأن فم الرب تكلم[3-5].

دُعي يوحنا “صوتًا” بينما دعي المسيح “الكلمة”، وشتان ما بين الصوت والكلمة، إذ يقول الآباء أن الصوت هو الذي يُسمع بالأذن أما الكلمة فهي التي يدركها العقل، هكذا جاء يوحنا شاهدًا للمسيح الكلمة الإلهي:

v   ربما يفسر هذا كيف فقد زكريا صوته عند ميلاد “الصوت” الذي يُشير نحو كلمة الله، ولم يُشفَ من هذا إلاَّ بعد ولادة “الصوت” السابق للكلمة. يجب أن يُدرك الصوت بالأذن فيتقبل الذهن الكلمة الذي يُشير نحوه “الصوت”. يوحنا يُشير نحو المسيح، لأن الحديث (الكلمة) يُعلن بواسطة الصوت.

العلامة أوريجانوس[397]

v   من حديثنا تعرفون أن “الصوت” يكون أولاً عندما تُسمع “الكلمة”، لهذا يعلن يوحنا عن نفسه أنه “صوت” إذ هو يسبق “الكلمة”. فبمجيئه أمام الرب دُعي “صوتًا”، وبخدمته سمع الناس “كلمة الرب”. إنه يصرخ معلنًا: “اصنعوا سبله مستقيمة”… إن طريق الرب للقلب يكون مستقيمًا متى استقبل بإتضاع كلماته للحق؛ يكون مستقيمًا إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل: “إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23).

الأب غريغوريوس الكبير

v   كان إشعياء على علم بعمل يوحنا التبشيري، فبينما يُسمي إشعياء المسيح إلهًا وربًا (إش 9: 6) يُشير إلى يوحنا بأنه رسول خادم ومصباح يضيئ قبل ظهور النور الحقيقي. هو كوكب الصبح الذي يعلن عن بزوغ الشمس من وراء الأفق، فتبدد أشعتها الساطعة سجف الظلام الحالكة. كان يوحنا صوتًا لا كلمة، يتقدم المسيح، كما يتقدم الصوت الكلمة.

القديس كيرلس الكبير[398]

بماذا يُنادي هذا الصوت؟ بإنجيل العهد الجديد الذي هو طريق الرب، الذي يرفع النفوس المتضعة إلى الحياة السماوية، ويحطم كبرياء المتشامخين، يُجدد الخليقة التي اعوجَّت لتسلك باستقامة، ويزيل العقبات من أمامها، فيتمجد الرب في البشرية المؤمنة [3-5].

v   ليتك تسير في الطريق الملوكي، لا تنحرف عنه يمينًا ولا يسارًا، إنما يقودك الروح خلال الباب الضيق، عندئذ تنجح كل أمورك عند استجوابك هناك في المسيح يسوع ربنا.

القديس غريغوريوس النزينزي[399]

صوت صارخ في البرية[3]، يدوي في البرية هذه الحياة القاحلة، إذ لا تحمل في داخلها شجرة الحياة كما في الفردوس الأول؛ جاء يعلن عن السيد المسيح شجرة الحياة التي تُغرس في برية طبيعتنا ليقيم منها فردوسًا مثمرًا بحلوله فينا. بهذا المعنى يقول القديس أمبروسيوس: [قبل أن يُقيم ابن الله أعضاء الكنيسة بدأ عمله في خادمه يوحنا، لهذا وأخطر القديس لوقا (لو 3: 2) كلمة الله حالاً على يوحنا بن زكريا في البرية… تحقق هذا في البرية الموحشة، لأن بني المستوحشة أكثر من التي لها أولاد (إش 54: 1)، وقد قيل لها: “افرحي أيتها العاقر التي لم تلد” (إش 54: 1)… إذ لم تكن بعد قد زُرعت وسط الشعوب الغريبة… ولم يكن بعد قد جاء ذاك الذي قال: “أما أنا فزيتونة مخصبة في بيت الله” (مز 52: 8)، ولم يكن قد وهب الكرام السماوي للأغصان ثمرًا (يو 15: 1). إذن فقد رّن الصوت لكي تنتج البرية ثمارًا[400]].

v   ليُعد طريق الرب في قلبنا، فإن قلب الإنسان عظيم ومتسع، كما لو كان هو العالم. أنظر إلى عظمته لا في كمّ جسدي، بل في قوة الذهن التي تعطيه إمكانية احتضان معرفة عظيمةً جدًا للحق.

إذن فليعد طريق الرب في قلبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق.

العلامة أوريجانوس[401]

لاحظ القديس أغسطينوس أن النبي استخدم كلمة “جسد” في العبارة “فيعلن مجد الرب ويراه كل البشر (جسد) جميعًا[5]، وأنه لا يعني بذلك الجسد دون النفس إنما قصد الإنسان بكامله، فكثيرًا ما يستخدم الكتاب المقدس كلمة “جسد” أو “نفس” لتعني الإنسان. فإن من يُعاين مجد الرب هو الإنسان بكليته [لأن الجسد وحده بدون النفس لا يرى شيئًا[402]].

عندما قال الإنجيلي “الكلمة صار جسدًا” (يو 1: 14)، لم يقصد أن كلمة الله أخذ جسدًا دون نفس بشرية كما ادعى أبو لليناريوس، الأمر الذي دعى البابا أثناسيوس الرسولي أن يكتب ضد صديقه أبو لليناريوس كتابًا يفند فيه آراءه.

سمع النبي إشعياء صوتًا سماويًا آخر يؤكد أن كل جسد (إنسان) هو كعشب الأرض (مز 90: 5؛ 103: 15)، “أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد[8]. من يلتصق بتراب الأرض أو بمحبة الزمنيات يصير عشبًا زائلاً، ومن يلتصق بالسيد المسيح “كلمة الله” يقوم معه ليحيا في مجده أبديًا. هذا هو الطريق الذي هيأه الكتاب المقدس لقبول المخلص: التزامنا بالشركة مع ذاك الذي يحولنا من عشب الأرض الزائل إلى الشركة معه والثبوت فيه أبديًا في أمجاده. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن اشتاق إنسان ما إلى الراحة الحقيقية والسعادة الحقة يلزمه أن يرفع رجاءه فوق الأمور المائتة الزائلة ويثبتها في كلمة الرب حتى إذ يلتصق بها تبقى إلى الأبد ويبقى هو معها أبديًا].

يعلق العلامة أوريجانوس على القول بأن “كل جسد عشب” قائلاً: [بإن السيد المسيح أمر الجموع أن تجلس على العشب (مت 14: 21) لكي يشبعهم، بمعنى أنه إذا ما أخضع الإنسان جسده (الجلوس على العشب) ووضع كل الأمور الزمنية تحت قيادة النفس ليكون بكليته سالكًا بالروح القدس عندئذ يتمتع ببركات السيد المسيح وينعم بالشبع الحقيقي. أننا لا نستطيع أن نلتقي بمسيحنا ولا أن نتقبل عطاياه الإلهية خلال التلاميذ أي الكنيسة مادُمنا نعيش حسب الجسد. إذن فلنُخضع الجسد لنفوسنا بالروح القدس ولنتكئ على العشب ليكون الجسد خادمًا مطيعًا يعمل في انسجام مع النفس دون مقاومة لها، عندئذ ننعم بالروحيات.

فيما يلي بعض تعليقات الآباء على عبارة “كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل، يبس العشب ذبل الزهر، لأن نفخة الرب هبت عليه[6-7].

أنظر فإن ما تلتصق به نفسك إنما تلتصق به أبديًا. إن التصقت بالعشب وبزهر العشب إنما تربط نفسك بالعشب الذي يذبل والزهر الذي يسقط، وسيبيد الله هذه في النهاية[403].

v   إذ يعرف الله تكويننا بكونه أبًا، إننا لسنا إلاَّ تراب لا يمكن أن نزدهر إلاَّ إلى حين، لذلك أرسل إلينا كلمته، كلمته هذا يبقى إلى الأبد. جعله أخًا للعشب الذي لا يدوم.

لا تعجب فقد صرت شريكًا له في أبديته، فقد شاركك أولاً في العشب[404].

v   هكذا فعل موسى برأس العجل (خر 32: 20- أحرقه بالنار)، فإن رأس العجل يمثل سرًا عظيمًا، بكونه يمثل جسد الأشرار، لأنه يأكل عشبًا ويطلب الزمنيات، فان كل جسد عشب[405]

القديس أغسطينوس

v   لماذا تخافين من الأمور الزمنية التي تعبر كمجرى من نهر؟! فإن هذه هي طبيعة الأمور الحاضرة، سواء كانت مفرحة أو مؤلمة. يوجد نبي آخر يقارن الازدهار البشري بالعشب.

القديس يوحنا الذهبي الفم[406]

v   نسمع هذا وما يشبهه كل يوم ومع هذا لا نزال مسمرين في الأرض.

القديس يوحنا الذهبي الفم[407]

v   إنني أعرف أن البعض يحاول إظهار أن هذه الكلمات (كل جسد هو عشب) تُشير إلى حالة الناس الهمجيين من أمم مختلفة ولهم عادات مختلفة، جاءوا إلى الإيمان (بكلمة الرب) فصاروا في انسجام الأبرار.

القديس إيريناؤس[408]

  1. خطة الله فائقة الإدراك:

الآن بعدما أبرز أن من يرتبط بالزمنيات الفانيات يصير كعشب الأرض الذي يذبل ومن يلتصق بكلمة الله الأبدي يبقى معه أبديًا، يعلن عن معنى الارتباط بكلمة الرب.

أ. قبول البشارة الإنجيلية المفرحة: “على جبل عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون، ارفعي صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم. ارفعي لا تخافي. قولي لمدن يهوذا: هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له” [9-10].

من هذه التي ترفع صوتها إلاَّ كنيسة العهد الجديد التي تصعد بالبشرية كما على جبل كلمة الله خلال كرازة التلاميذ والرسل بل وشهادة كل الشعب، تصعد بالنفوس إلى الحياة السماوية أو الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع لتلتقي بالله مخلصنا كمصدر فرح وتهليل. تراه قادمًا إليها ليحكم في أعماقها ويقيم ملكوته بذراعه الرفيعة.

 ب. أدراك حقيقة الله؛ فإننا إذ نرتفع إلى الحياة الجديدة نلتقي مع الرب على مستوى شخصي، فلا نجده قوة خفية مجهولة وإنما كائنًا يتعامل معنا: “يأتي ويحكم ويجازي ويراعي الخ… وكما يقولالقديس غريغوريوس النيسي في رده على أونوميوس: [هل الله إذن طاقة وليس شخصًا[409]].

 يقول القديس يوحنا كاسيان[410]: [إنه يليق بنا عندما نسمع كلمة “ذراعه” أو ما أشبهها لا نفهمها بمعنى جسماني مادي.

ج. اكتشاف رعاية الله لنا بكونه الراعي المهتم بقطيعه [11]، وهو فريد في شخصه كما في رعايته:

* أنه الخالق القدير في رعايته: “من كال بكفه المياه؟! وقاس السموات بالشبر؟! وكال بالكيل تراب الأرض؟! ووزن الجبال بالقبان والآكـام بالميزان؟!” إنه خالق المياه

والسموات كما التراب والجبال الصلدة. الذي خلق يقدر أن يُجدد الخليقة.

تُشير المياه إلى الشعوب، والسموات إلى النفس، والأرض إلى الجسد، والجبال والتلال إلى قدرات الإنسان ومواهبه، وكأن الله في رعايته قدير، يُجدد الكنيسة ككل بضم الشعوب إليها، كما يُجدد كل نفس مع الجسد بطاقاته وأحاسيسه ومشاعره وإمكانياته.

إنه يقيس ويزن كل شيء، إذ هو كلي القدرة.

لعله أراد أن يؤكد أن الله يهتم بخليقته الجامدة من مياه وجلد السماء حتى التراب والجبال والتلال، فكيف لا يهتم بنا نحن الذين على صورته ومثاله، وقد خلق العالم كله من أجلنا.

v   إن كنت تشك في عناية الله سلْ الأرض والسماء والشمس والقمر. سلْ الكائنات غير العاقلة والزروع… سلْ الصخور والجبال والكثبان الرملية والتلال. سلْ الليل والنهار؛ فإن عناية الله أوضح من الشمس وأشعتها، في كل مكان: في البراري والمدن والمسكونة، على الأرض وفي البحار… أينما ذهبت تسمع شهادة ناطقة بهذه العناية الصارخة.

القديس يوحنا الذهبي الفم[411]

* كلي الحكمة: “من قاسَ روح الربِّ ومن مُشيرُهُ يُعلِّمه؟! من استشاَرهُ فأفهمَه وعلَّمه في طريق الحق وعلَّمه مَعْرفةّ وعَرَّفهُ سبيل الفهم؟!”  [13-14].

مع كونه الخالق القدير الذي أوجد الطبيعة من أجلنا يرعاها ويهتم بها، هو أيضًا كلي الحكمة يعرف ما هو لخلاصنا وبنياننا، خطته غير خطتنا، وتدابيره تعلو عن تدابيرنا (رو 11: 34).

v   لم يقل (الرسول بولس- رو 11) إن أحكامه بعيدة عن الفحص فحسب، وإنما بعيدة أيضًا عن الاستقصاء. ليس فقط لا يقدر الإنسان أن يفهمها بل ولا حتى أن يبدأ في استقصائها. يستحيل عليه أن يدرك غايتها أو حتى يكتشف كيف بدأ تخطيطها.

v   يُريد أن يقول إنه ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريك أو مشير[412].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* ضابط الكل لا يفلت شيء من يده: “هوذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تُحسب، هوذا الجزائر يرفعها كدفة…[15].

إنه ضابط الكل… فإن كانت الأمم تُريد أن تحكم العالم وتسوده خلال العنف والقوة فهي ضعيفة للغاية، يراها الله نقطة ماء في دلو وغبار ميزان… أما الله ففي ضعف الصليب وجهالته يحكم ويملك بقوة وسلطان على الأعماق.

الأرض بكل شعوبها صغيرة للغاية بالنسبة للمخلص، يحملها كغبار في مقياس صغير، أما سكان الجزائر المفتخرون بسفنهم التجارية والحربية فجميعهم معًا أشبه بدفة يمسكها الرب بيده!

v   يدرك (الله) في ذاته كل الخليقة العاقلة لكي تبقى كل الأشياء موجودة مضبوطة بقوته التي تضم الكل.

القديس غريغوريوس النيسي[413]

* اهتمامه بالأمم: “ولبنان ليس كافيًا للإيقاد وحيوانه ليس كافيًا لمحرقة. كل الأمم كلا شيء قدامه، من العدم والباطل تُحسب عنده[16-17]. تصوير شعري عن قبول الأمم الإيمان بالله حتى أن كل شجر لبنان (الأرز) لا يكفي للإيقاد لمذبح الرب وجميع حيواناته لا تكفي لتقديم محرقات… لقد صارت الحاجة إلى خشبة الصليب التي تسمو فوق كل أرز لبنان، وذبيحة المسيح التي لا تقارن بالذبائح الحيوانية جميعها. خلال هذا المذبح (الصليب) وهذه الذبيحة يتمتع الأمم بالخلاص.

v   بلغ الخروف الحيّ الإلهي إلى الصعيدة، وقام الصالبون كالأحبار يقدمونه ضحية!…

v   صُلب ربنا وحمل ذنوب المسكونة، وسمر الخطية بالمسامير حتى لا تملك. لما صلبوه صلبها معه على الجلجثة لئلا  تقتل أجيالاً أخرى.

ماريعقوب السروجي

* عظمة السيد المسيح المخلص والذبيح:

فبمن تشبهون الله وأي شيء تعادلون به؟![18]؛ تكاليف الأوثان باهظة تحتاج إلى ذهب وفضة أو خشب لا يسوس مع تكلفة للصانع الماهر الذي يقوم بعملها [20]، يُقابل ذلك شوق اللصوص لسرقتها، أما مسيحنا فيقدم خلاصًا مجانيًا، يعلن ملكوته في القلب حيث لا يقدر أحد أن يسرقه من أعماقنا.

* “الجالس على كرة الأرض[22]. كان الاعتقاد السائد أن الأرض مسطحة وليست كرة، لكن إشعياء رأى الرب جالسًا على كرة الأرض كملك يجلس على عرشه، يُقيم مملكته في قلوب البشر. 

* “سكانها كالجندب، الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن[22]. إنه لا يملك عن احتياج خدمة الأرضيين أو السمائيين، إنما عن حب ورعاية أبوية. فالأرضيون بالنسبة له كالجندب (الجراد)، والسماء أشبه بقطعة قماش أو خيمة. العظماء عنده كلا شيء والقضاة كالباطل ينحلون.

الأرض والسماء كلا شيء بالنسبة لقدرته؛ لكنه في حبه يملك ويقود الأرضيين والسمائيين كملك ومخلص…

انشغل المنجمون بحسابات الفلك وأنظمتها أما الله فيعلم كل دقائقها كخالق لها، يدعوها بأسماء [26]، فكيف لا يعرف كل إنسان ويهتم بخلاصه؟!

  1. موقف غير المؤمنين:

كثيرًا ما يظن الجاحدون للإيمان أن الله في مجاله بعيد عن دائرة البشر، هو في سمواته بينما يعيش الإنسان في عالمه… هذا هو جوهر الفكر الإلحادي المعاصر، وهو فكر قديم يضرب به العدو الإنسان ليفقده تلاقيه مع خالقه واتحاده معه وعشرته، وكما جاء هنا في هذا السفر: “لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل: قد اختفت طريقي عن الرب وفات حق إلهي[27].

هذا هو ما يُردده الإنسان وسط تعبه الروحي… يُحسب نفسه وحيدًا معزولاً حتى عن الله الذي لا يُبالي بطريق الإنسان وحياته. لعل هذا هو ما قاله المسبيون إذ ظنوا أن الله قد نسيهم تمامًا، فقد عبرت الشهور والسنوات وكأنه قد نكث عهده مع آبائهم ولم يعد يفكر فيهم أو يهتم بعودتهم. إنه لا يُبالي بقضيتهم ولا يهتم بطريقهم؛ تركهم في بابل وبقى في سمواته لا يتحرك لنزع عارهم ورفع الذل والعبودية عنهم.

يرد النبي على ذلك بالآتي:

أ. استمرارية عمل الله: الله في حبه قد يتأنى لكنه مستمر في رعايته للإنسان “لا يكل ولا يعيا[28]. هو “إله الدهر” السرمدي حبه لا يزول وعهده أبدي لا يتغير.

ب. أحكامه لا تُفحص [28]… يُخلص بطريقة غير متوقعة.

 ج. بسبب خطايانا نضعف في إيماننا، لكنه هو “يعطي المعييّ قدرة ولعديم القوة يكثر شدة[29]، لذا نحتاج إلى تسليم الأمر بين يديه فيسندنا حتى في إيماننا.

د. يهبنا روحه القدوس الذي يُجدد طبيعتنا ويرفعنا بأجنحة الروح كما إلى السماء عينها، نرتفع بلا قلق… “وأما منتظرو الرب فيجددون قوة؛ يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون[31].

v   بالروح القدس نتحرر من العبودية ونُدعى إلى الحرية!

به صرنا أولاد الله بتبنيه إيانا!

وفوق هذا كله – إن أمكنني القول – إننا قد تجددنا، خالعين عنا ثقل الخطايا الكريه!…

به ننال غفران الخطايا،

وبه نتطهر من كل وصمة،

وخلال عطيته نتغير من بشر إلى ملائكة، هؤلاء الذين يشتركون معنا في التمتع بنعمته، لكننا لا نصير هكذا في الحال، بل ما هو مدهش، إننا ونحن بعد في طبيعة البشر نظهر سلوكًا في الحياة يليق بالملائكة!

هكذا إذن هي قوة الروح…

القديس يوحنا الذهبي الفم[414]

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى