تفسير سفر إشعياء ٤٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني والأربعون

العبد المختار

يحوي هذا الأصحاح إحدى التسابيح الممتعة الخاصة بالسيد المسيح، أو تسابيح عبد يهوه (إش 42: 1-4؛ 49: 1-6؛ 50: 4-9؛ 52: 13؛ 53: 12).

حاول البعض تطبيق التسبحة التي بين أيدينا على إسرائيل أو على إشعياء وبالأكثر على كورش، لكن من الواضح أنها تخص السيد المسيح نفسه، كما أكد الإنجيليون ذلك (مت 12: 17-21).

  1. عبد الرب المختار                 [1-4].
  2. دعوة عبد الرب                   [5-9].
  3. التسبحة الجديدة                   [10-13].
  4. تفريغ للقديم                      [14-17].
  5. دعوة للشعب الأصم الأعمى       [18-25].
  6. عبد الرب المختار:

تُقدم لنا التسبحة هنا شخص العبد المختار الذي هو السيد المسيح بعينه، إذ جاء فيها:

أولاً: “هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري سرت به نفسي[1]. ليس عجيبًا أن يُدعى المسيا “عبد يهوه” أو “عبد الرب” مع أنه كلمته المولود أزليًا وواحد معه في ذات الجوهر الإلهي، إنما بحبه الإلهي اشتاق أن ينزل إلى عبوديتنا ليحملنا إلى أمجاده، وكنائب عنا أطاع الآب حتى الموت موت الصليب، حتى يُحقق خلاصنا ويُثبتنا فيه فنُحسب مطيعين ونصير موضع سرور الآب (أف 1: 3-5).

إن كان الآب قد اختار ابنه الوحيد ليتمم الخلاص، معلنًا كمال الحب الإلهي، فإننا إذ ندخل فيه وننعم بالعضوية في جسده نصير نحن أيضًا مختارين من الابن موضع حبه وسروره!

كلمة “مختاري” لا تعني اختيار واحد من بين كثيرين إنما تُشير إلى عظمة الآب نحو المسيا. وكما يقول السيد المسيح نفسه: “كما أحبني الآب أحببتكم أنا، اثبتوا في محبتي” (يو 15: 9)؛ “ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم” (يو 17: 26). هذا الحب تصوره الكلمات: “الذي سرت به نفسي[1]. فإن كل سرور الآب فيه أزليًا، أُعلن عند عماد السيد وتجليه وخلال مراحل أعماله الخلاصية.

اقتبس الإنجيلي متى ما ورد هنا في [1-3] كنبوة صريحة عن السيد المسيح (مت 12: 17-21)، مؤكدًا النقاط التالية[427]:

أ. المختار لتتميم الخلاص.

ب. فيه سرّ الآب بنا.

ج. مشتهى الأمم ورجاؤهم.

د. بالوداعة يهب النصرة.

هـ. يترفق بكل ضعيف.

يعلق القديس أغسطينوس على هذا النص بالقول: [تعبير “عبدي” يُشير إلى هيئة العبد حيث أخلى العلي نفسه… أُعطى له الروح القدس وقد أُعلن ذلك في شكل حمامة كما شهد الإنجيلي (يو 1: 32). اخرج الحكم (الحق) للأمم، إذ أعلن لهم ما كان مخفيًا عنهم. في اتضاعه لا يصيح دون أن يتوقف عن إعلان الحق. صوته لم يُسمع، لا يسمعه الذين هم في الخارج، إذ لم يطعه الخارجون عن جسده. لم يقصف اليهود أنفسهم الذين اضطهدوه مع كونهم قصبة مرضوضة فقدت توازنها، ولا اطفأهم مع كونهم فتيلة مدخنة، إذ سامحهم. لقد جاء ليُحكم عليه لا ليُدين[428]].

جاء مسيحنا الذي قيل عنه: “مختاري الذي سرت به نفسي” لندرك إننا فيه مختارون من الآب موضع سروره وحبه، وكما يقول الرسول بولس: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السمويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئة” (أف 1: 3-5).

ثانيًا: “وضعت روحي عليه[1]. المسّيا كلمة الآب، الواحد معه والمساوي له في ذات الجوهر، لذا فالروح القدس الذي هو روح الآب هو روح الإبن أيضًا. الروح القدس ليس غريبًا عن الابن، يتمتع به بغير مكيال وبغير انفصال. الروح القدس هو الذي قدّس أحشاء البتول مريم ليُحقق التجسد الإلهي، لم يفارق الابن قط؛ أصعد السيد المسيح إلى الجبل ليدخل في المعركة الحاسمة مع إبليس على جبل التجربة… إنه الروح الذي وهبه لتلاميذه لممارسة العمل الرعوي في المسيح يسوع، وهو الروح الذي وهبه للكنيسة كلها في يوم العنصرة كي يسندها في الشهادة له والعبادة والحياة اليومية. بهذا حقق ما وعد به في أحاديثه الوداعيه (يو 14: 16-18، 26؛ 15: 26؛ 16: 7، 8، 13، 14). وكما يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [المربي يخلق الإنسان من تراب، ويجدده بالماء وينميه بالروح[429]].

يُحدثنا القديس باسيليوس عن عمل الروح القدس فينا، قائلاً: [بالروح القدس استعدنا سكنانا في الفردوس، صعودنا إلى ملكوت السموات، عودتنا إلى النبوة الإلهية، دالتنا لتسمية الله “أبانا”، اشتراكنا في نعمة المسيح، تسميتنا ابناء النور، حقنا في المجد الأبدي، وبكلمة واحدة حصولنا على ملء البركة في هذا الدهر وفي الدهر الآتي[430]].

ثالثًا: “فيخرج الحق للأمم[1]. إن كان الرب قد أدّب الأمم لكنه جاء إليهم بكونه “الحق” كي يقبلوه في حياتهم سّر خلاص أبدي، إذ يقول: “أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي” (يو 14: 6).

v   يسكن المسيح في الإنسان الداخلي كما يقول الرسول (أف 3: 16-17)، فإنه إليه ينسب رؤية الحق، حيث قال: “أنا هو الحق” (يو 14: 6)[431].

v   هو نفسه الحياة، وهو نفسه الحق. ليأتِ ويُخلصنا… ليعزل الحنطة عن الزوان[432]!

القديس أغسطينوس

v   أصرخ بصوت هادئ وساكن قائلاً: أيها المخفي فيّ والمستتر، أظهر فيّ سرك المخفي، اكشف ليّ حسنك الذي هو داخلي. يا من بناني هيكلاً لسكناه، ظللني بغمامة مجدك داخل هيكلك.

الشيخ الروحاني[433]

رابعًا: “لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته[2]. فقـد جاء يعلن

صوت الحب العملي الهادئ خلال البذل حتى الصليب؛ منبره الصليب، وكلماته هي جراحات جسده الناطقة بالحب.

جاء إلينا كلمة الله ليُعلمنا حياة العمل الحق النابع عن الحب مع سكون النفس وهدوئها فيه عوض الانشغال بالكلمات الكثيرة البّراقة والمظاهر الخارجية المخادعة. علمنا الكلمة الإلهي كيف نتكلم بالحب والحياة العملية فيتجلى هو فينا!

v   إن كنت صامتًا يكون لك سلام أينما عشت.

الأب بيامون[434]

v   كثيرًا ما تكلمت وندمت، وأما عن السكوت فلم أندم قط.

القديس أرسانيوس

خامسًا: “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق[3].

جاء مسيحنا إلى النفوس المحطمة لكي يبعث فيها الرجاء، لا يجرح مشاعر الخطاة ولا يداهنهم. ينطق بالحق مع الحب حتى يضمد كل جرح ملتهب، ويسند كل نفس متعبة.

v   تحنن يسوع علينا حتى لا يخيفنا منه بل يدعونا إليه؛ جاء في وداعة وفي اتضاع… وبهذا قال: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28). بهذا أنعشنا الرب ولم يغلق علينا أو يطردنا…

v   يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا إلى القسوة، لذلك قيل: “أُريد رحمة لا ذبيحة” (هو 6: 6)…

v   عندما ترفض قبول التوبة، إنما بذلك تقول: “لن يدخل في فندقنا جريح، ولا يُشفي أحد في كنيستنا. إننا لا نهتم بالمرضى، فنحن كلنا أصحاء، ولسنا في حاجة إلى طبيب، لأنه هو نفسه قال: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى”.

v   لترسل يارب إلى شوارع المدينة، ولتجمع الصالح والطالح، ولتُدخل إلى كنيستك الضعفاء والعمي والعرج (لو 14: 21). مرّ يارب أن يمتلئ بيتك، محضرًا إياهم (الخطاة) إلى وليمتك، لأنك أنت تخلق من يتبعك عندما تدعوه…

v   ليته لا يخف أحد من الهلاك، مهما كانت حالته، ومهما كان سقوطه، فسيمر على السامري الصالح الذي للإنجيل، ونجده نازلاً من أورشليم إلى أريحا… هذا السامري الصالح هو رمز السيد المسيح حارس الأرواح، لن يتركك إنما يتحنن عليك ويشفيك. السامري (= حارس) الصالح لم يترك من كان ملقى بين حيّ وميت، لأنه رأى فيه نسمات حياة، فترجى شفاءه.

القديس كبريانوس[435]

سادسًا: “لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته[4].

أتسم مسيحنا بالحب العملي والوداعة، في محبته يفتح أبواب الرجاء أمام الخطاة مهما بلغت شرورهم. على خلاف الإنسان الذي يقسو على أخيه ويحسب نفسه أبر منه، ويغلق الباب أمام كثيرين. هذا الحب الإلهي الوديع يرافقه عمل إلهي بلا توقف حتى الموت موت الصليب، وفي هذا لم ينكسر بل تمجد بالقيامة، وأعلن الحق بتحقيق الخلاص.

يُحاول بعض الدارسين أن يفسروا كلمة “الجزائر” هنا بأنها أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أستراليا[436].

  1. دعوة عبد الرب:

الله في حبه خلق السموات والأرض من أجل الإنسان [5]، وها هو يدعو الإبن الذي صار إنسانًا ليقيمه عهدًا للشعب ونورًا للأمم [6]، يفتح البصيرة الداخلية لمعاينة ملكوت الله، ويحرر المأسورين في سجن الظلمة الأبدي ليعيشوا في حرية مجد أولاد الله [7].

ماذا تعني دعوة عبد الرب “عهدًا” ؟ بكونه ابن الله الذي صار ابنا للإنسان أمكنه مصالحة الآب مع البشرية في جسم بشريته، فيه رأى الآب البشرية قد تقدست وتأهلت للنبوة له فأعلن أبوته الأبدية نحوها في ابنه وحيد الجنس، وفيه رأت البشرية حب الآب الذي بذل ابنه الوحيد من أجل خلاصها لتجد لها نصيبًا في الحضن الأبوي. هذا هو العهد الذي أقيم في المسيح يسوع، والذي ختمه بدمه الثمين على خشبة الصليب. لهذا دُعي “ملاك العهد” (ملا 3: 1).

حاول تريفو اليهودي أن يفسر ما ورد هنا عن العهد ونور الأمم انهما يخصا الشريعة الموسوية، وقد ردّ عليه الشهيد يوستين قائلاً: [بأنه لو كانت الشريعة قادرة أن تهب استنارة للأمم وللذين يستلمونها فما الحاجة للحديث عن عهد جديد؟ لكن حيث سبق أن أعلن الله مقدمًا أنه يُقدم عهدًا جديدًا وشريعة أبدية ووصية أبدية فلا يُفهم هذا عن الشريعة القديمة بل عن المسيح والذين يؤمنون به أي عنا نحن الذين كنا من الأمم وتمتعنا بالاستنارة. يقول الرب: “في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك، فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب لاقامة الأرض لتمليك أملاك البراري” (إش 49: 8). ما هو ميراث (تمليك) المسيح؟ أليسوا الأمم؟ ما هو عهد الله إلاَّ السيد المسيح؟ كما جاء في موضع آخر” أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وسلطانك (ممتلكاتك) إلى أقصى الأرض” (مز 2: 7)[437].

مرة أخرى يعلق الشهيد يوستين على القول الإلهي: “أنا الرب هذا إسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات[8] هكذا [إنني أقول (لليهود): ألا تدركوا يا أصدقائي أن الله يُعطي الذي أقامه نورًا للأمم مجدًا ولا يعطيه لآخر[438]]. فما يناله الابن المخلص من أمجاد إنما يناله الثالوث القدوس بكونهم الله الواحد في الجوهر واللاهوت.

وأجعلك عهدًا للشعب[6].

سبق أن درسنا دور “العهد” في القبائل البدائية وفي العهد القديم وأخيرًا في العهد الجديد حيث قدم السيد المسيح دمه السري في الكأس عهدًا جديدًا لكي يتناوله مؤمنوه. هذا الدم وهو ذبيحة المسيح القادرة على اقامة ميثاق بين الآب والإنسان، لتهبنا قرابة روحية سماوية فنُحسب بالحق ابناء ثابتين في الابن الوحيد الجنس؛ خلالها نتمتع بالوليمة السماوية الواهبة الحياة[439].

يقول الأب ثيؤدورت: [في تناولنا لعناصر العريس وشربنا دمه ندخل معه في اتحاد زوجي[440]].

وأجعلك… نورًا للأمم[6]؛ فالمسيح هو النور الإلهي الذي يفتح بصيرتنا الداخلية لنُعاين النور. لهذا يقول المرتل: “بنورك يارب نعاين النور”، ويقـول الإنجـيلي:

“النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت في العالم” (يو 1: 9).

v   “أرسل نورك وحقك، هما يهديانني ويأتيان بيّ إلى جبل قدسك وإلى مساكنك” (مز 43: 3).

“النور” و”الحق” هما بالحقيقة اسمان يعبران عن واحد (الله). لأنه ما هو النور الإلهي إلاَّ الحق الإلهي؟ والحق الإلهي إلاَّ النور الإلهي؟ واقنوم المسيح هو كلاهما.

“أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة” (يو 8: 12)؛ “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6). هو بنفسه النور، وهو أيضًا الحق. فليأتِ إذن ويُخلصنا…[441].

v   إلهي… أنت نوري؛ افتح عن عيني فتُعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو.

حقًا، كيف يمكنني أن أتجنب فخاخه ما لم أرها؟!

وكيف أقدر أن أراها إن لم استنر بنورك؟!…

أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يضيئ لأولادك حتى لا يتعثروا!

أما الذين هم خارج عنك فانهم يسلكون في الظلام ويعيشون فيه![442]

القديس أغسطينوس

v   مصباحًا واحدًا أنظر، وبنوره استضيء، والآن أنا في ذهول، ابتهج روحيًا، إذ في داخلي ينبوع الحياة، ذاك الذي هو غاية العالم غير المحسوس!

الشيخ الروحاني[443]

  1. التسبحة الجديدة:

غنوا للرب أغنية جديدة، تسبحة من أقصى الأرض[10]. ما هي هذه التسبحة التي تتسم بالجدة والتي ينطق بها البشر من أقصى الأرض إلاَّ تسبحة المفديين القادمين من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، الواقفين أمام العرش وأمام الحمل… “وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص لإلهنا الجالس على العرش وللخروف” (رؤ 7: 10). ترنيمة جديدة لأنها تَهِبْ تجديدًا لا ينقطع خلال “الحياة الجديدة التي في المسيح”.

يلاحظ في هذه التسبحة الآتي:

أ. تسبحة جديدة لا تشيخ ولا تقدم قط، لأنها تعبّر عن تمتع بحياة الفرح السماوي الذي لا يقدم. هكذا تتحول تنهدات الخليقة إلى شركة في تسبيح السمائيين.

ب. تسبحة جامعة تضم أعضاء من أقصى الأرض، تكشف عن فرح ساكني الأرض، والبحار، وسكان الجزائر [10]. تنبع عن أعماق القلب الداخلي لا عن الظروف الخارجية، لذا يمارسها المؤمن أينما وُجد، في البر أو البحر، في البرية أو في مدينة أو في قرية أو في كهف على رأس جبل [10-11].

ج. سرّ البهجة تقدم المسيح الرب الصفوف كقائد المعركة الروحية، “يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه[13]. هي تسبحة الغلبة والنصرة في المسيح الهاتف بالغلبة على إبليس وكل قواته الشريرة.

  1. تفريغ للقديم:

سرّ تسبيحنا هو تفريغ أعمال الإنسان العتيق من أعماقنا خلال تقبلنا لأعمال الإنسان الجديد في المسيح يسوع… الأمر المذهل للغاية حتى قيل “قد صمتُّ منذ الدهر، سكتُّ، تجلَّدتُ[14].

يشبّه ترك الإنسان القديم والتمتع بالإِنسان الجديد بالمرأة التي تلد، فإنها تصيح من الألم لكنها تنجب إنسانًا جديدًا، هكذا نحن نتمتع خلال السيد المسيح كما بإنجاب عالم جديد في داخلنا: “كالوالدة أصيحُ، أنفُخُ، وأنْخرُ معًا[14].

كما يشبّه الأمم العظيمة والصغيرة بالجبال والتلال التي يجفف كل عشبها [15]، يجفف محبتها للأرضيات التي هي أشبه بالعشب الفاني. كما يُشبهها بالأنهار التي يجعلها تيبس [15]… هكذا ينتزع مياهها القديمة ليهبها الماء الحيّ.

 

مرة أخرى يشبهها بالعُمي السالكين في الظلمة يحتاجون إلى إزالة العمى والظلام ليتمتعوا بالنور ويسيروا في الطريق الروحي الجديد الحق عوض سلوكهم في المعوجات، إذ يقول: “وأسير العُمى في طريق لم يعرفونها، في مسالك لم يدروها أمشيهم، أجعل الظلمة أمامهم نورًا والمعوجّات مستقيمة[16].

  1. دعوة للشعب الأصم الأعمى:

يرى كثير من الآباء أن الشعب الأصم الأعمى هم اليهود الذين لم يصغوا لصوت الأنبياء بخصوص السيد المسيح، وقد انطمست عيونهم عن إدراكه فمجدوه… لقد اختارهم الرب كعبد له لكن قلة قليلة قبلت الإيمان بالمخلص بينما جحده الآخرون لهذا يُعاتبهم قائلاً:

أيها الصم اسمعوا؛ أيها العمي أنظروا لتبصروا.

من هو أعمى إلاَّ عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله؟!

من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب؟![18-19].

يدعوهم عبده لأنه اختارهم شعبه المتعبد له؛ وأيضًا رسوله لأنه اختارهم ليقبلوا الإيمان ويكرزوا به كرسل يُعلنون الخلاص ويشهدون للحياة الإنجيلية، دعاهم “الكامل” لأنه كان ينتظر فيهم التقديس إذ قدم لهم كل إمكانية للحياة الكاملة وبل وللكرازة بالسيد المسيح واهب الكمال.

يوبخهم قائلاً:

ناظر كثيرًا ولا تلاحظ[20]، فقد جاء السيد المسيح في وسطهم وصنع عجائب ورأوا ما لم تره شعوب أخرى، ومع هذا لم يلاحظوا أنه مخلص العالم بل صلبوه عن حسد! رأوه في الجسد ولم يدركوا حقيقته.

مفتوح الأذنين ولا يسمع[20]، سمعوا النبوات كما سمعوا صوت السيد المسيح، ومع هذا لم يستجيبوا لا لصوت الأنبياء المشير نحو المسيح ولا لصوت الرب نفسه عند مجيئه.

العيب فيهم لا في الشريعة الموسوية فإن الله يعظم الشريعة ويكّرّمها [21]، لكن الشعب نهب منه عدو الخير أعماق الشريعة وسلبه المفهوم النبوي الروحي فسقط في حفرة الجحود وانحبس في إنكار الإيمان، نهبهم عدو الخير من التمتع بمن أشارت إليه الشريعة وسلبهم ما وهبت كتب العهد القديم، وليس من يرد لهم ما فقدوه [21-22]، لأنهم سقطوا تحت الغضب الإلهي.

يرى اليهود أن ما ورد في هذا الجزء [18-25] لا ينطبق عليهم وإنما على الوثنيين أو على بعض الأفراد.

 

زر الذهاب إلى الأعلى